Welcome in the demo
Another demo

صدر حديثا

جديد دار الشؤون الثقافية طالب كريم أن ظهور مصطلح الصورة المتحركة ارتبط بشكل أساسي بتقانات التصوير والعرض الصوري…
" لمحات " مجلة العلوم الإجتماعية العدد الثالث صدر حديثاً عن دار الشؤون الثقافية طالب كريم صدر…
المورد مجلة تُراثيةٌ فصلية مُحَكمةٌ عدد جديد عن دار الشؤون الثقافية طالب كريم صدر حديثاً عن دار…
صدر حديثاً عن دار الشؤون الثقافية العامة/ وزارة الثقافة والسياحة والآثار العدد المزدوج 323 -- 324 الجديد من مجلة التراث…
صدر حديثاً عن دار الشؤون الثقافية العامة/ وزارة الثقافة والسياحة والآثار العدد الثاني -- 2024 -- من مجلة الثقافة الأجنية…

أعلان

اختتمت صباح اليوم المصادف ٢٠٢٤/٧/٤ وعلى قاعة غائب طعمه فرمان في دار الشوون الثقافية العامة الدوره التدريبية الأساسية الاولى في تحقيق النصوص التراثية الخطية ، التي أقامتها دار الشؤون الثقافية بالتعاون مع دائرة المخطوطات العراقية للفترة من ٢٠٢٤/٦/٢٣ ولغاية ٢٠٢٤/٧/٤

على هامش إقامة الدوره التدريبية الأساسية الاولى في تحقيق النصوص التراثية الخطية...مستشار السيد رئيس الوزراء الدكتور عارف الساعدي..مستعدون لتبني جميع الأفكار التي من شأنها الحفاظ على المخطوطات التراثية...

رؤساء التحرير

1 2 34 5 Screenshot 2024 06 03 211917 copy

المقالات

دراسات وبحوث

حوارات ومذكرات

الشعر

  • الشعر واقتضاء السرد قراءة في نص ((خطوةٌ في الضباب)) لحسب الشيخ جعفر

     

    photo ٢٠٢٤ ٠٥ ٢٩ ١٢ ٣٥ ٥٥

    الشعر واقتضاء السرد

    قراءة في نص ((خطوةٌ في الضباب)) لحسب الشيخ جعفر

    د. عبد العظيم السلطاني              

    النص: 

                                    خطوةٌ في الضباب([1])

    قبل أن أتوخّى الحذر

    قبل أن يتقوّسَ في الحبس ظهري،

    ويبيـضَّ مني القَذال

    كنتُ فيما يقال

    أتلقّى الصدى وأُطيلُ النظر

    عَبْرَ نافذتي والطِوار

    عَبْرَ نافذتي واتشاحِ الطريقِ الخريفيّ كنتُ أُرامقُ

    نافذةً في الجوار

    فأرى في ارتخاءِ الستار

    في ارتخاءِ الستارِ الخفيفِ المواربِ في الضوءِ ظلًّا وحيدا!

    علَّها امرأةٌ في انتظار

    علَّها تتأملُ نافذةً في الجوار!

    غيرَ أن الستار

    لم يزل يتمايل في هبّةِ الريحِ منذُ انطواءِ النهار

    وهي فيما وراءَ الستار

    تتراءى كما يتراءى الرداءُ المعلُّق في الحبلِ مائلةً، متمايلةً

    في اتجاهِ المطار

    في اتجاهِ المطارِ البعيد

    وقد انطفأتْ في النوافذ أضواؤها غيرَ ضوءٍ وحيد!                

                   ***

    ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعد النهار

    وهي مائلةٌ، متمايلةٌ في اتجاه المطار!

    قلتُ: ( أمضي، أُنبّهُ جارتَها

                 وندقُّ الجرس !)

    ولقد دُقَّ فيما بدا لي الجرس

    ساعةً، وهي نائمةً أو منومةً لا تُفيق

    فإذا التفَّ من حولِنا الناسُ وانفتحَ البابُ،

    أبصرتُها

    كالرداءِ المعلقِ في الحبلِ مائلةً ، متمايلةً

          تحت مصباحِ سقفٍ وحيد !

                 ***

    مرةً كنتُ منفرداً في ممرِّ القِطار

    ساعةَ انتصف َ الليلُ،

                وانصرفَ النُدلُ والطاعمون

    فإذا بي أرى وجهَها في الضباب الخريفيّ

                                     عَبْرَ الزُجاج

    وهي قائمةٌ في الممرِّ إلى جانبي!

    قلتُ: (لابدَّ من أنني مرهقٌ

         فإلى الدفءِ والأغطية!)

    غيرَ أني التقيتُ بها عندَ طاولتي في انتظار!

    قلتُ: (أمضي إلى امرأةِ الشاي علِّي أُزحزِحُ عني الدُوار)

    وهنا انفتحَ البابُ عنها معلّقةً

    كالرداءِ المعلَّقِ في الحبلِ مائلةً، متمايلةً

                             في اتجاهِ الستار

    وأنا والمحطةُ والناسُ فيما وراءَ الستار!

                    ***

    ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعدَ النهار

    وهي مائلةٌ في اتجاه المطار!

    قلتُ: (أمضي أُنبّهُ جارتَها)

    ولقد دقَّ ملءَ الممرِّ الجرس

    بينما كنتُ أَلمحُ جارتَها

    تتسللُ في الثقبِ كالضوءِ أو كالدُخانِ

            إلى الغرفةِ الموصدة

    فإذا انفتحَ البابُ أبصرتُها

                     كالرداءِ المعلقِ مائلةً في انتظار!

    قلتُ: (أغلقُ أجفانَي المجْهَدة

    وأنام

    ساعةً، فلقد يتبدّدُ عني الغَمام !)

    فالتقيتُ بها متمدّدةً تحت أغطيتي لا تَريم !

    قلتُ: (أحملُ جثتهَا، وأغِذُّ الخطى في العراء!)

    غيرَ أن الحرس

    سمِعوا في يديَّ الجرس

    مالئاً بالرنينِ الفضاء!

    وهنا أوقفونيَ متهمَاً، وأقاموا الحُجج بين أيدي القضاء!.

    العنوان باب موارب :

         العنوان في هذا النص يفتح بابا مواربا للقارئ لشيء من فهم، ((خطوةٌ في الضباب))، يبدأ بعلامة/كلمة ((خطوة))، والخطوة حركة صغيرة، فهي خطوة واحدة ليس إلّا. وهذا يعني إنّها غير محفوفة بكثير من الخطر، وليست بحاجة كبيرة إلى الحذر. غير أنّ وضعها في سياقها من الجملة يتكشّف عنه احتمال خطر كبير؛ لأنّها في الضباب. وهي بالنتيجة حركة صغيرة ((خطوة)) صارت محفوفة باحتمالات كثيرة؛ لأنّها اقترنت بعلامة أخرى/ كلمة ((الضباب))، وهنا انفتح باب الاحتمال على أكثر من شيء: المجهول/ اللّاوضوح/ توقّع المفاجأة/ القلق والتوتر... كل هذه الاحتمالات والمشاعر واردة في حالة الضباب. فأيّ الاحتمالات تدنِيها إلى المتلقي قراءة متن النص؟! نهرع إلى متن النص، إذن، فهو قد يعود ثانية لينير العنوان. في حين المواجهة الأولى للقراءة- أيّة قراءة- يكون العنوان لحظة الإنارة الأولى للنص. لكنها هنا في هذا النص ضبابية لا تقدّم من الضوء ما يكفي للرؤية.

    تتبّع حركة النص:

        ((خطوةُ في الضباب)) نص شعري، ينتمي لشعر التفعيلة، وهو متوسط الطول، يقع في واحد وستين سطرا شعريا. أطول سطر فيه يتألّف من ثماني كلمات وأقصر سطر فيه يتألّف من كلمة واحدة. وهو نص سداه الشعر ولحمته السرد. ويقدّم للقارئ نصّا تخييلا كأنّه حكاية، لها موضوع واحد تدور فيه، ولا تكتمل الصورة لدى القارئ إلّا بالانتهاء من قراءة النص كاملا. والنص مؤلّف من أربعة مقاطع، كلّ مقطع فيه يقدّم مشهدا، ومجمل المشاهد تفضي إلى رسم كلي لحدث وقع.

    والراوي هو بطل السرد يروي للمتلقي، في زمن لاحق لزمن وقوع الأحداث. والراوي في أيّ سرد يصفه رولان بارت بـأنّه كائن من ورق([2])، أي شخصية مصنوعة يصنعها مؤلّف النص. وفي نص ((خطوةٌ في الضباب)) صنعه الشاعر/ المؤلف. وفيه نجد الراوي يروي أحداثا وقعت للمؤلف/ الشاعر. غير أنّه وإن اقترب حدّ التطابق مع الشاعر، بوصفه ذاتا شاعرة، أنتجت النص الشعري استجابة لمعطيات وسنن قوليّة تخص عالم الشعر وتحيل عليه؛ يبقى ليس متطابقا مع شخص حسب الشيخ جعفر الإنسان. لذا صار لدينا شاعر ينسج شعرا يتضمن سردا يرويه راوٍ وكأنّه هو. فلا يروي عن الغير، بل هو البطل في الحدث.

           قراءة متن النص ترجّح خيار كتابة توصيف أو تخطيط من خلال إعادة الصياغة لتتبّع حركة النص وطريقة تناوله لموضوعه. وبالمجمل هو سرد شعري يبدأ من لحظة تاريخية سابقة لزمن الحكي الذي يحصل في لحظة كتابة النص. يبدأ بـ ((قبل)) وتتكرر في بداية جملتين تضيئان تاريخا سابقا لزمن الحكي، حين كان الشاعر السارد في حال من الاندفاع، وقليل الخشية لا يحاذر ((قبل أن أتوخّى الحذر)). ثم ترد الجملة اللاحقة المُحِيلة على حاله القديم ((قبل أن يتقوّسَ في الحبس ظهري)). ولعل هذه الجملة مفتاح يفسّر لنا لاحقا بعض الأحداث أو الأسباب، فهو في لحظة الحدث المسرود كان في عنفوان الشباب والمخيلة في أقصى طاقاتها. وتتبعها جملة فرعية معطوفة عليها ((ويبيـضَّ مني القَذال))، أي قبل أن يتمّ الشيب دورته على قفا رأسه ويدكّ آخر المعاقل التي تقاوم الشيب (قذال الإنسان في المعجم ما هو واقع بَيْن الأُذُنَيْنِ مِنْ مُؤَخِّرةِ الرَّأْس).

       بعد هذه الإطلالة ينفتح السرد، بعد أن وضع الراوي إشاراته التي حدّدت زمن حصول ما سيسرد من أحداث، وهو الزمن الماضي وليس الزمن الحاضر حيث يُكتب النص.

    ويبدؤها بـ((كنتُ فيما يقال))، مستعينا بجملة اعتراضية أقرب إلى اللازمة السردية ((فيما يقال)). وهذه يمكن أن نجدها في نص سردي آخر وإن لم يكن شعراً، ولكنها هنا مهمّة لأنّها تؤكد أن سردا لحدث أو أحداث ماضية سيبدأ، وعلى القارئ أن يتهيّأ لتلقّي المسرود.

        يبدأ سرد الحدث، بـ((كنت [...] أتلقّى الصدى))، أي هو متلقٍ فقط، وليس فاعلا، ثمّ إنّه يتلقى ((الصدى)) أي لا يتلقى الصوت المباشر الحقيقي. وهذا قد يكشف بعضا من هدوء المكان ساعة وقوع الحدث.

    ((وأطيلُ النظر))، ولم تكن نظرة عابرة، بل إطالة في النظر يفضي إلى تأمّل في المكان والموقف وفتح لآفاق التخيّل، بما يهيّئ لقدحات نفسية واستحضارات باطنية. وكل هذا يجري من خلال نافذة ((عَبْرَ نافذتي والطِوار))، (في المعجم: "الطَوار" بالفتح. وطَوَارُ الدَّارِ: مَا كانَ مُمْتَدّاً مَعَها مِنَ الفِناءِ ). وثمّة شعور شفيف بالحزن تبثّه فكرة حضور الخريف ((واتشاح الطريق الخريفيّ)).

    هذا هو المشهد الكلّي، في أنّه يتلقى الصدى ويطيل النظر عبر النافذة نحو الطريق في فصل خريفيّ، وفي ظلّ هذا المشهد ثمّة نظرات جانبية يرامق من خلالها نافذة مجاورة، (في المعجم رمَق الشَّيءَ: نَظر إليه وأتبعه بصره يرقبُه ويتعهَّدُه، ورامق : أتبعه بصره ونظر إليه يرقبه)، بين الفينة والأخرى شيئا آخر لفت انتباهه ((كنتُ أُرامقُ نافذةً في الجوار)). والذي أتاح فرصة أن يرامق أنّ لديه زمنا واسعا، فهو كان يطيل النظر فيرى شيئا. فماذا كان يرى من خلال نافذة الجوار؟! كان يرى ((في ارتخاءِ الستارِ الخفيفِ المواربِ في الضوءِ ظلًّا وحيدا!)). وهنا هو يرى ((ظلّا)) لا حقيقة. فيذهب التصوّر به إلى أنّه ظلّ امرأة. ويخمّن سبب وقوفها من خلال أكثر من احتمال: ((علَّها امرأةٌ في انتظار)). وقد لا تكون في حالة انتظار، وهذا احتمال آخر، فـ ((علَّها تتأملُ نافذةً في الجوار!))، أي لعلّها مثل حاله تتأمّل، وهنا قد تكون هذه المرأة تتأمّل وجوده وهو في نافذته.

    وقد لا تكون في حالة تأمّل ونظر إلى نافذته؛ لأنّ ((الستار لم يزل يتمايل في هبّةِ الريحِ منذُ انطواءِ النهار))، وهذا الظلّ يتمايل ولمدّة طويلة: منذ انطواء النهار. لذا يتسرب شكّ لديه في أن تكون امرأة تنظر إليه من نافذته، فليس معقولا أن تستمر كل هذه المدّة في النظر إليه. فالذي يراه أن امرأة ((تتراءى كما يتراءى الرداءُ المعلُّق في الحبلِ))، فهي غير مستقرة كرداء على حبل تحركه الريح. وبالرغم من تمايلها تبقى على اتجاه واحد، فهي ((مائلةً، متمايلةً في اتجاهِ المطار))، وهو بعيد عنها. ويستمر تمايلها وانتظارها ((وقد انطفأتْ في النوافذ أضواؤها غيرَ ضوءٍ وحيد!)). هذا الضوء الوحيد هو ضوء النافذة التي تنظر منها بعد أن انطفأت أضواء النوافذ الأخرى، إشارة إلى خلود الناس إلى النوم.

    هو يتعاطف معها، فهو وحيد يطيل النظر ليس لغاية بل في طريق طويل في حال من خريف حيث ظلال الحزن... وهي وحيدة وتطيل النظر باتجاه المطار وكأنّها تنتظر من يجيئ من هنالك... وهنا ينتهي المقطع الأول الخاص بسرد أحداث تلك الليلة مفتوحا على احتمالات عدّة.

             يبدأ المقطع الثاني بأن يؤطر الزمن الكلّي للحدث بأنّه ((الخريف))، أيضا. ويحذف بعضا من زمن الحدث حين لا يتضمن جديدا، ويختصر السرد بجملة تشير إلى أنّ النهارات المتتابعة تمرّ ((ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعد النهار)). وتلك المرأة/ الظل ((مائلةٌ، متمايلةٌ في اتجاه المطار!)). ومن المنطقي هنا أن يتحرك في داخل الشاعر/ الراوي إحساس بضرورة أن يفعل شيئا حيال استمرار ما يرى، ليعرف حقيقة هذه المرأة/ الظل المتمايلة من خلال النافذة، وخلفها الستارة المُرخاة... فيخاطب نفسه بأن لابدّ ان يفعل شيئا: ((قلت: (أمضي، أُنبّهُ جارتَها وندقُّ الجرس !) )). وقد نفّذ ما فكر فيه، فدقّ الجرس طويلا بصحبة جارتها وهي تبدو نائمة لا تفتح الباب. ثم يثير الناس هذا الوقوف الطويل أمام الباب والجرس يدق ولا من مجيب، فالتفّ الناس حولهما ((فإذا التفَّ من حولِنا الناسُ وانفتحَ البابُ، أبصرتُها)).

             الراوي لم يسرف في الحديث عن طريقة فتح الباب. فهو يسرد شعرا، وليس مجرد سرد حكاية لتُعنى بكل التفاصيل. فما الذي أبصره بعد فتح الباب؟ الشاعر/الراوي لم يكن معنيا بما أبصره الناس الذين التفوا حولهم، وليس معنيا بما أبصرته جارتها!، هو معني بما يُبصره هو (واقعا أو تخيّلا)، لذا قال: ((أبصرتها)). وهنا تنفتح الاحتمالات والتوقّع المتعدّد للقارئ مثلما انفتح لديه هو. أبصرها، فماذا سيبصر؟!. وجدها: ((كالرداءِ المعلقِ في الحبلِ مائلةً، متمايلةً)). فهي هنا – وللوهلة الأولى- ليست سوى رداء معلق في الحبل بوضعية مائلة متمايلة (متحركة غير ثابتة على قاعدة). لكن حرف التشبيه (الكاف) في ((كالرداء)) يمنع من هذا التصوّر، فهو يتحدث عن شيء كالرداء، فهي هنا امرأة معلّقة وهنا ينفتح التعدد في التصوّرات لدى القارئ: فكأنّها مشنوقة بالوحدة ((تحت مصباحِ سقفٍ وحيد!)). وهي في حال من الانتظار: انتظار شيء/ أحد يأتي من جهة المطار. هذا ما قد يتصوره المتلقي للوهلة الأولى ويحذف احتمالات أخرى. لكن هذا ليس ما أبصره الراوي فعلا، فقد يكون المشهد شيئا آخر وليس امرأة مشنوقة. وهنا ينتهي المقطع الثاني من النص، بشيء من الإبهام والتشويق في انتظار القادم ليتحقق الفهم.

             يبدأ المقطع الثالث كاشفا بصورة أكبر عن طبيعة تلك المرأة المائلة والمتمايلة، وهذه المرّة في القطار، بما يدفع الواقعة في المقطع السابق لتحلّ واقعة أخرى يصادف فيها تلك المرأة. هذه المرّة في القطار وفي منتصف الليل، ((مرةً كنتُ منفرداً في ممرِّ القِطار ساعةَ انتصف َ الليلُ))، وحيث لا أحد فقد انصرف الخدم ومقدمي الطعام : ((انصرفَ النُدلُ والطاعمون فإذا بي أرى وجهَها في الضباب في الضباب الخريفيّ عَبْرَ الزُجاج وهي قائمةٌ في الممرِّ إلى جانبي!)). فهي، إذن، حضرت أمامه في منتصف الليل وفي فصل الخريف، أيضا. وهو لوحده وفي القطار (حيث هو وسيلة نقل، وحركة، وضد السكون. وهنا حدّث نفسه مثلما حدّثها في موقف سابق، بأنه قد يكون مرهقا وما يراه ليس سوى تَهـيُّؤات، وعليه أن يخلد إلى الفراش ويتدفأ : ((قلتُ: (لابدَّ من أنني مرهقٌ فإلى الدفءِ والأغطية!) )). فهل نجح في التخلّص ممّا ظنّ أنّه وهمٌ سببه الإرهاق؟ الجواب: كلا. فبعد أن ذهب إلى مكانه في القطار وجدها ثانية بانتظاره ((غيرَ أني التقيتُ بها عندَ طاولتي في انتظار!)), إنّها في كلّ مكان. فقرر أن يحتسي شاياً من امرأة تقدّم الشاي في القطار، لعله يساعد في طرد تشويش الإرهاق والدوار الذي يتصوّر أنّه ينتابه الآن. ((قلتُ: (أمضي إلى امرأةِ الشاي علِّي أُزحزِحُ عني الدُوار) )). غير أنّه حين وصلت امرأة الشاي انفتح له الباب وإذا بها المرأة/ الشبح نفسها، وهي معلقة كما رآها في الحالات السابقة، ((وهنا انفتحَ البابُ عنها معلّقةً كالرداءِ المعلَّقِ في الحبلِ مائلة، متمايلةً في اتجاهِ الستار وأنا والمحطةُ والناسُ فيما وراءَ الستار!)). هي شبح يطارده، إذن، حاضرة أينما ذهب وحلّ، يجدها على الحال نفسه. فهي الحالة الثابتة على الرغم من تمايلها وهو المتحرك، حيث هو هنا مع الناس والمحطة كلها بجهة وهي في الجهة المواجهة. وفي الحالة السابقة كانت هي بجهة وهو وجارتها والناس بجهة أخرى يواجهونها. وهنا ينتهي المقطع الثالث، وما زال الأمر لديه لغزا، وما زال القارئ يترجح لديه تصوّر شيئا فشيئا ومشهدا بعد مشهد بأنّها ((شبح)) يطارده. ولنا أن نسأل: مَنْ هذه التي تواجه الجموع في الحالتين (في البيت وفي القطار) ولا يراها سواه؟! قد تكشف القراءة شيئا بهذا الخصوص.

             يعود النص في المقطع الرابع إلى لحظة سردية سابقة سجّلت ما حصل له معها في المقطع الأول، حيث هو في نافذته يتأمل الطريق الممتد في ذلك اليوم الخريفيّ، في حين تتراءى له المرأة/ الشبح المائلة باتجاه المطار. والمطار مكان احتواء الطائرات (وسيلة نقل، وعلامة حركة وضد السكون)، بما يرجّح لدى القارئ أنّ لهفة الشاعر الراوي معلّقة بأمكنة نقل المسافرين، وهذه الأمكنة حاضرة فيه وتنعكس على الاتجاه الذي تكون عليه المرأة، لتكون باتجاه المطار. وهنا تتطابق الاحتمالات لديه مثلما هي لدى المرأة/ الشبح، أو قُلْ: هو المرأة معبّرا عن رغباته المحتملة الدفينة من خلالها. فقد تكون بحثا عن قادم يأتي أو خبر يصل، وقد تكون لهفة إلى لحظة سفر إلى مكان آخر.

             مرّة أخرى يحذف الراوي بعضا من زمن الحدث، لأنّه لا يتضمن جديدا ((ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعدَ النهار وهي مائلةٌ في اتجاه المطار!)). وفي هذا الموضع من النص يستشعر القارئ بعض إرباك في السرد، ليس مصدره قطع في عنصر الزمن، بل مصدره إرباك في تكرار الحدث في المكان عينه. فبعد أن كان السرد يجري وكأنّه في قصّة قصيرة من حيث تحديد الزمان والمكان وتتابع الأحداث، وانتظامها في أكثر من مكان صار هنا مقطوعا، وكأنّه عاد إلى نسخ حدث وقع في مكان بعينه، سبق للسرد أن تجاوزها وقدّمها للقارئ. فبعد أن نبّه جارتها في المقطع الأول وذهبا إليها، يعود في هذا المقطع إلى الفعل نفسه، في حين هو اكتشف إنّها شبح لا حقيقة، ولاشكّ أن جارتها توصلت إلى الاكتشاف نفسه!.

    لكن لا بأس، إنّه سرد في الشعر، غايته الرئيسة تحريك التلقي وهز وعي القارئ. وله أن لا يلتزم بمنطق ترتيب السرد التقليدي في النثر، فليس غايته سرد أحداث كما تُسرد في القصص المقدَّمة للقارئ على أنّها قصص وليس شعرا. وأظنّ أنّ ما دفع الشاعر/ الراوي إلى هذا أنّه أراد العودة إلى المكان نفسه، كي يكون تمهيدا لنهاية الأحداث التي أراد لها أن تكون، وكما سيتضح لاحقا.  

    ((ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعدَ النهار وهي مائلةٌ في اتجاه المطار!)). ويعاود السلوك نفسه: ((قلتُ: (أمضي أُنبّهُ جارتَها) )). وبعد أن دقّ الجرس جاءت المفاجأة الأخرى، إذ صارت جارتها هي الأخرى كالضوء أو كالدخان، (( كنتُ أَلمحُ جارتَها تتسللُ في الثقبِ كالضوءِ أو كالدُخانِ)). فإذا تسللت و((انفتحَ البابُ أبصرتُها كالرداءِ المعلقِ مائلةً في انتظار!)). وهنا صار الراوي مشككا في قدرته على التركيز، ومشككا فيما يرى فهو يشعر بالإعياء، فقرّر أن يذهب إلى النوم، لعله يتخلّص من شبحها الذي يطارده، فـ (( قلتُ: (أغلقُ أجفانَي المجْهَدة وأنام ساعةً، فلقد يتبدّدُ عني الغَمام !) )). فهل تخلّص منها حين قرّر النوم ليستريح؟!. الجواب: كلا؛ فقد وجدها هذه المرّة في فراشه متمددة متغطية بغطائه ولا تبارح المكان، ((فالتقيتُ بها متمدّدةً تحت أغطيتي لا تَريم!) )). ماذا يصنع، إذن، في هذه الحالة وهي ممدّدة في فراشه؟! خطر في باله أن يتخلّص من جثتها بخطىً مسرعة: ((قلتُ: (أحملُ جثتهَا، وأغِذُّ الخطى في العراء!) ))، فلم يفلح في التخلّص منها، بل وقع في النهاية المؤلمة: ((غيرَ أن الحرس سمِعوا في يديَّ الجرس مالئاً بالرنينِ الفضاء! )). فأيّ جرس هذا؟ هل هو الجرس الذي كان يدقّه على تلك المرأة/ الشبح، أم الجرس الذي كان يدقه على جارتها؟!. يبدو لا فرق، فهو الجرس الذي يدقّه على مطلق فكرة المرأة. هو الجرس القاتل في نهاية المطاف. إن استجابتْ له المرأة فهو مقتول، وإن لم تستجب فهو مقتول بشبحها الذي يطارده، أو بجثتها المحمولة التي صارت دليلا عليه كما يتصور حينها، ويروي لنا ذاك التصوّر. في نهاية الأمر صار لدى الحرس قاتل يحمل جثّة، وهذا دليل على وقوع جريمة، ((وهنا أوقفونيَ متهمَاً، وأقاموا الحُجج بين أيدي القضاء!.)). فهل أوقفوه لأنّه يحمل الجثّة (الوهم) حين كان كابوسا، أم أوقفوه لأنّه يدق الجرس طويلا بسببها فيزعج الناس؟!. أم الأمر كلّه كابوس: المرأة والحرس والقضاء؟!.

             هي المرأة حين تكون كاللعنة التي لا يستطيع الفكاك منها، أو قل إنّ شبحها يطارده لأنّ صورة الشبح ساكنة في أعماق الراوي، والخلاص غير ممكن حتى النهاية، وهكذا كانت نهاية الكابوس: حرس وأدلة وقضاء.

             هذه تصوّراته، أو قل تهيّؤاته، فهي صورة ضاغطة في داخله، تلاحقه ويتصوّر وجودها خالطا بين الواقع والوهم. صورة المرأة التي فيه، وتتجلى له في كل مكان وتطاره بأن تشخص أمامه، ولا يستطيع الخلاص منها حتى النهاية. بل هي النهاية، فحين يحاول التخلّص منها تصبح نهايته وهلاكه على يديها.  

    ونص ((خطوةٌ في الضباب)) نص ثري وفيه طاقة قادرة على تحريض المتلقي على التأويل، فهل يتسّع خيال القارئ وتزداد شكوكه في نصّ ملغّم بالاحتمالات فيتصوّر أنّ المرأة/ الشبح هذه هي الحياة نفسها؟! قد يحق للقارئ ذلك، لا سيما حين يرفع بصره ليعود إلى قراءة عنوان النص ويربط إنارته بإنارة متن النص، فهو ((خطوةٌ في الضباب))!. وقد يزداد القارئ ميلا إلى هذا التصوّر حين يتذكر أن تلك المرأة كانت ترد في مشاهد النص مفردة وتواجه الجميع، ولا يراها سوى الشاعر الراوي. وكأنّه يروي عن عين الشاعر وهي ترى ما لا يراه غيره.  

    وهو في الوقت عينه يحرّض المتلقّي على طريقة جديدة في النظر إلى الحياة. فنص ((خطوة في الضباب)) تضمن خطابا، ولم يكن مجرد نص مسرود. والخطاب في السرد يتحقق لدى تودوروف بخصوصية، فهو ((أي منطوق أو فعل كلام يفترض وجود راوٍ ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما))([3]). فالنص لا يُنظر إليه لوحده منفصلا عن غيره، إنّما هو نص وسياق. والمتلقي يقع ضمن سياق النص، فهو ضمن مجمل الظروف المحيطة بالنص والعناصر المؤدية إلى الفهم. وهذا النص تضمّن خطابا. ولم يكن مجرد سرد؛ لأنّه تضمن راويا ومتلقيا، وفي نية الراوي التأثير فيه. بدليل أن النص اُفتتح بما يبيّن أنّه سيسرد للقارئ شيئا: ((كنتُ فيما يقال))، ثمّ يبدأ بالسرد. وهنالك شيء آخر وهو أنّ السرد يقدّم رؤية الراوي وموقفه، ولا يكتفي بسرد الأحداث بحيادية. (فالراوي مثلا، يقوم بالأفعال والأقوال: فهو يتلقى الصدى، ويطيل النظر، ويرى ظلّا، وينبّه جارة المرأة، ويدق الجرس، وهو في ممر القطار، ويرى وجهها، ويلتقي بها، وينبّه جارتها، ويغلق أجفانه، ويلتقي بها في فراشه، ويحمل جثّتها). وفي الأقوال هو حاضر في النص بقوّة من خلال تكرار كلمت (قلتُ) مخاطبا نفسه. وهذه الكلمة تكررت ست مرات في النص.

             هذا النص ((خطوة في الضباب)) ثقافيا هو نصّ المدينة؛ من حيث النزعة والتشكيل. فمفرداته تداولية ابنة الحاضر المعيش، وإيقاعه هادئ ولا قافية تقرع نهايات سطوره الشعرية بقوة. والأهم من كلّ هذا أنّه نصّ يتضمّن تعبيرا عن حال إنسان المدينة، حيث الأحاسيس المركّبة، واختلاط الواقع بالكوابيس، واستلاب الصفاء وحضور الإرهاق والتشويش والتوتّر، ليكون شعورا رفيقا للإنسان في حياته، وفي نظرته للحياة.

    ألاعيب السرد وإقناع المتلقي:                      

             قدّم الراوي ذاته للمتلقي على أنّه- حين كان في زمن وقوع الحدث وتلبّس المرأة الشبح فيه- شخصية مشوّشة ومرهقة وتسيطر عليها تهيُّؤات، وهو من خلال اكتمال سرد الحكاية بيّن بأنّه كان يرى المرأة وهي لم تكن واقعا. والمتلقي يستشعر أنّ بعض ما يرويه ليس منطقيا، وليس متطابقا مع حركة الحياة ومنطقها الواقعي. وبناءً على هذا كان يحق للمتلقي أن يرفض السردية هذه. فهو يتلقى سردية من راوٍ يُعبَّر عنه في علم السرد بـ ((الراوي غير الثقة))، وهو الذي لا تتطابق في روايته رؤية المؤلف ورؤية الراوي ورؤية القارئ([4])، على الرغم من كون الراوي في القص ليس ذاتا واقعية، إنّما هو صيغة فنيّة وأداة يستخدمها القاص([5]). غير أنّ إحساس المتلقي بشعور الثقة بالراوي يبقى مهمّا لقبول الرواية، والسماح لها بالتسلل إلى ذائقته وذاته. ترى ما الذي صنعه الراوي لدى الشاعر في نص ((خطوةٌ في الضباب)) ليُقنع المتلقي بوقوع ما يروي؟.

             استعمل الراوي أكثر من مدخل لإقناع المتلقي. أهمها؛ أنْ روى بضمير المتكلم. وهذا له دوره في مدّ جسور الثقة والدفع إلى التصديق. وهذه النقطة بحاجة إلى شيء من التفصيل. إذ يقسّم المعنيون بالسرد من حيث تعددية الضمائر المستعملة إلى ثلاثة أصناف ممكنة؛ فثمّة سرد بضمير الغائب (هو)، وسرد بضمير المخاطب (أنت) ، وسرد بضمير المتكلم (أنا)([6]).

             والراوي في هذا النص يروي من خلال ضمير المتكلّم (أنا) الملتصق بـالكلمات: (أتوخّى، ظهري، كنتُ، أتلقّى، أُطيلُ، أُرامقُ، أرى، قلتُ، أمضي، أبصرتها، كنتُ منفردا، فإذا بي، التقيتُ، أمضي، أبصرتُها، أغلقُ، أنام، التقيتُ، أحملُ، أغِذُّ، أوقفوني). والسرد من خلال ضمير المتكلم يؤدي بالنهاية إلى أن يكون السارد شخصية مركزية، ويجعل المسرود مضمّخا بروح المؤلِّف الذي يسرد عنه، ويصير الراوي ملتصقا بالمؤلِّف. فضلا عن كونه يجعل المتلقي متعلّقا بالعمل السردي، متوهّما أنّ المؤلف شخصية حقيقية في تلك الحكاية، وهو يحيل السرد على ذات المؤلِّف أكثر من إحالته على الموضوع([7]). وكل هذا تحقّق في نص ((خطوةٌ في الضباب)) وكان من بين عوامل فاعلية النص، وكان من بين الآليات التي وظّفها الشاعر في نسج نصه، من خلال سلطة الراوي وحِيَلِه.

             ومن بين آلياته في إقناع القارئ أنّ الراوي كان مشاركا في صناعة الأحداث. ولنا أن نستنير بتقسيمات علم السرد في هذا. فهم يقسّمون الراوي إلى أقسام عدّة، منها الراوي المشارك والراوي غير المشارك. وفي نص ((خطوةٌ في الضباب)) الراوي من نوع الراوي المشارك في صناعة الأحداث، وحاضر مع الشخصيات، ومشارك في صراع الشخصيات([8]). وهذا الواقع للراوي كان أحد عوامل الإقناع للقارئ بأن الراوي ثقة، فهو جزء من الحدث ومشارك مع الشخصيات في الصراع، وليس طارئا يتسقّط الأخبار عن الحدث والشخصيّات.

             ومن آليات الراوي لإقناع القارئ أن كثّف الزمن، من خلال تكثيف القول. وهنا يكون من الضروري الإفادة من تقسيمات جيرار جنيت للزمن في السرد التي تفتح فضاءات لقراءة النص الذي فيه حضور كبير للسرد. ولاسيّما تلك الخاصة بعلاقة  زمن السرد بزمن الحدث نفسه. فهذه العلاقة تنطوي على تقسيمات عدّة، منها ما قد يتساوى فيه زمن السرد مع الزمن الذي تطلّبه الحدث نفسه، وفي حالات أخرى يقل زمن السرد عن زمن الحدث، أي أنّ زمن القول تقلّص بسبب التكثيف في السرد([9])، وهذه الحالة الثانية كانت حاضرة كثيرا في نص ((خطوةٌ في الضباب))، وكانت إحدى آليات إقناع القارئ التي استخدمها الراوي. وكأنّه من خلالها يقول للمتلقي أنا لست معنيا بالتفاصيل، فلاحظ أيّها المسرود له بأنّي اختصر الزمن، وما يعنيني أن أُشركك في ردم الفجوات في السرد، فهذا شعر يهمّني فيه أن تكون أنت مؤوِّلا وفاكّا للشفرات وليس قارئا لنص ينتمي إلى جنس القصة.  

    وبناءً على هذا جاءت خصائص النص الشعرية لتؤكّد للمتلقي درجة شعرية هذا النص، فقد تعكّز الراوي في إقناع القارئ في سرده على ((الشعرية))، فهو يسرد للقارئ نصّا شعريا وليس قصة. ومن وسائل الإقناع بشعرية النص أن بُثت فيه الشعرية من خلال اللغة، فيجد القارئ صورا شعرية، مثل: ((يتقوّسَ في الحبس ظهري)) كناية عن طول الحبس وقسوة الظروف. و((انطواءِ النهار)) فالنهار صار كالثوب يُطوى، كناية عن انتهائه، وكأنّه كان منشورا فطُوي. و((أبصرتُها كالرداءِ المعلقِ في الحبلِ)) شبهها بقميص منشور على حبل تهزّه الريح فيتمايل. و((جارتَها تتسللُ في الثقبِ كالضوءِ أو كالدُخانِ)) فشبهها بما هو هلامي لا تحدّه صورة مادية. و((وأنام ساعةً، فلقد يتبدّدُ عني الغَمام))، والغمام السحاب الأبيض، وهنا شبّه ما يدور في رأسه بأنّه كالغمام، وهذا ضد الصفاء ويشوّش عليه الفهم والإدراك.  

    مثلما يجد المتلقي مفردات موظفة بطريقة شعرية تدغدغ ذائقته، وتدفع النص نحو صيغة الشعر لا النثر، مثل: ((ويبيـضَّ مني القَذال))، و((عَبْرَ نافذتي واتشاحِ الطريقِ الخريفيّ كنتُ أُرامقُ))، و((في ارتخاءِ الستارِ الخفيفِ المواربِ))، و((انصرفَ النُدلُ والطاعمون))، و((أرى وجهَها في الضباب الخريفيّ))، و((متمدّدةً تحت أغطيتي لا تَريم))، و((وأغِذُّ الخطى في العراء)).  

    ومن وسائل الشاعر/ الراوي في ضخ روح الشعرية في النص أن قدّمه القارئ محكوما بإيقاع شعري يمنحه بعض صفة الشعر التي اعتادت عليها ذائقة القارئ. فهو نص شعري يعتمد على توظيف صيغ بحر المتدارك (فاعلُن، فعِلن، فاعِلان، فَعِلَاتنْ)، في حين السرد في القصة مثلا لا يُوظِّف صيغ بحر شعريّ ليضبط الإيقاع الصوتي.

            إنّ هذه الآليات المتنوّعة التي استعملها الراوي دفعت بالقارئ إلى أن يمدّ جسور الثقة مع الراوي؛ لأنّه يروي حدثا حصل له شخصيا، وبسرد متسلسل في إطاره العام، ولغته تدلّ على حضوره في الحدث، فهو يروي بصيغة المتكلم المشارك للشخصيات في الأفعال والأقوال. وهو يروي من خلال الشعر ويدرك خصوصية الشعر القائمة على بث روح المؤلف / الشاعر في النص للتأثير في المتلقي، وليس رواية أحداث وقعت وتُحيل على موضوع أكثر مما تحيل على ذات الشاعر.

             بالنتيجة جاء النص شعرا مشبعا بروح الدراما وليس شعرا غنائيا، فهو على هيأة تشبه القصّة المتكاملة الأركان، فيه شخصيات ومكان وزمان وتسلسل في الأحداث، ثم نهاية أفضت الأحداث بالشاعر/ الراوي ليكون بيد الحرس ثم القضاء. وكان حضور السرد عنصرا رئيسا في بناء النص، وليس مقحما فيه. وكان هذا لسببين: الأول يعود إلى طبيعة الموضوع، فهي تستدعي وجود السرد؛ لأنّ النص يحكي حدثا سابقا لزمن كتابة النص ولابدّ أن يُروى. والسبب الثاني أنّ السرد بطبعه نظام انسيابي قادر على التغلغل في كلّ صيغ القول. وهو عابر لحدود الصيغ الأدبية كالشعر والمقالة والقصة (التي هي موطنه الأصلي). ويمكنه الولوج إلى كلّ الأجناس الأدبية بسلاسة، وكأنّه القاسم المشترك الممكن دائما.  

    لذا دخل السرد بفاعلية في نص ((خطوةٌ في الضباب))، غير أنّ المهيمن الشعري ظلّ حاضرا فيه، متمثّلا بخصائص الشعر. فهو جاء محكوما بإيقاع بحر شعري، وموجزا ومكتوبا بلغة مكثّفة، وفيه مفردات يحفل بها الشعر، وبُثّت فيه الصور الشعرية. وإن كان نوع الخيال الذي نسجه خيال كلّي تركيبي، من ذاك النوع الذي لا يقوم السرد إلّا من خلاله. ولم يكن في النص حوار تنطقه الشخصيات لتُحاور بعضها، على الرغم من كثرة الشخصيات فيه: (الشاعر/ الراوي، المرأة/ الشبح، المرأة الجارة، امرأة الشاي، الندل، الطاعمون، الحرس). لكن القارئ لا يجد سوى صوت الراوي، ولا يجد حوارا بصوت شخصية أخرى. لذا جاءت لغة النص على نسق واحد. فلا شخصيات متعدّدة تتحدث بأصوات متعدّدة، معبّرة عن مستواها الثقافي ومنحدرها الاجتماعي، لتكون لها لغتها الخاصة التي قد تختلف عن غيرها.

                   

     

     ([1])  الفراشة والعكّاز (مجموعة شعرية)، حسب الشيخ جعفر، صدرت عن سلسلة ((كتاب الصباح الثقافي))، أصدرتها جريدة الصباح العراقية، بغداد، عام 2007.

     ([2])  بناء الشخصية (مقاربة في السرديات)، جويدة حماش، منشورات الأوراس، الجزائر، 2007: ص29.

     ([3])  اللغة والأدب، تودوروف، ضمن كتاب: اللغة والخطاب الأدبي، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء: ص48.

     ([4])  ينظر: الراوي والنص القصصي، دكتور عبد الرحيم الكردي، دار النشر للجامعات، القاهرة، ط2، 1996: ص94.

     ([5])  ينظر: المصدر نفسه: ص 94 .

     ([6])  ينظر: في نظرية الرواية، د. عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998 : ص175-197.

     ([7])  ينظر: المصدر نفسه: ص184-185.

     ([8])  ينظر الراوي والنص القصصي: ص120.

     ([9])  ينظر: خطاب الحكاية (بحث في المنهج)، جيرار جنيت، ترجمة: محمد معتصم وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة،  ط2، 1997م: ص45-128.

  • شواهد الشعر الإسلامي في كتاب سيبويهِ

     

    photo ٢٠٢٤ ٠٥ ٢٩ ١٢ ٠٥ ١٠

     أ.د. ابتسام مرهون الصفار

    مُلخص البحث

    اختلفَ علماءُ اللّغةِ في السّماح بالاستشهادِ بالشعرِ الإسلاميِّ والأمويِّ في قضايا اللغةِ والنحو، ووضعوا ضوابطَ للتَمَثُّل بأشعارِهِم، منها: الجنسُ والزمانُ والضابطُ الإخلاقيُّ والبيئيُّ، ورفضَ كثيرٌ منهم التَمَثُّل بأشعارِ من أسمَوهم بالمُولّدين. أما سيبَويهِ فقد كان أعلمَ الناسِ بالنحوِ بعدَ الخليلِ بنِ أحمدَ الفَراهيديِّ، وعَدُّوا كتابَه قرآنَ النَّحو. ونجدُ في كتابِه كثرةً الشواهدِ الشعريّة الإسلاميّة التي تَمَثَّلَ بها، مما يَدلُّ على أنَّهُ اتَّخذَ لنفسِه مَنهجًا في التَمَثّل بالأشعارِ خالفَ فيهِ بعضَ علماءِ اللّغة. وقد استشهدَ سيبَويهِ بأشعار المُخضرمين والأمويين، وكانت أشعارُ الأمويين أكثرَ من أشعار المُخضرمين، فتَمَثّل بشعرِ ذي الرمَّة والكُميتِ والطرمَّاح.وجَرير والأخطل والرَّاعي النّميري. واتَّخذ البحثُ من أشعارِ الفرزدقِ أنموذجًا للشعراءِ المُولَّدين الذين تَمَثَّل بهم سيبَويهِ في كتابهِ دونَ أنْ يجدَ حَرجًا أو مانعًا من إيرادِه لأشعارِه.

    الكلمات المفتاحية:  شعر المولدين، الشعر الإسلامي، الفرزدق

     لابد أن نقف عند مصطلحين يقتضيهما البحث قبل ولوجنا الموضوع وهما:

     - مصطلح الشعر الإسلامي

    ونقصد به الشعر الذي قيل بعد الإسلام، وبعضهم جعله ممتدًّا حتى نهاية العصر الأموي، وهو تقسيم اعتاد عليه مؤرخو الأدب تيسيرًا للبحث، ولِما تَجَمّع عبرَ العصور التاريخية من سمات متقاربة ابتداءً من بروكلمان فيما ألفه "تاريخ الأدب العربي"، وشوقي ضيف في تقسيماته لعصور الأدب العربي وما بينهما وبعدَهما من مؤلفات كُتبت في تاريخ الأدب العربي.

     أما الشواهدُ الشعرية التي تَمثَّلَ بها سيبويهِ فقد تجاوزت العصر الأموي الى بداية العصر العباسي، فيكون الأدب الإسلامي هنا مقترنًا بعصر الاستشهاد الممتد إلى منتصف القرن الثاني الهجري.

    مصطلح المُوَلَّدين والمحدثين:

    ومصطلح المُوَلَّدين مرتبط بالاحتجاج الذي نحن بصدده.

    وَرَد في لسان العرب تعريفٌ للمُوَلَّد بأنه إذا كان عربيا غير محض[1]

     قال ابن قتيبة:

     (لم يَقصرْ اللهُ العلمَ والشعرَ والبلاغةَ على زمنٍ دونَ زمنٍ، ولا خَصَّ به قومًا دونَ قوم، بل جعلَ ذلك مشتركًا مَقسومًا بين عبادِهِ في كلِّ دهر، وجعلَ كلَّ قديمٍ مَحدثًا في عصره، وكل شرفٍ قديمًا في أوله، وكان جريرُ والفرزدقُ والأخطلُ يُعَدّونَ مُحدَثين)[2].

     وقرَّرَ ابنُ رشيق أنَّ كلَّ قديمٍ مُحدثٌ في زمانه،[3] وبذا يَختلطُ مصطلحُ المُوَلَّد مع مصطلح آخر وهو المُحدَث، وهو المصطلحُ نفسُه الذي أطلقه أبو عمرو بن العلاء[4] على الشعراءِ المُحدَثينَ الذين رفضَ الاحتجاج بأشعارهم، وسمّاهم المحدثين حين قال: (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت بروايته)[5].

     وأن الأصمعيَّ جلسَ إلى أبي عَمرو بن العلاء عشر حِجَجٍ فما سمعه يَحتجُّ ببيتٍ إسلاميّ[6]، وعن ابن الأعرابيِّ وقد سُئِل عن المحدثين فقالَ: (إنَّما أشعارُ هؤلاءِ المُحدثين مثل أبي نُؤاسٍ وغيرِه مثلُ الرَّيحانِ يُشَمُّ يومًا ويَذوي فيُرمى به، وأشعارُ القدماءِ مثلُ المِسكِ والعَنبرِ كلَّما حَرَّكْتَهُ ازداد طيبا)[7].

     وسُئلَ الأصمعيُّ عن المُوَلَّدين فقال: ما كان من حَسَنٍ فقد سُبقوا إليه، وما كان من قَبيحٍ فهو من عندِهم. ووصف الأصمعي أيضًا مَروانَ بنَ أبي حَفصةَ بأنه كان مُوَلَّدا ولم يَكنْ له علمٌ بالنَّحو[8].

    وعدَّ ابنُ رشيقٍ بشارًا من المُوَلَّدين[9].

    ولكننا نجدُ ابنَ الأثير يُسمّي الشعراءَ الأمويين الذين وُلِدوا بَعد المُخضرمين طبقةَ الإسلاميين وهم الذين وُلِدوا في الإسلام، ولم يسمهم بالمُوَلَّدين إنما المُوَلَّدون عندَه هم شعراءُ االدولةِ العَبّاسية، وأنَّهم سُمُّوا بالمُوَلَّدين لأنّهم كانوا عرباً غير محض، فكان شعرهم غير شعر العرب العاربة، ولا يستشهد بأشعارهم في اللغة وخالطوا العجم فصاروا مُوَلَّدين بهذا الاعتبار مثل بشار بن برد وأبي نؤاس ومسلم بن الوليد[10]، وهنا يجعل ابن الأثير الجنس معيارًا للشعر الذي لا يستشهد به.

     وقرر السيوطي قلة ثقتهم - يعني اللغويين والنحاة- بما يأتي به المُوَلَّدون[11].

    إنَّ بيانَ هذا المُصطلح يَضعُ أمامَنا خلافًا كبيرًا في تَحديد زمن المُوَلَّدين ومكانِهم، وسنجدُ سيبويهِ يُخالفُهم في هذا من عرض شواهده.

    ضوابط شعر المُوَلَّدين

     الضابط الزمني:

    وهو كون الشعراء ليسوا من عصر الاستشهاد، فقد عُدَّ جريرٌ والفرزدقُ مُوَلَّدين وأنهما محدثان[12]

    الضابط الأخلاقي:

     أبو عمرو بنُ العلاءِ يقولُ: لولا أنَّ أبا نؤاسٍ أفسدَ شعرَه بهذهِ الأقذارِ -يعني الخمورَ-لاحتجَجْنا بهِ ؛ لأنَّه كانَ مُحكمَ القول لا يُخطئُ[13].

    ويقول يونس[14]: عُبيدُ الله بنُ قيسِ الرُقيَّات ليسَ بفصيح، ولا ثقةٍ، شَغَلَ نَفسه بالشُّرب، فقد أضافَ إلى الضابطِ الأخلاقيّ ضابطَ الفصاحة[15].

    الضابط البيئي أو المكاني:

    ذكر أبو عمرو بنُ العلاءِ عديَّ بنَ زيدٍ وهو جاهليٌّ، وقالَ إنَّ العَربَ لا تَروي شعرَه لأنَّ ألفاظَهُ ليستْ بنجديةٍ[16]. ولا يحتج بشعر ذي الرمة لأنه أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين، يَعنونَ أنَّه عاشَ في الحاضرةِ وخالطَ العامّة[17].

    وقالوا عن الكميت إنَّهُ ليسَ بحُجّةٍ لأنَّهُ من أهلِ الكوفةِ، فتَعلَّمَ الغريبَ ورَوَى الشعرَ، وكانَ مُعلّمًا فلا يكونُ مثلَ أهلِ البَدو[18].

    ضابط النسب:

     الكُمَيتُ ليسَ بحُجّةٍ لأنَّه ليس بَدويًا، وكذلكَ الطِرِمّاح وأنَّ الكُمَيتَ جَرمقانيٌّ من جراميقِ الشامِ، والجَرامقةُ قومٌ من العَجَم، سكنوا المَوصل[19].

    ضابط الفصاحة:

     وهو نفسُه ما قيلَ في رفض الاحتجاجِ بشِعرِ ذي الرِّمّةِ، وأنَّ الكُمَيتَ كانَ يأخذُ لغتَه أخذًا من أفواهِ الأعرابِ من سُكّان الأمصارِ ويَضعُها في شِعرِه[20].

    طبقات الشعراء الذين يستشهد بأشعارهم:

     الطبقة الأولى: الشعراءُ الجاهليون، وهم قبلَ الإسلام كامرئ القيسِ والأعشى.

     الثانية: المُخَضرمونَ وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد وحسان.

     الثالثة: المتقدّمون ويُقالُ لهم الإسلاميونَ وهمُ الذينَ كانوا في صَدر الإسلام.

    الرابعة: المُوَلَّدون ويُقالُ لهم المُحدثون وهم من بَعدهم إلى زماننا كبَشار بنِ بُرد وأبي نُؤاس.

    فالطبقتان الأوليان يُستشهَدُ بشعرِهما إجماعًا. وأما الثالثةُ فالصحيحُ صحّةُ الاستشهادِ بشعرِها.

    فأمّا الرابعةُ فالصّحيحُ أنّهُ لا يُستشهَدُ بكلامها، وقيلَ يُستشهَدُ بكلامِ مَن يُوثَقُ بهِ[21].

    أهمية كتاب سيبويهِ :

     لقد نال كتاب سيبويهِ شهرة كبيرة، فيكفي أن يقال (الكتاب) لُيعرف أنَّ المقصود به كتابُ سيبويهِ.

     كان يقال في البصرة: قرأ فلانٌ الكتابَ، فيُعلمُ أنَّه كتابُ سيبويهِ [22].

    وقال فيه المُبرِّد: لم يُعملْ كتابٌ في علم من العلومِ مثل كتاب سيبويهِ ؛ وذلك أن الكتبَ المصنّفة في العلوم مضطرةٌ إلى غيرِها، وكتابُ سيبويهِ لا يُحتاج في فهمه إلى غيره[23] وأن جميع ما كَتَبَ الناسُ عيالٌ عليه[24].

    وكان المازني يقول: من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتابِ سيبويهِ فليستحِ[25].

    وقد وُصِفَ سيبويهِ بأنَّهُ أعلمُ الناس بالنَّحو بعد الخليل، وقد سمّى الناسُ كتابَهُ قرآنَ النحو[26]، وأنه كتاب لم يسبقه الى مثله أحد قبله وما قبله[27].

     وأراد الجاحظُ أن يُهديَ شيئًا لمُحمد بنِ عبد الملك الزيَّات، فقال له: أردتُ أن أهدي لك شيئًا، فإذا كل شيء عندك، فلم أرَ أشرفَ من هذا الكتابِ، ففرحَ به، وقال: والله ما أُهديت إليَّ شيئًا أحبّ إليَّ منه[28].

     وذكر أن الكتاب واحدٌ من أهمِ الكتبِ التي انفردتْ بخصوصيةٍ لا مثيلَ لها؛ فهو واحدٌ من ثلاثة كتب: المَجسْطيّ لبطليموس في علمِ الهَيئة، وكتاب أرسطو في علم المَنطق، وكتاب سيبويهِ البصريّ النحويّ، فإنَّ كلَّ واحد من هذهِ لم يَشذَّ عنهُ من أصولِ فنِّهِ شيءٌ[29].

     عصر الاستشهاد عند سيبويهِ :

    أحصى الجَرميُّ شواهدَ سيبويهِ فوجدَها ألفًا وخمسين بيتًا، أمَّا الألفُ فعرفتُ أسماءَ قائليها وأمّا الخمسونَ فلم أعرف قائليها[30]، من هنا وجدت دراسات كثيرة عن الكتاب وشروحه. وإذا أردنا معرفة زمن الاستشهاد لابد أن نتذكر أنهم قالوا: ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة (150هـ)[31] وهو آخر الحجج[32].

    ويَرى البغداديُّ أنَّ الصحيحَ الاستشهادُ بكلام الطبقةِ الثالثة، وإنْ كانَ أبو عمرو بنُ العَلاءِ وعبدُ اللهِ بنِ أبي إسحاقٍ والحسن البصريُّ وعبدُ الله بنُ شبرمةَ يُلحّنونَ الفرزدقَ والكُميتَ وذا الرِمَّة وأضرابَهم، وكانوا يعدّونهم من المولدين؛ لأنهم كانوا في عصرهم، والمعاصرة حجاب[33].

     وقد علّل قتيبةَ أنْ علّلَ سببَ عدم الاستشهاد بشعر المُوَلَّدين،والغريب أنه بدأ بشعر عدي بن زيد العبادي وهوشاعر جاهلي قائلا:ولكنّ العلماء لم يرتضوا أشعاره في الاستشهاد ؛لأنه كان يسكن الحيرة، ويدخل الأرياف فثقل لسانه، وعلماؤنا لا يروون أشعاره، وأنّ أبا عمرو بن العلاء يقول:العرب لا تروي شعره ؛لأنّ ألفاظه ليست نجدية، ويُضيف أيضًا: وعلماؤُنا لا يَرون شعرَه حُجّة[34].

     وأما عدم الاستشهاد بشعر الكميت، فلأنهم قالوا عنه إنه كان معلِّم صبيان، ونقلوا أقوالا كثيرة عن الأصمعي توحي بتعصبه مثل قوله: الكميت ليس بحجة ؛لأنه مولد، وكذلك الطرماح لأنه من أهل الكوفة، وتعلم الغريب، وروى الشعرفلا يكون مثل أهل البدو، وكان معلِّما[35]

    فمن هم المُوَلَّدون؟

     دعتْ المنافسةُ بين الشُّعراء إلى كَيل التُهمِ على بعضهم ليُتهموا باللّحن، فقد ادَّعى العَجّاجُ أنَّ الكُميتَ والطِّرمّاحَ كانا يَسألانِه عن الغريبِ في خبرهِما ثم يراهُ في أشعارِهما، وقدْ وضعاه في غير مواضعه فلمّا سُئِلَ عن السبب قالَ: لأنَّهما قرويان يَصفان ما لم يَريا، فيضعانِه في غير موضعِه، وأنا بَدويٌّ أصفُ ما رأيتُ، فأضعُه في مواضعِه[36]، كما أنَّ كثيرًا من الأقوال التي قيلت في تضعيفهما يُمكن أن ُتعزى إلى أسبابٍ شخصيةٍ او عقائدية.

     وتَبدو أهمية استشهاد سيبويهِ بالأشعار من عنايته بصحتِها وتوثيقِها حتى قال البغدادي: أبياتُ سيبويهِ أصحُّ الشواهدِ اعتمد عليها خَلَفٌ بعدَ سَلَف[37].

     ومن عناية سيبويهِ بصحة الشواهد أنه يكثر ذكْرَ مَن رَوى له الشعر الإسلاميَّ[38]، ولأهمية شواهد الكتاب انبرى عدد من القدماء وكتبوا مؤلفات شرحوا فيها شواهده، أولُهم فيما ذُكر: المبرد، وآخرهم في القرن السابع الهجري[39]، والقائمة التي بين أيدينا تؤكّد وجودها في القرن التاسع الهجريّ ثم ما بعدها من المتأخرين

    وأهمها:

     1-شرح شواهد الكتاب لمحمد بن يزيد، أبو العباس المبرد (258هـ) وباسم شرح أبيات سيبويهِ[40].

    2-شرح أبيات سيبويهِ للزجاج أبو إسحاق إبراهيم (310هـ).

    3- شواهد سيبويهِ وتفسيرها لمحمد بن علي أبي بكر المراغي[41] وسُمّي أيضًا شرحَ شواهدِ الكتاب.

    4- شرح أبيات سيبويهِ أو شرح شواهد سيبويهِ لأحمد بن محمد المرادي المشهور بابن النحاس (328هـ)[42].

    5-شرح شواهد سيبويهِ لمبرمان محمد بن علي العسكري (345هـ)[43].

    6- شرح أبيات سيبويهِ لأبي سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي (368هـ).

    7- شرح أبيات سيبويهِ أو شرح شواهد سيبويهِ ليوسف بن أبي سعيد السيرافي (385هـ) سمّى كتابه شرح أبيات سيبويهِ وشرح على الأبيات التي ورد ذكرها [44].

    8- تفسير عيون كتاب سيبويهِ أو تفسير أبيات سيبويهِ لهارون بن موسى القرطبي (401هـ) ويرى البَكَّاء أنّه في شرحِ كتاب سيبويهِ وليس في شرح شواهده[45].

    9-شرح شواهد سيبويهِ لمحمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي(421هـ).

    10 تحصيلُ عين الذهب من مَعدن جوهر الأدب، وهو شرحٌ على أبيات الشواهدِ في كتاب سيبويهِ لأبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى الأندلسي المعروف بالأعلمِ الشَنْتَمري (476هـ)[46]، وقد عقَّبَ عليه ابن هشام اللخمي (560هـ) كتابًا أسماه إصلاح ما وقع في أبيات سيبويهِ وفي شرحها للأعلم الشنتمري من الوهم والخلل[47].

    11- شرحُ أبياتِ سيبويهِ للزمخشري (ت 538هـ) وفيه قال أبياتًا من الشعر حين أهدى الكتاب مع كتابه الآخر الأنموذج[48].

    12- لُبابُ الألبابِ في شرح أبيات الكتابِ لسليمان بن بنين الدَّقيقيّ النَّحويّ (614هـ)[49].

    13- شرحُ أبياتِ الكتابِ لعبدِ الله بن الحسين العكبري (616هـ)[50].

    14- شرحُ أبياتِ سيبويهِ ليَحيى بن مُعطي الزواوي المغربي (628هـ)[51].

    15- شرحُ أبياتِ سيبويهِ لمحمّد بن علي بن إبراهيم المالقي الشلوبين الصغير (660هـ) قال السيوطيُّ عنه إنَّه شرحَ أبياتَ سيبويهِ شرحًا مفيدًا[52].

    16- شرحُ أبياتِ سيبويهِ لربيع بن محمد بن منصور الكوفي (682هـ)[53]

    وأضاف البغداديُّ شرحَينِ آخَرين هما لابن خلف، والثاني لأبي محمد الأعرابي وسمّاه فرحةَ الأديب [54].

     17- العيني محمود بن أحمد بن موسى، قاضي القضاة توفي سنة (855هـ) له كتاب شرح الشواهد الكبير والصغير ورجَّحَت الدكتورة خديجة أنْ يكونَ اسمُه شرحَ شواهد سيبويهِ [55].

     هذه شروحُ أبيات الكتاب، وشُرّاح الكتاب نفسه أكثرُ بكثير، ولابدَّ أنَّهم في شروحهم للكتاب شرحوا الأبيات وعلَّقوا عليها، وما يهمّنا هنا شواهدُ الشعر الإسلاميِّ الواردةُ في الكتاب، لنعرفَ أيّ الشعراءِ الإسلاميين الذين أكثرَ سيبويهِ التمثُّلَ بأشعارِهِم، وأيُّهم نَدَر التَمثُّل بهم، وكيف أنَّهُ خالفَ آراء اللغويين بشأن كثير منهم.

     وإذا كانَ القدماء قد عدّوا شعراء العصر الأمويِّ مُوَلَّدين ولا يجوز الاحتجاج بأشعارهم، فإن القائمةَ تدلُّنا على خلافِ ذلك فالقائمة تدلُّنا على تَمثُّل سيبويهِ بهم بتفاوت شواهد الاستشهاد، ونستطيعُ أن نرتبَّهم على النحو الآتي:

    الشعراء الإسلاميون/ صدر الإسلام

    أبو طالب (السنة الثالثة قبل الهجرة) 1.

    صرمة الانصاري (صحابي) 1.

    العَباس بن مرداس (وفاته 18هـ) 5.

    خفافُ بن نُدبة (20هـ) 2.

    هند بنت عتبة(13هـ)2

    حميدُ بن ثور (30هـ تقريبًا) 2.

    حسّانُ بن ثابت (40 أو 50هـ) 12.

    عَمرو بن مَعدِ يكرب (113هـ) 7

    المُخَبَّل السّعديّ (12هـ) 1.

    صفية بنت عبد المطلب (20هـ)3

    أنَس بن مُدركة (37هـ) 1.

    كعبُ بنُ مالك الأنصاري (50هـ-54هـ) 3.

    أبو كَبير الهُذلي (10هـ) 2.

    ساعِدةَ بن جُؤية (15هـ تقريبًا) 2.

    الحارثُ بن هشام (18هـ) 1.

    العبّاسُ بن مرداس (18هـ) 5.

    الشمّاخُ بن ضرار (24هـ) 9

     كعبُ بن زهير (ت24هـ) 3.

    الحطيئةُ (30هـ) 6.

    عروةُ بن حزام (30هـ) 1.

    أبو ذُؤيبٍ الهُذليّ (26هـ) 6.

    لبيدُ بن ربيعة العامري (41هـ) 18.

    الزبرقانُ بن بدر (ت45هـ) 1.

    أما الشعراء الإسلاميون المُوَلَّدون في العصر الأموي فهم:

    زيادةُ بن زيد العذريّ (54هـ) 1.

    الأعورُ الشِّني (ت50هـ) 1.

    هُدبةُ بن الخشرم (نحو 50هـ) 5.

    النعمانُ بن بشير (ت65هـ) 1.

    النابغة الجعدي (ت65هـ) 23.

    عبد الرحمن بن حسان (51هـ) 5.

    قيس بن ذُريح (55هـ) 2.

    أبو زبيد الطائي (62هـ) 2.

    عمرو بن أحمر (65هـ) 3.

    عبد الله بن الزبير (73هـ) 1.

    أمية بن أبي عائذ (75هـ) 5.

    ميسون بنت بحدل (80هـ)1.

    ليلى الأخيلية (80هـ) 8.

    عبد الرحمن بن أم الحكم (ت83هـ) 1.

     أعشى هَمَدان (ت 83هـ) 3.

    عِمرانُ بن حطان (84هـ) 3.

    جميل بثينة (82هـ) 1.

    عُبيد الله بن قيس الرُّقيَّات (85هـ) 5.

    حميدة بنت النعمان (85هـ) 1.

    الرّاعي النُّمَيري (90هـ) 12.

    مُزاحم العَقيلي (بعد 90هـ) 2.

    المُغيرة بن حَبناء (91هـ) 2.

    الأخطلُ (92هـ) 17.

    عَديُّ بن الرقاع (95هـ) 2.

    عمر بن أبي ربيعة (ت93هـ) 6.

    ابن مُقبل (103هـ) 3.

    العُجيرالسلولي (105هـ) 2.

    الطِّرمَّاح (ت125هـ) 2.

    عامرُ بن وائلة (ت100هـ أو 105) 2.

    جَرير (110هـ) 45.

    الفَرزدق (110هـ) 53.

     ذو الرمَّة (117هـ) 29.

    كُثَيِّر عَزَّة (125هـ) 8.

    الكميتُ بن زيد (126هـ) 8.

    كعبُ بن جُعيل (تقريبا 118هـ) 5.

    الفضلُ بن عبد الرحمن (129هـ) 1.

    القَطاميُّ (130هــ) 5.

    الكُميتُ بن معروف (126هـ) 5.

    يَزيدُ بن الطّثريّة (126هـ) 2.

    أبو النَّجم العِجليُّ (130هـ) 48.

    نَصرُ بن سيَّار (ت131هـ) 2.

    العَجّاج (145هـ) 30.

    إبراهيمُ بن هرمة (176هـ) 1.

    أبو عطاء السندي (بعد المائة والثمانين) 1.

    أبو نخيلة (145هـ) 16.

    رُؤْبة (145هـ) 39.

    أبان اللّاحقي (200هـ) 2.

     هذه القائمة تطلعنا على الشعراء الذين تَمَثَّلَبهم سيبويهِ، وهي قائمة منوّعة حافلة. كانت قائمة الإسلاميين من مخضرمي الجاهلية والإسلام أقصر من قائمة الإسلاميين في العصر الأموي، وتجاوزَ فيها سيبويهِ ­الضابطَ الأخلاقيَّ بالنسبة للتَمثّلِ بشواهدَ من شعر الحُطيئة. وكان أكثرَ الشعراءِ وُرودًا في الشواهدِ الإسلاميةِ لبيدُ ثمَّ الحُطيئةُ، فحسانُ بنُ ثابت فالشمَّاخُ فعَمرو بن مَعدِ كَرب وغيرهم.

    أما لبيد فشواهدُهُ معظمها من شعره الجاهلي[56]، ويأتي بعدَه حسّانُ تَمَثَّلَ سيبويهِ ببيته المشهور ضمن ما قيلَ من ضَعيفِ القولِ، لأنَّهُ يُثيرُ لَبسًا وهو قولُه:

     كأنّ سبيئةً من بيتِ رأسٍ

     يكونُ مزاجَها عَسلٌ وماءُ[57]

    وفي باب القلب ذكر بيتَ حسّان:

     ظننتمْ بأنْ يَخفى الذي قد صنعتمُ

     وفينا نبيٌ عنده الوحيُّ واضعُه[58]

     والشاهد فيه أنّ واضعه وصف النّبيِّ مع إعادة الضمير في (واضعه) على الوحي وهو لا يَحتمل القلب.

    أما الشعراء الأمويون فلا ضابط يضبط أشعارهم إلاّ ما يحتاج إليهم من التمثل بأشعارهم، ويكفي أنْ نذكرَ تقدمَ شواهدِ الفَرزدقِ على شواهدِ صاحبَيه جريرٍ والأخطل، والفرزدقُ نفسُهُ أكثرُهما فُحشًا في هِجائِه، وبذا يَسقط عنه الضّابطُ الأخلاقيُّ الذي ذكرناه آنفًا وسنقف عند شواهده بالتفصيل.

    وأما ليلى الأخيلية فقد تَمَثَّلَ سيبويهِ ببيتها:

     فلما أحسّا رِزَّها وتضوعا

     وآبتهما من ذلك المتأوبِ

    تدلّت إلى حُصٍ الرؤوس كأنّها

     كرات غلامٍ من كساءٍ مؤرنَبِ

    تريد أنَّ الفرخين تحرّكا لمّا سمعا صوت جناحيهما، والحصُّ التي لا ريش عليها، وأنَّ المتأوِّبَ مصدرُ تأوّبتُ وليس بمصدر آبت، ولكنّها أتت بمصدر في معنى المصدر من الفعل المتقدم[59]. والشاهد فيه كما يقول عبد السلام هارون: مؤفعل من الأرنب، فمؤرنب بمنزلة مرنباني لاهمزة فيه، فهمزة مؤرنب زائدة[60].

    وتَمَثَّلَ سيبويهِ بشعرِ شُعراءَ مُتأخّرينَ كأبي حَيَّة النُميريِّ المُتوفّى سنة ثلاثٍ وثمانين ومائة[61]، ولم يلتزم سيبويهِ بضوابط الاستشهئد التي قال بها غيره، وخطَّ لنفسه مسارًا خاصًا ترسّمَهُ غيرُه بعدَه.

    أمّا ضابطُ الفصاحةِ الذي انتزعوه من ذي الرمَّة والكُميت والطِّرمّاح وأنّهم فاقدو الفصاحة، فلم يلتفتْ إليه سيبويهِ، وإنّما أوردَ شواهدَهم وفق الحاجة إليها.

     وإذا مضينا في متابعة الشعراء الذين تَمَثَّلَ سيبويهِ بأشعارهم سنجدُ كثيرًا منهم من المـتأخرين عن جرير والفرزدق (110هـ) اللذين عُدَّا من المُحدثين ولم يُجوّزْ بعضُ العلماءِ الاحتجاجَ بشعريهما.

     تَمَثَّلَ سيبويهِ بشعر ذي الرمة 117هـ، وكثير عزة 125هـ، ويزيد بن الطثرية 126 هـ، الكميت 126هـ، مع كل ما كِيلَ من تهم للكميت تخص عروبته ولغته، والفضل بن عبد الرحمن 129هـ، والقطامي 130هـ، ونصر بن سيار 131هـ، والعجاج 145هـ، وأبو نُخَيلة 145 هـ، ورؤبة بن العجاج 145هـ.

     ومن مجموع هؤلاء الشعراء نجدُ عددًا من الشعراء المُوَلَّدين، ولا يَصحُّ قولُ خالد عبد الكريم جمعة إنَّهُ لا يوجد بين شعراءِ سيبويهِ شاعرٌ مُوَلَّد ما عدا ثلاثة شعراء يَدور شكٌّ كبير حول نسبةِ بعضِ الشواهدِ إليهم وهم أبانُ اللاحقي وخلفُ الأحمر وبشارُ بن برد.

    وتستمر القائمة حتى نجد إبراهيم بن هرمة الذي قيل إنه ُخُتم به الاحتجاج به، وأبان اللاحقي (200هـ)، وأبا عطاء السندي (بعد 180هـ) الذي تَمَثَّلَ ببيت واحد له[62]، وشعراء القائمة الثانية افتقد كثير منهم إلى ضوابط الزمن والبيئة والنسب مما يدلنا على اتخاذ سيبويهِ منهجًا خاصًّا به في الاحتجاجِ بالأشعار دون التأثر بآراء غيره من العلماء.

     ونذكر نماذج لاستشهاد سيبويهِ بأشعار الإسلاميين. ذَكرَ في بابِ ما يَجري مما يَكونُ ظرفًا مع ذكر الضمير، وقال إنه قد يَجوز في الشعر وهو ضعيف في الكلام ولا يَحسُن في الكلام أنْ يجعلَ الفعلَ مبنيًا على الاسم ولا يذكر علامة إضمار الأول حتى يخرجَ من لفظ الإعمالِ في الأول ومن حال بناءِ الاسم عليه ويشغله بغير الأول, وهوضعيفٌ في الكلام ولكنَّهُ قد يَجوز في الشّعر وأوردَ بيتَ أبي النّجم:

     قد أصبحتْ أمُّ الخيار تَدّعي

                                          عليَّ ذنبًا كلَّهُ لمْ أصنعِ

     معلقًا عليهِ: فهذا ضعيف، وهو بمنزلتِه في غير الشعر[63].

    وذَكر في بابِ ما يَحتملُه الشّعر أنه يَجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف، يُشبّهونه بما ينصرف من الأسماء، لأنها أسماء، وحذف ما لا ينحذف، يُشبّهونه بما قد حُذف،واستعمل محذوفًا كما قال العجاج:

     قواطنا مكة مِن ورق الحمى

    يريد الحمام. وقال خفاف بن ندبة:

     كنواح ريش حمامة نجدية

     ومسحتُ باللثتين عصف الأكمد.

    وكما قال النجاشي:

     فلستُ بآتيهِ ولا أستطيعُه

     ولاكِ اسقني إنْ كانَ ماؤُكَ ذا فضلِ[64]

    وهنا حذف الشاعر النونَ من لكنْ وأبقى ولاكِ

     أما الفرزدق فهو أكثر الشعراء تَمثّلًا بشعره، ولا عجبَ في ذلك، فقد نُقل عن أبي عبيدة قال: سمعتُ يونسَ يقول: لولا شعر الفرزدق لضاع ثلثُ اللغة[65]، وأبو عمرو بن العلاء الذي يرفض التمثل بشعر الفرزدق يقول: إنه يُشبَّهُ من شعراء الجاهلية بزُهير.

     حين تعرف لغة الفرزدق يَزول عجبُك من كثرة تمثّلِ سيبويهِ بشعرهِ خلافًا لآراءِ النقاد الذين رأوا عدم الاستشهاد بشعرالمحدثين، وأولهم الفرزدق.

     ونجد ضمن شواهد سيبويهِ أن الفرزدق أكثر الشعراء الإسلاميين الذين تَمَثَّلَ بهم، فقد بلغتْ الشواهد التي تَمثَّلَ بها من شعره ثلاثةً وخمسين شاهدًا, وسنذكر المواضع التي تَمَثَّلَ فيها سيبويهِ بشعره:

    اختلاف قراءة الشاهد الشعري:

     وقد يُورد سيبويهِ شاهدًا للفرزدق، ولكنَّه لا يكتفي بهِ بل يُورد قراءةً أخرى له، من ذلكَ تمثلُهُ ببيتِ الفَرزدق:

     أسكرانُ كانَ ابنُ المراغة إذْ هجا

     تميمًا بجوفِ الشامِ أمْ متساكرُ

    سكرانُ أوردَها سيبويهِ بالضمِّ قائلًا:إنّها قراءةُ بعضِهم، وأكثرُهم ينصب السكرانَ ويرفع الآخر على قطع وابتداء[66].

    وقد يَذكرُ شاهدين من شعر الفرزدق مثل قوله عن إتباعِ الصفةِ الموصوفَ أو رفعها على القطع كقول الفرزدق:

     باب اتباع الصفة الموصوف:

     ولكنَّني استبْقيتُ أعراضَ مازنٍ

     وأيامَها من مُستنيرٍ ومُظلمِ

     أناسًا بثغْرٍ لا تزالُ رماحُهم

     شوارعَ من غيرِ العشيرةِ في الدَّمِ [67]

    .....

     وفي مبحث يجوز في الشعر ما لا يجوز في النثر وأنَّ مخالفة الشعراء للقواعد النحوية تقع في هذا الباب، فقد عَقَد بابًا سمّاه "ما يَحتملُ الشعرُ وما يَجوزُ للشعراءِ ارتكابُه في الشعرِ ولا يَجوز في كلامِ العَربِ من صَرف ما لا يَنصرفُ وحذفِ ما لا يُحذفُ وغيرها ممّا تَجوز في الشعر ولا تَجوز في النثر".

     ذكر سيبويهِ أنَّهم يَمدّونَ الياء في الجمع على وزن مفاعيلَ كقولِهم مساجد مساجيد، وهذا لا يَجوز في النثر ولكنَّه يَجوزُ في الشعرِ، ولم يَذكرْ شاهدًا آخرَ غيرَ شاهد الفرزدق حينَ مدَّ الصّياريفَ:

    تنفي يداها الحصا في كل هاجرة

                        نفي الدنانير تنقاد الصياريف[68]

    ...

    وفي باب المعرفة يَذكرُ شاهدَ الفرزدق في تعريفِ ابن المخاض في قوله:

     وَجدنا نهشلا فضَلَتْ فقيمًا

     كفضلِ ابنِ المخاض على الفصيل[69]

    ....

    وفي باب الفاعل الذي يتعدى فِعلَه إلى مَفعولَين:

    تَمثَّل سيبويهِ ببيتين للفرزدق، فإن شئتَ اقتصرتَ على المفعول الأول، وإن شئتَ تعدَّى إلى الثاني، وأتى بشواهدَ من الشعر، ولكنه استثنى القاعدة بقوله: وليس كلُّ الفِعل يُفعلُ به هذا، كما أنَّه ليس كلُّ فعلٍ يَتعدى الفاعل ولا يتعدى إلى مفعولِه، ومنه قولُ الفرزدق:

     [70]منا الذي اختير الرجال سماحة

     وجودا إذا َّهب الرياحُ الزعازعٌ

    وقال الفرزدق:

     نُبِئتُ عبد الله بالجوِّ أصبحتْ

     كرامًا مواليها لئيمًا صميمُها[71]

    .....

    وفي باب ما لا يكون إلا على معنى لكنَّ:

    يقول الفرزدق:

     وما سجنوني غير أني ابنُ غالبٍ

     وإني من الأثرين غيرِ الزعانف

    كأنَّه قال: ولكنّي ابن غالب[72]

    .....

    كما تَمَثَّلَ سيبويهِ ببيت الفرزدق في موضوع الفصلِ بين المُضاف والمُضاف إليه، ولم يُعبه بينما عاب بيتا لذي الرمة ووصفه بأنه قبيح، أما بيت الفرزدق فهو:

     يا مَن رأى عارضًا أسرُّ به

     بين ذراعِيْ وجبهةِ الأسدِ[73]

    ففصل بين المضاف والمضاف إليه ذراعي الأسد فصله بجبهة.

    ......

    وفي باب إظهار ضمير الفاعل والإتيان به مؤنثًا قول الفرزدق:

     ولكنْ ديافيٌ أبوهُ وأُمُّهُ

     بِحورانَ يَعصرنَ السليطَ أقاربُهْ[74]

    والشاهد فيه يَعصرن؛ إذ جعل فيها ضمير أقاربه وأتى به مؤنثًا للأقارب لأنَّه أراد الجماعات.

    ....

    وفي باب الممنوع من الصرف يَتَمثَّلُ سيبويهِ ببيتٍ للفرزدق يَمنع فيه (هَجرَ) من الصرف قائلا إنَّ هَجَرَ يؤنثُ ويذكّرُ وهو قوله:

     منهنّ أيامُ صدقٍ قد عُرفتُ بها

     أيامُ فارس والأيامُ مِن هَجَرا [75]

    وفي بابِ الجُموع يَذكر سيبويهِ جمعَ عَمرو عند الفرزدق وإنَّه جَمَعه عُمور، معلقًا عليه: إن الاستعمالَ الأكثر على جمع المُذكّر السالم، قال الشاعر وهو الفرزدق:

     وشيّد َلي زرارةُ باذخاتٍ

     وعمرو الخير إذ ذُكرَ العُمور[76]

    وتمثل في باب (حتى) بشعر للفرزدق، وأنَّها وردتْ بمعنى إذ:

     فيا عَجبًا حتّى كليبٌ تسبُّني

                                 كأنَّ أباها نَهشلٌ أو مُجاشعُ[77]

     فحتّى هنا كحرفٍ من حروف الابتداء.

    ويُرجّحُ قولَ الفرزدق في حَذفِ الخَبر؛ لعلمِ السامع به كقول الفرزدق:

     إنّي ضَمِنتُ لمَن أتاني ما جَنا

                                 وأبى فكان وكنت غيرَ عذوَرِ[78]

    وقد ذكرسيبويهِ رأيًا لشيخِه الخليل في أنَّ بعضَهم قرأ (ومَن تقنتْ منكنَّ للهِ ورسولهِ)[79] فجعلت كصلة "التي" حين عنيتَ مؤنثًا، فإذا ألحقتَ التاء في المؤنَّث ألحق الواو والنون في الجميع، وقال الشاعر حين عنى الاثنين وهو الفرزدق:

     تعالَ فإنْ عاهدْتَني لا تخونُني

     نَكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصطحبانِ[80]

    وقيلَ الشاهدُ فيه "يصطحبان" حَملًا على معنى (من) لأنها كناية عن اثنين[81].

    ويستند سيبويهِ إلى رأي الخليل في إلغاء عمل كان، ويأتي ببيت للفرزدق.

     قال الخليل: إنَّ من أفضلِهم كان زيدًا، على إلغاء كان، وشبيهٌ بقول الشاعر وهو الفرزدق:

     فكيفَ إذا رأيتَ ديارَ قومٍ

     وجيرانٍ لنا كانوا كِرامِ[82]

    ولم يخطِّئْ سيبويهِ الفرزدقَ حتى في المواضع التي قيل إنه أخطأ فيها، فقد قيل إن عبد الله ابن أبي إسحاق[83] قال للفرزدق في مدحه يزيد بن عبد الملك:

     مُستقبلينَ شِمالَ الشامِ تَضربُهمِ

     بحاصبٍ كنَديفِ القُطنِ منثورِ

     على عمائِمِنا تُلقى وأرحُلِنا

     على زواحفَ تُزجي مُخَّها ريرِ

    فقال له ابن ابي إسحاق أسأتَ، إنما هو ريرُ.

    وكان ابنُ أبي إسحاق يُكثر الردَّ على الفرزدق، فقال فيه الفرزدق:

     فلو كان عبدُ اللهِ مولىً هجوتُهُ

     ولكنَّ عبدَ اللهِ مَولى مَواليا

    وقد لحَّنَ ابنُ أبي إسحاقٍ الفرزدقَ في قولِهِ:

     وعضَّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ لم يَدَعْ

                                          من المالِ إلا مِسحتًا أو مُجَلَّفُ

    وقيل إن ابنَ أبي إسحاق قالَ للفرزدق: على أيِّ شيءٍ ترفعُ أو مجلفُ؟ فقال: على ما يسوؤُك وينوؤُك (يريدُ أنْ يُغضبَه) وأنَّ أبا عَمرو بن العَلاء قال له: أصبتَ، وهو جائزٌ على المَعنى أي أنَّه لم يبقَ سواه[84].

    وحين تَمَثَّلَ سيبويهِ ببيت الفرزدق لم يخطِئْه:

    فلو كان عبدُ اللهِ مولىً هجوتُهُ

     ولكنَّ عبدَ اللهِ مَولى مَواليا

    إنما وجدَ لهُ وجهًا، فإنَّهم يُجرون مواليَ على الأصل (فلمّا اضطروا إلى ذلك في موضع لا بدّ لهم فيه من الحركة أخرجوه على الأصل)[85]. وإنما قال مولى مواليا لأنَّ عبدَ اللهِ كانَ مَولى لآلِ الحَضرمي، وآل الحَضرميّ كانوا حُلفاءَ لبني عبدِ شمسٍ بالولاء. ويَعني أجراهُم مَجرى الأصل في موالي.

     وقد لا يَرتضي سيبويهِ شاهدًا من شواهد الفرزدق، فلا يُخَطّئُه ولا يرفضه، ولكنَّه يقول: لا يكاد يعرف، فهل يقصد أنه لا يكاد يعرف له وجهًا؟ قال هذا حين أوردَ قول الفرزدق:

     فأصبحوا قد أعاذَ اللهُ نِعمتَهم

     إذ همْ قريشٌ وإذ ما مِثلهم بَشرُ

    استشهد به على تقديم خبر ما منصوبًا. وقد ذكر عبد السلام هارون تعليقًا على البيت أنَّ الفرزدقَ تميميٌّ يَرفعُه مُؤخَّرا [86]

    والأبياتُ التي يَتَمثَّلُ بها سيبويهِ يقول فيها: "وقال الفرزدقُ، أو كقول الفرزدق" ولكنّه أحيانًا ينصُّ على نقلِه بيتَ الفرزدق سماعًا كأنْ يقول:

    أنشدَ بعضُ العربِ قول الفرزدق:

     مشائيمُ ليسوا مُصلحينَ عَشيرة

     ولا ناعب ٍإلّا ببينٍ غُرابُها[87]

    .....

    ويَروي أحيانًا رواية أخرى لبيتِ الفرزدق سَمعَه من بعض العرب يقول: قال الفرزدق:

     منعتُ تميمًا مِنكَ أنّي أنا ابنُها

     وشاعرُها المَعروفُ عندَ المَواسِمِ

    ثم يَروي روايةً أخرى بلغتِهِ سماعًا أيضًا قائلًا:وسمِعنا من العَرب مَنْ يقولُ: إنّي أنا ابنُها[88]، وينقلُ أحيانًا رأيَ غيرِهِ في سماع بيتٍ للفرزدق فيقول: وزَعمَ يونسُ أنه سمع الفرزدق يُنشد:

     كم عمة ٍ لكَ يا جَريرُ وخالةٍ

     فدْعاءَ قد حَلَبتْ عليَّ عِشاري

     شغارةً تقذُ الفَصيلَ برجلِها

     فطّارةً لقوادمِ الأفكارِ[89]

    وفي إعراب (غير) في قول الفرزدق ما أنشده بعض الناس رفعًا للفرزدق وهو قوله:

     ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ

     دارُ الخليفة إلاّ دارُ مروان[90]

    والشاهدُ فيه إجراءُ (غير) على دارٍ نعتًا لها، فلذا رفع ما بعد إلاّ ومعناها: ما بالمدينة غير واحدة وهي دار الخليفة[91]، وقال]ضا

     أيضًا ذاكرًا روايةً لشعرِ الفرزدق أنشدَه إيّاها بعضُ العرب[92]:

    وبلغَ من اهتمام سيبويهِ بالفرزدق أنْ يَسألَ أستاذَه الخليلَ عن قولِه:

     أتغضبُ إنْ أذنا قتيبةَ حُزَّتا

     جهارًا ولم تَغضبْ لقتلِ ابنِ حازمِ

    فيجيبه الخليل: لأنه قبيحٌ أنْ تفصلَ بين إنْ والفعل، كما قبُحَ أنْ تفصلَ بين كي والفعل، فلما قبُحَ ذلك ولم يَجُزْ حُمِّل َعلى إن؛ لأنَّه قد تقدّم فيها الأسماء قبل الأفعال[93].

    ونجدُه يُدافعُ عن بيتٍ للفرزدق مُوجدًا تَعليلًا لقولِه:

     على حِلفةٍ لا أشتِمُ الدَّهرَ مُسلمًا

     ولا خارجًا مِن فِيَّ زورُ كلامِ

    يقولُ سيبويهِ فإنما أرادَ: ولا يَخرجُ فيما أستقبلُ كأنَّهُ قالَ: ولا يَخرجُ خروجًا، ألا تراهُ ذكرَ عاهدت في البيت الذي قبله:

     ألم تَرَني عاهدتُ ربّي وإنَّني

     ببيتِ رِتاجٍ قائمًا ومقام

    ولو حَمَلَه على أن نفى شيئًا هو فيه، ولم يُردْ أنْ يَحملَه على عاهدتُ جاز. وإلى هذا الوجهِ كان يذهبُ عيسى[94] فيما نرى، كأنَّه لم يَكنْ يَحملُه على عاهدتُ[95]. وحين يَذكر سيبويهِ صيغَ الأفعال الصَّرفية يَتمَثَّلُ بقول الفرزدق مستخدمًا تَنعِم بالكسر:

     وكُومٍ تنعِمُ الأضيافُ عَينًا

     وتصبِحُ في مباركِها ثِقالا

     ويُبدي سيبويهِ رأيَه في صيغةِ تَنعِم التي أوردَها الفرزدقُ بكسرِ العين، فيقولُ والفتحُ في هذه الأفعالِ جَيدٌ وهو أقيَس.

    وفي باب التضعيف والزيادة بالألف فعّلت وأفعلت, يقول: وقالوا أغلقتُ الباب، وغَلّقتُ الأبوابَ حين كَثّروا العمل، وإن قلت: أغلقت الأبواب كان عربيا جيدا وقال الفرزدق:

     ما زلتُ أغلقُ أبوابًا وأفتحُها

     حتى أتيتُ أبا عَمرِو بنِ عَمّارِ

     وأعادَ الشاهدَ في مَوضعٍ آخرَ، ويُرجّحُ صيغة فَتَّحت ويَراها أحسنَ من الفتح كما قالَ تعالى (جنات عدنٍ مفتّحة لهم الأبواب)[96].

    وفي صيغة فاعل إذا جُمِعتْ لغير الآدميين تقول (فواعِل) وإن كانَ لمذكَّر أيضًا؛ لأنّه لا يَجوزُ فيه ما جاز في الآدميين من الواو والنون، فضارع المؤنث ولم يقو قوة الآدميين وذلك قولهم جمالٌ بوازِل، وجمالٌ عَواضِهُ، ولكنَّه وجدَ الفرزدقَ يستخدم صيغة فواعل للرجال فيقولُ إنه اضطُرَّ لذلك:

     وإذا الرجالُ رأوا يَزيدَ رأيتَهمْ

     خُضُعَ الرّقابِ نَواكسَ الأبصارِ

     فالشاهدُ هنا استخدام الفرزدق لصيغة فواعل للرجال، ولكنَّه يجدُ تسويغًا له بقوله: لأنَّكَ تقولُ هي الرجال كما تقول هي الجمال، فشبّهَ بالجِمال[97].

    ويَذكر رأيَ الخليل في الإضمار فيقولُ معقبًا على بيت: زعمَ الخليلُ أنَّ هذا يُشبهُ قولَ مَن قال وهو الفرزدق:

    فلو كنتَ ضبِيًّا عرَفتَ قرابتي

     ولكنَّ زنجيٌ عظيمُ المَشافرِ

    والنصبُ أكثرُ في كلام العرب كأنَّه قال: ولكنّ زنجيًا عظيمَ المَشافرِ لا يَعرفُ قرابتي، ولكنه أضمرَ هذا كما يُضمر ما بُني على الابتداء[98]، وهو يخالفُ في هذا أبا عمرو بن العلاء وعبدَ الله بنَ أبي إسحاقٍ والحسنَ البصريَّ وعبدَ اللهِ بنَ شبرمةَ فقد كانوا يُلَحّنون الفرزدقَ والكُميتَ وذا الرِّمَّة وأضرابَهم.

    وقالَ بعد أن ذكرَ رأيَ الخليل أنّ مَنْ بمنزلة إنسان، وتجعل ما بمنزلة شي نكرتين، فيذكر شاهدًا من شعرِ حسّان بنِ ثابت:

     فكَفى بِنا فَضلًا على مَنْ غيرُنا

     حبُّ النبيِّ مُحمَّدٍ إيّانا

    ومثلُه بيتُ الفرزدق:

     إنّي وإيَّاك إذْ حلّتْ بأرحلنا

     كمَنْ بواديهِ بعدَ المَحْلِ مَمطورِ[99]

     أما الشمَّاخُ فتَنوعَتْ الشواهدُ التي تَمَثَّلَ بها سيبويهِ من أشعاره، منها تَمَثّلُهُ بما يلجأ إليه بعضُ الشعراءِ من مدِّ الأصوات:

     لهُ زجَلٌ كأنْهُ صوتُ حادٍ

     إذا طلبَ الوَسيقةَ أو زَميرُ[100]

    والخلاصةُ أنَّ سيبويهِ استشهدَ بشعراءِ الطبقاتِ الثلاثِ الأُوَل؛ طبقةِ الجاهليين وطبقةِ المخضرمين وطبقةِ الإسلاميين مثلِ جريرٍ والفرزدق والأخطل، أما المتأخرون من الشعراء فقد استشهد سيبويهِ ببيتٍ للفضلِ بنِ عبد الرحمن القُرشيِّ (ت129) ولم يَنسبْه، ذكرَه في باب ما يَكونُ معطوفًا في هذا الباب على الفاعل المُضمَر في النيَّة ويكونُ معطوفًا على المَفعول: فقول الشاعر:

     إيّاكَ إيّاكَ المراءُ فإنَّهُ

     إلى الشرِّ دَعّاءٌ وللشرِّ جالبُ[101]

    وقال إنَّ ابنَ أبي إسحاق احتجَّ ببيتِهِ وقد استشهد به الخليل[102].

     وتَمَثَّلَ بأربعةِ شواهدَ لابنِ ميَّادةَ (ت149هـ) ولم يَنسبْها مباشرة ولكنْ نَسبَها المحقّقُ في تحقيقِه[103]، وتَمَثَّلَ ببيتٍ لابنِ مَيّادة في باب التنوين، فالصفة المعرفة تجري على المَعرفة كمجرى الصفة النكرة على النكرة. ولو أنَّ هذا القياس لم تكنْ العربُ الموثوقُ بعربيَّتِها تقوله لم يلتفتْ إليه. مع هذا التصريح نَجدُ سيبويهِ يُؤكّد على السّماع بقوله: ولكنَّا سِمعناها (أي العرب) تُنشدُ هذا البيتَ جَرًّا وهو قول ابنِ ميادةَ المُرّيّ من غَطَفان :

     وأرَشْنَ حينَ أردنَ أنْ يَرمينَنا

     نَبلاً بلا ريشٍ ولا بقداحِ

     ونَظرنَ من خَلَلِ الخدور بأعينٍ

     مَرضى مُخالطها السِّقامُ صِحاحِ

    وسَمعنا مِن العربِ مَن يَرويه، ويَروي القصيدة التي فيها هذا البيت لم يُلَقنه أحد[104]. ويفيدُنا هذا الشاهدُ بتسامحِ سيبويهِ في التَمَثُّلِ بشاعر متأخر، واعتماده على السماع في ضبط البيت.

    وهناك شاعرٌ يُثير نقاشًا وهو بشّارُ بنُ بُرد المُتوفّى سنة 168هـ، قال الدكتور خالد جمعة إنَّ سيبويهِ تَمَثَّلَ بشعر بَشّار:

     وما كلُّ ذي لب ٍبمُؤتيكَ نُصحَهُ

     وما كلُّ مُؤتٍ نُصحَهُ بلَبيبِ[105]

    وقال إنه تَتَبّع المَصادرَ فلمْ يَجدْ أحدًا نَسبَه لبشَار[106]، والصواب أنّه لأبي الأسودِ الدؤَليِّ، ويُقررُ أنَّ قصةَ استشهاد سيبويهِ بشعرِ بشَّار ليستْ ثابتة، وأنَّه مِن الجائزِ أنَّ سيبويهِ كان يَذكرُ بَعضَ شعرِ بشّار في مجالسِه دونَ أنْ يَقصدَ الاحتجاجَ بهِ.

     هذا الخبرُ يُثيرُ نِقاشًا له علاقةٌ قوية بعصر الاحتجاج. لقد ذكر السّيوطيُّ في كتاب الاقتراح: أولُ الشعراءِ المُحدثينَ بشّارُ بن برد، وقد احتجَّ سيبويهِ بشعرِهِ في كتابِه[107] تَقرُّبًا إليهِ لأنَّه كانَ هجاءً.

    هذا الخبرُ ذُكر في ترجمة بشّار وإنَّ الذي طَعنَ بشعرِه وعابَه هو الأخفشُ وإنّ بشارًا هجاهُ بعد ذلك، وفيه أيضًا أنّ بشّارًا هجا سيبويهِ، وقد بَلغَهُ شيءٌ من ذلك[108].

    أما القبائلُ التي تَمَثَّلَ سيبويهِ بأشعارِ شعرائِها فهم الذين يُمكن أنْ يُدرجوا في عصرِ الاستشهاد، ولم يَسقط من قبائل العرب ألا القبائل التي لم يُعرفْ فيها شعراءُ مَعروفون[109].

    احتج بشعرِ عمرَ بنِ أبي ربيعةَ وهو حَضريٌّ ومن عُذرةَ، وبشعرِ عَديِّ بنِ الرقاعِ وهو من قُضاعة، وبشعرِ جَريرٍ والفرزدقِ وهُما من تميمٍ وبالأخطلِ وكعبِ بن جعيل والقَطاميِّ وهم من تَغلبَ، وبشعر أبي طالب وعبد الرحمن بن أم الحكم وهما من الحَضر من مكّة، وتَمثَّلَ بشعر الكُميتِ والطِّرمّاح وهما حَضَريان من الكوفةِ، وعَمرو بن مَعدِ كرب وهو من اليَمن، ولم يُطبّق الضوابطَ التي وضعها غيرُه، وإنَّ سيبويهِ كان حُرًا في الاستشهاد بالأشعارِ غيرَ مُنحازٍ لفئةٍ دون أخرى، أو لعصرٍ دونَ آخرَ فوجدنا أشعار الإسلامين من الشعراء كثيرةً في كتابِهِ متنوعةَ المشاربِ والاتجاهاتِ، مُقدِّمًا مَن يَراهُ مُستحقَّ التَقديم فيُكثر من شواهدِهِ، ويَذكرُ آخرينَ حَسب مكانتِهم وأشعارِهم فيُقللُ من التَمَثُّلِ بأشعارِهم دونَ أنْ يُخطّئَهم.

    المصادر والمراجع:

    -أخبار النحويين البصريين/ السيرافي، أبو سعيد الحسن بن عبد الله (368هـ) تحقيق طه محمد الزيني ومحمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.1374هـ/1955.

    -الأغاني /أبو الفرج الأصفهاني (ت350هـ)، بيروت، دار الثقافة 1955.

    -الاقتراح في أصول النحو/ السيوطي، جلال الدين (911هـ)، تحقيق عبد الحكيم عطية، الطبعة الثانية.بيروت، دار البيروتي1427/2007

    -بُغيةُ الوُعاة في طبقات اللغويين والنُّحاة/ السيوطي، عبد الرحمن (ت911هـ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة، مطبعة البابي الحلبي 1384هـ/1964

    -جوهر الكنز، تلخيص كنز البراعة في أدوات ذوي البراعة/ ابن الأثير نجم الدين أحمد بن إسماعيل (691هـ) تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، مصر، 2009.

    -خزانةُ الأدب ولبُّ لُبابِ لسان العرب/ البغدادي، عبد القادر بن عمر 1093هـ، مكتبة الخانجي 1418هـ/1997.

    - سيبويهِ حياتُه وكتابُه/ أحمد أحمد بدوي، طبع في مؤسسة هنداوي 2017 (عن طبعة 1950).

    -الشاهدُ وأصولُ النّحو في كتابِ سيبويهِ/ خديجة الحديثي، الكويت، جامعة الكويت 1394هـ/ 1974.

    -شرحُ أبياتِ سيبويهِ/ السيرافي، أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله المرزبان السيرافيّ (358هـ)، تحقيق محمد علي الريح هاشم، مكتبة الكليات الأزهرية، دار الفكر، بيروت- القاهرة، 1394هـ/1974.

    -شواهد الشعر في كتاب سيبويهِ/ خالد عبد الكريم جمعة، مصر، الدار الشرقية 1409هـ/1989.

    -طبقات النحويين واللغويين/ الزبيدي، أبو بكرمحمد بن الحسن/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر. 1966

    -فحولة الشعراء/ الأصمعي، عبد الملك بن قريب (216هـ) تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، 1372هـ/1953.

    -كتاب سيبويهِ/ سيبويهِ، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (180هـ)، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، الطبعة الثالثة، مكتبة الخانجي 1988.

    -مراتب النحويين/ أ­­بو الطيب، عبد الواحد اللغوي (351هـ)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة نهضة مصر1955.

    -المدخل إلى كتاب سيبويهِ وشروحه/ البكاء، محمد عبد المُطّلب، بغداد، وزارة الثقافة، دائرة الشؤون الثقافية، 2001.

    -المُزهر في علوم اللغة العربية وأنواعها/ السيوطي، عبد الرحمن (ت911هـ)، تحقيق محمد جاد المولى وآخرين، الطبعة الثالثة، القاهرة، مكتبة دار التراث، د. ت.

    - معجم الأدباء/ ياقوت الحموي (626هـ)، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، 1993.

    - معجم النقدالعربي القديم/أحمد مطلوب. بغداد، دار الشؤون الثقافية 1989.

     -المُوشَّح في مآخذ العلماء على الشعراء/ المرزباني، محمد بن عمران (384هـ) تحقيق محمد حسين شمس الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1415هـ/1995.

    -نزهةُ الألبّاء في طبقاتِ الأدباء/ ابن الأنباري، أو البركات عبد الرحمن (577هـ)، تحقيق إبراهيم السامرائي، الأردن، مكتبة المنار، 1405هـ/1985.

     

    [1] لسان العرب (ولد)

    [2] الشعر والشعراء 1/63

    [3] العمدة 1/91

    [4] أبو عمرو بن العلاء العالم المشهور بالقراءات واللغة: الاشتقاق 126، نزهة الألباء 30.

    [5] الشعر والشعراء 2/581.

    [6] العمدة لابن رشيق 1/90-91، خزانة الأدب 1/6.

    [7] الموشح 286.

    [8] نفسه

    [9] العمدة 2/85.

    [10] يُنظر: جوهر الكنز 445، وخزانة الأدب 1/54معجم مصطلحات النقد الأدبي 2/384، يتيمة الدهر 1/16، ثمار القلوب 224

    [11] الاقتراح 120.

    [12] العمدة 1/90.

    [13] خزانة الأدب 1/348.

    [14] هو يونس بن حبيب الضبي، أديب نحوي توفي نحو 182هـ: نزهة الألباء 48، إنباه الرواة 4/68.

    [15] تاج العروس (ولغ) الأغاني 5/97.

    [16] الشعر والشعراء 1/23.

     [17]الخصائص 3/259، المزهر 2/376.

    [18] فحولة الشعراء 46.

    [19] الأغاني، طبعة دار الفكر 2/90، الأمالي للقالي 1/96.

    [20] المزهر 2/339.

    [21] خزانة الأدب 1/6.

    [22] أخبار النحويين 39، نزهة الألباء 55.

    [23] الكتاب 1/5.

    [24] وفيات الأعيان 3/123.

    [25] أخبار النحويين 39، نزهة الألباء 56.

    [26] مراتب النحويين 65.

    [27] أخبار النحويين البصريين 37، نزهة الالباء 55.

    [28] نزهة الألباء 55.

    [29] سيبويه حياته وكتابه 19- 20.

    [30] الكتاب 1/9، طبقات الزبيدي 77، خزانة الأدب 1/178.

    [31] فوات الوفيات 1/35.

    [32] الاقتراح 27.

    [33] خزانة الأدب 1/6.

    [34] الشعر واالشعراء 2/581.

    [35] الموشح 248.

    [36] الشعر والشعراء 2/586الأغاني 2/63، الموشح 248.

    [37]خزانة الأدب1/8.

    [38] الكتاب 1/451، 429، 352، 389،462.

    [39] ينظر الشاهد الشعري 24، وهو الأساس الذي اعتمدنا عليه في هذه القائمة، وكتاب المدخل إلى كتاب سيبويه وشروحه 60.

    [40] إنباه الرواة 1/165، الفهرست 91، بغية الوعاة 1/412.

    [41] بغية الوعاة 1/196، الفهرست 127 باسم شواهد سيبويه وتفسيرها.

    [42] حققه د. زهير غازي زاهد مطبعة الغري، النجف 1974.

    [43] بغية الوعاة 1/177، الشاهد وأصول النحو 23 كتاب سيبويه وشروحه 158.

    [44] الكتاب مطبوع بتحقيق محمد علي الريح. مكتبة الكليات الأزهرية مصر1394هـ/1974.

    [45] المدخل إلى كتاب سيبويه وشروحه55

    [46] طبع الكتاب بتحقيق زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة 1415هـ/1994وقال المحقق عن الكتاب إنه أكمل شروح شواهد الكتاب التي وصلت إلينا.

    [47] المدخل إلى كتاب سيبويه وشروحه62

    [48] المدخل إلى كتاب سيبويه60 ونقل الأبيات من مخطوط ديوان شعر الزمخشري، ومقدمة تحقيق الكتاب 1/37

    [49] بغية الوعاة 1/597، إيضاح المكنون 2/398، كتاب سيبويه وشروحه 254.

    [50] إنباه الرواة 2/116، بغية الوعاة 38، المدخل الى كتاب سيبويه وشروحه 67.

    [51] بغية الوعاة 2/344 وهو منظومة.

    [52] بغية الوعاة 1/187

    [53] كتاب سيبويه وشروحه 256، المدخل إلى كتاب سيبويه 72ونشر كتاب شرح أبيات سيبويه والمفصل بتحقيق عزيزة بنت سليمان عبد الذبياني

    [54] الشاهد وأصول النحو 24، كتاب سيبويه وشروحه 242.

    [55] سيبويه وشروحه 292

    [56] الكتاب 1/68،190،372، ومواضع أخرى

    [57] الكتاب1/49

    [58] الكتاب 2/53

    [59] شرح أبيات سيبويه للسيرافي 2/372.

    [60] الكتاب 4/280.

    [61] الكتاب 3/156.

    [62] نفسه 2/98.

    [63] الكتاب 1/85.

    [64] الكتاب 127.

    [65] معجم الأدباء 2786.

    [66] الكتاب 1/49.

    [67] الكتاب 1/288.

    [68] الكتاب 1/28.

    [69] الكتاب 2/99.

    [70] كذا ورد في الديوان (ص360)، والصواب (ومنا) إذْ منْ دونِ الواو أو أيّ حرفٍ مُتحركٍ يَسبق "منا" يكونُ صدرُ البيتِ من الكاملِ وعَجزُه من الطويل، وهذا يرد كثيراً عند الفرزدق.

    [71] تَمثَّلَ به سيبويه، ولم نجده في ديوان الفرزدق.

    [72] الكتاب 2/ 327، ولم نجده في الديوان.

    [73] الكتاب 1/180.

     [74]الكتاب 2/40.

    [75] الكتاب 3/343 والشاهدُ فيه منعُ هَجَرَ من الصّرف على إرادة البقعة والمكان.

    [76] الكتاب 3/396.

    [77] نفسه 3/18.

    [78] الكتاب 1/.76

    [79] سورة الأحزاب31

    [80] وَرد البيت في الديوان (ص628):

     تعشَّ فإنْ واثَقتَني لا تَخونُني

    نَكُنْ مثلَ مَن يا ذئبُ يصطحبانِ

    [81] الكتاب2/416

     الكتاب 2/153[82]

    [83] عالم في اللغة كثر هجاء الفرزدق له تنظر ترجمته في إنباه الرواة 2/105في نزهة الألباء 26،

    [84] نفسه

    [85] الكتاب 3/313، وانظر أخبار النحويين البصريين21

    [86] الكتاب 1/60

    [87] نفسه 3/29

    [88] الكتاب 3/128

    [89] الكتاب 2/72

    [90] الكتاب 2/34

    [91] تعليق المحقق عبد السلام هارون

    [92] الكتاب 2/162

    [93] الكتاب3/161 والشاهدُ فيهِ كسرُ إنْ على معنى الشّرطِ لتقديمِه الاسمَ على الفعلِ الماضي، ولو فَتَحَ أن لم يَحسُنْ لأنَّها موصولة بالفعل، فيَقبُحُ فيها الفَصل.

    [94] هو عيسى بن عمر من طبقة أبي عمرو بن العلاء، بصريٌّ أخذَ عنه الخليلُ بن أحمدَ، توفي سنة 149هـ: أخبار النحويين البصريين. 25، نزهة الألباء28

    [95]الكتاب 1/346.

    [96] سورة ص 50.

     

    [98] الكتاب 2/135.

    [99] الكتاب 1/106.

    [100] الكتاب 1/30.

    [101] الكتاب 1/279.

    [102] في كتاب الجمل 1/119.

    [103]الكتاب 1/311،386، 3/231.

    [104] الكتاب 2/20.

    [105] الكتاب 1/441.

    [106] شواهد الشعر في كتاب سيبويه 298.

    [107] الاقتراح 59.

    [108] الموشح 287.

    [109] شواهد الشعر في كتاب سيبويه 300.

معارض الدار

في ضيافة دار الشؤون الثقافية
  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white