مروية بغداد الشعبية العلامة

زين احمد البرزنجي

مروية بغداد الشعبية
العلامة الحنفي

الباحث زين احمد البرزنجي النقشبندي

تعود معرفتي بالعلامة التراثي الشيخ جلال الحنفي البغدادي إلى ثمانينات القرن الماضي عندما كان ينشر عموده الأسبوعي في جريدة القادسية (رؤوس أقلام أسبوعية) وكان يسجل فيه كل شاردة وواردة يراها أو يسمع بها اضافة إلى أنه كثيرا ما كان يبدي رأيه أو فتواه في بعض الأمور والمسائل الفقهية، حيث كانت بداية تعرفي عليه عن قرب ومنذ تلك اللحظة لم تنقطع العلاقة بيننا حيث كنت أزوره باستمرار، واستمرت هذه الزيارات حتى وفاته. وقد كنت قبل ذلك قد قرأت له الكثير مما كتب بعض مقالاته وكتبه التراثية والتاريخية التي تتعلق بتراث وتاريخ بغداد، وكان قد بدأ نشرها منذ نهاية الثلاثينيات وبداية أربعينيات القرن المنصرم في العديد من المجلات العراقية والعربية، وهي مقالات فريدة في بابها والقارئ لها يشعر منذ الوهلة الأولى بمصداقية وأهمية المادة التراثية والتاريخية التي كتبها هذا العالم والباحث المفضال، والمنهج الذي كان يعتمده في كتاباته معتمدا فيه على توثيق الكثير مما حافظت عليه وتناقلته الذاكرة البغدادية، ومما لم يتم تدوينه سابقا ومن ثم العودة إلى تقييد هــذه الكتابــات بأمهــات المصـــادروالمراجـــع العربيـة الاســلامية وغــير الاســـلاميـة والعــبرية والســـريانية، أضــافة إلى ما كتبه المستشرقون بلغاتهم من انكليزية إلى فرنسية إلى المانية وايطالية، وهي لغات أكثرنا لا يجيد القراءة والكتابة بها، ونجهل الكثير مما كتب بها من معلومات تراثية وتاريخية عن بغداد، خاصة المتعلقة بالقرن الخامس عشر ولغاية القرن التاسع عشر الميلادي، ذلك لان هناك الكثير من المستشرقين الذين ينتمون إلى بلدان أوربية يتكلمون ويكتبون بهذه اللغات، اهتموا كثيرا ببلدنا وبتاريخه وترك الكثير منهم العديد من الكتب والدراسات والرسوم والمخطات والجداول والصور التوثيقية المهمة عن بغداد خاصة والعراق عامة في القرون الأخيرة إضافة إلى الرحلات التي دون فيها الكثير من المعلومات التاريخية والتراثية الدقيقة، ومما لا أنساه أنه كان دائما في غاية البشاشة والكرم والتواضع الاخلاقي والعلمي، يحتار ماذا يقدم للزائر له من مشاريب وحلويات وكرزات وألبان، وما يجلب له من خيرات وغير ذلك مما طاب من المأكولات والأطعمة وحسب المتوفر، وبعد انتهاء المقابلة يودعك مرافقا لباب مسكنه ومجلسه (جامع الخلفاء)، وكذلك كان لا يبخل على أي شخص بمعلومة أو كتاب، وكثيرا ما كان يسألني عن مشاريعي ومشاغلي واهتماماتي وعلى ماذا اعمل حاليا وماذا اكتب وأنشر، فما أبرح أن اتركه في نفس اليوم أو بعد أيام حتى يتصل بي أو ينبهني أو ليزودني بمعلومة أو إشارة لمصدر مفيد أو لمرجع أو دراسة أو مقالة نشرت في كذا كتاب، أو مجلة دورية أو جريدة يومية متسائلا: هل اطلعت عليها!
هكذا كان هذا الرجل المعطاء المرحوم الشيخ الحنفي الذي يعجز القلم عن تسطير مآثره وكلماته ومواقفه، اضافة إلى ذلك، كم مرة ومرة عندما كنت أتصل به لآخذ موعد لأحد طلبة أو طالبات الدراسات العليا أو الباحثين سواء كانوا عراقيين أو غير عراقيين، وخاصة طلبة الدراسات الذين تزودوا من علمه ومعلوماته في بعض الشؤون التاريخية والتراثية والموسيقية، ودائما كان يرحب، ويبدي استعداده تقديم كل مساعدة ممكنة وفي كثير من الأحيان كان يردد كلمته التي لن أنساها ما حيت: (أهلا بيك وبالناس الذين معك، بخدمتك وخدمتهم)، وبوجه
بشوش هكذا كان دائما، يذكرنا بالرعيل الأول من المؤرخين من أعلام العراق الذين أفنوا أعمارهم في سبيل خدمة الثقافة العراقية ورفع شأنها .
إن الكتابة عن شخصية مثل العلامة الشيخ جلال الحنفي البغدادي شيء ليس بالسهل، وسبب ذلك أنه رجل متعدد المواهب والاختصاصات، كثير النتاج في حياته العديد من المحطات التي تستحق الوقوف عندها وتسليط الضوء عليها، وهو قبل وبعد ذلك علامة بغداد المدافع عنها وعن تراثها وتاريخها.
وقد امتاز الشيخ الحنفي بسعة الاطلاع وثقافته المتنوعة، وكما ذكرنا، فهو عالم كبير ومفسر ومحدث وخطيب وأديب وشاعر وكاتب وموسيقي، بل يكاد يكون من القلائل الذين لهم علم بالمقام والأنغام والألحان العراقية والمربعات البغدادية، وقد كان اضافة إلى ذلك يجيد اللغة التركية والفارسية والكوردية والانكليزية وقليل من الفرنسية والالمانية والاسبانية والعبرية، وكل من عرفه عن قرب أو رافقه خرج بانطباع عنه أنه آية في الذكاء، كذلك امتاز بالكرم، وهو كثير الهويات وعجيب وغريب فيها له حكايات عجيبة وقصص أغرب وتجارب أعجب. ومن خلال اتصالنا به ولقاءاتنا المتعددة معه في تسعينيات القرن الماضي كنا قد اتفقنا معه أن نسجل سيرته، وقد كان لا يبخل علينا بإجابة استفساراتنا وتوضيح العديد من المواقف وتسليط الضوء على الكثير من الاحداث، وقد استمر اتصالنا به لغاية وفاته، ونحن اليوم اذ نقوم بنشر هذه المعلومات التي هي بالتأكيد رؤوس لمواضيع في سيرة هذا العلم البغدادي الذي يستحق كل واحد منها أن يكون موضوعاً، ولكنها حتما سوف تسلط الضوء ولو بشكل سريع على هذه السيرة المعطاءة .
ولد العلامة الشيخ جلال محي الدين بن عبد الفتاح بن مصطفى بن ملا محمود البغدادي الزبيدي، المشهور بالشيخ جلال الحنفي، في محلة القرغول ببغداد سنة 1905 أو قبل أو بعد هذا التاريخ في محلة البارودية إحدى محلات بغداد القديمة، وإذا سأل سائل لماذا قلنا قبل ولماذا لم نستطع تحديد تاريخ ولادته بشكل دقيق؟ فجوابنا له هو أن الناس في بغداد في تلك الأيام (مطلع القرن الماضي) لم تكن تعرف أو يستعملون توثيق التاريخ بالسنوات، ولم تكن هناك دائرة مثلما هي موجودة الآن لتسجيل الولادات والوفيات، لنعرف تاريخ الولادة بشكل دقيق وبالتالي نستطيع تحديد عمر المترجم له بشكل دقيق له، بل أن أهل بغداد عرف عنهم أنهم كانوا يؤرخون بأهم الأحداث التي حدثت مثل: الفيضان، والحرب، ومقتل شخص معروف، أو سقوط دار أو منارة جامع، وأغرب شيء في هذه التواريخ هو التاريخ بيوم (الكركوعة القوية). فقد سألت في تسعينيات القرن الماضي الأسطة المجلد السيد عباس الذي هو أقدم مجلد كان في سوق السراي عن ميلاده، فقال لي أنه ولد يوم الكركوعة، ولم نعلم أي كركوعة هذه التي كان أهل بغداد يقصدونها ومتى حدثت، والأهم من كل ذلك أن علامتنا الحنفي كان من الذين لا يحبون التحدث في ميلاده وسنة ولدته، ويعتبر ذلك من سفاسف الأمور، وقد سمعته يقول أكثر من مرة ما الفائدة من هذا الشيء، وماذا سوف تستفيد من ذلك اسأل عن شيء مفيد تستفيد منه أنت والناس، ولكن برغم ذلك فإن البعض ذكر أن ولدته تقريباً عام 1915 ولكننا لا نتفق معهم، لأسباب كثيرة، لعل أهمها أنه قد ذكر لنا مرة أنه عندما كان في الصف الخامس الابتدائي وقف يقرأ نشيداً امام الملك فيصل الأول(رحمه الله) وأن الملك أعطاه روبية، ومرة أخرى ذكر أنه قال للملك فيصل عندما أخذ من المدرسة يوم العيد مع مجموعة من الطلاب وشاهده لأول مرة لماذا يا سيادة الملك أنت لا تشبه الملك زهير ملك قبيلة عبس، فضحك الملك فيصل الأول (رحمه الله).
وقال له وكيف هو ملك عبس؟ قال الشيخ الحنفي فقلت له: طويل يحمل سيفاً صمصاماً، ويلبس الذهب والحرير، بطل مغوار ذو هيبة ووقار، يجلس في الأعالي ويحملهُ عدة أنفار، كثير الخدم والحشم، يأمر بدنانير الذهب فتجلب له ويوزعها بين زواره وجلاسه، فضحك الملك فيصل الأول، وأخرج من جيبه عدة روبيات ورماها على الطلاب (الأطفال) ومنهم الحنفي، وكان ذلك كما قال الحنفي في القصر الذي قرب وزارة الدفاع حالياً، فقلت له: في حينها هل هو القصر العباسي (بيت الحكمة حالياً) فقال: نعم. عليه إننا نعتقد للأسباب التي ذكرناها وغيرها، أن ميلادهُ محصور في عام 1905 أو قبل أو بعد هذه السنة بسنة واحدة أو سنتين أو أكثر، علماً أنه قد ورد في دليل المملكة العراقية الرسمي المطبوع سنة 1935، عند ترجمة الشيخ الحنفي أن ولادته عام 1912 وقد ذكرنا ذلك أمام الشيخ أكثر من مرة، وكان جوابه، وإن يكن، فماذا يعني ذلك وماذا سوف يفيد (المقصود أن ميلاده سنة 1905).
وذكر لنا كذلك أنه درس في جامع العرب بالبصرة حيث هاجرت عائلته البغدادية إلى البصرة وهو صغير، ودرس هناك عند أحد المشايخ في أحد كتاتيبها حيث كان والده موظفا بالبصرة ابان العهد العثماني، ومن أصدقاء ومحبي ومؤيدي الزعيم السيد طالب النقيب، ويبدو أن عائلته لم تطل البقاء في البصرة كثيراً، لأنه يذكر أنه درس أيضاً على يد الملا ابراهيم في محلة القرغول، إحدى اشهر محلات بغداد في المكان الذي فيه قبر الإمام أحمد بن حنبل في الميدان حالياً وكان يسمى أيضا هذا الملا ( لاله الأفغاني).
أما أول مدرسة دخلها، فقد ذكر لنا أنه دخل مدرسة التفيض الأهلية التي كان مقرها في محلة الحيدرخانة، ثم في المدرسة البارودية الابتدائية ثم في المدرسة المأمونية. ثم دخل مدرسة التطبيقات ثم دخل مدرسة الحيدرخانة الابتدائية مرة ثانية.
وفي المدة التي بدأ الانكليز يمهدون ويعدون العدة لتنصيب الملك فيصل الأول ملكا على العراق، كان والد الشيخ الحنفي (محي الدين عبد الفتاح) ممن عارض هذا الاختيار والتنصيب، حيث اطلق عيارات نارية من بندقيته على المجلس التأسيسي، فصدر أمر بإلقاء القبض عليه مما اضطره أن يفر إلى مصر حيث سكن هناك وتزوج من امرأة مصرية انجبت له هناك أربعة أولاد وبنتاً بينما بقى جلال مع والدته في بغداد.
وذكر لنا أيضا أنه كان شديد التأثر بسيرة عنترة بن شداد وأشعاره المميزة والتي قال عنها في تسعينيات القرن الماضي عندما كنا نزوره في جامع الخلفاء في مجلسه اليومي قال لنا:-
إنه منذ كان في الصف الثاني الابتدائي وأنا يوم ذاك كنت صغير السن كنت اقرأْ قصة عنترة بن شداد، وقد شدتني هذه القصة إلى شخصية هذا الفارس الذي عاش عاشقا ومغامرا، وذو شعور في قدسية انتمائه إلى قبيلة عبس فكان يدافع عنها، ومن خلال قصته يستطيع أن يعرف القارئ اسماء القبائل العربية ومواطنها في الجزيرة العربية، وكان عنترة شاعرا متقدما في صناعة الشعر، واضاف ولطول عكوفي على قراءة سيرته النادرة تأثرت كثيرا به وبشعره وبحياة العرب في جاهليتهم، إنها فخمة ذات دلالة كبيرة وعظيمة، وإن شخصية عنترة تصح أن يتخذها كل إنسان مثالاً له في الجد والمثابرة والعزيمة والاصرار، فعنترة كما يذكر الشيخ الحنفي كان عبداً وأصبح سيداً وأي سيد، وفارساً واي فارس، ومراد ذلك إلى شدة اصرار وعمل ومثابرة وعزيمة عنترة وركوبه الاهوال وتحمله الصعاب، نعم الحياة بناء وعلى قدر ما تستطيع وتريد إما تهلك أو تحصل على ما تريد وتطمح، هكذا كان يقول الشيخ الحنفي.
ويضيف أن قراءتي العميقة لسيرة عنترة ربما كان لها دور مهم في معرفة الشعر وتذوقه ومعرفة الكثير من عادات واحوال قبائل العرب وظروف معيشتهم، حتى أنه لكثر حبه وتعلقه بـ(عنترة بن شداد) وهو صغير ومحبة تقليده والاقتداء بسيرته، اشترى حماراً له في تلك الفترة وسيفاً، بل أن هذه السيرة كانت المفتاح الذي ولج منه لقراءة باقي السير الشعبية الأخرى مثل: سيرة بيرس والسيرة الهلالية وسيرة حمزة البهلوان، إضافة إلى قصص ألف ليلة وليلة. والعجيب أن الشيخ الحنفي لم يعجب بالسيرة الهلالية، وقد سألته مرة عن ذلك، فقال لي هذا شيء وذلك شيء، ولا يصح مقارنة عنترة بأبي زيد فعنترة شاعر فحل وهناك أشياء غيرها لا وقت لذكرها ولا ندري ما السر أو الشيء الذي أدى أن لا يعجب شيخنا الحنفي بالسيرة الهلالية؟
صفاته ( ملاحظات وانطباعات وقراءة سريعة لأبرز المحطات في سيرة الحنفي )
1-سريع الدمعة كثيراً ما كنت أشاهده يبكي في بعض المواقف الحرجة والتي لا يتأثر بها إلا ذو قلب مرهف حساس.
2- يمتلك الكثير من الاسطوانات لأشهر مغني المقام مثل: رشيد القندرجي ومحمد القبانجي ويوسف حوريش ويوسف عمر وغيرهم الكثير، وكذلك عنده بعض الصور مع أشهر عازفي ومطربي المقام العراقي في الثلاثينيات والأربعينيات القرن الماضي.
3- كثير الاختصاصات والمواهب والمؤلفات والبحوث والأعمال.
4- عنيد لا يصبر ولا يستكين ولا يرضى ولا يسكت على أخذ حقه أو أن (يدوس له) على طرف مثل ذلك أنه قابل الملك غازي الذي أنصفه عند فصله من دار العلوم لاتهامه بعمله في السياسة، وقد تم نشر خبر هذه المقابلة في بعض الصحف اليومية في ذلك الزمان (الثلاثينيات).
5- ذكر اكثر من مرة أن أول مرة لف فيها العمامة أو أول من لف له العمامة هو الشيخ الاستاذ كمال الدين الطائي عام 1933، بناء على أمر العلامة الحاج نعمان الأعظمي خطيب بغداد واستاذ جامعة الامام الأعظم في ذلك التاريخ، وقد كانت كبيرة الحجم، وسبب ذلك أن الناس، كما يذكر الشيخ الحنفي، كانوا يعتقدون أنه كلما كبرت العمامة دلت على غزارة العلم والتفقه في الدين، وحين ذهب إلى مصر شاهد عمائم رجال الدين عندهم صغيرة، وقد كان يكرر دائما ويقول لهذا السبب جعلت عمامتي صغيرة، علماً أن الشيخ الحنفي كان يعتبر صاحب أصغر عمامة في بغداد لغاية وفاته.
وللشيخ الحنفي سجل يطلب من كل زائر أن يكتب فيه كلمة نعم كل من كان يزوره في جامع الخلفاء، ويعرف هذا السجل (سجل الزيارات) وله فيه كلمة وما ذكره لنا ولغيرنا مرة ومرات.
وقد ذكر لنا اكثر من مرة أنه بدأ منذ الصغر بتدوين مذكراته في أحد دفاتره المدرسية مدونا فيها ماذا أكل وشرب، وأين ذهب ومن جاءهم من الأهل وماذا ولدت نساء محلتهم، واسماء اصدقائه ومن زارهم منهم وماذا أكل كل واحد وغيرها من الأمور التي تخص الحياة اليومية، حتى أصبح عنده بعد هذه السنين الطوال عشرات الدفاتر المملوءة بالكثير من المعلومات، ومئات الاسماء من العراق والبلدان العربية والإسلامية والمستشرقين والمفكرين ورجال الدين واساتذة الجامعات والوزراء والمسؤولين وغيرهم، وكتابة المذكرات اليومية شيء اساس في حياته اليومية، فقد كنت كثيراً ما اشاهده أو اقرأ له في عموده الأسبوعي الذي كان ينشره كل أسبوع في جريدة القادسية في ثمانينيات القرن الماضي، أو ارافقه أحياناً لمعرفة بعض الأمور التي تبدو للبعض أشياء غير مهمة مثل: معرفة أسعار الحبوب والسكر والخضروات وبعض الحاجات الاساسية الأخرى المتعلقة بحياة الفرد اليومية، وتدوين مقدار الرواتب والأجور لكل مهنة وصنعة، أو الحديث عن أمور أخرى تتعلق ببعض المهن من قبل ذكر بعض المشاكل التي تؤدي أو سوف تؤدي إلى القضايا، أو تبديل أو تقليص هذه المهنة أو تلك اضافة إلى تدوينه لأمور أخرى بل أنه لم يكن يكتف بذلك فقط، فهو كثيراً ما كان يحثني لتدوين ويقول إن ما اكتب سوف يصبح ثروة مهمة من معلومات استفاد منها في المستقبل، وخاصة ما يتعلق بالأمور البغدادية من عادات وتقاليد وتغير اسماء ومسميات أو تأسيس أو زوال مبنى تراثي أو عمراني، أو افتتاح مشروع من المشاريع وغيرها من الأمور. وقد كان يمتلك قابلية عجيبة في قول النكتة وسرد الحكاية وحديثه لا يمل منه، وله قابلية أو (كارزمة) عجيبة في ذكر الحكايات والأحاديث.
بعض ذكرياتي مع الشيخ جلال الحنفي
كان الشيخ الحنفي في سنواته الأخيرة قبل وفاته يشعر بغربة في مدينته بغداد التي أحبها وعشقها والتي سخر لها حياته، بسبب ما فعل الحصار الظالم بها في تسعينيات القرن الماضي من تأثيرات، ولعل الشيخ الحنفي الوحيد بحسب علمي الذي قام بتوثيق هذه الفترة القاسية التي عانى منها الشعب العراقي ما عانى وخاصة أهل مدينة
بغداد، فيما كان يكتب وينشر في عموده الأسبوعي في جريدة القادسية ((رؤوس أقلام أسبوعية)) وفي جريدة العراق ومن بعدها جريدة الزوراء، وكان من أحب الاشياء إليه لقاءه بأهل بغداد المعمرين والتراثيين والمهتمين والباحثين التراثيين المهتمين بتراثها وتاريخها، وكان يحلو له التجول بأزقة ومحلات بغداد القديمة مستذكرا أهل هذه المحلات، وذكرياته معهم واعمالهم وحكاياتهم، وكثيرا ما كان يطلب مني مرافقته في بعض هذه الجولات التي كان يوثقها، فيما كان يكتب في حقل رؤوس أقلام الاسبوعية، وكنت أسمعه يشيد ببعض الشخصيات البغدادية ويثني عليهم وعلى جهودهم، وما قاموا ويقومون به من أعمال من أجل الحفاظ على تراث بغداد منهم الحاج محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر الذي أو صاني بدوام الاتصال والاستعانة به والاستفادة من معلوماته ومن ذكرياته، لأنه بغدادي أصيل يعض بالنواجذ على صحبته، كما كان يردد عند ذكر اسمه دائما، حتى أنه كتب قصيدة في مدحه عنوانها الحاج محمد الخشالي ومقهاه في شارع المتنبي بتاريخ 25 / 2 / 2005 م يقول فيها:
رجل ان رأيته قلت ما زال ببغداد بيتها معمورا
الخشالي فلتة لا تـراه النـاس أما رأته إلا كبيرا
وبعد الاحتلال الاميركي للعراق أعاد إصدار جريدته الفتح التي كان قد أصدرها في أربعينيات القرن الماضي ورأس تحريرها، ولكن الضائقة المالية كانت وراء عدم اصدارها بشكل يومي منتظم، والتي أدت في النهاية إلى أن يصدر عدد قليل من اعدادها ربما لم يتجاوز (25 - 30 ) عدداً، وقد راعه ما شاهده من أشياء وما قام به وأفرزه الاحتلال الامريكي من حرق ونهب وتدمير للمنشآت والمؤسسات والمستشفيات والوزارات والدوائر العراقية والبغدادية خاصة، وكان يضرب الراح بالراح، أين ذهب كل هذا الوعظ أين الدين والتربية ؟ والاخلاق والقيم ؟ ويكرر أن حدثا كهذا يستحق الدراسة والتأمل لأنه شيء كبير وخطير وعلى المتخصصين الاهتمام به وتحليله ودراسته، لأنه خطر ووحش فتاك يهدد التطور المجتمعي والتربية والاخلاق، وعندما كنت التقيه بعد الاحتلال، كما أذكر كان يذكرني دائما بأهمية كتابتي ليومياتي بعد ما كان يسألني عن مشاهداتي في تلك الأيام، قائلا لي أن توثيق قيام الاحتلال أو الكتابة عن مشاهداتي في بغداد سيكون لها أهمية كبيرة جدا في المستقبل، لأن كاتبها شاهد عيان وكتابة هذه الاشياء لها ما لها من أهمية ومصداقية في أرشفة الاحداث التي تحدث والوقائع اليومية التي تحدث، وهذا الضرب من التوثيق التاريخي التفصيلي لمجمل الاحداث والوقائع اليومية من الاشياء التي لم يتصد لها إلا القليل من المؤرخين العرب، كذلك كان يحثني على التوثيق الصوري للأحداث، وحفظ كل الوثائق والصحف والمنشورات والكتب التي كانت تصدر وتوزع في حينه للاستفادة منها مستقبلا، ولتكون مادة دسمة تعزز ما تم ارشفته وتوثيقه من مادة تاريخية للأحداث والوقائع .
ومن الاشياء التي أرى من المهم الاشارة إليها في هذه الفذلكة التي نكتبها عن الشيخ، هي قضية والده الذي هاجر وعاش وتزوج في مصر في عشرينيات القرن الماضي من سيدة مصرية انجبت له عدد من الأولاد، وسبب ذلك كما كتب الشيخ جلال، وذكر لنا ولغيرنا اكثر من مرة، الموقف الذي وقفه والده مع الزعيم البصري طالب النقيب ضد تتويج الملك فيصل الاول ملكا على العراق، وقيامه بإطلاق عيارات نارية على مقر الحكومة، كان من نتائجها اصدار أمر القاء القبض عليه، وهذه الحادثة كانت وراء هروبه وهجرته خارج العراق واستقراره في مصر.
ففي أحد ايام شهر تموز من عام 1995م ذهبت عصرا إلى مجلس الشيخ جلال في جامع الخلفاء كالعادة، وفي الطريق عند ساحة الوثبة تفاجأت بالشيخ جلال أمامي متجها إلى ساحة الخلاني فسألته مستفسرا: خير شيخي شنو اليوم ماكو مجلس؟ فقال لي: تعال معي أمشي عندنا مهمة نروح ونرجع عود. وعندما وصلنا إلى ساحة الخلاني قال لي: شوف نقشبندي هسه راح تجي معي إلى مكان وتشوف أخي وزوجته، ولازم تواعدني ما تتكلم لأي شخص عن هذه الزيارة وهذا اللقاء، وقلت له: زين شيخي حتى في المستقبل بعد سنوات تريدني ما اكتب ولا اتكلم عن هذا الموضوع. فقال لي: عود الله كريم بقت المسألة يمك عود؟ فذهبنا إلى أحد فروع السنك وطرقنا أحد الأبواب لإحدى الدور التراثية القديمة، وخرج علينا شخص مصري ورحب بنا، وقال للشيخ الحنفي: تفضل يا خويه، بعد أن قبله ورحب بي، بعد أن قال له الشيخ الحنفي: هذا النقشبندي الملهم بحب بغداد جبته معي للبركة، وسأل عن الوضع فرد أخيه قائلا: تفضل يا خويه الحمد لله جاني ولد وانتظرك علشان نسميه سوية، ثم دلفنا إلى داخل البيت وشاهدنا زوجة أخيه وامرأة أخرى مصرية ورحبوا بنا وجابوا الطفل الوليد ووضعوه بحضن الشيخ الحنفي، وقالت المرأة الأخرى: عايزين نسميه محي الدين على اسم جده. فإذا بالشيخ جلال الحنفي يجهش بالبكاء الشديد، وأنا لم يسبق لي أن شاهدته يبكي على الرغم من علمي أنه رقيق القلب سريع الدمعة مرهف الاحساس، وقال لي: أحيا اسم ابويه الله يرحمه. فقلت له: شيخ ليش أنت ما كنت تكدر تسمي واحد من ولدك باسم أبيك وتحييه؟ فقال لي: اسكت نقشبندي أنت شمعرفك. وعلى كل حال انتهت الزيارة بعد أن هنأ الشيخ أخيه وزوجته بالمولود، وقدم لهم مبلغاً من المال هدية وضعها في قماط الطفل الرضيع، ثم سلمنا على أهل الدار وخرجنا وعدنا إلى الجامع، وفي الطريق كرر الشيخ الحنفي واكد على عدم ذكر ما شاهدت لأي شخص لا قريب ولا بعيد، ولا أدري هل زوجته الشيخة أم لبيد كانت تعلم ام لا. ومن الاشياء التي ذكرها لي في طريق العودة عن أخوته في مصر غير هذا الذي شاهدته في بغداد، ولا اعرف ماذا يعمل من مهنة، ولكن بقية اخوته في مصر احدهما مهندس والثاني موظف كبير، ويظهر لي أن الشخص الذي قابلناه كان يعمل بالأعمال الحرة، ولا اعلم مصير هذا الشخص ولم اعرف أي شيء عنه، بعدما رأيت تأكد لي أن ما ذكره الشيخ الحنفي عن أبيه واخوته من معلومات كلها صادقة وحقيقية كما ذكر في كتابه (بقايا ديوان) ولا صحة لأي قول خلاف ذلك.
كذلك تأكد لي أن الشيخ الحنفي وتعدد مواهبه كان محل حسد وتسقيط من الذين بزهم نشاطه ومؤلفاته وتعدد مواهبه، والموضوع الثاني الذي اذكره أيضا عن الشيخ الحنفي أنه كما رأيت يشجع كل الذين يكتبون عن تاريخ مدينة بغداد، وتراثها ويقدم لهم المساعدة والعون والمعلومات في سبيل انجاز مؤلفاتهم وأطاريحهم وبحوثهم، ومنهم أنني عندما اصدرت كتاب تاريخ مقاهي بغداد القديمة كتب في جريدة العراق بتاريخ 3 تموز 2002 رأس قلم عن هذا الكتاب وأشاد بنا وبالكتاب، بعد أن عرّف به.
وفاته:
توفي في بغداد يوم الأحد 5 آذار 2006 م المصادف 4صفر 1427 هـ
نظم فؤاد طه محمد الهاشمي البغدادي في رثاء العلامة الشيخ جلال الدين محي الدين عبد الفتاح الحنفي البغدادي (وداعاً شيخ بغداد) ومطلعها:
الركبُ آذن بالرحيل ومالا نحو الغروبِ وقد فقدت (جلالا)
ومن الذكريات في تسعينات القرن الماضي عن الفنان الموسيقي التراثي الدكتور طارق حسون فريد كان من رواد مجلس علامة بغداد التراثي المتعدد المواهب الشيخ جلال الحنفي البغدادي، الذي كان يقام في جامع سوق الغزل (الخلفاء) والذي كان يعقد مساء كل أحد أو اثنين من كل أسبوع حيث كان الدكتور طارق تقريبا يحضره كل أسبوع، ومما اذكره عن زيارات الدكتور طارق لمجلس الشيخ الحنفي أنه كان أحيانا يصطحب معه زوجته الطبيبة الاجنبية التي كانت تعمل في مستشفى مدينة الطب ببغداد، وكان شيخنا الحنفي كما هو معروف عنه لا يقدم وجبة عشاء لجلاسه ولا أي نوع من الحلويات أو المرطبات مثلما كانت تفعل بعض المجالس البغدادية في تلك الفترة، وإنما كان يكتفي فقط بتقديم الشاي ولا شيء سواه، والشيخ الحنفي كما معروف عنه أنه كان يتناول فقط وجبتين كل يوم هي وجبة الصبح والظهر فقط، ومن بعد العصر وإلى المساء وحتى صباح اليوم التالي كان لا يتناول اي شيء، وعندما كان يسأل عن أي شيء يتعلق بالريجيم وطول العمر، كان ينصح بعدم تناول العشاء والاكتفاء فقط بشرب الشاي والماء ولا شيء غيرها، ويذكر أيضا أنه كان منذ خمسين عام أو أكثر(هذا الكلام يعود إلى تسعينات القرن الماضي) وهو يسير على هذا المنوال بعدم تناول وجبة العشاء ويستشهد بحديث للرسول(صلى الله عليه وسلم) المعدة بيت الداء ويجب الاعتدال بتناول الطعام والشراب.
ومما اذكره أيضا أن شيخنا الحنفي وثق أكثر من مرة بعض زيارات الدكتور طارق حسون، فقد كتب أكثر من مرة عمودا مستقلا عندما كان ينشر في جريدة القادسية تحت عنوان (رؤوس أقلام أسبوعية) عن بعض زيارات الدكتور طارق حسون له في مجلسه ولقائه بجلاس المجلس والاستفادة من بعض معلوماتها منها ما نشر بتاريخ 8 آذار 1992 بالعدد (3856) من جريدة القادسية عن طالبة الدكتوراه ندى إحدى طالبات الدكتور طارق.
ومما اذكره كذلك أنني صاحبت اكثر من مرة الشيخ الحنفي عندما يزور الدكتور طارق في تسعينات القرن الماضي في قسم الموسيقى باكاديمية الفنون الجميلة في منطقة الوزيرية، وكانت امنية الدكتور طارق أن يوثق المقام العراقي والبستات البغدادية والمربعات البغدادية صوت وصورة، وقد عرض هذا الموضوع على الشيخ الحنفي كونه أولا خبير وباحث تراثي وموسيقي وشاعر وله إلمام كبير بهذا الموضوع، لغرض أرشفتها، ومن ثم اعداد مناهج دراسية تطبيقية لطلبة قسم الموسيقى، وطلب مني أن اقنع الشيخ بذلك بعد أن لمس عدم اهتمامه بهذا الموضوع وأن اخبره أنه مستعد وموافق على أي مبلغ يطلبه مقابل ذلك، وعندما ذكرت هذا للشيخ الحنفي كان يرفض بإصرار ولا أعرف السبب؟
وكان الشيخ الحنفي يقدر زوجة الدكتور طارق الطبيبة السلوفاكية، ويكبر فيها مرافقتها لزوجها وتركها أهلها ووطنها، ويقدم لها نستلة من النوع الفاخر يخرجها من جيبه، ولا ادري ربما كان يشتريها لها خصيصا عندما كانت تزوره في المجلس، ويقول لها: انه يعلم أنها لا ترغب بالطعام العراقي.
كذلك اذكر عنه أنه كان كثير المشي ولا يحب ركوب السيارات، وقد رافقته اكثر من مرة، منها ذهبنا فيها إلى جامعة آل البيت في الاعظمية على الأقدام وعدنا بنفس الطريقة أيضا، وفي أحد الأيام قال لي: نقشبندي اليوم عندنا مشوار صغير، ولم يذكر إلى أين المسير خرجنا من جامع الخلفاء نمشي باتجاه الباب الشرقي حتى وصلنا ساحة الاندلس. فقلت له: شيخ ليوين احنا رايحين. فقال: وصلنا بعد اشو يا معود نقشبندي بعدك شباب لعد آني اشاكول حتى وصلنا معسكر الرشيد. ومن بعده إلى منطقة الزعفرانية، وهنا فعلا لم استطع بعدها الحركة من شدة التعب والارهاق والحرارة العالية لأننا كنا في شهر تموز. فقلت له: شيخ اشلح انسوي ونحن في هذه الهيمة حتى سيارة ماكو حتى ترجعنا. فقال لي: اصبر ليش انت ما تدري احنا بكل خرابة عدنا كرابة. وفعلا بعد وقت قصير وقفت أمامنا سيارة ففيها تبريد وسائقها يعرف الشيخ جلال ونقلنا معه واخذنا إلى بيته وسقانا الماء البارد، فقال لي الشيخ الحنفي: ها نقشبندي اشكتلك مو بكل خرابة عدنا كرابة وضحك؟ هذا موقف من عشرات المواقف التي اتذكر بعضها الآن مع المرحوم العلامة البغدادي الشيخ الحنفي.
ومن ذكرياته التي جمعها في محاضرة شيقة ألقاها في منتدى بغداد في منتصف تسعينيات القرن الماضي عن مدينة بغداد في مطلع القرن الماضي ذكر:-
-ادركت من هذا القرن ما يزيد على ثمانية عقود، فأنا الآن متذكر من هذه العقود أوائل أيامها وسوابق أحداثها وملامح التطور فيها، وأنا متذكر كذلك ما تلا ذلك، ولبثت أتابع حياة البغداديين متابعة دقيقة حتى تفقهت فقه أدبهم ومن ذلك أمثالهم ونكاتهم وأغانيهم مما يدخل في إطار لغتهم ومصطلحاتهم، وتابعت ما استطعت صناعاتهم وحرفهم وسننهم الاجتماعية وأعرافهم البيئية. وقد كان مما دفعني إلى ذلك أن العهد الذي نشأت فيه كان من خصائصه نشاط مثل هذه الدراسات، إذ كان في مقدمة من ظهر في الساحة يومذاك، العلامة الأب انستاس ماري الكرملي، وكنت قد اتصلت به وأنا ما أزال طالباً في الصف الخامس الابتدائي، وواصلت التردد عليه في دير اللاتين ببغداد وآخرون أمثال: عباس العزاوي، ومصطفى الخليل، وعبداللطيف ثنيان، وحلمي العمر، وغيرهم من رجال الصحافة الذين وجدناهم على جانب كبير من الحرص على هذا النمط من التدوين الشعبي الشامل.. ولقد كنت كثير التجوال في أحياء بغداد والتوقف عند كل (لمة) تؤدي عملها اليومي، ومن ذلك مثلا جماعة (الكندكارية) الذين لم يعد لهم وجود في الطرف الأخير من القرن، وكنت انظر بطول تأمل في أناس يحفرون بالوعة في الطريق أو يبنون جداراً أو يحمسون الحميس أو يطفئون حريقا أو ينسجون حصيرا أو يحركون قماشا أو يروفون ثوبا. وألاحق بنظراتي وأنا يومذاك - صبي - الحلاق والنجار والحداد وبائع الكباب والطرشجي وبائع البالوتة وألعاب الصبيان والشباب والبنائين (اللمبة جية) الذين يضيئون الفوانيس في الأزقة، وكان مشهدهم مشهدا يدل على مهارة وجدية واستباق مع الزمن حتى بت اعرف الكثير من أحوال الناس في أيام أفراحهم وأيام أحزانهم، وترددت على المحاكم فكنت أشبه ببعض المحاكمات، وشاهدت (القصة خون) الذي يسرد سيرة عنتر بن شداد العبسي في بعض المقاهي في محلة الفضل، ورأيت صراع الديكة، وشاهدت الدلالين يعلنون بيع البيوت وإيجاراتها في المقاهي.. ولاحظت وسائط النقل البرية والنهرية حتى أني ركبت في أحد الأيام (الكاري) الذي كان واسطة نقل مألوفة بين الكاظمية وبغداد في جهة الكرخ ولم اكن اريد بذلك الوصول إلى مكان ما، ولكن لمجرد أن أرى مذاق مثل هذه الوسائط وما تحدثه في النفوس من نشوة، وشاهدت (الزور خانات) ومصارعة البهلوانية بل أني اشتركت في زور خانة (مهدي زنو) رحمه الله في الدهانة، وصليت في معظم مساجد بغداد وتمشيت في كل الأسواق ومنها سوق (القاطر خنة) وسوق الغزل وسوق الهرج وسوق الصفافير وسوق حنون، وكنت أدرك بعض حالات السفور في أو ل بروزه في البلد. وأنا لم أجاوز الخامسة عشرة من سني حياتي التحقت بمجلة (الهداية الاسلامية) ومن بعض أعمالي فيها كان قيامي بجباية (الاشتراكات) في أماكن متقاربة ومتباعدة، وعرفت الكثير من أمر الناس وطبائع السكان، وتعرفت منذ الصغر على أكبر مجموعة من علماء الدين وأئمة المساجد، كل ذلك جعل ذاكرتي تزدحم بالمعلومات البغدادية الجمة الكثيرة، وإذا كان التطور الذي حصل في بغداد سريعا غير بطيء فقد اختزن كثير من ذلك في ذاكرتي، وبت استطيع الآن الرجوع إلى ما قبل ثمانين سنة لأرى كيف كانت الأشياء والأوضاع والتقاليد والمشاهد، بعد هذه المقدمة الموجزة اذكر أن أو ل اختراع لفت أنظار الناس في بغداد في العشرينيات هو (الفونوغراف) الذي عربه اللغويون إلى (الحاكي) وكانت الناس تستمع إليه في المقاهي وفيهم من امتلك مثل هذه الاجهزة في بيوتهم، إذ كانت توضع الاسطوانة على مكان مخصص لها في هذا الجهاز وتوضع عليه الأبرة التي يسمونها (الالكنة) وهناك بوق ينبعث منه الصوت، وقد ساعد الحاكي هذا على نشر المقامات العراقية في مختلف الاوساط ، ولم يكن إلا قرصا مستديراً بحجم الرغيف الصغير وجرت تسميته بالاسطوانة، لأنه كان عند أو ل اختراعه اسطواني الشكل وما زال لدي هذا الجهاز القديم ومعه عدة اسطوانات منها، والتي كانت تصنع من الشمع وتسجل عليها الأغاني وغيرها محليا، فلما تطور هذا الجهاز صارت الاسطوانة قرصا يصنع من مادة خاصة، وانتقل اسم الاسطوانة إلى القرص ومضى الأمر على ذلك، لقد كان أهل بغداد يجتمعون حول (الحاكي) وهم يتعجبون كيف يخرج هذا الصندوق الصغير أصواتا لأناس كثيرين، وكان بعضهم يدور حول الصندوق ليرى ماذا بداخله، وفي تلك الأيام نظم بعض الشعراء قصائد في وصف هذه الأعجوبة النادرة ثم مضت الأيام فإذا بالراديو يظهر في بعض البيوت، فتستمع الناس إلى أصوات ينطق بها الناطق في مصر ويسمعها السامع في بغداد، وكنت في أواخر العشرينيات امشي مع صديق فمررنا ونحن في محلة (دكان شناوة) ببيت فقال لي انظر إلى هذا الشباك فإن فيه سلكا ظاهرا على الطريق يجلب الاخبار من مصر، فكذبته وأسكته إذ كان ما قاله مما لا تصدقه العقول يومذاك، وكان عبد العزيز البغدادي وهو صاحب محل للسجائر يمنح جوائز لمن ينجح في سباقات كان ينظمها، فكان يقدم له هدية واحدا من هذه الراديوات وذاك قبل انتشارها في الأسواق، ثم ظهر الراديو في بعض المقاهي، وقالت العامة في بغداد أن هذا من عمل الشيطان فلما سمعنا القرآن الكريم يتلى من اذاعة مصر عدلت الناس عن نسبة الأمر إلى الشيطان، وبعد أن انتشرت الراديوات في البلد قل انصراف الناس إلى (الفونوغراف) وبعد مرور عدة عقود من الزمن ظهر التلفزيون الذي كان يعمل على شاشة غير ملونة، وإنما كانت المشاهد فيها تبرز بيضاء وسوداء ثم تطور الأمر وظهرت التلفزيونات الملونة على نحو ما يسعنا نراه ونشاهده في آخر العشرينيات.
وشاهدت انواع الطاوات التي تستعمل لقلي اللحم والعروك وكانت عندهم لطبخ الرز طريقة تركت في أيامنا، إذ كانوا «يفركعون الدهن بالطاوة ويسكبونه على قدر التمن» وهذا مما تناساه الناس اليوم.
وأدركت بغداد واستوعبت طراز الحياة أن عشرات الألفاظ التي كانت تستعمل في هذه الصناعة لم تعد من ألفاظ التداول اليومي في ايامنا، منها كلمة (اصبع وبقجة وخردة وملاين) وغيرها.. ومازلنا نحوم في حومة التدخين والتتن فإن المناسبة تدعونا إلى أن نذكر (الأراكيل) وكانت منتشرة في المقاهي ولكل أركيلة توابعها ومفرداتها، ومنها (المربيج) وهو انبوب لطيف الصنع يضعه المدخن في فمه يستخرج الدخان من الماء الذي في قعر الشيشة، والمجال الذي يكون الامتصاص منه يسمى (تخم) أو (امزك). وكان أصل الأركيلة وسبب تسميتها بذلك أنهم كانوا يصنعون من جوز الهند وعاء لها وقد شاهدته في الصغر، ومما كان يشيع بين الناس في أوائل هذا القرن من هذه المكيفات (البرنوطي) وهو مسحوق التتن يعطرونه بالعطور ويجعلونه في علب صغيرة لطيفة مفضضة يخرج منها الرجل شيئا بين اصابع يده (السبابة والابهام) يدسه في انفه فيستنشقه ويقدمه للضيوف، وكانوا يقولون إن البرنوطي يفتح آفاق المخ لأنه يجر إلى العطاس في غالب الأحيان وكلمة البرنوطي أصلها (برنأوت) أي حشيشة الأنف، وقد اثبت على وصف صنع البرنوطي في كتاب( الصناعات والحرف البغدادية) ومن المكيفات التي تستخرج من التتن ما يسمى (السويكة) وما يسمى كذلك (تتن سنون) وهو شيء واثق المنظر يدسون منه شيئا قليلا في بطن الشفة، وهذه المكيفات في آخر القرن الذي نحن فيه لم يعد لها وجود ظاهر.. إن تطور صناعة السجائر أدى إلى التقليل من حدوث الحرائق إذ كان شيء من النار يقع من السجارة القديمة على غفلة فيحترق ما تقع عليه، فلما صارت السجائر تصنع بالمعامل الحديثة لم يقع منها شيء يحرق الثياب وغيرها. وبعض المدخنين في تلك الايام كانوا يشترون دفترا يسمونه (بافرة) يقطعون منه الورقة ويضعون فيها التتن ويلفونها ويدخنونها، وكانوا يستعملون الوسائل في اشعال النار كأنها الأصل الذي اخذت منه (القداحة) وهذه الطريقة قد تكون لا تزال موجودة في البوادي والأرياف. ان ما ذكرته من أمر التدخين وشؤونه على الوضع الذي سردته فيه كان متفشيا في سائر أنحاء بغداد وليس من الأمور الخاصة ببعض الناس، غير أن الأركيلة لا تزال موجودة في بعض المقاهي البغدادية، وكذلك يرى بعض ذوي المكانة أن شخصيات البلد يستعملونها حتى اليوم.
كذلك ادركنا بغداد وهي تتحرك نحو التغيير في أزقتها وأحيائها، إذ كانت لهذه الأزقة والأحياء أبواب تغلق بعد صلاة العشاء فلا يدخلها داخل ولا يخرج منها خارج إلا في ليالي رمضان فأنها تبقى مفتوحة حتى الفجر، وقد شهدت هذه الأبواب في بعض مواقعها أن بغداد كانت مدينة مسورة ذات أبواب فخمة منها الباب الذي يقع في منطقة باب المعظم، كما شهدت الباب الذي يقع في جهة الباب الشرقي ومكانها اليوم ساحة التحرير، ولا تزال هناك باب في جهة الشيخ عمر، اما الباب الرابعة وهي باب الطلسم وقد أزيلت أواخر العهد العثماني، إذ كانت مستودعا للبارود وقد نسفت بالبارود خشية ان يستولي عليه المحتلون الانكليز، وكانت هناك باب خامسة تقع على النهر في جهة الجسر العتيق تسمى باب الأغا وقد ازيلت من زمن بعيد، وكان لبغداد سور يحيط بها من جهاتها الأربع ومن ذلك جهة النهر، جاء على ذكر ذلك بعض السياح الأجانب، والآن منهم من حدد طوله بالمشي حوله ساعتين ومنهم من استعمل في قياس طوله بالياردات ومنهم من استعمل الخطوات، وكانت بغداد محاطة بخندق ضيق وذي عرض ظاهر شاهدت منه ما كان بين المعدان والسور والمستشفى المجيدية الذي هو في كلية الطب اليوم. كانت بغداد بدءاً من مدخلها في باب المعظم كثيرة المقاهي ووجدنا منها مقهى البلدية، ومقهى ابن كلك، ومقهى لطيف، ومقهى الوقف التي كانت عند جامع الميدان (جامع الاحمدية) ويتجمع الناس في المقاهي ليلا ونهارا وتدار عليهم أشربة متنوعة من ضمنها القهوة العربية، والمقاهي التي نراها هنا لا وجود لها اليوم.. ولم يكن لوزارة الدفاع باب على الشارع.
ومن مواقع الترفيه في بغداد دور السينما التي انشئت أوائل القرن الماضي وكان ما يسمى بالقرقوز الذي يقال له بالفصحى (خيال الظل) ولم أدركه، ومن أسباب الترفيه التي كانت شائعة لدى الناس ترقيص الشواذي (القردة) أو يحاكيها من يقوم بهذه المهمة، فيسألها كيف تنام العجوز وكيف يمشي الراعي خلف شياهه، ويقول للشاذي إذا اعطاك المتفرج بعض النقود فماذا تصنع نجده يمد يده على رأسه تحية وتسليما على الرجل، وسأله فإن لم يعطك شيئا فماذا تصنع فانه يضع يده على عجيزته، ولا وجود لهؤلاء اليوم، وكانت الألعاب السحرية ذات وجود مشهود، وللمطيرجية في بغداد أجواق من الطيور تطير هنا وهناك ولأصحابها أبراج يقيمونها على سطوح البيوت والمنازل.
ووجود المقاهي في بغداد يرجع إلى ما قبل مئة عام إذ كانت القهوة قد عرفت في تلك الفترة، وللمقاهي تخوت عالية ذات طراز خاص ويفرش عليها حصران من الخيزران تنسج محليا بالحجم المطلوب، ويشرب جلاس المقاهي القهوة المرّة وأشربة أخرى من مثل شراب الورد، والدارسين، وقد بدء استعمال الشاي في المقاهي منذ نهاية القرن الماضي إذ كان الشاي قد ظهر في وقت غير بعيد منذ أواخر القرن التاسع عشر برغم أنه كان يستورده التجار محلى بالسكر على عادة أهل الصين التي ما زالوا عليها، وكان سعره غاليا جدا إذ كان أهل بغداد لا يعرفون استعمال الشاي في الصباح، إنما كانوا يستعملون أنواعا من الشوربة كالهرطمان والعدس.
وكان قصابو بغداد يرمون العظام للكلاب، ولم يكونوا يبيعونها ولا كان أحد يشتريها وأول ما رأيت ذلك في القاهرة سنة 1929 إذ كان الجزار المصري يفرض عليك قطعة من العظم يضعها في الميزان حين يبيعك اللحم الذي نشتريه منه، وكان بقالو بغداد يبيعون كل شيء بالعدد إلا النومي حلو فأنهم كانوا يبيعونه بالميزان !! وكان الطبخ في بغداد على المواقد يستعمل فيه حطب الطرفة والعاكول والتوك والسعف، لم تعرف بغداد أول هذا القرن انتشار المطاعم والتي تبيع التمن والمرق وما إلى ذلك، إنما كان الموجود في بغداد من المطاعم كان الكبابجي والباجة جي، كما أن هناك من باعة الهريسة يصنعونها في الصباح ،وعرفت بغداد باعة الحميس يجلسون على الأرض وبين أيديهم طاوة كبيرة واسعة يقلون فيها الجلافيط والمصارين ورديء اللحوم وكان الحميس له كثير من الاشخاص ممن يرغبون في أكله لطيب رائحته عند قليه، فإذا مر عليه الوقت الطويل صار أشبه بالجلود، ولم يكن الناس في بغداد ولا ذوو البيوت يأكلون المعلاك (الكبد والقلب والرئتين) إذ كان مما يستوجب السخرية أن يأتي الرجل أهله بمعلاك يحمله معه، كما ان المعلاك لم يكن مما يبيعه القصابون، إنما كانوا يتركونه للزنابير والقطط ... والمعلاك اليوم من المآكل الغالية المرغوب فيها، وكذلك القول في الفشافيش فأنها لم تكن تعرف في بغداد أول القرن. وظهرت في بغداد أوائل أيام القرن أكلة تعرف بالأبيض وبيض، وهو أن يجلس في السوق رجل أمامه منضدة صغيرة واطئة عليها كؤوس الطرشي وأوعية البيض المسلوق الذي يقطعه ويقدمه مع الخبز لآكليه الجالسين على كراسي صغيرة تكاد تكون لصق الارض.
ولم تكن في بغداد أول القرن دكاكين لبيع البقلاة والزلابية انما كانت البقلاوة وأخواتها تظهر إلى الساحة في رمضان فقط إذ تباع على رؤوس الأزقة فإذا انتهى رمضان لم تعد الناس تشاهد هذا النمط من الحلويات، والزلابية الموجودة الآن ليست بغدادية وانما هي تركية، اما الزلابية البغدادية فقد انقرضت من وقت بعيد وكنا ادركناها يبيعها باعة من اليهود.
ومن مآكل الناس اليومية في بغداد الباكلة التي ينقعون فيها أرغفة الخبز لقاء قليل من النقود، وكان باعة الباكلة هم النساء يجلسن عند رؤوس الأزقة، ومما اشتهرت بذلك امرأة في الأعظمية اسمها (سعدة) وقد سمي الزقاق باسمها، وصارت الباقلاء هذه اليوم تباع في مطاعم معروفة في بعض الأسواق. وكذلك كان هناك من يقلي الكبة في الطاوات الواسعة، وكذلك من يقلي السمك في الأسواق لتأكل منه الأكلة، أما الدجاج فلم تعرفه بغداد معروضا في مطاعم خاصة هنا وهناك، وتطورت أكلة الأبيض بيض اليوم إلى ما يسمى بالفات والسندويش والفلافل، وفي الصباح كان باعة الشرابت من مثل شربت الزبيب والتمرهند يبيعونها لمن يفطر عليها في الصباح، وكان باعة الكبة يبيعونها في سلال خاصة ويتخذون لهم مواقف في السوق قبيل الغروب، كما كان باعة الباجة الباردة يتخذون لهم مقاعد في السوق بين الغروب ليقبل عليهم من يتعشى بذلك، ومطابخ البيوت كانت تتألف من ثلاثة أحجار يركب عليها قدر الطعام ،ومن هنا جاءت تسميتهم للطابخة عندما تسأل بالتركيب فتقول (اشركبت اليوم) فيرد عليك من يقول لك انهم «ركبوا البيتنجان والبامية» وغير ذلك، ثم دخلت إلى المطابخ أدوات تعمل بالنفط والفتائل ثم ظهرت البريمزات وهي تعمل بالضغط ثم تطورت وسائل الطبخ فصارت راقية وحسنة المنظر، ثم ظهرت الطباخات التي تعمل بالغاز، كما ظهرت انواع من الطباخات الكهربائية بعد أن شاع أمر استخدام الكهرباء، وكانت غالب القدور من النحاس، وهم بين حين وآخر يذهبون بها إلى من يسمى مبيض الجدور ليبيضهن بالقصدير، ثم شاعت قدور الفافون التي لا تحتاج لتبييض، وكانت القدور النحاسية إذا أهمل تبيضها تسبب التسمم الذي وقع غير مرة، وكان للناس في مطابخهم قدور ذوات أشكال وتسميات منها (الجدر العرابي، والكمحدون، والفوشخانة) فيها على مستوى شعبي، ولم تكن على عهدنا ذاك إلا مدينة صغيرة تبدأ بباب المعظم وتنتهي بالمربعة- طولا - ومن نهر دجلة إلى ما يقرب شيئاً غير كثير من مقابر الشيخ عمر السهروردي- عرضاً - والمراد بهذا التحديد هو صوب الرصافة فقط، ويضيف الشيخ جلال الحنفي:-
ما مررت بمنطقة باب المعظم، إلاّ تذكرت بغداد عبر سنين طويلة، يوم كان الداخل إلى بغداد يمر بجامع الأزبك عن جهة اليمين، الذي كان يقع عند مدخل الشارع. وكانت إلى جوار هذا الجامع تكية للأزبكية القادمين من أوزبكستان، لهم فيها غرف ومأوى دائم، وقد أزالوا هذه التكية بالمرة وشردوا ساكنيها، وكنت إماما وخطيبا في جامع الأزبك لمدة تنوف على العشر سنين، وهذا الجامع العظيم، هدم تعسفا ليبيت جامعا صغيرا ليس فيه من المشتملات ما يجعله يلفت أنظار الداخلين فيه أو المارة من أمامه ولم تنتفع الأوقاف من هدمه.
كما كان هناك باب أثري يرجع إلى أواخر عهد العباسيين، مررت منه يوم كنت صغيرا إذ اخذتنا إدارة مدرستي مع مدارس ابتدائية أخرى، في أوائل العشرينيات متجهين إلى البلاط الملكي ليستقبلنا الملك فيصل الأول، ويستعرضنا إذ لم تكن في بغداد أية مدرسة إلا ما كان في بدء انشائه منها، ولا أتذكر أكنت في الصف الأول أم كنت في الصف الثاني، ولا شيء من الصفوف بعد ذلك غير صفنا الأول والثاني.
وقابلنا الملك وكان واقفا في مدخل البلاط ونحن نمر من أمامه إلى داخله، وعدنا بعد المقابلة من ذات الطريق. إن هذه البوابة الفخمة التي تدل على عظمة بانيها بيعت بمبلغ بسيط تافه يقل عن عشرة دنانير، على ما فهمناه مما أورده الباحث عبدالحميد عبادة في كتاب له.
ولم يكن من الضروري أبدا هدم بوابة بغداد لا مروريا ولا هندسيا، إذ لم يكن القوم يعلمون أن الآثار القديمة هي مورد اقتصادي لأي بلد في هذا العصر.
وكانت في مدخل بغداد حوانيت ودكاكين لعدد من الباعة، وقد كانت على ما شاهدت عدة دكاكين تقع في المنطقة، وقد لبثت أمدا ثم هدمت.. وقد بنيت في باب المعظم مكتبة عالية فخمة جدا، كنا نتردد عليها للمطالعة، ولكنها بعد حين هدمت خطأ وتعسفا بدعوى توسيع الطريق ولم يؤد هدمها إلى توسيع يريدونه..
ولم يكن هناك جسر بل كانت هناك مشرعة، يقال لها شريعة المجيدية، وبناء الجسر هنا مفيد وضروري على أن لبناء هذا الجسر قصة شبه مروعة، هي أنهم عثروا هناك على آثار قديمة جدا إلا أن الدولة يومذاك، طمرت هذه الآثار بلا رحمة استرضاء لرغبة الشركة اليابانية آنذاك.
وكانت القلعة العسكرية تحف بها جدران عالية وأسوار متينة مرتفعة، وقد تم اتلافها خلافا للقانون الذي يحمي الآثار القديمة، ووضعوا مكانها سياجا حديديا واطئا، وراحوا يمنعون السابلة من المرور قربها.
وكانت أمام الرائي عند دخول بغداد، مبان بعضها قديم مثل التكية الطالبانية، التي عاش فيها وكان رئيسها الشيخ عبدالله الطالباني وابناؤه (رحمه الله)، أحد ضباط الجيش العراقي، وحسن الطالباني الذي استوزر في بعض الفترات، وعلى الطالباني الذي تولى بعض المناصب الادارية.
ويرى الداخل إلى بغداد عددا من المقاهي على الجانب الأيمن من الشارع منها لأحمد كلك، واسطة لطيف وآخرين، ثم يرى مدرسة ابتدائية هي المدرسة المأمونية وكنت من طلاب قسمها المسائي، ويرى الرائي في الواجهة جامع الميدان الذي يسمى جامع الأحمدية، وأمامه مقهى البلدية وهو مقهى كبيرة يجتمع وراءه الباعة، وكانت إلى جوار جامع الأحمدية سوق خاصة بالشكرجية، زالت فيما بعد، وكان للقلعة باب تقع في جهة الميدان تقع عندها قهوة السيد بكر، وكنا اعتدنا الجلوس على مقاعدها، هذه المعالم ومعالم اخرى كعدد من المساجد والمطابع والحوانيت لا وجود لها اليوم، وعلى الجانب الأيسر من الشارع المسمى اليوم شارع الرشيد، وكان يسمى عند أول افتتاحه عام 1918 بخليل باشا جاده سي أي شارع خليل باشا القائد العثماني.
وكانت على الجهة اليسرى قهوة الوقف وإلى جانب منها خان عمر، وهو فندق كان الذين يراجعونه ليلا ينامون على الأرض بلا فراش لقاء عشرة فلوس، رأيت خلقا منهم هناك على هذه الحالة، وإلى جوار التكية الطالبانية، وبالتحديد بينها وبين جامع المرادية توجد فنادق أهلية.
ولم تكن في بغداد أول أمرها مطاعم، وكان بعض النساء يجلسن في منتصف السوق، وبين أيديهن قدورهن التي يبعن فيها الرز والمرق، إذ يجلس الآكلة على الأرض ليتناولوا طعامهم. وفي جهة باب المعظم من نهر دجلة حتى باب الميدان امتدادا إلى الشمال، كان هناك خندق بغداد القديم وقد ادركته وهو أخدود عريض وعميق وفيه شيء من الماء مع قاذورات، كانت تلقى فيه، ثم طمروه وبنوا بهو أمانة العاصمة، وكانت تقام فيه حفلات الاستقبال الرسمية، وبنوا إلى جوار جامع الأزبك في باب المعظم قاعة كبيرة واسعة، سموها قاعة الملك فيصل الثاني ثم سميت بقاعة الشعب.
وقد وصل الماء عند فيضان نهر دجلة قبل الثلاثينات، الذي يسمى بالكسرة إلى باب المعظم وشاهدت ذلك بعيني وأنا صغير، وكان يقع في باب المعظم مستشفى المجانين، الذين كانت تسمع أصواتهم عبر أسوار المستشفى، كما كانت تقع هناك مستشفى المجيدية، التي كانت قبل ذلك قصرا اصدر السلطان العثماني محمود خان، أمره لوالي بغداد مدحت باشا ببنائه لسكن الشاه الايراني ناصر الدين شاه، ومن معه عند مروره ببغداد إلى فرنسا للعلاج، ومن يومذاك عرف أهل بغداد شرب الشاي، وقد جاء مع الشاه إلى بغداد ما يقرب من ألف مرافق، وكان القصر المذكور يسعهم بخيولهم، وقد شاهدت القصر وشاهدت بابه قبل هدمه، وكانت هناك حوانيت للعلافين، الذين يبيعون التبن والشعير للناس وللجيش خاصة وكان مكان هذه الحوانيت أمام القلعة.
-أما صوب الكرخ فكان أصغر من ذلك ويربط بين الرصافة والكرخ جسر واحد من خشب يعتمد في ذلك على جساريات أشبه شيء بالقوارب الكبيرة وسيرد الكلام على ذلك غير مرة، وأدركت من أبوابها باب المعظم وقد هدم في العشرينيات والباب الوسطاني - وما زال قائماً - والباب الشرقي وقد هدم بعد ذلك.
وكان في بغداد شارع واحد هو جادة خليل باشا التي لم يكن قد مر على شقها سوى وقت قصير، لذا كانت أرصفتها ظاهرة عليها آثار التهديم ولم يدب دبيب العمران إلا في أنحاء قليلة منها، ثم اطلق على هذه الجادة اسم شارع الرشيد.
واتذكر أني كنت اخرج من هناك أحيانا من أجل الحصول على شيء من التراب الأحمر النقي لاقوم بعجنه وصنع بعض التماثيل منه إذ كان مطلوبا منا ذلك في درس (أعمال اليد) وأنا في الرابع الابتدائي.

زين احمد البرزنجي النقشبندي

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white