ملامح المجتمع البغــدادي من خلال أمثاله الشيخ جلال الحنفي

جلال الحنفي 

ملامح المجتمع البغــدادي من خلال أمثاله
الشيخ جلال الحنفي
شهدت رقعة بغداد في الفترات الاخيرة من تاريخها أقواما كثيرين أقاموا فيها وشهدت كذلك من هلك من قطانها بالجملة بالطواعين والحروب والفيضانات الجائحة..
وقد كان عدد سكان هذه المدينة في بعض أجوائها المريرة ضئيلا بحيث لم يجاوز العشرة آلاف نسمة.. ولم يزد عدد سكانها في تلك الحقب على المئة والخمسين ألفا.
وكثيرا ما كان توزيع السكان فيها على أساس قبيلي وعلى أساس شبه طائفي وذلك ليتهيأ لكل فئة من الناس أن تكون ذات عضـد وعصبية. وكان يتجدد هذا التوزيع كلما هلك من ابنائها خلق وقدم بعدهم من الانحاء المجاورة خلق آخر جديد ينضاف إلى البقية الضئيلة الناجين من المهالك والكوارث.
وكان لرقعة بغداد التي شرفت بهذا الاسم العظيم ولهوائها ومائها طبيعة خاصة أثرت تأثيرا ظاهرا في كل من سكنها من عباد الله بحيث يبيت القاطنون الجدد وقد أخذوا أبدا بهدب متماسك من اخلاق سالفيهم.
وبهذه الطريقة امكن لأهل هذه المدينة الخالدة ومن حل بها في سائر الاجيال التاريخية الاحتفاظ بثروة عظيمة من أدبياتها وتقاليدها وأمثالها وملامحها. ومن أوضح الادلة على ذلك مجموعة من امثال البغداديين في القرن الرابع الهجري التي أوردها الطالقاني القاضي في كتابه سنة ٤٢١ هـ ما تزال معروفة شائعة على ألسنة سكان بغداد اليوم..
ان المغول الذين غزوا هذه الديار ذابوا في بودقتها بعد حين غير بعيد. وقد اعتنق الإسلام من قادتهم غير قليل، ولكنا لا نكاد نرى لهم من ذرية معروفة إلا قليلا أو أقل من القليل. وكذلك يقال في جنود الفرس الذين غزوا بغداد وفتكوا في خلق عظيم من ابنائها فانهم ذابوا في نفس هذه البودقة العجيبة.
غير أن الأمثال البغدادية التي نستدل منها على ملامح المجتمع البغدادي قد عرف قدر منها قليل أو كثير في أمثال مصر والسودان وديار الشام واليمن ونجد والخليج وتونس والمغرب الاقصى مما يستدل منه على أن جماعة من هذه الملامح متشابهة هنا وهناك.
وقد كشف لنا عن هذه الوشائج المتينة الاستاذ البحاثة عبد الرحمن التكريتي في كتابه الفريد( الامثال البغدادية المقارنة).
ومن هذه الناحية ينبغي أن نطيل النظر في المثل لنتبين أهو بغدادي أصيل أم هو منقول ولكن هذا أمر يتطلب جهدا جهيدا ودهرا طويلا ومصادر جمه كثير .. غير أن غاية ما نملك أن نقوله في هذا الوجه هو أن الحضارة العربية كانت تستوعب رقعة شاسعة من الارض تمتد من الري وبلاد العجم حتى أقصى المغرب وكانت الصلات مستمرة بين سكان هذه الديار إذ كانت كلها رقعة واحدة لا تفصل بينها الحواجز والحدود فكانت أمثالها شيئا واحدا فلما انفصل جانب منها عن جانب بفعل عوامل كثيرة شتى وتقوقع كل قبيل في قوقعته بدأت اللهجات المحلية تتصرف بألفاظ المثل وفق بيانها العامي وادائها اللهجوي وبذلك استقرت عليه الامثال العامية في سائر البلاد العربية على نصوصها المسموعة اليوم وستظل مستقرة على ما استقرت عليه بسبب تدوين الامثال وتسجيلها وشرحها وقيام جمهرة من الباحثين بحمل هذا العبء والنهوض بهذه المهمة.
ان الحضارة العربية مصرت أمصارا وأقامت عواصم كانت محاج لطلاب الادب والعلم وأرباب التجارة والسياسة والزيارة والسياحة فالتعاشق الادبي بين هذه الاصقاع العربية من نحو بغداد ودمشـــــــق والقاهرة أمر ظاهر ثابت. ان انبثاق المثل من بيئة أو بلد ثم انتشاره في البيئات والبلدان الأخرى لا يمكن تحديده الا بنسبة ضئيلة جدا.
اننا رغم حبنا لبغداد لا نريد أن نتمحل لها الامجاد من غير حق ولا جدارة فلقد شهد لها بكثير من خصائص الخير وسلامة الذمم وكريم الشمائل ممن زارها وعاش فيها. ولكنا لا حق لنا أن نحبس كل ما عرف فيها ان ملامح طيبة مشرقة على ابنائها وحدهم فان أي قطر من الافطار العربية الاخرى أو أي بلد من بلدان هذه الرقعة لا يعدم من هذه الملامح الطيبة المشرقة قليلا أو كثيرا غير ان بغداد ستظل يميزها من ملامحها الاجتماعية ما يستحق الاعتزاز والتبجح.
ان دلالة الامثال على ملامح المجتمعات أمر لا مرية فيه وان كانت هذه الأمثال تنم عن تناقضات شتى لا حصر لها..
فان البحاثة الاديب الطبيب الدكتور معمر خالد الشابندر( سمعت المرحوم عبد اللطيف ثنيان في مجلس والدي رحمه الله يقول- الامثال مرآة البيئة ومادة الثقافة الشعبية تتجمع فيها خلاصة التجارب الحية والخبرات الاصلية.. والعامية منها مقياس للشعب نفسه دون تزویق بل هي مدرسة جامعة فيها خلاصة الحكمة).
من أبرز الملامح البغدادية في أمثال ابناء بغداد الآنفة من كلمة السوء والاستنكاف من الحاجة إلى اللئام والاشحاء فقد قالوا في أمثالهم (انزع العارية والتف بالبارية) أي لا تلبس ثوبا تستعيره من لئيم أو شحيح فان خيرا من ذلك أن تخرج إلى الناس ملتفا بالحصير.
وقالوا( اذا سبك النذل خلي وارتحل).. وقالوا( أكل مــر واشرب مر ولتعاشر مر)..
ومن ملامح المجتمع البغدادي الاستخفاف بالخطوب واللا مبالات بثقال الحوادث، ومما يشير إلى ذلك من أمثالهم قولهم( الحبس للرجال والبجا للنسوان) وهو مثل اختصوا به، وأورد الاستاذ عبد الرحمن التكريتي في كتابه ان المثل معروف في لبنان، ولم يورد مثله مصنفوا الامثال العامية في البلاد العربية.
ومنها قولهم( اذا كلت لتخاف واذا خفت لتگول) وهو من أمثالهم الخاصة بهم.
ومن ملامح المجتمع البغدادي روح التضامن الاجتماعي وعدم التملص من التبعات المشتركة، فهم يقولون( حط راسك بين الروس وصيح یا قطاع الروس) ويقولون( حشر مع الناس عيد).
ومن ملامح المجتمع البغدادي الكبرياء والعناية بالمظاهر والتطلع الى معالي الأمور وقد قالوا( اذا لبست البس حرير واذا عاشرت عاشر امير) وقالوا( اكنس بيتك متعرف منو يدوسه، واغسل وج ابنك متعرف منو يبوسه) وقالوا( اكل يا بدن).
ومن شمائلهم وجميل ملامحهم أنهم يحثون أبدا على العمل والعيش من الكسب الشريف، ومن امثالهم في هذا المعنى قولهم( أم الدولة خابت وأم الغزل ما خابت) ، والمراد بأم الدولة صاحبة المال الموروث فأنه في نظرهم ينفد، وأما التي في يدها مغزل تحسين الغزل به فأنها لا تعرض لها الخيبة في الحياة لأنها تعيش من كد هذا الغزل. وقالوا( بيت مال يخلص وجد الرجال ما يخلص).
ومنها( اشتغل بیاره وحاسب البطالة) و( اشتري وبيع واسمك ميضيع)، و(كلب الارطال ولتكعد بطال) و( الله يكول كوم يا عبدي واعينك، اكعد يا عبدي واهينك) وقالوا( الله میدندل بالزنبيل)... وقالوا( الصنعة بالايد محبس ذهب ) وقالوا( الصنعة أم حنينة)، وهم يحمدون الاستشارة فلذلك نراهم يكثرون من عرض افكارهم وتخيلاتهم على هذا وذاك عسى أن يجدوا من يزكي تصرفهم ويحبذه أو من صححه لهم ويهديهم الى المحجة المنشودة التي يبتغونها، ومن امثالهم ذلك( ما عندك جبير خلي عمامتك واستشير) وقالوا (شاور الاكبر منك والازغر منك وارجع لرأيك) وقالوا (أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة) ..
وقد طبعوا على الاسراف وعدم تقدير العواقب في أمور المال والنفقة. وفي أمثالهم الدالة على ذلك قولهم( اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب).
ومن ملامح المجتمع البغدادي حب التعقل وابتغاء الحكمة في معالجة الأمور فهاهم أولاء يقولون:( ادفعها بكصبة كبل متدفعها بمردي)، وقالوا( امشي شهر ولتطفر نهر) وقالوا (اطفر امنهر من كريب) ..
ومن ملامح القوم الخاصة بهم أن الرجل لا يهم بالرد على امرأة اذا ضربته، وقالوا في ذلك( حل عالرجال مرة وعالمرة جاهل) أي اذا أردت ایذاء رجل دون أن تمكنه من الدفاع عن نفسه فانفذ اليه امرأة تضربه أو تشتمه واذا أردت ايذاء امرأة فتعييها أن تدفع عن نفسها فأطلق عليها صبيا يضايقها ويزعجها.
ومن ملامحهم أنهم يوصون بالاستيثاق من صداقة الصديق فالصداقة عندهم لها مثل معنى النسب وقد قالوا( عاشر صحيبك سنة عكب السنة جربه واحجي عليه بالردى عكب الردى جربه)..
وهم يحبون معاشرة أهل العلم والعقل والكمال فيقولون في أمثالهم( من عاشر العلم علم ومن عاشر السفلي ندم)، وقالوا: (عاشر الاجاويد تحصل منهم وتستفيد)، وقالوا (الصداقة بالمثقال والبيع والشرا بالقنطار) اي ان الصداقة لعظم مكانها في النفوس يكون الحصول على اليسير منها عين الربح بخلاف أمور البيع والتجارة. وقالوا( صداقة الطمع متستقيم) وقالوا:( الصديق ينفع يوم الضيق).
وهم يرون أن من مبادئ التربية القسوة على الصبيان واستعمال العصا في معاملتهم، ولذلك قالوا( العصا طالعة من الجنة)، وقالوا( التربية أحسن من الولد).
وهم يؤمنون بأن وشائج القربى بين الناس لا تنبت بحال من الأحوال ويقولون (العظم ميتبرا من اللحم) اما علاقات الجوار فلها عندهم قدسية وقيمة وقالوا (الجار ولو جار) وقالوا( جارك بخير انت بخير).
وهم يحبون قدوم الضيوف عليهم ويهللون لذلك كثيرا، ويصفون الضيف بانه (أبو تراجي الذهب) وقالوا ( الضيف يجيب رزقه وياه )..
وهم معروفون بحسن المقابلة والتعجيل في اثابة من أحسن أو أساء على أمثالهم (اللي يشوفني بعين اشوفه بالثنتين) وقالوا( إلي يريدك ريده واللي يبغضك زيده) وهم يستبشعون أن يمن عليهم مان بإحسان أو معونة ويردون عليه احسانه أسوأ رد وفي أمثالهم( اكل من لحم زندك ولتحتاج للكصاب).
والعنف عندهم خصلة غالبة عند اقتضاء الحاجة فقد قالوا (احسن متگلها کش اکسر رجلها) وقالوا (اذا كتلت الحية اسحك راسها)، وقالوا (امام الميشور يسموه ابو الخرك).
ورأيهم في اللسان انه ينبغي عدم تركه حرا يقول كل ما يشتهي قوله، أن ذلك لا يخلو من أن يجر عليهم الجرائر والاذى. وجاء في هذا المعنى قولهم (الحلك زغير لكن يخرب بيوت كبار)... وقالوا (الحيوان يربطوه من رجليه والانسان يربطوه من لسانه)...
وايمان القوم بربهم واتكالهم عليه في الرزق أمر ثابت .. ولهم في ذلك امثال منها (دودة بين صخرتين الله مينساها)..

جلال الحنفي

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white