عالم الذات العالم عدّاء مـــــــــــــاهر
فدوى العبود
هل يمكننا النظر للعالم كلوح سحري يتشكل بحسب التحديق إليه ؟ ، هل نستطيع تخيل شعاع منبثق من الذات نحو العالم يغيره ويبدل طبيعته ؟
تقوم فكرة حجر الفلاسفة على بحث العلاقة بين ماكروكوزوم العالم الواسع (الكون) و(المايكروكوزوم (العالم الصغير، (الذرة) على محاولة فهم هذه التبادلية. لكن الخيمياء قصرت بحثها على المادة، في الفلسفة ثمة آراء كثيرة، منها من يرى أن العالم كبير أمام ضآلة الذات. "انظروا إليه، جوفاني دروغو وجواده كم يبدوان ضئيلين مقارنة بالجبال التي بدت أكثر ضخامة ووحشية"
وثمّة من يرى أن الإنسان ملقى في الوجود كما تلقى الحجارة، ولكن ماذا لو وجهنا البحث إلى العلاقة بين روح الكون وروح الإنسان (الوعي)! بحيث نبتكر خيمياء جديدة، مكوّنها الوعي والإيمان بمفهومه الأعمق.
لا بدّ أن حكاية الملك الذي يحول كل ما تلمسه يداه إلى ذهب تشكل إطارا جيداً في هذا المجال، -ومع أنّ مراميها تبعد عما نبتغيه-لكنها تختصر الطريق علينا.
فنحن نصنع العالم لحظة التفكير به. فيتحول من علاقة بين عدوين أو حبيبين ساذجين إلى علاقة شراكة بين طرف مؤثر ومؤثر به. فيتحول كل ما نلمسه إلى عشب أخضر أو رماد.
ولكن السؤال الذي يراود القارئ هل تمتلك الذات قوة تمكنها من خلق العالم وتعديل شروطه الموضوعّية والماديـــّـة؟
ماذا لو كانت الإجابة نعم ؟
لا شك أنه وكما بإمكاننا أن نتعلم من دروس التاريخ التي نقرأها بعقل المذكر، ومن خلال سرديـــّة المنتصر وهي سرديـــــّة غير دقيقة؛ فإننا قادرون على الانتباه والإصغاء للحالات الفرديـــّة التي شكلت اختراقات، عزتها البشرية إلى الموهبة أو الحظ أو الصدفة؛ لا بل يمكن الجزم أنّ نقلاتِ التاريخ الكبرى تمثلت من خلال الذات المفردة ولم تكن لذات الجماعة أي نصيب من الإلهام أو التغيير اللّهم ما خلا الحروب والغزوات والمجازر التي تنسب للعقل الجمعي.
بداية علينا النظر في مفهوم الإيمان، وهو مفهوم غرسته الجماعة بما يتعارض مع معناه الدقيق وأصبحت الكلمة دلالة على ما يتجاوز الإنسان، على عالم غيبي بعيد ومتحكم، وهذا الفهم لا شكّ يخدم وبقوة السلطات الدينّية والثقافيــــّة والاجتماعيــّة والسياسيّة التي تخلق فردا مشلولاً، اتكاليًّا، فاقداً لذاته وكينونته من أجل كينونة تنصهر فيها آماله بآمال الجماعة ورغباته برغبات الآخرين.
إن التمرد بالمعنى الهايدجري والوجودية –سواء كان يهدف للعيش في الحقيقة أو الحرية بالمعنى السارتري-يعني فصل ذاته عن سلطة المجتمع وقيمه (لكن الإنسان سيأخذ معه ما لا ينتمي إليه وما لا يخّصه في هذه القسمة ولن يتعرّف إلى نفسه إلا ضمن المخالفة والرفض والتمرد).
لقد أسيء فهم الإيمان بمعناه الكلي، وتحول من المعنى الذاتي العميق إلى الإيمان بمطلق يتجاوزنا-وهذا الايمان يبعث الوهن والوهم والضلال-فالإيمان بما يتجاوز الذات هو مجرد فكرة والفكرة ضعيفة أمام ما يعاش ويلمس أمام (الكينونة الحية النابضة تحت الجلد)؛ إن الذات هنا تحت هذا الجلد وهي ليست مزيجا من الآمال والرغبات والأحلام والمخاوف إنها التخيل والذاكرة الروح والمادة. إن نبيذاً يستدعي السعادة إلى رأس شاربه -كالفكرة التي تستدعي قرينها- فماذا عن قوى الإنسان الروحيّة والإنسانية التي تتفتح وتولد على الكون بأكمله!
وهذا الكون المرآوي يبدو وكأنه مصنوع ومتشكل من وحدة هي ديمومته ومن أجزاء؛ فهو منظوراً إليه من كل ذات على حدة قابل للتبدل، فما أن يمس الفرد الكون بنظرته وتفسيره حتى يستجيب الأخير. والمسالة تتجاوز التأويل بمعناه المتعارف عليه، إلى التغيير والخلق والمشاركة.
كما استجاب الجدار للسندباد في "افتح ياسمسم"
فالفكرة التي نعتنقها تبدّل الكون، وهذا الكون المغلق بنظر الكثيرين مفتاحه في بئر كينوننتا العميقة وإذا نظرت إلى نفسي كجبان سيتحول عالمي إلى كونٍ من الجبناء، ولكن إذا ألقيت تعويذتي على عالمي يتبدل.
كتب سارتر " الوعي يتبدل إذا يبدل وجوده" وهذه العبارة على بساطتها، تعني قدرة الذات على صنع عالمها وتغييره دون طلب العون. فحين أطلب من الكون أن يكون شريكي وأنا أعي وأثق بقوة داخلي، قوة الذات فإن الكون يعبد لي الطريق، هناك حكمة قديمة تقول : " إذا كان لدى الإنسان ما يقوله فإن العالم سوف يأتي إلى عتبة داره"
إن ذاتًا تلقي اللوم على غيرها هي ذات تحرم نفسها من إمكاناتها، لقد حكم عليها بالبتر، وقد استمدت إلهامها وقوتها من خارجها، وهاهي تنتظر في عتمة ليها الداخلي، في تخبطات محيطها العميق من ينقذها. إنها محرومة من النظر إلى العمق والامتداد الذي منح لها!
كتب الفلاسفة وفيك انطوى العالم الأكبر.
إن درب التبانة ومجرَّتنا الأرضية بكاملها في أعماقنا، حيث يمكن لمسها دون مدِّ اليد إلى أعلى، إن الوعي نافذة الروح وهو إذ يأولّ وجوده فإنه يلقي تعويذته عليه وإذا تلفظنا بعبارة العالم رماد (سيطيعنا العالم ويتحول إلى رماد)
لقد ربطت الوجودية حرية الإنسان بمسؤوليته وألحّت الأديان على ذلك ودعاه المتصوفة للوقفة مع هذا النبع الثري.
إن العالم الذي يبدو ضمن قانونيته التي رآها كانط يوما "كل ما أعرفه النجوم فوق رأسي والقانون في داخلي" هذا العالم كالبحيرة الساكنة أو اللوحة السحرية؛ يتحرك وفق مشيئة الوعي حتى أننا لا نحتاج أن نتلفظ بالكلمات ولا أن نقول عالمي بائس؛ إنه يتحول بتحويل الوعي نفسه، حتى ليبدو أنه وفي العالم الأكبر انطوت نفس الإنسان، وما اللغة سوى الشيفرة السريّة ولكل إنسان كلمته، وإن ضيّعها كمن ضّيع أذنيه وأغلق منافذ قلبه، نراه متخبطًا يلعن العالم والحياة، إن العالم عدّاء ماهر فحذار من الجري وراءه، إنــــّه يحب الرقص ويفضل الراقص الماهر، لكنه يميّـــــز الراقص الغشاش، الذي يريد نهب الحياة ويتعامل معها كمحل تجاري، ويمكن للعالم أن يمنحه تربيتة على كتفه وثروة مادية كمكافأة على رقصته المتُقنة. سيعيطه بيد ويحرمه بالأخرى، نراه تعيسًا يبحث خارج ذاته عن سلواه وهذه بـــــَلواه.
لكن الذات ليست محّارة مغلقة، إنها بيت اللؤلؤ، الراقص الحقيقي يعلم أن الخفة والرشاقة مطلوبة لكن السعادة متبادلة، ثمة قانونية في هذا الهلام الجميل الذي يدعى العالم.
هل تتذكرون كيف كنا نشكل الغيوم، بحسب ما نرنو إليه في أرواحنا. إن العالم يتشكل بهذه الطريقة، تراه حقلاً أخضر، أو محلاً تجاريًّا، محطة عبور وتزهد فيه فيزهد فيك، أم رحلة جميلة تترك فيها إشارات وعلامات لمن سيأتي بعدك!
فهذه الرحلة رغم عظمتها، فيها مخاطر كبيرة، إنها تجمع بين متاهة المينوتور وصحراء العرب الكبرى، بين ثلوج المحيط ولهيب الرمال المتحركة. ومن سار في المتاهة سيترك علامات لمن يليه، لكن حذار من اتباع ذات الدرب.
ألم نقل أنها متاهة سحرية .
فقطعة أرض صلبة قد تتحول لعابرٍ آخر رمالاً متحركة لا ترحم، وطريقٌ واضحٌ لإنسان قد يبدو متاهة لآخر، ما بالنا قد غرقنا في المجرد تعالوا نتحدث بوضوح أشدّ.
إن أقدارنا محُاكة في أعماقنا ونحن نلفظها فقط، نخرجها من القوة إلى الفعل، لقد ولدنا بسماتٍ ومواهب وإمكانات، تشكل إضافةً في شجرة الحياة وعلينا أن نقرر هل سنشكل إضافة حقًا، أم يكون لنا نفس الطعم.
هل نسير في طريقنا الذي أتاحته لنا مواهبنا أم نتخلى عنه، كتب كانط مرة "من أشد جرائم الإنسان أن يترك مواهبه عرضة للصدأ"، فهل يراقص العالم من يتخلى عن ذاته ؟
إنّ غريقًا يصر على رفض اليد الممتدة، لن ينجو من الكآبة والتعاسة وليس لزامًا علينا أن نقرأ كتب التنميّة البشرية كما نقرأ وصفات الطبخ أو مانشيتات الجرائد. فالوصفة بسيطة وسهلة، إنها تتعلق بالإيمان بما نملكه حتى لو سخر العالم بأجمعه منّا. كتب قديس يومًا: ( إلهي إني أؤمن فأعني على عدم أيماني ) .
إن الإيمان بالذات ليس سوى خطوة أولى، نظرة أولى، إنـــّه الكلمة الأولى في تعويذة (أيتها الذات يا أنا لقد جئت هذا العالم، فما الذي ترومينه، ومالذي ترغبين فيه)
لقد ضيعنا رسائلنا مُذ تركنا لغيرنا أن يكتبها نيابة عنا. وأسلمنا ذاتنا إلى القطيع، وشجاعة الوجود هي هذا التحقق، في قبو صغير أم قصر فاره. بين عقلاء أو مجانين.
إنــــــــّه كون ينتظر أن تدب فيه الحياة كجنين ولحظة مسِّه من قبل الذات سيأخذ في النمو. حتى ليجدر أن نصحح عبارة فلسفية قديمة تضع الذات في مقابل العالم، ونسميه بكل محبة وسرور (عالم الذات)
كتب أحدهم مرة: ( كل ما يوجد اليوم كان متخيَّلاً قديماً ). الذات تصيغ عالمها حتى ليبدو أن العالم يتبع الخيال، وحين تتخلى عن ذاتها فإنه وبكل أسف سيتخلى عنها .