مقالات

مرويات عن الزعيم في شهربان

مرويات عن الزعيم في شهربان

حسين رشيد

ربما تكون شهربان واحدة من أهم المدن في مسيرة وثورة 14 تموز 1958 حيث كان الزعيم عبد الكريم قاسم قريبا جدا من أهل المدينة، وعلى موعد دائم معهم من خلال تجواله في شوارعها وجلوسه في مقاهي المدينة المعروفة، يوم كان آمر لواء في معسكر المنصور، كما كانت له علاقات متميزة مع وجهاء وأبناء المدينة من خلال تبادل الزيارات في المناسبات والأفراح، إذ كان يحرص على التواجد بشكل دائم في أي مناسبة، مثلما كان يحثّ الوجهاء وشيوخ العشائر وكل من الشباب الدارسين إلى الانخراط بالكلية العسكرية وكلية الشرطة لبناء أساس وطني سليم يأخذ على عاتقه حماية المجتمع والوطن وتنفيذ القانون بعدالة، تلك العلاقة التي بنيت على الاحترام والمودة والاستئناس بتبادل الآراء، حتى تحولت إلى علاقة صميمة لم تقتصر على الوجهاء والشيوخ بحكم سلطة الزعيم العسكرية، بل باتت علاقة شعبية مع جميع الشرائح والطبقات المجتمعية، ورغم كل أساليب البعث في تشويه صورة الزعيم في أعين محبيه ومحاولات محوه من ذاكرة المدينة إلا أنها فشلت بذلك، وبقيت صورة الزعيم تتناقل من جيل إلى آخر، مثلما بقيت حدائق المدنية إلى يومنا هذا تحمل اسم حدائق الزعيم.
كانت شهربان القديمة في بداية القرن العشرين تتألف من 100 بيت (60 مسلمين و 40 يهود) فضلا عن بعض عوائل الصائبة والمسحيين، لكنها أخذت تكبر وتتسع شيئا فشيئا حتى تحولت إلى مدينة واضحة المعالم، تنشط فيها الحياة المدنية بمزيج بين القرى ومركز المدنية حيث المحلات التراثية القديمة( الحداحدة والنجاجير وجيروان والتوراة والمصاليخ والقلعة والكراد والرمادية، والاحياء الحديثة التي نشئت بعد ثورة 14 تموز مثل محلة الثورة (قرية سلامة) ومثل حي العصري ، وحي فلسطين، وحي المعلمين، وحي العسكري في العقود الأربعة الاخيرة) فضلا عن تنوع سوق المدينة الكبير الذي يضم أسواقا عدّة متخصصة مثل سوق البزازين، وسوق الذهب، وسوق الفافون، وآخر للبهارات والكماليات وسوق الجزارين، والبقالين، كما تضم العديد من الخانات والمقاهي التي ارتبط عدد منها بتاريخ المدنية السياسي، ولما كان معسكر المنصور قريبا منها فقد سكنتها العديد من عوائل العسكريين القادمين من شتى مدن البلاد دور نواب الضباط، وضباط الصف، القريبة من معسكر المنصور حيث كان عبد الكريم قاسم آمرا للواء التاسع عشر، وكان يحرص على زيارة المدنية بشكل يومي، وهو يتجول بسيارة الجيب العسكرية التي طالما كانت العون لأبناء المدنية الذين تقطعت بهم سبل الوصول إلى بيوتهم أو أماكن عملهم، هذه البساطة والعفوية جعلت الزعيم الأقراب إلى أهالي شهربان الذين اصطفوا ووقفوا مؤيدين لثورة 14 تموز 1958.
في إحدى المرات وأثناء عودة الزعيم إلى مقر المعسكر، بعد المساء بقليل، خطر بباله أن يزور أحد وجهاء المدينة لأمر ما، وبعد تناول العشاء وشرب الشاي وتعلولة قصيرة، وقضاء الأمر الذي جاء من أجله، أصر الوجيه على وضع صندوق من الرمان الشهرباني الشهير في سيارته العسكرية، ولأن عدد السيارات العاملة بنقل الناس قليل جدا، والعربات (الربل) ينتهي عملها قبل حلول المساء، يعتمد الناس على المشي بالوصول الى مبتغاهم، والمحظوظ منهم من يصادفه الزعيم بسيارة الجيب، وهذا ما حصل مع مؤيد أحد شخصيات المدنية المعروفة بالنكتة وسرعة البديهية، مؤيد لمح ضوء مصباح السيارة، الذي أخذ بالاقتراب حتى توقفت بجانبه، حيا الزعيم بشكل ودي، وبعد أن بادله التحية طلب منه صعود الجيب كي يقله بطريقه، صعد مؤيد، وبيده علبة بلاستك (دبة) يحمله بكوشر صغير على كتفه، مع غلق راسها بإحكام، لكن ذلك لم يمنع فوحان الرائحة، سأله الزعيم: وين طريقك احنا رايحين للمعسكر، ضحك مؤيد، والله زعيم آني طريقي بالعكس أريد أروح إلى (اغاجن) دربونة في دروب بساتين شهربان القريبة من السوق معروفة بساتينها بجلسات السهر والسمر والغناء، الزعيم ضحك بس الظاهر أنت سكران على الريحة اليوم لان الطريق بالعكس، ضحك مؤيد لا والله مو سكران، بس عرفت سيارتك، وإذا أمشي بطريقي مثل ما كلت راح أسلم وتروح، بس شلون توكف وتوصلني إلا بهاي الطريقة، فما كان من الزعيم وهو يواصل ضحكته الطلب من السائق أن يوصل مؤيد إلى (اغاجن) لكن بشرط أن يبقى يغني مقام وبسته، وصل مؤيد إلى البستان وهو يحمل دبة (عرك هبهب القچق) وبعض الرمان الذي قدمه له الزعيم مزة، لكن حركة غير محسوبة من مؤيد كادت تؤدي بدبة العرق لولا تلافي سقوطها، لكن كما قليلة سكبت في السيارة، ضحك مؤيد وهو يحدث الزعيم «بيگ بيگين» مو حرامات بالزعيم، الذي ضحك ورد مازحا على مؤيد يله المزة موجودة واليوم على الريحة إلى أن نوصل المعسكر ..
ومن المتداول الشفاهي بين أبناء مدينة شهربان ممن عاصروا مرحلة وجود الزعيم بينهم أبان مدّة أمرته للواء التاسع عشر، أو بعد أن تسلم منصب رئيس الوزراء العراقي أن بعض شخصيات شهربان طالبوا المرحوم عبد المجيد جليل مدير الأمن العام، وهو من شهربان بالتوسط لهم عند الزعيم ليفتح لهم مركزا للأمن في المدينة فما كان من المدير إلا أن أجابهم: «إذا تريدون مدينتكم تبقى أمينة ونظيفة وبدون مشاكل فلا تجيبون بيها أمن لأن كل المشاكل والفساد من جوه راس الأمن!» أخبرهم بعد ذلك أن هذا ما جاء بعد مناقشة الزعيم عبد الكريم قاسم بطلبكم، ما يدل على حرصه وحبه للمدينة.
تلك الحادثة دفعت الأهالي إلى إقامة نصب في حديقة في وسط المدينة سميت حينها (حديقة الزعيم) التي مازالت تحمل هذا الاسم إلى يومنا هذا رغم تغييره إلى (متنزه 14 رمضان) بعد انقلاب الثامن من شباط (الذي صادف الرابع عشر من رمضان) عام 1963، وإنزال التمثال ووضع محله ما يعرف «بشعلة البعث»، وحسب د. بهروز الجاف أن النصب عبارة عن تمثال من تصميم النحات المعروف (خالد الرحال) بارتفاع مترين يعتلي مدرجا بارتفاع خمس درجات سلم اعتيادية فوقها منصة مربعة بارتفاع نصف متر، ويبدو الزعيم فيه لابسا بزة العرضات العسكرية ورافعا يده اليمنى محييا الجمهور وهي التحية التي تميز بها. ويقول أيضا ان التمثال بقي في مكانه حتى عام 1963 حيث تم رفعه ونقله إلى دائرة مديرية البلدية في محلة الرمادية وجرى دفنه في حديقتها لسبب لم يعرف لحد الآن، وفي عام 1970 أخرج التمثال ونقل إلى بغداد حيث جرى عرضه في المتحف العسكري ثم اختفى منه في عام 1975.
ويروي الجاف بعد رفع التمثال بقيت المدرجات التي في أسفله إلى يومنا، وقد استخدمت تلك المدرجات من قبل نظامي عارف والبعث في (اصطياد) محبي الزعيم ممن كانوا يحنّون إليه فيزورون موقعه، أما الأطفال فكانوا يعتلون منصة النصب واقفين في موقع التمثال مؤدين التحية وصارخين بصوت عال (أيها الشعب) مقلدين زعيمهم الذي كانوا يسمعون بأسف عن قصة استشهاده، لكنهم ما أن يروا حارس الحديقة حتى يلوذوا بالفرار هاربين خوفا من الإمساك بهم وبذويهم.
تمثل الحدائق التي انشأها الزعيم على أشكال هندسية مثلثة ودائرية ومربعة ومستطيلة تتماشى مع حركة الشارع الرئيس سمة من سمات المدينة التي تورثها لأبنائها، جيلا بعد جيل، ورغم قسوة الزمن عليها إلا أنها ما تزال تنبض بالحياة والذكريات وتدون تاريخ المدنية، لم يخلف الانقلاب الأسود إلا الدمار والقهر، وبسبب حقدهم على الثورة والزعيم فقد تم رفع النصب بطريقة أكثر وحشية وخسة من قتل الزعيم، وحسب رؤية شاهد العيان ومنهم المشرف التربوي الأستاذ محمد أيوب : بالنسبة للراحل عبد الكريم قاسم أتذكر جيدا حين تم رفع تمثاله من حديقة الزعيم كنت صبيا، وكان بيتنا في ضمن بناء السينما للمرحوم علي يزلي أبو لطيف صاحب أول معرض باتا في المقدادية (تقع السينما بالجهة المقابلة لحديقة الزعيم) وأتذكر جيدا كيف ربط الحبل بين ذراع الزعيم اليمنى ورقبته وسحب بسيارة بيك اب تعود للبلدية وحين وقع التمثال تكسرت بعض مدرجات النصب.
وحسب أيوب: أن التمثال رمي خلف مبنى البلدية مجاور السجن الذي ضم العشرات من أهالي شهربان بعد انقلاب شباط من بينهم والدي المرحوم أيوب أبو صلاح مشغل أول دار عرض للسينما وصاحب أول محل لتصليح الراديو (أبو اللمبات)، ﻻتهامهم بالانتماء للحزب الشيوعي العراقي، وعن الحدائق تحدث أيوب: بالنسبة لحديقة الزعيم كانت مزروعة بأشجار العفص كمثري الشكل بجوار سياج الحديقة الحديدي الذي يحتوي على نقشة النجمة في لحام مفاصله، وكما أتذكر نادي الضباط وصالته ومداخله الجميلة لكون المرحوم والدي حينما أخذني معه لنصب أول عارضة أفلام في النادي وبعدها نصب أول تلفزيون في القاعة وكان أسود وأبيض يومها حضر الزعيم..
ويروي د. خسرو الجاف: سمعت أن الزعيم عندما كان آمرًا لموقع المنصور العسكري وكان يسكن في دور الضباط في شهربان، كان يذهب إلى المعسكر بعد صلاة الفجر مباشرة، وفي أحد الأيام وصل المعسكر بين الساعة الثالثة والرابعة فجرا فرأى امرأة معيدية جميلة تبيع الگيمر في داخل المعسكر وتصيح «گيمر يهل الگيمر» فسألها الزعيم: «انت شلون جايه للمعسكر بهالليل ما تخافين من الجنود؟»
أجابت: «ليش أخاف الجنود كلهم مثل ولدي»
اجابها: «يمعودة يا ولدچ آني آمر المعسكر من أدخل باب النظام أخلي إيدي....... بين ما أوصل للمقر مالي، أخاف من الجنود».
أجابت: يا!!
أجابها: بعد لا تلفين هنا!.

حسين رشيد

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white