مقالات
من طرفاء عفك
من طرفاء عفك
عبد الحميد حسن
نبيل العطية
ومن منا لا يعرف قضاء عفك، وقد ورد اسمه في المثل الشعبي العراقي المعروف (( قيم الركاع من ديرة عفج))؟
في هذا القضاء من محافظة القادسية. ولد عبد الحميد حسن الفتلاوي سنة 1934 في أسرة فقيرة، كادحة. دخل المدرسة سنة 1940، فأتمها، وكان فائقاً على أقرانه، بيد أنه لظروف معيشية قاهرة لم يستطع مواصلة الدراسة. فلم ينل الا الشهادة المتوسطة مكتفياً بها، غير أنه واصل الدرس، والتعلم، فثقف نفسه، وزودها بالنافع من العلم. قدِمَ عبد الحميد الى بغداد في ستينيات القرن الماضي، طامحاً الى حياة فضلى شأن غيره من الناس وقد التحق بمؤسسة السكك الحديد، توفيراً للقمة العيش. وأتاح له هذا الالتحاق شراء بعض المستلزمات الحياتية المعروفة وفي مقدمتها: الكتاب.
كان عبد الحميد نهماً في المطالعة، يسهر حتى الصباح، متعمقاً، متأملاً يقرأ في السياسة، والادب والاجتماع والتاريخ وباختصار كان موسوعي الاطلاع. وقد لمس ذلك عارفوه، ومحبوه على حد سواء. امتلك هذا الرجل مواهب متعددة، بحكم تنوع مناحي اطلاعه:
فهو شاعر، ومتحدث لسن، وله تفنن، في النثر، واجادة في اللباقة ولعل الطرافة واحدة من أظهر صفاته، وقد بلغ من اجادته لها انك تسمع الطرفة عشر مرات منه يكون في المرة العاشرة اكثر اتقانا لها.
من طرائفه
تهيأ لي أن أكون زميلاً له في المؤسسة العامة للسكك الحديد عام 1970 في مديرية العلاقات العامة، وأن يكون هو مسؤولي الإداري، لذلك حظيت بسماع مجموعة من نوادره الجميلة.
أذكر مرة أنه في أثناء الاستعداد لخطبة الصديق شفيق مهدي، الدكتور لاحقاً والكاتب المعروف. جلسنا معاً في مقهاةٍ في شارع الأمين، اظهاراً لأناقتنا، واحتفاءً بهذه المناسبة الجميلة قررنا أنا وعبد الحميد أن نصبغ حذائينا. كان الصباغون في تلك الأيام يتجولون في المقاهي، بحثاً عمن يطلي الأحذية. وبعد الانتهاء من ذلك أصر على الدفع قائلاً: ((حذاؤك علي)) وقد دفع الثمن فعلاً..!
موقفه من السلطة
كان عبد الحميد مناوئاً للسلطة القائمة آنذاك، وقد اعتقل غير مرة. وفي أحد الأيام ((زاره)) ضابط أمن في داره، وأخبره بضرورة الحضور معه للتحقيق.
أخذه بسيارته، وبعد اجراء التحقيق أعادة بسيارته ذاتها.
وفي الطريق أراد الضابط انزاله بعيداً من بيته قائلً سأنزلك هنا، لأنني أضعت عنوان بيتك، فقال له بالحرف الواحد:
عندما احتجت الي عرفت عنواني، وعندما انهيت المهمة جهلته!
مع المهندس البلغاري
ومن ذلك أن مهندسيا بلغارياً زار مديرية العلاقات العامة، طالباً معلومات عن تاريخ السكك وعن مرافقها العامة، وأنه سيأتي غداً في الساعة الحادية عشرة لتسلم هذه المعلومات.
وفي اليوم الثاني، اليوم المحدد، جلسنا ننتظر، ومرت الساعة الحادية عشرة، والثانية عشرة، والواحدة ظهراً ، فلم يحضر ((الضيف)) فسألته طمعاً بطرفة منه ما السبب الذي أخره عن ذلك، فقال: أشك في انه بلغاري! ربما يكون أصله ((عراقياً))!، طعناً بمن لا يلتزم من العراقيين!
ومن طرائفه الادبية انه اهدى الي نسخة من ديوان ((كشاجم)) تحقيق السيدة خيرية محفوظ فكتب في الصفحة الاولى من الديوان ما نصه: الى استاذي في اللغة والأدب وتلميذي في الروتين، كتابكم وكتابنا، اهدي هذا الكتاب !)).
الشاعر الطريف
قلت ان عبد الحميد ذو مواهب متعددة منها : أنه شاعر. وقد سرت ((الطرفة)) في ثنايا شعره مثلما توغلت في تضاعيف نثره من ذلك.
تلك القصيدة التي نظمها انتصارا لرجل ارمني كاد يتهجر بحجة تبعيته الى الجارة ايران. كانت الحكومات العراقية السابقة تعد من يدخل الى العراق عن طريق ايران ايرانياً، ومن يمر عبر تركيا مواطنا عراقياً.
كان نصيب هذا الرجل الأرمني المرور عبر ايران في عشرينيات القرن الماضي، لذلك عد ايرانياً.
قرر المسؤولون تهجيره ضمن حملات التهجير في سبعينات القرن السالف . كان الرجل خياطاً، يسكن محلة البتاويين ببغداد.
نقلت هذه الحادثة عن طريق جاره المرحوم ((هرمز يلدا)) الموظف في مديرية العلاقات العامة في السكك، وصاحب ((استديو نوفاك)) سابقاً في الباب الشرقي.
تفاعل عبد الحميد مع هذا الخبر وقد هزه هزاً فنظم قصيدة طالب فيها المسؤولين بـ ((التريث))، ومنح الفرصة لهذا الرجل المسكين، وفيما يأتي جانب من هذه القصيدة:-
أرمنيّ من قبل خمسين عاماً جئت أسعى لخيرة الأوطان
جئت أسعى لكي اعيش سعيداً املاً أن أنال عطف الزمان
وبدا لي حق التجنس صعباً بينما نال مثله أقراني
وأخيراً وفي انشغالي بعيشي وانشغال الأولاد بالامتحان
قيل لي غادر العراق سريعاً ولدي القماش في الدكان
مهنتي كانت الخياطة دوماً وانصرافي لعيشتي بأمان
وولائي لدولة حررتنا من قيود الشقاء والحرمان
وتبنت مطالب الناس دوماً من حقوق الاكراد للسريان
وهي اولى من غيرها بانتشالي من مصابي وحيرتي وهو اني
موطن العرب للضعيف ملاذ وهو يحمي كرامة الأنسان
انا في ارضكم اعيش ومنها زوجتي، ثم اورقت اغصاني
أمروري علي الطريق دليل انني صرت – مٌكرهاً – (ايراني)
جددوا لي اقامتي ان رغبتم بوجودي كمعشر الاخوان
مددوا فترة البقاء لوقت كي ابيع الاثاث للجيران
غير اني بلطفكم سوف احظى وبكم تبتغى جميع الاماني
سلمت هذه القصيدة الى المسؤولين، فاستظرفوها ، واوقفوا الاجراءات التعسفية بحق الرجل، بل والغوا فكرة تهجيره خارج العراق!
كان عبد الحميد شديد السمرة، واما انا فابيض لذلك قال لي يوما:
لوزرنا أمريكا انا وانت لانهالت علي الحسناوات بالأحذية! أما انت، فستكون معززاً، ومكرماً!
وقد حملته سمرته على تقليد ((الخطيئة)) في هجائه لنفسه، فقال من قصيدة يشير بها الى ذلك:
اني القصير – كما ترون – وأسمر وجهي ، وفي علائم لشحوب!
القدرة على الارتجال
ويتمتع عبد الحميد بقدرة على الارتجال وحضور للبديهية من ذلك قوله السريع لي جوابا عن صدر بيت لي نظمته نتيجة حبي لفتاة في بواكير شبابي، نصه:
وغزت فؤادك يا نبيل أميرة
فأجاب مسرعاً:
فغدوت من حب لها معمودا!
حادث جلل
ومما يطرأ على الذهن أنه أختلف مع ((زوجتة)) لضغوط الحياة. ومصاعبها، حتى انه ((فكر في الطلاق، حلاً للأشكال، فنظم قصيدة يخاطب بها نفسه يحضرني مطلعها، وهو :
أما يهزك هذا الحادث4 الجلل كأنك في حمل الأذى جمل !
ومع تمكنه من أدواته الشعرية وقدرته على النظم كان منفتحاً غير مغلق ويتقبل برحابة صدر ملاحظات الأخرين.
قال مرة مرتجلاً ، ومتغزلاً :
فحبيبي كـ ((قائد)) لي دوما وأنا دائماً لديه كجندي !
كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، فقلت له مداعباً. ألا تخشى أن تقول ((كقائد)) أرى أن يكون النص: فحبيبي (كأمرِ) لي دوماً. فقال لك ذلك !
بعد انتهاء خدمته الوظيفية في مؤسسة السكك، واحالته على التقاعد في تسعينيات القرن الماضي ولضغط الحصار الجائر عليه، وتغطيةً لنفقات أسرته، وتنفيقاً للوقت – كما كان يقول – اضطر الى افتتاح مكتبة في سوق السراي سماها (الرياض)، ثم انتقل الى أخرى في شارع المتنبي نفسه.
كان يكتفي بالربح الزهيد من بيع الكتب، لفهمه معاناة الناس، وتيسيراً للثقافة، واحتراماً للفكر.
وفاته
أصيب عبد الحميد بمرض أقعده على الفراش عدة أشهر بعد أن عاش حياة غنية بقيمها الإنسانية، مفعمة بالتحديات. فالحياة عنده ((فن المواجهات))، متخذا من الطرفة سلاحاً يقاوم به مرارة العيش، بيد أن لكل حياة نهاية. وهو ما كان في عام 2010.