مقالات
القيمر نشيد الصباح
القيمر نشيد الصباح
علي أبو عراق
بين القيمر والصباح صلة وود وآصرة، ففي جدلية اكتمال البياض وعتمة الملاءات السود التي لا تخفي صبوح وجمال وجوه بائعاته،، فبعد أن ترفع الشمس رأسها من مخدة الليل يغطي نور الكون الأرجاء ويمتد البياض إلى تخوم الأشياء، تنسكب دلاء الحليب على نفوس المستيقظين توا فتطرد بقايا النعاس، وتنعكس على وجوه نسوة تزهر بالألف والفتنة وتفيض بنداءات صادحة جميلة في الأزقة والدروب لتوقظ نسوة غالبتهن الأحلام طويلا وأرجحتنهن رغائب الليل، كنا نعتقد أن عشقنا للقيمر هو ضرب من النستلوجيا وأمر فيه مبالغة وتعصب لمدينتنا وموروثها، لكن دورة خليجي 25 نبهتنا إلى عكس ذلك وأن للقيمر سلطة بارعة على الجميع، لا تضاهيها سلطة من مفردات الصباح، من ذلك؛ إن كل ضيوف دورة الخليج وبعد أن تعرفوا على القيمر العراقي عشقوه وأدمنوه، وراحوا كل صباح يهرعون للتزود به من المعيديات اللواتي يحجزن أماكن بارزة من المدينة أو من الأسواق القريبة لفنادقهم، وبذلك ازداد اعتزازنا بالقيمر واحترامنا للجواميس المنتجة له والتي كنا ننظر لها بنفور أحيانا، ليس ذلك حسب بل أصبحنا نزاحم ضيوفنا على الحصول عليه، وصرنا على يقين من أن الأصوات التي كانت توقظنا من النوم في ساعات الصباح الأولى كانت على حق، وأن المدينة التي تستيقظ على أصواتهن الرخيمة وهن ينادين على بضاعتهن..( كيمر ...كيمر ...حليب) فيكنسن بقايا نعاس، إذ تفرك المدينة عينيها وتستعد لميلاد يوم جديد وقبل أن تبزغ الشمس، هي مدينة تعشق الصباح والقيمر وتتلون الأرجاء بأشعتها الذهبية، إذ ينتبذن المعيديات أماكن اخترنها بالتجربة وهن قادمات من القرى البعيدة، يحجزن زوايا سرعان ما يتقاطر نحوها نسوة نشطات لم يزل بخار الحمامات يطوف على وجوههن التي لم تزل تختزن نشوة الليل وبقايا همس حب وارج بخور وأطفال ناعسين يغالبون كسلهم بعد أن دفعهم آباؤهم دفعا، المدينة تستيقظ (والمعيديات) من مفردات تقويمها أن المعيديات اللواتي كانت حياتهن عكس بياض قيمرهن، إذ بعد أن يستيقظن في ساعات الفجر الأولى.. ويجنين حصاد الحليب الذي استدرته أيديهن الخشنة مساءً، يجنين القيمر (صاغا) خالصا في صواني وطشوت يتباهى بعبقه المستفز الذي يوقظ الحواس، علمتهن الأيام أن يستقبلن الفجر بابتسامة لا مناص منها وسماع كلمات غزل تعودن عليها، رغم كل شيء… رغم ما يعانين من تعب وكد وجهد من جلب الحشائش إلى حلب الجواميس والأبقار، إلى شؤون البيت الأخرى، رجالهن يشخرون بعد ليل سمر يطول وتدخين سجائر لا ينتهي، وحتى حينما يمارسون فحولتهم الروتينية مع نسائهم النصف نائمات والأشبه بالميتات من التعب ..وهم (الفحول) العاطلون حتى عن الحب، يفرغون شبقهم في لحظة واحدة سريعة كما تفعل الديكة، ولكن دون أن يصفقوا بأجنحتهم أو يعوعوا.. ، يستيقظن منتصف الليل يرتمسن في النهر ..يتطهرن من آثار حب لم يتحقق...؟ لا عن ذنب ارتكبنه ولا لذة جنينها، بل ينفذن الوصايا إذ هكذا قال الشيوخ الذين يزورونهم في رمضان ومحرم، بعد هذا سريعا يهرعن إلى (طشوت) الحليب الذي بدأ يتخثر ويتماسك دهنه بفعل الثلج والنسمات الباردة، يضعنه في صوان وأوان حسب معرفتهن بالطلب، ودون فطور أو أي نوع من الزينة يهرعن إلى المدينة بواسطة مركبات مؤجرة مسبقا كالممسوسات خوفا من أن تسبقهن الشمس، هو صراع أزلي بين الشمس وبينهن، كي لا يتسرب الزبائن ويطير الرزق وتحل عليهن بعدها لعنة الرجال الكسالى، رجالهن الذين لا يفعلون شيئا سوى الركون إلى الأماكن الظليلة والتدخين وتمسيد الشوارب الكثة في الغالب وانتظار ما تجود به نساؤهم دون التفكير بمصدره، أكثرهم يعرفون ويتغاضون … وحينما يتراشقون بالشتائم والعيب غالبا ما تكون الجميلات هن الضحايا ...المعيديات..؟ بشائر الصباح وساعة المدينة وعرف وعبق الحليب والوجوه الجميلة والملابس الملونة الزاهية، المدينة عندهن نسيم حرية وخلاص من قيود قاهرة، وصباح دون نداء المعيديات على بضاعتهن البيضاء في الغالب، لا يعد صباحا مشـرقا وطبيعيا، كان هذا قبل نحو ثلاثة عقود.. حينما كانت الأهوار هي التي تزود الضواحي والمدن بالمنتجات الحيوانية من قيمر وحليب وزبد وسمك... قبل عمليات الاستيراد المفتوحة وغير المنضبطة وقبل تجفيف الأهوار وتهجير أهلها ونزوحهم للمدن ولم يتبق من هذا الكرنفال الصباحي إلا القليل، إذ يأتي ما تبقى منهن إلى الأسواق الرئيسة .. ويحجزن ركنا مزدحما.. ويعرضن بضاعتهن من الحليب ومشتقاته والسمك والطيور... ولكن دون أن يعلن عنها... بل يفترشن الأرض بصمت.. ووجوه غارقة بالهم .. تصطنع الابتسامة أصطناعا… وقد صارت المماحكات الجميلة بين الشباب والمعيديات ماض بعيد.. فلم تعد تسمع من يقول
من تطب للسوك صبحه تترس الدلال فرحه
جيت اعاملها الوكحه غطت الروبه بطبكها
خويه هيعونه الشبكها
أو من يقول تحرشا
يمعيديه يم الروب أنت بصوب وآنه بصوب
ولم تعد تسمع قصة المعيدية الجميلة التي أغرم بها ضابط انكليزي كبير أبان الاحتلال البريطاني عام 1914 وأخذها معه إلى أنكلترا وراجت صورها كنجمة هوليودية في أرجاء العراق.
فلم يعد هؤلاء يسكنون بعيدا عن المدينة بل هم في قلبها، وأصبحوا من الموسورين وبعضهم من الأغنياء… وزالت الحدود بين المدينة والريف إلى حد كبير .. وتغيرت بنيتهم العشائرية، وظلت صورة المعيدية الجميلة إيقونة من الماضي يذكرنا بها بعضهن ولكن بين الحين والآخر، ولكن القيمر ظل هو القيمر والنداء عليه ظل أنشودة الصباح.