الشيخ الحنفي ... سادن الفولكلور .. والسيرة النادرة

الشيخ الحنفي ... سادن الفولكلور .. والسيرة النادرة...
عادل العرداوي

ترددت كثيراً في أن أخوض في سيرة وحياة شخصية اجتماعية عراقية متميزة ونادرة مثل شخصية الشيخ جلال الحنفي البغدادي، الذي امتد به العمر طويلاً حتى غدا وكأنه شاهد قرن كامل من الزمن، وهو بالفعل كذلك، فقد ولد في ( بارودية) بغداد عام 1911 وتوفي في بداية اذار/ 2006، لذلك فلا عجب عندما نصف الشيخ الحنفي بأنه شاهد القرن العشرين عن حق وحقيق..
فالحنفي الذي ولد في إحدى محلات الرصافة القديمة وترعرع في المحلات القريبة منها مثل (القراغول وحمام المالح) وغيرها من المحلات. فقد نهل من هذه الأمكنة السجايا والشمائل والعادات والتقاليد الأصيلة التي كانت سائدة آنذاك في مجتمع بغداد، وتعلم منها وأحبها واعتز بها ووثقها فيما بعد بالعديد من الكتب والكتيبات والمؤلفات التي غدت اليوم مرجعاً لمن أراد سبر أغوار الفولكلور والتراث الشعبي البغدادي والعراقي.
صحيح أن الشيخ الحنفي درس في بادئ أمره في (الكتاتيب) وتحديدا ًفي كتّاب (الشيخ ابراهيم) وظهرت عليه علامات النبوغ و(الشطارة) والنباهة والتمييز الملفت للنظر عندما ختم القرآن الكريم قبل أقرانه، ونظمت له (زفة) الختمة وبهرجتها على عادة ما كان يجري لأطفال أيام زمان حينما يتخرجون من (الملا) ويختمون القرآن الكريم قراءة وكتابة..
وهكذا فقد انتقل الحنفي بعد مرحلة الكتاتيب إلى المدارس الحكومية الحديثة القريبة من موقع سكناه، ومنها دخل إلى كلية الإمام الأعظم في الأعظمية لدراسة الفقه الإسلامي، وليعتمر على رأسه عمامة ذات حجم كبير لم يبدلها إلا بعد التحاقه للدراسة في الأزهر الشريف بالعاصمة المصرية (القاهرة) في عام/ 1939، وبعد أن شاهد ما يعتمره زملاؤه طلبة الأزهر من عمائم صغيرة الحجم على رؤوسهم، تشجع عندها لرمي عمامته كبيرة الحجم ليبدلها بعمامة صغيرة جداً حتى غدت بحجمها الصغير مضرباً للأمثال، وقد نظمت العديد من القصائد الشعرية عن تلك العمامة الحنفية لعدد من الشعراء كان من بينهم عبد الرزاق عبد الواحد والحنفي نفسه، وكان عندما يعجبه موقف من أحد طلابه أو أصدقائه كان يردد (والله لوما چانت اعمامتي ازغيره لانطيتك نصها.. لكن شسوي..!!).
الشيخ الحنفي كان من رواد مجلس الجمعة الذي كان يعقده عالم اللغة العربية الأب أنستاس ماري الكرملي الذي يقام صبيحة كل يوم (جمعة) اسبوعياً، وكان الحنفي من المعقبين والمتحدثين في ذلك الصالون البغدادي الشهير الذي يضم أشهر علماء وأدباء ومؤرخي بغداد، وفي إحدى أصبوحاته التفت الكرملي إلى الحنفي مشيداً ومعجباً بتعليقاته وقال له:( أنت يا ولدي تستحق أن نسميك الشيخ العلامة)...!
لقد كانت اهتمامات الحنفي كثيرة ومتنوعة أو ربما (غريبة) بالنسبة له كرجل دين (موظف في الأوقاف) فهو إمام وخطيب للعديد من جوامع بغداد، ومنها بقائه لمدة (40) عاماً متواصلة في إمامة وخطابة جامع الخلفاء الشهير الواقع بشارع الجمهورية، والذي يعود تاريخ تأسيسه إلى أواخر فترة الدولة العباسية.
فقد اهتم الحنفي بالتجويد والأصوات واهتم أيضاً بالمقام العراقي والموسيقى والفولكلور والتراث الشعبي، والعناية باللهجة البغدادية وآدابها وأمثالها وحكمها، وكان معجباً بها أيما اعجاب، وكان يصحح لمن ينعتها باللهجة، بل يقول إنها اللغة البغدادية وصفة اللهجة التي تطلق عليها إنما هو تصغير لمكانتها وقوة تعبيرها وسلاستها وجزالة مفرداتها ومعانيها الجميلة، وكان معجباً بها كما هو اعجابه باللغة الأم (العربية) الذي يعد الحنفي واحدا من سدنتها وحراسها والمحامين والذائدين عنها، وكان في ذلك يقف بالمرصاد لمن يخطأ فيها من المذيعين والمذيعات والخطباء والمتكلمين بما لا يقبل منهم أي عذر..!
وكنت واحداً ممن (يخافون) من الحنفي عندما كنت أتولى إدارة احتفالية أو ندوة ثقافية يكون الحنفي مشاركاً فيها، وكنت اتوجه له قبل أن أصعد إلى المنصة والتمس منه أن لا (يزجر) بي عندما أقع في خطأ غير مقصود ربما أقع فيه.. وكان يرد علي (قلل الكلام وسكن وامشي حتى لا تقع بالخطأ..!!).
تعود علاقتي بالشيخ المرحوم الحنفي إلى النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي خاصة بعد أن التحقت بأعلام أمانة العاصمة صحفياً أعمل محرراً في مجلتها الشهرية التي كانت تصدر آنذاك وتحديداً في عام/ 1976..
فقد كانت الأمانة تكلفني بتوجيه الدعوة له لحضور الاحتفالات والفعاليات ذات الطابع التاريخي أو التراثي البغدادي التي تخص مدينة بغداد باعتباره واحداً من أعلامها المتميزين، هو وغيره من الشخصيات البغدادية الأخرى، حيث كنت أذهب إليه في مقر إقامته داخل جامع الخلفاء القريب من مقر الأمانة والقريب من بيت الحنفي أيضا الواقع بشارع الجمهورية آنذاك.
وبمرور الأيام توطدت العلاقة بيني وبين الشيخ خاصة إذا ما عرفنا أنه من أبرز رواد المجالس البغدادية محاضراً ومعقباً ومصوباً، بل كان يتصل بي أحياناً لأوصله إلى المجلس الفلاني عندما لا تتوفر له (الراحلة) التي تقله إلى هناك، وهكذا استمتع كثيراً عندما يكون معي في السيارة، وهو يقص علي أحداثاً فولكلورية وأمثالاً بغدادية شعبية ووقائع عجيبة غريبة مرت به، وهكذا توطدت علاقتي به وأصبحت بيننا (ميانة) وتعرفت كذلك على أفراد عائلته أيضاً، ودخلت بيته الآخر الواقع في حي تونس شمالي بغداد أكثر من مرة.. وبحكم تلك العلاقة، فقد عرفت أن الشيخ الحنفي كان يعشق العمل الصحفي عشقاً لا يدانيه عشق، مما دفعه ذلك في أواسط ثلاثينات القرن الماضي أن يصدر صحيفة أسبوعية تحمل اسم (الفتح) استمرت لفترة ثم توقفت لأسباب مالية. سرعان ما اعاد اصدارها ثانية بعد احداث عام/ 2003 كان هو محررها (الأول والأخير) يعاونه في تنضيد موادها وتصميمها ولديه (واعية) و(عروض) وكان ينشر فيها العديد من المقالات الخاصة بالشؤون الدينية والدراسات القرآنية والتجويد وعلم الاصوات، وفنون الموسيقى والأشعار التي ينظمها الشيخ ليؤرخ فيها لمواقف وشخصيات معينة وغيرها من الموضوعات الأخرى، التي من بينها اشارات نقدية عن بعض الخدمات العامة والتصويبات اللغوية التي يرصدها الشيخ في المجالس والمنتديات والمحافل، أو من وسائل البث الإذاعية والتلفزيونية يتابعها بلا هوادة من أجل أن لا يشيع الخطأ ويستفحل، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم.

وخلال اقترابي منه عرفت عن حياته الشيء الكثير من بينها أنه متقشف في مأكله ومشربه، لا يأكل كثيراً، وقبيل وفاته بثلاثين عاماً امتنع عن تناول وجبة العشاء تماماً، وكان يسير المسافات الطويلة في شوارع بغداد وأسواقها من دون كلل أو ملل، فقد كنت أنا اعمل في جريدة القادسية اليومية التي كان مقرها في كرادة مريم مقابل نصب الجندي المجهول بالكرخ، وكان الشيخ الحنفي له في عددها الأسبوعي الذي يصدر كل يوم (أحد) مقالة ثابتة بعنوان( رؤوس أقلام أسبوعية) هي عبارة عن كشكول منوع، كان الحنفي خاصة في عام (1990- 1991) أيام شحة( البنزين) يتوجه ماشياً على قدميه وبيده عصاه التي يتوكأ عليها يوم الجمعة من كل أسبوع من مقره في جامع الخلفاء/ الشورجة، إلى مقر الجريدة في (حي التشريع/ كرادة مريم) لتسليم مسودة تلك المقالة إلى المطبعة، وبعد استراحة قصيرة في مكاتب الجريدة، يعاود الحنفي رحلة العودة ثانية إلى مقره في جامع الخلفاء من دون أن يشتكي أو يتذمر..!!
ومن بين الأمور التي عرفتها بحكم قربي من الشيخ وعائلته، وصححت معلومة خاطئة كانت شائعة بين بعض معارف الحنفي مفادها من أن زوجته (الشيخة) هي صينية الجنسية تزوجها يوم أوفدته الحكومة العراقية في أواسط القرن الماضي لتدريس اللغة العربية في أحد معاهد مدينة (شنغهاي) وحقيقة الأمر غير ذلك، بل أن الشيخة عراقية أب عن جد من أهالي كركوك، وقد رافقت زوجها الشيخ في إيفاده الرسمي للتدريس في الصين لمدة (7) سنوات، وهناك ولدت اثنين من أولادهم هما ولديه (عقيل) و(واعية) وابنته (عروض) التي سماها والدها الشيخ بهذا الاسم، لأن ولادتها توافقت مع انشغاله بتأليف كتاب عن (عروض الشعر العربي) صدر آنذاك.
وخلال تواجد الشيخ في الصين فقد اتقن اللغة الصينية اتقاناً تاماً كتابة وتكلماً مما دفعه للمباشرة بتأليف معجم عن مفردات اللغة الصينية وما يماثلها في اللغة العربية، وقد قطع فيه اشواطاً واسعة، لكنه فقده عند عودته من الصين إلى العراق في السفينة عبر البحر حيث غرقت مسودة ذلك المعجم..!!
وعلى ذكر اللغة الصينية فإن الشيخ الحنفي له إلمام أيضاً بلغات أخرى مثل (الانگليزية والفرنسية والاسبانية والالمانية والعبرية والفارسية والكردية والتركية) فضلاً عن العربية التي يعد واحداً من شيوخها في القرن العشرين.
ورغم أن الحنفي يعد من رجال الدين بحكم كونه خطيباً وإماماً وموظفاً في الأوقاف لسنوات طويلة، لكنه يختلف عن زملائه رجال الدين الآخرين، بحكم اهتماماته وهواياته المتعددة والغريبة إلى حدما عنهم.
فمن بين اهتمامات الشيخ النادرة أنه كان يرغب في مخالفة ما اتفقت عليه آراء العامة في العديد من القضايا الحياتية اليومية والطريفة.
فهو أقدم على تجربة طريفة مختصرها أن العرف الشعبي يدعي أن حيوان ابن آوى ( الواوي) لا يمكن تدجينه وتربيته مطلقاً..!!
الحنفي أراد أن يكسر هذه القاعدة (وأنا شاهد على هذه الحكاية) وذلك بتكليفه لأحد طلابه الشيخ (جواد) الذي هو من سكنة قضاء المقدادية/ شهربان- محافظة ديالى وكان يدرس أصول الإمامة والخطابة وتجويد القرآن الكريم على يد الشيخ الذي التمسه في مرة من المرات أن بجلب له من بساتين شهربان (ابن آوى صغير جداً) أي مولود حديثاً، ويوصله له في الجامع..!
الشيخ جواد اندهش من طلب استاذه له.. وقال له: (شيخنا الله يرحم والديك متگلي وين راح الگيه لهذا الواي الزغير.. معقوله..!)
رد عليه الحنفي: اي جواد معقولة.. انا عندي تجربة أريد تطبيقها على هذا الحيوان.. المهم اتجيبه إلي..!!
ورغم عدم قناعة جواد بذلك لكنه بعد أربعة أيام عاد من شهربان وبيده ( گونية) صغيرة.. فيها (فرخ الواوي) الذي سلمه إلى الشيخ الذي فرح به فرحاً كبيراً..
عندها قام الشيخ بوضع ذلك الفرخ في قفص حديدي متوسط الحجم مركون في زاوية من زوايا بناية الجامع..
وأخذ الشيخ في صباح كل يوم يقوم بترضيع الواوي الصغير بالحليب بواسطة (سرنجة) وبعد فترة أصبحت (مميه) وهكذا وبمرور الأيام تعود هذا الحيوان على مرأى الشيخ، وأصبحت بينهما علاقة حميمة، ونما جسمه، وكبر ذلك الفرخ الصغير ليصبح ثعلباً كبيراً...
عندها أيقن الشيخ أن ما كانت تعتقد به العامة من مفاهيم ما هو إلا أوهام كشفتها تجربته في تدجين هذا الثعلب..
وخاتمة المطاف لهذه الحكاية الغريبة والطريفة، فقد اكتشف الحنفي أن هذا الثعلب الذي رباه إنما هو (واويه) إي أنثى وليس (واوي) فحل- ذكر..!!
فقد اتصل بي الشيخ عاجلاً لتدارس هذا الاكتشاف المفاجئ... وبعدها مباشرة زارني الحنفي ومعه (الواويه) وقال لي: ابو شيماء سوي جميل علي وعليها وأشر بيده للحيوان وسارع أخويه لتزويجها..!!
قلت له: أنا يا شيخنا؟
اجابني: نعم أنت وتحصل بيها ثواب واجر..!
قلت: كيف..؟
قال: انتم أمانة بغداد أليس لديكم حديقة مالت احواويين بحديقة الزوراء ..
اجبته: نعم لدينا..
قال: احضر سيارتك (البيكب) من فضلك لننقل الواويه إلى حديقة الحواويين مالتكم ونزوجها هناك...
لم يكن أمامي من وسيلة أخرى إلا التسليم بوجهة نظر الشيخ الحنفي، وفعلاً نقلنا الواوية من سيارة التاكسي التي جاء بها الشيخ لي في دائرتي الحكومية في حديقة الزوراء إلى السيارة الحكومية التي اقودها، وذهبنا إلى هناك وكأننا (زوافيف) لعروس.. وفعلاً فقد استقبلنا مدير حديقة حيوانات الزوراء الطبيب البيطري الدكتور عادل، مرحباً بفضيلة الشيخ وبي.. ولاحظت أن مدير الحديقة قد أصابه الاندهاش لهذه الحكاية الطريفة التي لم يتوقعها من الشيخ..
ورغم هذا فقد أجاب: تتدلل شيخنا ومثل متريد، والآن جدامك راح انهدهه على ذاك القطيع من الواوية وما يبقى إلا خاطرك طيب...!!!
هذا غيض من فيض اهتمامات العلامة الشيخ المرحوم جلال الحنفي، وهناك مواقف وحكايات عن الشيخ وهواياته ما يؤلف منها وعنها كتاب طريف...

الشيخ الحنفي, عادل العرداوي

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white