ما لا يرويه التاريخ/ شخصيتان في الذاكرة الشعبية

ما لا يرويه التاريخ/ شخصيتان في الذاكرة الشعبية

نوال جويد

الفارس أبو الغمسي
أبو الغمسي هو فارس الخزاعل والقائد في جيش الشيخ حمد آل حمود في صراعه ضد السلطة العثمانية وأكثر الحملات والمواجهات بين الجيش ورجال الشيخ حمد آل حمود هي بقيادة فارسها أبو الغمسي.
وله مواقف وقصص من البطولة حفظتها لنا الذاكرة الشعبية عن هذا الرجل الفارس الشاعر، وهو ابن عم الشيخ حمد آل حمود.
ومن المواقف القتالية التي عرفت عنه ما قيل عن أن الخزاعل كان لديهن طريقة وخطة في القتال، وهي أن يضعوا الهور خلف ظهورهم ويعملوا "طوفا" حاجزا من الطين يستتر خلفه الرجال، وعندما ينسحب الجيش العثماني يقومون بزراعة الشلب في حافات الهور، وفي إحدى المعارك والاستعداد لمقاتلة الاتراك طلب الشيخ حمد آل حمود من الرجال بناء "طوف" بطول عشرة أمتار لكل مقاتل، وأعطى أبا الغمسي حصته، والكل بنى الطوف ماعدا أبي الغمسي لانشغاله بترتيب الصفوف للقتال، فقال الشيخ حمد ضاحكاً وممازحاً أبا الغمسي.
-عود يسدها بحصانه
لأن أبا الغمسي كان يركب حصاناً أبيض
فأجابه أبو الغمسي
-اي وراسك إلا أسدها بحصاني
وبالفعل هجم الأتراك واستطاعوا عبور وتسلق بعض الطوف من عدة أماكن لكنهم لم يستطيعوا العبور من جهة أبي الغمسي. وهذه الأحداث حصلت في ثورة الخزاعل سنة 1765.
والحديث عن أبي الغمسي مهم لأنه شاعر ذاع صيته في زمانه، وهو الشاعر الذي حجز مكانا مهما في ذاكرة عشائر ووجدان أهل الجنوب، فقد اشتهرت أشعاره وحكاياته على مدى ثلاثة قرون. وكان الشاعر أبو الغمسي لا يتوانى عن قول غرامياته أو تشببه بالنساء بكل صراحة كونه ابن عم شيخ الخزاعل، فضلا عن كونه شاعرا له حضور طاغٍ بين شعراء ذلك الوقت يترقب شعره النساء والرجال.
وقد ابتدع لونا شعريا سمي (البو معنه) وصار يتغنى به الناس في الأعراس والمناسبات لجماله حتى أنه من شدة اشتهار هذا النوع من الشعر سمت النساء في ذلك الوقت أحد الحلي باسم (البو معنه).
ولذكر بعض أبياته الشعرية:
أبو معنه وعين مشدود الفكر
ومن تطب للبيت زالت كل فكر
بيهن تعاون رجلها أعلى الفكر
وبيهن تجيب الفكر وتعاونه
........
يا حمد خيل الصبابة برهن
ما يعرفن هورهن من برهن
أم العلا بالسيف ما هي بالرهن
غصبن على الباشا يودي كركنه
.....
كرمطوهن بالمطارج والبطن
ابديرة العدوان خاطن والبطن
لا تكولش خيل أبو فدعم بطن
لحكن الديان واستافن منه
........
لا تغرك بالمنجم والمغر
وينجسر خيالها بأول مغر
لو ردت شروه الك وأنت المغر
جاوره واسأل عليه وفرزنه
......
وقد حصلت مع الشاعر أبي الغمسي حادثه في أيام الحصاد والنيسانية، وهو تولعه بإحدى الناگولات.. لم يستطع الشاعر أبو الغمسي السيطرة على وقاره وامساك لسانه الذرب، ومشاعره الفياضة إزاء إحدى (ناگولاته) فهو الشاعر الفحل في الشجاعة والرهيف جدا في النساء وفي النساء الجميلات على وجه التحديد، ففي يوم من الأيام جاءت وحفته عن غير قصد، وهي تحمل كمية كبيرة من السنابل على رأسها (كارة) بالكاد تثبتها بكلتا يديها.. وقد أفلتت خصلات فاحمة من شعرها وتناثرت على خدها الحنطي المائل للبياض، فاستبد به الهوى وتملكه الشوق، فمد يده إلى (زلفها)خصلة شعرها النافرة، فتنحت عنه بعيدا بحركة مفاجئة ورمت (كارتها) مبتعدة عنه، فشعر بخجل قال على أثره:
لابسه العسجد وخصر الخلَ خل
وفوگ مجرى الماي شدت خلَ خل
جيت اكض الزلف گالت خلَ خل
إشلون اخلي الزلف وحياتي منه
لم تلتفت لما قال، ولكنه كان مصرا على أن يفرغ حمولة أشواقه فقال:
لا بسه الشـاگر وگالبته گلب
يا بعد جـوز الچلاوي والگلب
الما تشوفه العين يسلاه الگلب
ولو سلاه الگلب چيف اسلاه انه
وأمعانا في الغزل وخروجا عن اللياقة ربما في محاولة واضحة للتملص عن دائرة خجله، أو إصرارا على اسماع مخدومته كل ما يعتمل في داخله.
يا خشيف الواردة بشاطي الحلال
وشاده على الراس چفية حلال
آه وا ويلاه من شافچ حـلال
مصة إرياگچ لعيش ابها سنه
وتسلقت الشمس الأفق الشرقي وجاءت زوجته بالفطور، حاملة على رأسها طبقا تتكدس فيه أرغفة الحنطة الحارة المخبوزة تواً، وصحون الزبدة والدهن، لقد جرت العادة أن يكون فطور(الناكولات ) و(الدواويس) على حساب صاحب الأرض، فسمعت المرأة وهي التي تعرف رهافة ورقة قلب أبو الغمسي، أبيات الغزل التي كان يمطرها على الصبية التي كانت تسمعها بقليل من الحياء والكثير من الفخر والسعادة، فهذا أبو الغمسي وغدا ستشتهر وتذيع أشعاره فيها، ولكن الزوجة الغيورة والتي تزوجها أبو الغمسي بعد قصة حب طويلة، قطعت عليهم خلوتهم، وهرعت غاضبة ومهتاجة تتقادح شررا وتقول شعرا على طريقة شعره أو طوره المسمى أبو معنه، ربما لتثأر لنفسها وتضع حدا لمجون زوجها وروحه الخضراء، أو ربما كانت تتحدث عن أمر حقيقي، إذ قالت:
ريت ربك يا غميسي بيدرك
ليش مشيك كل زمانك بيه درك
يلتحوف الناس حافوا بيدرك
لا يعطرونه ويفلسـونك منه
فصدم أبو الغمسي من كلامها الذي كان يعني أن هناك من طرق بابها باب زوجته، وهو ابن عم الشيخ، وهذا يعني أنه ليس بمنأى عما يفعله ويمارسه هو نفسه، فشعر بألم كبير وندم ليس له حدود، وربما هذا ما دعاه أن يقول هذه الأبيات في أواخر حياته:
امحمله وحماها كلش ثجيل
ولو تحط بكه على جتفها تميل
ان جان حيدر كال مرفوض الدخيل
ابغير شكه بالجحيم ابوتتي
.......
امحمله وحمالها حديد وصخر
والهوى عاصف وهي بغبة بحر
مالها غير ابو الايمة اهل الفخر
وين ابن حيد دفك الحيتي
......
محمله وحمالها جايه ويدك
لا صيام ولا صلاة ولا صدك
انجان حيدر كال مرفوض العلك
تالي تصفه يا زيان لحيتي
*الهامش
• الناكولات: أي النساء اللائي ينقلن الغلة إلى البيادر لغرض دوسها وعزل الحبوب عن سيقانها، وهو عمل تختص به النساء حصرا، فلا يمكن لرجل أن ينقل حمل سنابل على رأسه، فهو مناف للعرف السائد.
• كارة: وهي نقلة كبيرة من السنابل تحملها النساء على الرؤوس وتسمى كارة، ربما لأنها مكورة أو على شكل مكور الهيئة.
• الزلف: خصلة من الشعر تنزل على الصدغ.
• الشاكر: نوع من القماش النسائي.
• حافوا: أي سطوا ليلا، ويخفف أهل القرى من وصف السارق هنا إذ يسموه حواف، لان الكثير من أهل القرى يمارسون السطو الليلي، وكان مقياسا للشجاعة عند الكثيرين، فلا يسمونه لصاً أو سارقاً بل يسموه دواس ليل.
• يعطرونه: يضربونه أو يأخذونه بقوة.
(السيد صروط)
السيد صروط السيد محسن الاسماعيلي
من أعلام السادة في العراق ومن شخصياتها البارزة، ومن الوجوه الاجتماعية المحترمة التي يشار لها بالتقدير والمهابة والاحترام.
يعود نسبه إلى أكابر عشيرة البطاط الموسوية في ميسان، ويتصل نسبه بالإمام الكاظم حسب الوثائق الخطية والنسبية.
ولد عام ١٨٩٤ في منطقة الوادية وهي من توابع قضاء المجر الكبير.
وقد كان على جانب كبير من التدين والالتزام والاستقامة والعدالة. أحبه الناس وهو في العشرين من عمره، عندما اختبروه في الفصول العشائرية حكماً وقاضيا كما يسمى(فريضة).
ويتداول بين الناس أنه إذا دخل نيران معركة عشائرية ينزل المحاربون أسلحتهم وينتظرون كلمته التي هي الفيصل لحل النزاع وإحلال السلام.
وقد لقب السيد صروط (بالعباس الصغير) تيمناً وتشبهاً بالإمام العباس بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، كما كان مضيف السيد صروط هو مضيف البخت والكرم، والذي يعد استراحة للضيوف القادمين إلى الأهوار حيث الكرم والضيافة العربية الأصيلة بأبهى صورها.
وللسيد صروط أصدقاء من خارج الوطن، فقد زاره (كيفن وينغ) مؤلف كتاب (العودة الى الأهوار) كما اعتاد أن يزوره (ماكسويل كالفن) مؤلف قصة(قصبة في مهب الريح) فقد كان مضيفه مفتوحا للجميع.
وقد كتب الرحالة كيفن يونغ (أن الأمان الذي شعرت به في بيت السيد صروط في الأهوار أفضل من الأمان الذي كنت استشعره في بيت والدي).
وهناك الكثير من القصص التي تتكلم عن السيد صروط رجل السلام والتآلف بين الناس ومنها القصة التي يرويها السيد نور الوائلي إذ يقول( إن أحد الأشخاص من العمارة كان عنده مراجعة لطبيب في بغداد، وكان هذا الطبيب من الديانة المسيحية، وعند دخول المراجع إلى عيادة الطبيب لاحظ أن الطبيب يضع صورة عائلته وأولاده على المنضدة، ولاحظ وجود صورة للسيد صروط الاسماعيلي! فاستغرب هذا الشخص وبعد انتهاء الفحص سأل الطبيب عن الصورة:
-هل تعرف لمن هذه الصورة؟
أجابه الطبيب: نعم أعرف أنها للسيد صروط..
وأخبره أن له حكاية وموقف عظيم مع هذه الشخصية..
يقول الطبيب( في بداية تعييني كان يجب أن أباشر في الأقضية والأهوار، فكان تعييني في أهوار العمارة، وبدأت المباشرة لكن كان للأهالي موقف سيء معي بسبب الجهل، وإشاعة أنه أنا مسيحي، ويجب عدم التعامل معي لأنه حرام ويدنس طهارتهم، فابتعد الناس عني لدرجة أنه الشخص يموت ولا يدخل عيادتي وحتى الطعام لا يبيعونه لي ولا يقتربون مني. فما كان مني إلا أن اتوجه للسيد صروط بعد أن نصحني بعض الأصدقاء، لأنه الوحيد القادر على مساعدتي وتغيير تفكيرهم.. بعد أن وصلت وشرحت قصتي طمأنني وأخبرني أن أحضر في الغد لأنه عنده ضيوف، وأنا مدعو على الغداء معهم.
وفي الصباح حضرت على الموعد ودخلت المضيف وكانت نظرات الاستهجان تلاحقني. نهض السيد صروط وعانقني وطلب مني الجلوس بقربه. وكانت الأنظار متوجهه صوبي والسيد يلاطفني بحديثه، وبعد أن أحضروا الطعام طلب مني أن أمد يدي وآكل، وبعد أن أمسكت لقمة الطعام أمسك السيد يدي ووضع اللقمة في فمه. كل هذا والناس تشاهد ما يفعل السيد صروط.
يقول الطبيب: بعد هذا الموقف تغير تعامل الناس معي وأصبحوا يحضرون للعيادة للعلاج وللتبرك، فهذه اليد هي التي أطعمت سيد صروط.
وهذه الحكاية تدل على سعي السيد صروط على إشاعة المحبة والسلام والتعايش السلمي بين كل الطوائف والأديان وكل البشر.
ونذكر قصة أخرى لأهمية هذا الرجل ويرويها لنا حفيده السيد فيصل السيد طاهر السيد صروط يقول إن هذه الحادثة حصلت في الأربعينات..
يقول حدثت معركة بين شيخ البو محمد (مجيد الخليفة) وبين (حجي محمد بن سلمان بن غيلان) ابن فريضة البو عبود وشيخ البو علي. كانت معركة كبيرة عجزت التدخلات الحكومية والعشائرية عن إيقاف المعركة، وبعد أن استنفذوا كل الوسائل لجأوا إلى السيد صروط لحل الخلاف وإيقاف نزيف الدم، وقد كان يفترض أن يتدخل السيد منذ البداية لكنه في تلك الفترة كان مريضا ووضعه الصحي كان صعبا، فقد كان مصابا بالرمد، وقد منعه الطبيب من الخروج.
لكن المعركة تطورت سريعا حيث قتل خلالها من الصباح حتى المساء خمس وسبعون شخصا، فوصل الخبر إلى السيد صروط وأن المعركة مستمرة، فكان من الضروري تدخله، وكان الجو حار جداً وتوسط السيد المعركة بحيث المقاتلين من الطرفين يشاهدونه وعرفوه لأنه كان واضحا ومعروفا لهم، عند ذلك توقف اطلاق النار وهدأ الرجال.
وذهب السيد إلى شيخ البو علي وأخذ (العطوة) المهلة لحل المشكلة والخلاف بينهم. وأطلق الرجال اهزوجة تمجيداً لموقف السيد:
(اسأل من سيد صروط طفى النار بعوجيته ) أي بعصاه.
وهذه إحدى القصص والمواقف الكثيرة لهذا السيد الكريم وتدخلاته لإحلال السلام لأنه فعلاً رجل السلام
وما زال أولاده وأحفاده على نهجه بالتدخل لحل المشاكل ونشر المحبة والسلام.

نوال جويد

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white