مقاهي الشط في مدن أعالي الفرات
عبد الرحمن جمعة الهيتي
عبير القداح وشذى الطلع ورائحة التراب المشتاق للماء المنساب في عواميد البساتين التي تغرفه النواعير من الفرات, والشعاع الفضي المنبعث من نور البدر والمنعكس على الموجات الرخية المتلاحقة, تتناغم الموسيقى الناعورية مع زقزقة العصافير وهي تأوي إلى أعشاشها بعد أن تأرجحت بين الشجر المورق.
يتخذ شباب ورجال كثر من هذه الأماكن لقاء مع اصدقائهم وزملائهم في أماسي وأحاديث عهد وود, كانت مسرح انطلاقة أفكارهم وتطلعاتهم, بعد أن تتلاقى الرؤى والأهداف, يفترشون أرضًا تعانق النهر, تمنحهم الحيوية, وتضيء لهم سبل الوعي وطرق المعرفة والثقافة.
في هذه الأجواء النقية التي يعطر هواؤها الخمائل, ونسائم تعانق القدّاح وأريج الجلنار والسفرجل والتفاح؛ تسمو النفوس مع بلاغة الحديث، وأصالة التفكير، وصدق الوداد والتآزر؛ فيُضيء الألق والحبور على الوجوه.
في هذه الرياض الجميلة أنشأت مقاهٍ بسيطة في مواد بنائها ومكوناتها لتكون مركز اشعاع سياسي وفكري وثقافي أنارت الدرب للأجيال اللاحقة, في رؤى استُمدت من حضرية المدينة العتيقة هيت.
أول مقاهي الشط في مدينة هيت
بعدما أنزل الشباب في مدينة هيت العلم البريطاني من على سراي المدينة... مزقوه وداسوا عليه بأقدامهم, سمع المحتل بهذه العملية التي قام بها أبناء هيت وقت ذاك، فأسس الإنكليز مكتبة الإرشاد، وجاءوا بالمجلات المصرية واللبنانية من باب إلهاء الشباب عن رفضهم الاحتلال الذي بسط نفوذه على مدينة آمنة مسالمة تعيش على الزراعة ويعمل أهلها بالحجارة والقار والنورة.
وجاء الإنكليز بجهاز راديو ونصبوا سماعة من الخشب على عمود وسط ساحة المدينة, تبث أغانٍ لمطربين عراقيين وبرامج متنوعة الهدف منها اشغال المدينة بأمور تنسيهم الاحتلال وقساوته؛ فأعجب البسطاء بهذه الخشبة المكعبة والتي تتكلم وتغني؟ هل فيها رجل صغير؟
حضر العديد من الناس يستمعون بدهشة لما تقول هذه الخشبة, وجاءوا بأبنائهم يحملونهم على أكتافهم ليرفعونهم إلى هذه العجيبة.
اكتسب شباب المدينة من المجلات بعض الأمور الثقافية, ولم تغرهم ما جاء به الإنكليز, وبدأ يتنامى في نفوسهم شعور وطني, وتعالت الأصوات برفض الاحتلال مما حدا بالإنكليز إلى غلق باب المكتبة, وأصبح الشباب بلا مكان يجمعهم, واتفقوا مع شباب لطيف ظريف على تأسيس مقهى على جرف الفرات في بستان له ناعور نصب على سقيفة سميت هذه المقهى "الشاقوفة" كانت مكاناً طيب المجلس وفير الهواء يتهادى مع أمواج نهر الفرات وظلال أشجار التين والنارنج.
وجاء معهم معلم بغدادي عيّن في مدرسة هيت الأولية, يحمل كتباً ومجلات وأفكاراً, لاقت إقبالًا حسنًا من لدن الشباب الذي يعيش آباؤهم تحت خط الفقر, وهم يعملون في تكسير الحجارة والنورة والقار, ولم تكسبهم سوى القليل من الدراهم!
وحظيت أفكار هذا المعلم لدى الشباب بقبول حسن, وأذكى في نفوسهم الأفكار اليسارية ومطالبة الإنكليز بالخروج من البلاد.
ازداد عدد الشباب المرتادين مقهى الشاقوفة, وفتحت مقهى مجاورة لها, وكان شغل شاغل الشباب مطالعة الكتب والمجلات حتى كانوا يتناوبون الواحد بعد الآخر على قراءة ما يأتي به من يذهب إلى بغداد من كتب أو مجلات أو منشور حزبي.
مجالس الشط تاريخيًا
مدينة هيت تقع غرب العاصمة بغداد, ومن مدن أعالي الفرات كانت محطة استراحة المؤرخين والباحثين والأدباء والشعراء حينما كانوا يقصدون الشام, إذْ كانوا يقيمون في مجالس قرب النواعير الممتدة بين هيت والفرات، يتبادلون فيها الشعر والأدب ويتبادلون المعلومات الجغرافية, ومسالك الطرق والمدن الأكثر أمنًا وأكرم منزلًا.
وكانت قرية صدكة أحدى قرى مدينة هيت مكانًا تجمع الشعراء والأدباء, والإقامة لعدة أيام, فتعقد مجالس أنس وطرب وسمر قرب نواعير "صدكة" ونواعير مدينة هيت وبساتينها الوارفة الظلال؛ وثمَّة لوحة قديمة للفنان يحيى الواسطي في متحف اللوفر الفرنسي تمثل مجالس أنس وطرب قرب ناعورة على الفرات وهي من المنمنمات "مدرسة بغداد للتصوير".
مقاهي الشاقوفة
في الشاقوفة مقهيان أحدهما لعبد الغفور والثانية لإبراهيم العفيدلي, وبين هاتين المقهيين جدار من سعف النخيل، كان عبد الغفور يحمل في يده خمسة استكانات شاي, يتمايل ويتبختر بها منتشيًا بالموسيقى التي يسمعها من الراديو الذي ثبت على جذع نخلة وسط المقهى, يوزع الشايات على رواد المقهى ويترك العنان لأصبعيه يضرب الواحد بالآخر "يدق اصبعتين" لما يغني عبد الصاحب شراد:
دكتور جرحي الأولي عُوفه جرح الجديد عيونك تشوفه
أو عندما يغني حضيري أبو عزيز:
ألعن أبو للسجن لا بوا لنجر بابه
عبد الغفور يمزح ويطرب مع أي من الأغاني التي تبث من الإذاعة العراقية وقت ذاك.
روّاد المقاهي من المعلمين والمدرسين والرجال والشباب المدرك للحياة والمتطلع إلى غدٍ أفضل عيشًا وأكثر رفاهية.
أما مقهى إبراهيم العفيدلي فكانت مجمع الشباب المتطلع إلى ثقافة جديدة وحياة آمنة, كل روّاد المقهى هم قرّاء كتب أدبية وسياسية يقرأون لكتّاب وأدباء من مصر ولبنان, وأدب روسي وفرنسي وأمريكي، لدوستويفسكي وتشيخوف وبلزاك وكافكا, وهمنغواي وبرنادوشو وابن طفيل.
كان مدني صالح يملي على كاتبه هادي نعمان الهيتي مسودة كتابه "الوجود" يعده للطبع, وفي مكان آخر من المقهى يقرأ طراد الكبيسي الشعر والنقد, ويوسف نمر يقرأ لأبي تمام, وغازي كيلاني لنزار قباني, وسبتي الهيتي يقرأ شعراً للمتنبي, وإبراهيم أحمد معجب بأدب بوشكين، وكثير من طلاب المعرفة موزعون على تخوت يقرأون ليوسف السباعي ويوسف إدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله وثلاثية نجيب محفوظ، حتى لا تجد شابًا إلّا وبيده كتاب أو مجلة أو صحيفة, ومن لم يحمل كتابًا لم يعد مثقفًا, وعرفت الشاقوفة بأنّها جامعة هيت الثقافية, كان ذلك في أواخر خمسينات القرن الماضي وستينياته.
كان صاحب المقهى أكثر سرورًا بروّاد المقهى ممن يقرأون الكتب ومن يلعب الطاوللي والورق والدومنو، كان مزهواً مرحًا يضحك مع هذا ويعمل مقلبًا مع ذاك, وهو يردد دائمًا:
شفته يمشي عالسده ليرة ومجيدي خده
كان محبًا للمقام العراقي وكذلك كان صيادًا للسمك, فكثير ما كان يقفز مسرعًا إلى "بلم" راسيًا عند جرف المقهى ليصطاد "الشبوط" ويأتي به فرحًا وسط إعجاب الجلّاس.
وفي مقهى الشاقوفة أنشأ الشباب فريقاً رياضياً باسم فريق الهواة وقد شاركوا في سباقات عدة.
مقهى نوري صالح
استأجر نوري صالح أرضًا من بستان مطلة على نهر الفرات, وأقام فيها مقهى واسعة أحاطها بسياج من سعف النخيل, وبنى قاعة كبيرة ليقيم فيها "أوجاغ" لتخدير الشاي وحفظ مستلزمات المقهى, وليكون هذا البناء مقهى دائماً أثناء فصل الشتاء.
ارتاد هذا المقهى شباب كثر من أبناء المدينة ومن طلاب الكليات الذين يدرسون في بغداد والموصل والبصرة, وارتادها معلمون ومدرسون ورجال من أبناء المدينة، أنَّها مقهى تطل على نهر الفرات... تحيطها أشجار ونخيل, يتمتع الجالس في هذه المقهى بالنظر إلى منظر النواعير الدائرة في الجهة الثانية من الفرات وإلى آثار مطاحن الحبوب المائية التي كانت تستخدم سابقًا وتحركها النواعير.
شهدت هذه المقهى نشاطًا سياسيًا وفكريًا, فقد كان روادها من محبي القراءة, كانوا يقرؤون الكتب المختلفة العلوم والفنون, ولاقى روّادها من الشباب اليساري الكثير من الملاحقات الأمنية والمضايقات والمطاردات في عام 1972م وعند بداية حكم البعث, مما حدا بصاحب المقهى أن يغلقها.
يلعب في هذه المقهى في شهر رمضان لعبة "المحيبس" ويحضرها رجال ممن يجيدون هذه اللعبة الشعبية, وكذلك لعبة "الصينية" ،كانت هذه الألعاب الشعبية تلعب ليلًا, وتستمر إلى بعد منصفه.
مقهى النواعير
أفتتح صبحي جميل مقهى قرب النواعير في "قرية قندي"، بنى قاعة كبيرة وساحة واسعة أقام لها سياجاً من الجهة الجنوبية والغربية, وأقام هيكلًا من أغصان الشجر وغطّاه بسعف النخيل المنتظم بشكل جيد.
قصده كثير من رجال المدينة وموظفوها ومدرسون ومعلمون وطلّاب جامعات, أصبحت مركزًا سياحيًا، لاسيما أنها قريبة جدًا من نواعير الفرات الدائرة.
رتّب صاحب المقهى جالي النهر وعمل مدرجات لوضع تخوت مقهاه حتى لامست أرجل روّاد المقهى موجات الفرات الرخية ممن كان يجلس على التخوت القريبة من النواعير لتمتُّع بالموسيقى المنبعثة من الناعور ورذاذ الماء المغمسة بالنسمات الفراتية والداخلة من خلال فتحتي دالية النواعير الحجرية.
كان مقهى صبحي جميل أجمل المقاهي بعد الشاقوفة فقد أنارها بالمصابيح الملونة, وكذلك أنار دالية النواعير بالإنارة الملونة وافتتح بجانبها الشرقي مطعماً صغيراً يقدم بعض المأكولات لزبائن المقهى.
يكتظ المقهى بالحضور عصرًا وليلًا, مقهى ذات مجلس طيب وهواء عليل يُضفي على المقهى جمالًا أخَّاذًا وأُنساً يمنح النفس ألقًا وحسن تفكير.
يسهر الشباب في هذا المقهى حتى بعد منتصف الليل, ينعمون بالهواء الطيب وبالهدوء يسمعون أم كلثوم وهي تشدوا:
والناس على الشط سهروا والقلوب بتميل مع هبوب الهواء
وأغنية الامل وأغنية الأطلال, وأغاني عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وغيرها من الطرب الجميل، يشربون الشاي والحامض والمشروبات الغازية, بقيت المقهى تزهو بالشباب وبالزوار من المدن الأخرى؛ لجمال موقعها وطيب هوائها .
ولما أقيمت الجبهة الوطنية وانضم الحزب الشيوعي لها, وبما أنّ بعض من روّاد المقهى هم من الشباب المنضوي في تنظيمات الحزب الشيوعي, فقد كانت قوى الأمن تطارد هؤلاء الشباب لتفرقهم، وما عادت المقهى تزهو بروادها من الشباب, وبقى من روادها بعض الرجال من المستقلين, حتى أصبحت مقهى مهجورة كئيبة خالية من الحياة, وأغلقت بعد ذلك وأصبحت أرضها خرابًا جرداء.
مقهى النواعير
مقهى النواعير
مقهى صلبوخ
وفي الجهة الثانية من نهر الفرات, حيث معبر مدينة هيت, أقام صلبوخ غرفة من الطين والحجارة وألحق بها "جرداغ" وسباطًا من سعف النخيل يستقبل الفلاحين من أبناء الريف المحيط بمدينة هيت, الذين يأتون بمحاصيلهم الزراعية والحيوانية ويجلسون في هذا المقهى بانتظار عبرة المدينة المعمولة من الخشب والمقيرة بقار هيت, فهؤلاء الفلاحون يضعون محاصيلهم عند جرف الفرات حيث ترسو عنده العبرة؛ لينقلوا محاصيلهم إلى هيت.
وصلبوخ رجلٌ مرح لطيف المعشر مع الفلاحين, وكانوا يحفظون بعض أمتعتهم في مقهاه لما عرفوا صدقه وأمانته، وكان يقدم في مقهاه الشاي والمشروبات الغازية, استمرت هذه المقهى لسنوات عدة .
مقهى شريف عبيد
ويُسمى مقهى الدوارة نسبة إلى النواعير الدائرة في المنطقة الشرقية من المدينة, فيها بساتين نخيل ورمان وتين وخضر, أقتطع هذا الرجل أرضًا من بستان والده المطل على النواعير وبنى عليها قاعة كبيرة نوعًا ما، أحاطها بسياج من سعف النخيل, وأنشأ فيها مقهى جميل ارتاده رجال وشباب من أبناء هيت يشربون الشاي والحامض, ويتمتعون بمنظر الفرات والنخيل والشجر المطل على النهر وينعمون بالنواعير وهي تسكب الماء في سواقٍ لتروي بساتين المنطقة, فيسرحون بأقطارهم مع الموسيقى الناعورية الممزوجة بالأغاني التي تبثها الإذاعة العراقية, أغاني وحيدة خليل وجواد وادي ولميعة توفيق.
كان صاحب المقهى يعمل مسنيات ومدرجات على جرف النهر ليضع عليها تخوت مقهاه ليقترب روّاده من الجرف ويتمتعون بالنظر إلى القمر المطل من بين النخيل في الجهة الثانية من النهر وصيادو السمك يجوبون بزوارقهم الماء.
أُسس هذا المقهى عام 1958م، واستمر سنين عدة, كان يستقبل الشباب من مختلف الأفكار السياسية, منهم اليساري التفكير والرؤى والقومي والبعثي, تجري بينهم حوارات ونقاشات ودية "لا غالب ولا مغلوب" اكتسبوها مما عرفوا من ثقافة في مدارسهم وجامعاتهم في بغداد والموصل والبصرة.
واختلف طلاب المدارس الثانوية مع بعضهم في هذا يمجد الفنان فريد الأطرش ويعتبره فنانًا أصيلًا مُلحنًا ومطربًا, وذاك يقول أنّ عبد الحليم حافظ هو المطرب الأجمل صوتًا وخاصة في أغنية رسالة من تحت الماء.
لم يكن لدى شباب مقهى شريف عبيد اهتمام ثقافي يذكر, كما في مقاهي الشاقوفة ومقاهي الشط الأخرى, سوى أنّ بعض الشباب كان يقرأ للشاعر نزار قباني, ويعتبره خير من كتب القصيدة, والشاعر محمود درويش فهو شاعر المقاومة الفلسطينية, وكان هذا المقهى مقراً لفرق رياضية شعبية لها حضور في الملاعب الهيتية, منها فريق الرسالة وفريق نسور الفداء.
مقهى شريف عبيد
مقهى حميد مظهور
بدوافع سياسية أفتتح حميد مظهور مقهى في الجزء الشمالي من بستان والده المطل على نهر الفرات, عمل سباطًا من سعف النخيل وبنى غرفة صغيرة "أوجاغ" لعمل الشاي وحفظ مستلزمات المقهى.
ارتادها شباب ممن هم في حزب البعث والاتجاه القومي, فقد اتخذوا هذا المقهى مكانًا لاجتماعاتهم اليومية والأسبوعية بعد عام 1963م، ولم تحظَ باستقبال رجال ولا شباب من أبناء المدينة إلّا من أنصار ومؤيدي الجزب وقت ذاك.
بسبب عدم وجود رجل يجيد إدارة المقهى من استقبال لمرتاديها وتقديم ما يلزم تقديمه وخدمة الزبون, أغلقت بعد أن دامت سنين.
مقهى توفيق الباني
وبالقرب من مقهى صلبوخ أقام توفيق الباني "جرداغ" من سعف النخيل على مساحة من أرض بستان وبنى غرفة صغيرة لعمل الشاي وحفظ مستلزمات مقهاه البسيط.
يستقبل هذا المقهى الفلاحين من أبناء القرى وهم يأتون بمحاصيلهم الزراعية من فواكه وخضر ومنتوجات حيوانية إلى مدينة هيت, فقد كانوا يضعون هذه المحاصيل عند جرف النهر مكان مرسى عبرة المدينة, وينتظرون في المقهى حتى تصل, يشربون الشاي, ويتحدثون فيما بينهم أحاديث عن الزراعة والنواعير, وعن أجود البذور, وأحسن المحاصيل, إلى أن ترسى العبرة عند الجرف, فينقلون محاصيلهم إليها, وقد كانت بالقرب من هذا المقهى أسطبل لحمير الفلاحين يودعونها فيه لحين عودتهم من بيع ما جلبوه لمدينة هيت.
مقاهي الشط في مدينة حديثة
تمتدُّ مدينة حديثة الواقعة على ضفة الفرات اليمنى في ماضي تاريخي تليد, أتخذ أبناؤها من مقاهي الشط مكاناً لقضاء الوقت والاستراحة والاستجمام، يتمتعون بمنظر النواعير الدائرة والنخيل الباسقات والشجر المكلل على ضفاف الفرات وبمسنيات البيوت الواقعة في الضفة الثانية, إذ ناحية بروانة, ذات البساتين الغنّاء والشجر المورق والتمور الجيدة.
كان رجال وشباب مدينة حديثة يقصدون مقاهي الشط التي تقام صيفًا وتغلق شتاءً بسبب عدم وجود أبنية لهذه المقاهي.
يقصدها الرجال يتحدثون أحاديث عن البناء والزراعة والنهر والصيد وأحاديث اجتماعية مختلفة، أما الشباب فأنّهم يتحدثون بمواضيع سياسية وفكرية, فالكثير منهم منتمون لحزب البعث الذي استطاع كسب أعداد من شباب حديثة, هؤلاء الشباب نشيطو العمل في كسب فتيان من أبناء المدينة, ويقرأون أدبيات ومنشورات حزب البعث, كما أنّ بعض هواة القراءة يرتادون هذه المقاهي المقامة على جرف النهر يقرأون الكتب الأدبية والشعر والفن, فكان منهم الشاعر كمال الحديثي وطلال سالم الحديثي.
جراديغ مدينة عانات
مدينة عنة هذه المدينة التي ترتبط بمدينة ماري هما أقدم المدن في أعالي الفرات تمتد من خمسة عشر كيلو مترًا بمحاذاة نهر الفرات, إذ تتكئ البيوت على زند الفرات, مدينة فيها بساتين صغيرة تعرف "البقج" ولكل عائلة ميسورة لها بقجة يزرع فيها الفاكهة والخضر المتنوعة, يتبادلون فيما بينهم هذه المحاصيل الزراعية, فمن لا يملك "البامية" يعطيها لجاره ليأخذ "الطماطة", إنّها المعاونة والمساعدة التي تتصف بها هذه المدينة الطيبة بأهلها, وكرم أبنائها ورجالها.
تسقى هذه البقج الزراعية التي تطل على نهر الفرات وتفصلها بيوت المدينة عن شارع مدينة عنة الرئيسي, ويسمى في الغرب منه الطرف الغربي من عنة، والطرف الشرقي الطرف الشرقي, ويتركز كل أبناء عمومة في مكان يسمى هذا المكان بمحلة تلك "أبناء العموم" مثلًا "الكحلي" أو المشهد.
وعند النواعير التي تسقي هذه البقج المتميزة بطيب هوائها المنعش الرطيب صيفًا يقيم شباب من تلك المحلة "جرداغ" من سعف النخيل وسقفه, يأوي إليه أبناؤها صباحاً أو عصرًا, يجلسون على كراسٍ معمولة من عسب سعف النخيل.
هؤلاء الشباب، كما في الجراديغ الأخرى، المقامة عند كل دالية نواعير يتحدثون بأحاديث اجتماعية وفكرية وسياسية.
فهي مكان سمر وأُنس ودراسة, وقراءة للكتب الأدبية والسياسية, كان هؤلاء الشباب يتزاورون بينهم ويتبادلون الآراء الأدبية والسياسية, يتذاكرون دروسهم مع بعضهم.
شغف بعض من شباب مدينة عنه بقراءة الكتب السياسية والأدبية, وبرز منهم في دراسة الكتب اليسارية, ومن المهتمين بالآداب "شجاع العاني" و" يوسف العاني".
مقهى الشط في مدينة راوة
كان عند مدخل مدينة راوة مقهى نصب عند جسر المدينة الحديدي بُنيَ من سعف النخيل بعد أن أقيم له هيكلًا من أغصان الشجر وغلف بسعف النخيل, فيما يعرف بمقهى الجرداغ.
هذا المقهى الصيفي يأوي إليه رجال وشباب من أبناء مدينة راوة، يتمتعون بالهواء الطيب النقي المُلامس لموجات الفرات, تحيط هذا المقهى من جهته الغربية أشجار التين والعرموط والتفاح, مما يجعله مقهى طيب المجلس مريح المقام.
يرتاده الرجال والشباب يتحدثون بأحاديث الزراعة وصيد الأسماك وما يخص المدينة من تحسن لحياة أبنائها التعليمية والصحية.
وكانت مأوى لشباب مدينة راوة الذي كان جل حديثهم عن الانتماء لحزب البعث والأحزاب السياسية الأخرى.
وأما كثير من الشباب فإنّهم كانوا يقرأون الكتب الأدبية من شعر الشعراء والأدب العربي من قصص وروايات عربية لأدباء من العراق ومصر, وفي مدارس راوة كان بعض المدرسين يكتشفون المواهب الفنية لطلابهم الذين يمتلكون مواهب فنية راقية, فكان منهم الفنان العراقي نوري الراوي وشعراء منهم حامد الراوي.