الأنمَاط الأصليَة في الأدب

دراسة نشرت في مجلة الثقافة الأجنبية العدد الثاني /1983/ السنة الثالثة
الأنمَاط الأصليَة في الأدب
Northrop Frye
ترجمة عن الانكليزية : كوثر الجزائري


ان اي حجم منظم من المعرفة يمكن تعلمه بشكل مندرج . وتظهر التجربة بان هناك ما هو ارتقائي متدرج بشأن تعلم الأدب. وقد ادخلتنا جملتنا الافتتاحية هذه منظم في صعوبات لغوية منذ الآن. الفيزياء هي حجم منظم مــن المعرفة عن الطبيــع، ودارسها يقول انه يتعلم الفيزياء وانه لا يتعلم الطبيعة. والفن كالطبيعة موضوع دراسة منهجية ولا بد من تمييزه عن الدراسة نفسها التي هي النقد.
ولذلك من المستحيل "تعلم الادب" : المرء يتعلم شيئا عنه بطريقة معينة ، ولكن ما يتعلمه المرء، عبر ذلك ، هو نقد الأدب ومثل هذه الصعوبة يعرفها المدرسون عند "تدريس الادب" الناشئة في حقيقة كون ذلك غير ممكن : اذ ان " نقد الادب" هو كل ما يمكن تدريسه بصورة مباشرة .. ولذلك ففي الوقت الذي لا يتوقع احد فيه من الادب ان يكون علما فليس هناك ما يمنع ان يكون النقد دراسة منهجية منظمة علميا ولو بشكل جزئي في الاقل، وربما ليس كعلم بحت ومحدد ، وان كانت هذه الجمل تشكل جزءا من "علم الكونيات" المالوف في القرن التاسع عشر الذي لم يعد معنا الآن .. ان النقد يتعامل مع الفنون ، وقد يكون هو نفسه فنا ، لكن هذا لا يعني ان لا يكون منهجيا. واذا كانت دراسة الادب لا بد ان تعد علما من العلوم فهذا لا يعني حرمانها من جماليات الحضارة.
ان النقد بالتأكيد ، كما نجده في المنشورات العلمية ودراسات الباحثين ، يمتلك كل حقائق العلوم . فالادلة تفحص بشكل علمي، والمراجع السابقة تستخدم بشكل عملي، والنصوص تحقق علميا ، علم العروض علمي بتركيبه ، وكذلك علم الصوتيات وعلم اللغة ، ومع ذلك فلدى دراسة هذا النوع من العلم النقدي يشعر الدارس بحركة قوة طاردة تبعده دائما عن الادب ويجد ان الادب وهو الجزء المركزي في تقسيم الانسانيات مترافقا من جانب بالتاريخ ومن الجانب الآخر بالفلسفة .
ان النقد لحد الآن يصنف كأحد الاقسام الفرعية من الادب وبالتالي فان على الدارس أن يعود الى الطار التصور العام للاحداث لدى المؤرخ والى اطار التصور العام للافكار لدى الفيلسوف لكي يكون في ذهنه تنظيما منهجيا للموضوع . حتى العلوم النقدية الموضوعة بمركزية أكثر ، مثل تحقيق النصوص ، تبدو كأنها جزء من "خلفية" تندمج مع التاريخ او مع اي حقل اخر غير ادبي وهنا تتبادر فكرة ان هذه الدراسة النقدية الثانوية قد تكون مرتبطه بنسق متوسع للفهم المنهجي الذي لم يؤسس بعد ولكنه لو اسس فانه سيمنعهم من الابتعاد عن المركز الذي هو الادب نفسه ولو وجد هذا النسق فإن النقد سيكون بالنسبة للفن كالفلسفة بالنسبة للحكمة وكالتاريخ بالنسبة للاحداث الفعلية.
ان معظم المجال المركزي للنقد يشكل في الوقت الحاضر ، وسيبقى بدون شك يشكل دائما مجال التعليق. ولكن المعقبين والمعلقين لديهم القليل من الادراك ، خلافا للباحثين ، بأن هناك مضمارا ما من المضامير العلمية يحتويهم . فهم لكي يزيدوا ايضاح الزاوية التي هم يجدون انفسهم مرتبطين بشكل رئيس بكلمات من التراقيل المسلم بها . ونحن أن حاولنا الحصول على فكرة اكثر شمولا لمعرفة ما يهتم به النقد فاننا نجد انفسنا نهيم على وجودنا وسط رمال متحركة من التعميمات والاحكام الوقورة حول القيم ، وملاحظات تأملية وخطب منمقة عن فعاليات البحث وغير ذلك مما ينتج عن تبني النظرة العامة ولكن هذا الجزء من المجال النقدي مليء بالاراء الزائفة والكلام الطنان دون معنى ، مما لا يحتوي على حقائق ولا على اكاذيب، ومما هو من الواضح موجود بسبب النقد، الذي مثله كمثل الطبيعة تفضل حيزا فيه نفايات على حيز فارغ .
ان اصطلاح "الراي الزائف" قد يتضمن نوعا من موقف منطقي لفيلسوف يؤمن بالفلسفة الوصفية بالنسبة لي ولكني لا اريد الخلط بين رأي ذي قيمة او اهمية مع اخر مبني على الحقيقة : كما لا اريدان ارى ان من= المستحسن خلط دراسة الادب مع تلك الثنائية الانفصامية بين العاطفي الذاتي وبين الموضوعي الوصفي والمتعلقة بجوانب المعنى ، واضعا في الاعتبار ان على المرء ان يهمل هذه الثنائية لكي يخرج بأي معنى ادبي على الاطلاق . انني اقول فقط بان القواعد الاساسية التي يمكن بموجبها تمييز مقولة نقدية ذات اهمية عن اخرى غير ذات معنى او قيمة ليست ذات تعريف واضح . ولذلك فان خطواتنا ف على ما لا معنى له من النقد ، وان الاولى هي نتخلص منه: ذلك الذي يتحدث عن الادب بطريقة لا يمكن ان تساعد في خلق هيكل منهجي للمعرفة. فالاحكام الاخلاقية العرضية لا تنتمي الى النقد بل الى تاريخ الذوق، وتعكس في احسن الاحوال الدوافع الاجتماعية التي وان اللغو والنفسية التي دفعت الى سرعة قولها : وتعتبر كل فيها القيم عاطفية او مستقاة من تحييز ديني او سياسي مسبق وغير قائمة على اساس من التجربة الادبية تعتبر الحكاما عابرة . وان الاحكام العاطفية تقوم عادة على اساس تصنیفات او مقابلات لا وجود لها (مثلا "شكسبير درس الحياة ، ملتون درس الكتب") او تقوم على رد فعل غريزي تجاه شخصية الكاتب. الادبي الذي يجعل شهرة الشعراء ترتفع وتسقط في بورصة وهمية هو نقد زائف . ذلك المستثمر السيد اليوت الذي عاد الآن يشتري ملتون Milton مرة اخرى بعد ان ارخص ثمنه في السوق ، ربما وصل دون Donne الى نروة شهرته سوف تبدا بالتناقص تدريجيا ، وقد يرتفع تنسون Tennyson ولكن اسهم شيلي Shelley لا تزال مقبولة التداول . هذا النوع من النقد لا يمكن ان يكون جزءا من دراسة منهجية ، لان الدراسة المنهجية فقط هي التي تستطيع ان تتقدم : ان ما يتذبذب وما يتارجح او يتفاعل هو فقط حديث الطبقة المترفة.
بعدها نقابل مجموعة اكثر جدية من النقاد تقول: ان بداية النقد تبدا من تأثير الادب في القارىء. اذن لنبق* دراسة الادب منجذبة نحو المركز ولنبق العملية التعليمية - قائمة على اساس التحليل البنائي للعمل الادبي . ان نسيج اي عمل فني عظيم معقد وملتبس ، ولدى فك التعقيدات فان بامكاننا استخدام اي قدر نشاء من التاريخ والفلسفة اذا ابقينا موضوع دراستنا في المركز ، فان ابتعد عن المركز فقد نجد اننا في غمرة توقنا للكتابة عن الادب نسينا كيف نقرأه.
ان الصنف الوحيد في هذا الاتجاه النقدي هو انه صيغ بالدرجة الاولى كنقيض لاتجاه النقد الذي يهتم بخلفية الموضوع ويبعدنا عن النص الادبي نفسه ولذلك فهو ينتهي بنا الى معضلة تشبه معضلة الصراع بين العلاقات الداخلية والخارجية في الفلسفة . ان حل هذه التناقضات لا يتم بالتزام جانب احداها ودحض الاخرى، او باختيار افکار انتقائية بينها وانما بمحاولة تفادي الطريقة "المتعارضة" في طرح المشكلة . ولهذا فان في الصحيح ان المحاولة الاولى في الفهم النقدي عليها ان تتخذ شكل التحليل البلاغي او البنائي لعمل فني ما . ولكن الاتجاه التركيبي الخالص له التحديدات نفسها التي له في علم الحياة (البايولوجي) وهو بحد ذاته وبكل بساطة سلسلة حذرة من التحليلات المرتكزة على وجود الهيكل الادبي، دون تطوير اي ايضاح عن كيفية نشوء هذا الهيكل* وعن ماهية الهياكل التي كانت قريبة منه . ان التحليل البنائي يعود بالبلاغة الى النقد ، ولكننا بحاجة الى اصطلاحات ومفاهيم ادبية جديدة ايضا ومحاولة ایجاد اصطلاحات ادبية مستقاة من البلاغة فقط ليس بامكانها تجنب تعقيد الاصطلاحات البلاغية وتحويلها الى کلام عقیم . اقترح ان ما هو مفقود حاليا في النقد الادبي هو مبدا رابط او نظرية محورية مثل نظرية التطور في علم الحياة ، تنظر الى الظواهر التي تتعامل معها على انها اجزاء من كل. ان مثل هذا المبدأ ولو انه سيحافظ على المنظور المنجذب مركزيا للتحليل البنائى، الا انه سيحاول ان يعطي المنظور نفسه لانواع اخرى من النقد أيضا.
ان المسلمة الاولى في هذه النظرية هي نفسها كما في اي علم اخر : افتراض التماسك التام . ان الافتراض يشير الى العلم ، لا الى ما يتعامل معه . الاعتقاد بوجود نظام في الطبيعة هو استخلاص قائم على امكان ادراك العلوم الطبيعية بالعقل . وان اظهرت العلوم الطبيعية بشكل كامل وتام هذا النظام فانها تكون قد استنفذت موضوعها . والنقد كعلم بالامكان ادراكه عقليا بشكل تام. اما الادب فانه كموضوع لعلم هو كما نعرف لحد الآن منبع لا ينضب للاكتشافات النقدية ، ويمكن ان يستمر حتى لو توقف ظهور أعمال أدبية جديدة . واذا كان هذا صحيحا فان البحث عن مبدا حدي في الادب لغرض عرقلة تطور النقد سيكون محاولة خاطئة . من الاشكال الشائعة لما يسمى بالغائية الفجة هو تأكيد ان الناقد يجب أن لا يبحث في قصيدة عن أكثر مما يفترض باطمئنان أن يكون الشاعر قد ضمنها بشكل واع . وهذا ما يتماشى مع التأكيد القائل بان الظاهرة الطبيعية تتخذ شكلها المعروف لان السماء بحكمتها التي لا تسبر اعطتها هذا الشكل .
بقدر ما يبدو هذا الافتراض بسيطا، فان العلم يحتاج وقتا طويلا لاكتشاف كونه في الحقيقة كيانا من المعرفة قابلا للادراك عقليا. وحتى يقوم العلم بهذا الاكتشاف فانه لا يكون قد ولد بعد كعلم قائم بذاته ، ولكنه يبقى جنينا في جسم موضوع آخر. ان ولادة علم الفيزياء من الفلسفة الطبيعية وعلم الاجتماع من الفلسفة الاخلاقية يصوران هذه العملية . وقد يصح القول ان ان العلوم الحديثة تطورت حسب ترتيب قربها من الرياضيات. وعليه فان الفيزياء وعلم الفلك اتخذا شكليهما الحديثين في عصر النهضة، والكيمياء في الثامن عشر وعلم الحياة في القرن التاسع عشر والعلوم الانسانية في القرن العشرين . اذن ان كان النقد المنهجي يتطور في يومنا هذا فقط فان هذه الحقيقة هي ليست مفارقة تاريخية في الاقل .
نحن الآن نبحث عن اسس تصنيفية تقع في بساطة بين نقطتين تم تحديدهما من قبلنا . أولاهما هي محاولة النقد الاولية في التحليل البنائي للعمل الفني وثانيتهما هي افتراض وجود موضوع هو النقد ، قادر على ان يكون واضحا ومفيدا . بعد ذلك نستطيع التقدم بطريقة استقرائية في التحليل البنائي ونوجد المعلومات التي نجمعها محاولين ان نتبين فيها اتساقا اكبر . او بامكاننا ان نتقدم بطريقة استنتاجية مع النتائج التي تعقب افتراض وحدة النقد . من الواضح بالتأكيد ان ايا من الطريقتين ليس بامكانها العمل الى ما لا نهاية دون الحاجة إلى التصحيح من قبل الاخرى . ان الاستقراء الخالص سيضعنا في متاهات من التخمين الاعتباطي ، والاستنتاج الخالص سيقود الى التقسيم الجامد والتصنيف المبسط للغاية. دعونا الان نحاول بضعة خطوات تجريبية في كل من الاتجاهين مبتدئين بالاتجاه الاستقرائي .
ان وحدة العمل الفني، التي هي أساس التحليل البنائي ، ليست نتيجة ارادة الفنان الخالصة فقط ، لان الفنان هو سببها الفعال فقط : العمل له شكل ولذلك يمتلك نسقا يتحكم في كيانه . أن حقيقة امكان اجراء تغييرات ، وان الشاعر يجري تغييرات لا لانه يحبها اكثر ولكن لانها افضل ، تعني ان القصائد ، كالشعراء ، تولد ولا تصنع . أن مهمة الشاعر هي أن يضع القصيدة باسلم هيئة ممكنة ، فان كانت القصيدة حية فانها تتلهف للتخص منه ، وتصرخ طلبا للانفصال عن ذكرياته وروابطه الخاصة عن رغبته في التعبير عن ذاته ، وعن الحبال السرية وانابيب التغذية التي تربطها بذاته كافة . ويتولى الناقد المهمة حيث تركها الشاعر، وقلما يستطيع النقد أن يستغني عن شيء من السايكولوجية الادبية التي تربط الشاعر بالقصيدة .. وقد يكون جزء من هذا دراسة نفـسية الشاعر وان كان هذا مفيدا بصورة رئيسة في تحليل اسباب فشله في التعبير وتبين الاشياء التي في داخله التي ما تزال عالقة بعمله. والاهم من هذا ان نحل شاعر عالمه الاسطوري الخاص ، وحزمته الطيفية الخاصة به ، او طريقته المتميزة في تشكيل رموزه، دون وعي منه لمعظم ذلك . وفي اعمال ذات شخصيات خاصة بها ، كالمسرحيات والروايات، فان الدراسة النفسية ذاتها يمكن ان تمتد الى العلاقات بين الشخصيات ، ولو ان السايكولوجية الادبية قد تحلل تصرفات هذه الشخصيات من وجهة العرف الادبي فقط .
ما تزال امامنا مشكلة نسق القصيدة الذي يتحكم في كيان القصيدة ، وهي مشكله متشابكة بعمق مع مشكلة الانواع الادبية Genres . نحن لا نستطيع. ان نقول الكثير عن الانواع الادبية لان النقد لا يعرف الكثير عنها. ان جهودا نقدية كثيرة مبذولة للتعرف على كلمات مثل "رواية" و "ملحمة" تثير الاهتمام بصورة رئيسية لكونها امثلة في سيكولوجية الاشاعة . هناك على كل حال مفهومان عن النوع الادبي واضحا الخطا، ولما كانا على طرفي نقيض ، فان الحقيقة لا بد ان تكون في مكان ما بينهما، احدهما هو المفهوم الاقلاطوني الزائف للانواع القائل بانها موجودة من قبل الخلق وبشكل مستقل عنه ، مما يخلط بينها وبين مجرد تقاليد الشكل مثل السونيتة Sonnet (القصيدة ذات ١٤ بيتا) والاخر هو المفهوم البايولوجي الزائف للانواع على انها اجناسا تتطور ، الذي يظهر في الكثير من الدراسات الشاملة عن تطور هذا الشكل او ذاك.
بعد ذلك نسال عن اصل النوع الادبي ، ونتوجه قبل كل شيء نحو الظروف الاجتماعية ومتطلبات الحضارة التي انتجته - وبعبارة اخرى الى السبب المادي للعمل الفني . وهذا يقودنا الى التاريخ الادبي ، الذي يختلف عن التاريخ الاعتيادي ذلك ان تقسيماته الخاوية مثل قوطي Gothic باروكي Baroque رومانتيكي Romantic وما اشبه هي تقسيمات حضارية ذات فائدة قليلة للمؤرخ الاعتيادي . ان اغلب التاريخ الادبي لا يتعدى هذه التقسيمات ، لكننا مع ذلك نعرف عنه اكثر مما نعرف عن اغلب الدراسات النقدية . ان المؤرخ يعامل الادب والفلسفة بصورة تاريخية ، والفيلسوف يعامل الادب الادب والفلسفة بصورة فلسفية ، وما يسمى بتاريخ الفكر يحدد بداية محاولة للتعامل مع التاريخ والفلسفة من وجهة نظر نقد مستقل ذاتيا.
اننا نشعر بان هناك ما هو ناقص . نحن نقول ان لكل شاعر تشكيله المتميز لصوره الشعرية ، وهناك بالتأكيد مشاكل نقدية في هذا الامر اكبر بكثير من مشاكل السير الذاتية (التراجم ). وكما تبين مقالة اودن Auden الرائعة ( الفيضان المستثار The Enchafed Flood ) فان رمزا مهما كالبحر لا يمكن ان يبقى ضمن شعر شيلي Shelley او كيتس او كولريدج انه ملزم بالاتساع ليشمل شعراء كثيرين كرمز نمطي رئيس في الادب فان كان للنوع الادبي اصل تاريخي فلماذا ينشأ النوع المسرحي من ديانة القرون الوسطى بطريقة مشابهة لتلك التي نشأ بها من الديانة الاغريقية قبل ذلك بقرون؟ هذه مشكلة بنائية اكثر منها مشلكة اصل ، وتوحي باحتمال وجود انماط اصلية للنوع الادبي كما للصور الشعرية.
من الواضح ان النقد لا يستطيع ان يكون منهجيا ما لم تكن هناك خاصية نوعية في الادب تؤهله لان يكون كذلك ، ترتيب في الكلمات متماش مع ترتيب نظام الطبيعة في العلوم الطبيعية . أن النمط الاصلي يجب ان يكون ليس فقط تقسيما موحدا للنقد، وانما هو بذاته جزء من شكل كلي ويقودنا حالا الى السؤال عن اي نوع من انواع الشكل الكلي يمكن للنقد أن يرى في الادب. أن مسحنا للاساليب النقدية قد اوصلنا الى التاريخ الادبي ان مجمل التاريخ الادبي يتحرك مما هو بدائي الى ما هو رفيع ، وهنا نلمح امكانية رؤية الادب كتعقيد لمجموعة معادلات بسيطة ومحددة نسبيا مما يمكن دراسته في الحضارة البدائية . واذا كان هذا صحيحا فان عن النمط الاصلي هو نوع من انواع الانثروبولوجية الادبية ، يهتم بكيفية تأثر الادب بالتقسيمات السابقة للتقسيمات الادبية مثل الطقوس والاسطورة والحكاية الشعبية وندرك بعد ذلك ان الارتباط بين هذه التقسيمات وبين الادب هو ليس باية حال من الاحوال ارتباط انحدار سلالي ، لاننا نجدها تعاود الظهور في أعظم الاعمال الكلاسيكية - في الحقيقة يبدو ان هناك ميلا عاما من جانب الاعمال الكلاسيكية العظيمة للعودة اليها.
ان هذا يتوافق مع شعور عرفناه جميعا، بان دراسة الاعمال الفنية المتوسطة القيمة، مهما كانت نشيطة فانها تبقى بصورة عنيدة شكلا هامشيا وعشوائيا في التجربة النقدية ، في حين يبدو العمل الفني الممتاز والعميق يجذبنا نحو نقطة حيث نستطيع رؤية عدد هائل من الانساق ذات الدلالات القيمة متجمعة هناك . وهنا نبدا بالتساؤل عما اذا كنا لا نستطيع رؤية الادب ، ليس فقط وهو يتعقد في الزمن ، وانما وهو منتشر في فضاء ادراكي منبثق من مركز غير مرئي.
ان هذه الحركة الارستقراطية باتجاه النمط الاصلي هي كما لو كانت عملية تراجع عن التحليل البنائي ، تشبه عملية تراجعنا عن لوحة فنية ان اردنا تأمل التكوين العام بدلا عن رؤية ضربات الفرشاة . في مشهد حفار القبور في مسرحية "هاملت" على سبيل المثال هناك نسيج لفظي معقد يصعب تحليله يتراوح بين التورية والتلاعب بالالفاظ التي يؤديها المهرج الاول ورقصة الموت المصاحبة لمناجاة هاملت ليوريك "المهرج المتوفى" وهو يحمل جمجمته بيده ، وهذا ما ندرسه في النص. وبخطوة واحدة الى الوراء نجد انفسنا في صحبة جماعة ولسن نايت Wilson Knight وسبرجون Spurgeon من النقاد ونحن نصفي الى امطار مستمرة من الصور الشعرية للفساد والتفسخ. وهنا ايضا، عندما يبدا الحس بمكان هذا المشهد في المسرحية بكاملها يتوضح لنا ، نكون في شبكة من العلاقات النفسية ، تلك التي كانت موضع الاهتمام الرئيس برادلي Bradley . ولكننا نقول بعد كل ذلك باننا ننسى النوع الادبي : ان "هاملت" مسرحية ، ومسرحية من العصر الاليزابيثي وبذلك ناخذ خطوة اخرى الى الوراء منضمين الى مجموعة ستول Stoll وشو Shaw وننظر معهم الى هذا المشهد بمنظار تقليدي على انه جزء من السياق المسرحي . وبخطوة اخرى نستطيع ان تلمح النمط الاصلي للمشهد ، في السعي للموت حيث اعلان البطل حبه بصورة قطعية لاول مرة ، ثم صراعه مع لايرتس ثم الاقرار بحتمية قدره ثم الاتزان المفاجىء لمزاجه التي تؤشر الانتقال الى المشهد الاخير ، كل هذه تتخذ شكلها حول قفزة الى داخل القبر والعودة منه، ذالك القبر الذي يتثائب بشكل غريب فاغرا فاه على المسرح .
في كل مرحلة من مراحل فهم هذا المشهد نحن معتمدون على نوع معين من انواع المعرفة المنظمة لدى الباحثين . نحن نحتاج اولا الى محرر ينظف لنا النص . ثم عالم البلاغة وعالم اللغة ، ثم الى العالم النفساني الادبي . نحن لا نستطيع أن ندرس النوع الادبي دون من المؤرخ الاجتماعي الادبي والفيلسوف الادبي ودارس "تاريخ الفكر" ، كما نحتاج الى عالم الانثروبولوجيا الادبي فيما يتعلق بالنمط الاصلي . ولكنا الان وقد ثبتنا نموذج الاسلوب المركزي للنقد فان كل هذه الاهتمامات تبدو متجهة لتصب في النقد الادبي بدلا من أن ترتد عنه الى عالم النفس والتاريخ وغيرهما . ان العالم الانثروبولوجي الادبي على الاخص . الذي يطارد مصدر اسطورة "هاملت" من المسرحية التي سبقت شكسبير حتى ساكسو ومن ساكسو الى اساطير الطبيعة لا يهرب من شكسبير : انه يدنو من النمط الاصلي الذي اعاد شكسبير خلق المسرحية منه : ان احدى النتائج الثانوية لمنظورنا الجديد هي ان التناقضات بين النقاد ، وتأكيدات ان هذا المدخل النقدي وليس ذاك هو المدخل الصحيح تكشف عن نزعة ملحوظة للذوبان في اللاواقعية. دعونا الان نرى ما نستطيع ان نستخلصه من مساعدة الطرف الاستنتاجي .
بعض الفنون تتحرك في الزمن كالموسيقى ، واخرى يتم تقديمها في الفضـاء (المكان) كالرسوم . وفي كلتا الحالتين المبدا المنظم هو التكرر المتواتر ، الذي يسمى بالايقاع عندما يكون زمنيا، وبالنسق عندما يكون مكانيا. وهكذا نتحدث عن الايقاع في الموسيقى وعن النسق في الرسم ، ولكنا فيما بعد ، ولكي نظهر معرفتنا نستعمل السفسطة ونتكلم عن الايقاع في الرسم والنسق في الموسيقى . بعبارة اخرى ، كل الفنون يمكن ان تفهم زمنيا ومكانيا. ان نص مقطوعة موسيقية يمكن ان يدرس كله مرة واحدة ، والصورة يمكن ان ترى على انها مسار لرقصة معقدة للعين ، اما الادب فانه يبدو في الوسط بين الموسيقى والرسم : كلماته تشكل ايقاعات تقترب من ان تكون تعاقبا موسيقيا للاصوات عند احدى حدوده ، كما تشكل انساقا تقترب من ان تكون رسما هيروغليفيا أو صورة ما عند الحد الاخير . ومحاولة الاقتراب من هذين الحدين قدر الامكان تشكل القدر الرئيس لما يعرف بالكتابة التجريبية .
قد نسمي ايقاع الادب بالسرد القصصي، والنسق، الادراك المقلي المتزامن مع البناء اللفظي والمعنى والدلالة. ونحن نسمع ونصغي الى السرد القصصي . ولكننا عندما ندرك النسق الكامل لكاتب ما فاننا "نرى" ما يعنيه.
ان نقد الادب مكبل بالمغالطة التصويرية حتى اكثر من نقد الرسم. ولهذا السبب نميل لان نفكر بالسرد القصصي على انه تصوير تعاقبي لاحداث من "حياة خارجية" والمعنى على انه انعكاس "لفكرة" خارجية ولو استخدمت الاصطلاحات النقدية بصورة صحيحة فان السرد القصصي لاي مؤلف هو حركته الافقية، ويكون ما يعنيه وحدة الشكل الكاملة . ومثل ذلك فان الصورة الشعرية ليست استنساخا لفظيا لشيء خارجي ، ولكن اية وحدة من وحدات البناء اللفضي ترى على انها جزء من مجمل النسق او ايقاع . وحتى الحروف التي يتهجى المؤلف بها كلماته تشكل جزء من صوره الشعرية ، ولو فقط في حالات خاصة (كما في حالة القافية المبدئية) وتستدعي ملاحظة نقدية . وهكذا يصبح السرد القصصي والمعنى بالتعاقب ، وباستمارة المصطلحات الموسيقية ، السياقات اللحنية والتناغمية للصور الشعرية .
الايقاع ، الحركة المتكررة ، راسخ بعمق في الدورة الطبيعية ، وكل شيء في الطبيعة نظنه يمتلك تشابها جزئيا مع الاعمال الفنية ، كالزهرة او اغنية الطائر ، ينمو نتيجة تزامن عميق بين الكائن الحي وايقاعات بيئية خاصة ايقاع السنة الشمسية . بالنسبة للحيوانات فان بعض تعبيرات التزامن ، مثل رقصات تزاوج الطيور، يمكن ان تسمي طقوسا . لكن في الحياة البشرية يبدو الطقس كانه عميلة طوعية (ومن هنا العامل السحري الكامن فيه) لاسترداد وئام مفقود مع الدورة الطبيعية. لا بد للمزارع أن يحصد محاصيله في وقت معين من السنة ، ولكن بما ان هذا العمل غير مرهون بارادته، فان الحصاد بحد ذاته ليس طقسا على وجه الدقة. ان ما نسميه طقسا هو التعبير المتعمد عن ارادة للتزامن بين الطاقات الانسانية والطاقات الطبيعية في ذلك الوقت الذي ينتج اغاني الحصاد ، وقرابين الحصاد والعادات الشعبية المتعلقة بالحصاد . اذن نحن نستطيع اصل السرد القصصي في الطقس، حيث الطقس هو تتابع زمني لافعال يكون فيها المعنى او القصد الواعي مستترا: وهذا تمكن ملاحظته من قبل المراقب ولكنه محجوب الى حد بعيد عن المشاركين انفسهم. ان منحى الطقس هو باتجاه السرد القصصي الخالص الذي ان وجد، لا بد ان يكون ترديدا تلقائيا وغير واع . ويجب ان نلاحظ أيضا ميل الطقس الدائم لان يصبح موسوعيا . ان كل الأمور المهمة والمتكررة في الطبيعة مثل اليوم ، أوجه القمر الفصول وانقلاب الشمس صيفا وشتاءا وتقلبات الحياة العصيبة منذ الولادة وحتى الموت ، تجعل الطقوس تلتصق بها ، كما ان اغلب الديانات العليا لها نظام محدد وكامل من الطقوس يوحي ، ان امكننا القول مجازا، بكل سلسلة الافعال ذات الاهمية الكامنة في الحياة البشرية .
ان انساق الصور الشعرية ، من الناحية الاخرى ، او المقتطفات ذات الاهمية هي ذات صفة تكهنية في الأصل وتستمد الاهمية التي اشار اليها كاسيرر Cassirer في كتابه "الاسطورة واللغة"، من لحظة الوحي ومضة الادراك الفوري دون أية صلة مباشرة بالزمن . وحتى نحصل على هذه الانساق على شكل امثال ، والغاز ، ووصايا، وحكايات شعبية ايتولوجية يكون قد دخلها قدر لا باس به من عنصر السرد . وهي ايضا ذات ميل موسوعي حيث تقيم بنيانا كاملا من المغزى او المعنى ، أو التعاليم من اجزاء اعتباطية وتجريبية . وكما ان السرد الخالص قد يكون فعلا غير واع ، كذلك المعنى الصرف والخالص قد يكون حالة من الوعي لا يمكن ايصالها بالتعبير الواعي عنها ، لان هذا التواصل بالتعبير يبدأ بانشاء السرد القصصي.
ان الاسطورة هي القوة المركزية المفيدة التي تعطي اهمية النمط الاصلي الى الطقس كما تعطي السرد القصصي ذا النمط الاصلي للتكهن . وعليه فان الاسطورة هي النمط الاصلي ، ولو قد يكون من الملائم ان نقول الاسطورة فقط عند الاشارة الى السرد القصصي او ان نقول النمط الأصلي عند الاشارة الى المعنى او المغزى .. في الدورة الشمسية لليوم، والدورة الفصلية للسنة ، والدورة العضوية للحياة البشرية ، هناك نسق واحد للمغزى ، تبني منه الأسطورة سردا مركزيا حول شخصية هي الى حد ما الشمس ، والى حد ما الخصوبة النباتية ، والى حد ما الاله أو النمط الاصلي من كائن بشري . ان الاهمية الحاسمة لهذه الاسطورة فرضت على نقاء الادب قبل يونك Jung وفريزر Frazer على وجه الخصوص، ولكن الكتب العديدة المتوفرة الان عنها ليست دائما منهجية في عرضها للموضوع. والسبب الذي من اجله اقدم فيما يأتي جدولا باوجهها:
1. وجه الفجر والربيع والولادة : أساطير عن ولادة البطل ، عن عودة الحياة والقيامة ، عن الخلق (ولان الاوجه الاربعة هي دورة كاملة ) عن قهر قوى الظلام والشتاء والموت . الشخصيات الثانوية هنا هي الادب والام النمط الاصلي للرومانسي واغلب الشعر الحماسي والغنائي .
2. وجه الذروة او الاوج والصيف والزواج ، او الابتهاج بالنصر . أساطير التمجيد والتأليه بالزواج المقدس والدخول الى الجنة . الشخصيات الثانوية المرافق والعروس النمط الاصلي للكوميديا ( الملهاة ) والريفي والانشودة الرعوية .
3. وجه الغروب والخريف والموت . اساطير عن السقوط ، والاله الذي يموت ، وعن الموت جراء العنف . وعن التضحية وعن عزلة البطل الشخصيات الثانوية : الخائن وحوريات البحرالغدارة . النمط الاصلي للمأساة والمرثية .
4. وجه الظلام والشتاء والانحلال . اساطير عن انتصار هذه القوى : اساطير عن الطوفان وعن عودة الفوضى وعن هزيمة البطل ، واساطير عن الالهة المدمرة الشخصيات الثانوية : الوحش والساحرة . النمط الاصلي للهجاء ( لاحظ على سبيل المثال خاتمة قصيدة الاسكندر بوب ).
ان ضالة البطل المنشودة ايضا تميل الى استيعاب التراكيب اللفظية التكهنية والمذكورة جزافا ، كما نستطيع أن نرى لدى مراقبتنا فوضى الاساطير الشعبية الناتجة من لحظات الالهام التنبوئية والمتوطدة في السرد الأسطوري عن الالهة المتخصصة . ففي اغلب الديانات العليا اصبح هذا بدوره اسطورة البحث عن الضالة نفسها التي برزت في الطقس ، كما اصبحت اسطورة المسيح البناء السردي لتكهنات اليهودية . ان فيضانا محليا يمكن ان يلد بالصدفة حكاية شعبية ، ولكن المقارنة بين قصص الفيضانات تظهر سرعة تحول مثل هذه القصص لكي تصبح امثلة لاسطورة الانحلال واخيرا فأن ميل الطقس وتجلي الوحي لكي يصبح كل منهما موسوعيا قد تحقق في الحجم المحدد بدقة للاسطورة التي تتألف منها الكتب المقدسة للاديان . وهذه الكتب المقدسة هي بدورها الوثائق الاولى التي يتوجب على النقد الادبي دراستها للحصول على رؤية شاملة لموضوعه . وبعد ان يكون قد فهم بناءها فانه عند ذاك يستطيع ان يتدرج في الانماط الاصلية الى ان يصل الى الأنواع الادبية، وأن يرى كيف تنشا المسرحية من الجانب الطقسي للاسطورة والقصيدة الغنائية من جانب الوحي أو الجانب الشظوي الجزئي ، بينما تستمر الملحمة في حمل البناء الموسوعي المركزي .
ان بعض كلمات التحذير والتشجيع ضرورية قبل ان يكون النقد الأدبي قد اسند حدوده بوضوح الى ركائزها في هذه المجالات- كما ان تبيان كيف ان الانواع الادبية مشتقة من اسطورة البحث عن الضالة هو جزء مهمة الناقد ، لكن الاشتقاق يكون منطقيا ضمن حدود عـــــلــــــــم النقد: اذ ان اسطورة البحث عن الضالة ستؤلف الجزء الاول من اي من كتب النقد المساعدة التي ستكتب في المستقبل على أساس من معرفة نقدية منظمة بما فيـه الكفاية لكي تسمي نفسها " دراسات تمهيدية" او مقدمات او" موجزات " وتبقى مع ذلك قادرة على ان تعيش بمستوى عناوينها اننا فقط عندما نحاول ان نفسر الاشتقاق حسب ترتيبه الزمني نجد انفسنا نكتب قصصا خيالية ونظريات زائفة ما قبل تاريخية عن التعاقد التاريخي للاسطورة . ومرة اخرى ، لان علم النفس وعلم الانسان (الانثروبولوجيا ) علمان متطوران جدا ، والناقد الذي يتعامل مع هذا النوع من المادة مرغم على أن يبدو لبعض الوقت، كهاو متذوق لهذه المواضيع . هذان الوجهان من أوجه النقد هما لحد معين غير متطورين بالمقارنة مع التاريخ الادبي وعلم البيان والسبب هو التطور المتاخر للعلمين المتعلقين به. ولكن سحر كتــاب " الغصن الذهبي" وكتاب يونغ عن رموز الطاقة النفسية المستمدة من الدوافع البايولوجية الأولى للنقاد الادبيين ليس قائما على أساس من هواية التذوق. وانما على حقيقة ان هذين الكتابين هما بالدرجة الاولى دراستان في النقد الادبي و دراستان مهمتان جدا.
على اية حال فان الناقد الذي يدرس مبادئ الشكل الادبي لديه اهتمام مختلف تماما عن اهتمام عالم النفس المنشغل بالحالات الذهنية او عالم الأنثروبولوجي المنشغل بالقوانين والعادات الاجتماعية . لكي نضرب مثلا: ان الاستجابة الذهنية هي الى حد بعيد الانفعال سلبي تجاه السرد القصصي وانفعال ايجابي تجاه المغزى . ومن هذه الحقيقة يطور كتاب روت بندكت RuthBenedict "انساق الحضارة" تمييزا بين الحضارات الأبولونية القائمة على اساس طاعة الطقوس والحضارة الديونيسية المؤسسة على التعرض المتوتر للذهن المتنبيء للحظة تجلي الوحي. قد يميل الناقد الى ان يلاحظ بالاحرى كيف ان الادب الشعبي الذي يروق للكسل الذاتي للذهن غير المدرب أن يضع تاكيدا ثقيلا على قيم السرد ، بينما تنتج محاولة متكلفة لتمزيق الاتصال بين الشاعر وبيئته طراز ريمبو من " الانارة " وطراز جويس من التجليات المنعزلة ، وطراز بودلير من فهم الطبيعة على انها مصدر من مصادر الوحي الالهي . كذلك يظهر في الادب في تطوره من البدائية الى الوعي الذاتي انتقالا لانتباه الشاعر من قيم السرد الى قيم المغزى ، هذا الانتقال للانتباه بكونه الاساس لتمييز شیلر schiller بين الشعر الساذج والشعر الوجداني الرقيق .
ان علاقة النقد بالدين هي اكثر تعقيدا عندما يتعامل كلاهما مع الوثائق نفسها في النقد ، كما في التاريخ ، ما هو سماوي يعامل دائما على انه من صنع الانسان الله بالنسبة للناقد ، سواء وجده في " الفردوس المفقود " او في الانجيل ، هو شخصية في قصة انسانية ، وكل تجليات الوحي بالنسبة للناقد تفسر ، لا بمصطلحات الالغاز عن اله أو شيطان مسيطر ، وانما على انها ظواهر ذهنية مقترنة في اصولها بالاحلام بشكل وثيق . وما ان يثبت هذا حتى يكون من الضروري القول بان ليس من شيء في النقد او الفن يرغم الناقد لاتخاذ مواقف الوعي المتيقظ اعتياديا تجاه الحلم او الاله . فالفن لا يتعامل مع ما هو حقيقي وانما مع ما يمكن تخيله والنقد وان كان لابد له في اخر الامر من ان يمتلك نظرية ما عن امكانية ، التخيل، فلا يمكن تبريره ابدا في محاولته تطوير ، بافتراض كثير او قليل ، اية نظرية عما هو فعلي حقيقي . ولا بد من فهم هذا قبل تبيان نقطتنا الثانية والاخيرة .
لقد عرفنا هوية الاسطورة المركزية في الادب ، في جانبها السردي القصصي مع اسطورة البحث عن الضالة فان رغبنا الان في رؤية هذه الاسطوره المركزية كنسق للمعنى ايضا فلا بد لنا من ان نبدا بعمليات ما دون الوعي حيث ينشأ تجلي الوحي او بعبارة اخرى في الحلم . ان الدورة الانسانية لليقظة ورؤية الحلم تتطابق على نحو وثيق مع الدورة الطبيعية للنور والظلام ، وربما بهذا التطابق تبدو الحياة واسعة الخيال . أن التطابق هو الى حد كبير تناقض : ففي نور النهار يكون الانسان حقا في قبضة الظلام ، وفريسة للاحباط والضعف ! وفي ظلمة الطبيعة تتيقظ النفس القاهرة البطلة .. ومن هنا فان الفن الذي سماه افلاطون حلم العقول اليقظة ، يبدو كانه يتخذ كمبرر نهائي له من حل التناقضات والخلط بين البطل والشمس تحقيق عالم تكون فيه الرغبة الباطنه والظرف الخارجي متطابقين بشدة مع تصور هدف العمل في الحياة الانسانية . وعليه فباصطلاح المغزى، يجب ان تكون الاسطورة المركزية للفن هى رؤيا لنهاية الجهد الاجتماعي للعالم البريء ذي الرغبات المشبعة ، وللمجتمع الإنساني الحر. متى ما فهم هذا فان المكان المتكامل للنقد بين العلوم الاجتماعية الاخرى ( الدراسات الانسانية ) ، في تفسيره وتنظيمه لرؤيا الفنان ، ستكون رؤيته اسهل . في هذه المرحلة نستطيع أن نرى كيف ان المفاهيم الدينية للغاية النهائية للجهود الانسانية كغيرها من المفاهيم وثيقة الصلة بالنقد .
ان اهمية الاله او البطل في الاسطورة تكمن في حقيقة أن مثل هذه الشخصيات، المشكلة في هيئة انسانية ولها مع ذلك قوة اكبر على الطبيعة ، تبني تدريجيا رؤية المجتمع البشري مطلق القدرة وراء طبيعة غير مكترثة . هذا المجتمع هو الذي يدخله البطل دائما عند تمجیده . ان عالم هذا التمجيد يبدا هكذا بالرحيل عن الدورة الرحوية ( حول المحور ) للبحث عن الضالة حيث كل نصر فيها موقت. من هنا فاننا لو نظرنا الى اسطورة البحث عن الضالة كنسق الصور الشعرية ، نرى بحث البطل أولا وقبل كل شيء مرتبطا بامكانية تحقيقه . وهذا يعطينا النسق المركزي النمط الأصلي للصور الشعرية ،ورؤيا البراءة التي ترى العالم بمصطلحات الادراك الانساني التام . انها تتطابق مع وتوجد عادة على شكل رؤيا العالم غير المنهار ، أو الجنة السماوية في الدين . قد نسميها الرؤيا الكوميدية للحياة ، على النقيض من الرؤيا المأساوية ، التي ترى البحث فقط في شكل دورته المقررة المرسومة .
ونختتم بجدول ثان للمحتويات ، سنحاول به آن نبدا بتثبيت النسق المركزي لكل من الرؤيا الكوميدية والرؤيا المأساوية. ان مبدا أساسيا واحدا للنمط الأصلي النقد هو ان الشكل الفردي والشكل العالمي (الشمولي) هما متشابهان . والاسباب معقدة جدا بالنسبة لنا في الوقت الحاضر . نتقدم على اساس لعبة العشرين سؤالا العامة أو أن فضلنا سلسلة الوجود العظمى :
ا - في الرؤيا الكوميدية يكون العالم الانساني مجتمعا او بطلا يمثل اشباع الرغبة لدى القارىء . النمط الأصلي للصور الشعرية لندوة تتبادل فيها الآراء بحرية ، أو لمشاركة وجدانية او روحية ، لنظام معين ، للصداقه او للحب. وفي الرؤيا المأساوية يكون العالم الانساني طغياناً أو فوضى ، او انسانا معزولا او فردا ، والقائد يدير ظهره لاتباعه ، او نجد العملاق المستاسد في قصص الرومانسي ، او البطل المخدوع او المخذول من قبل اعوانه. الزواج او أي اتحاد ذو اهمية ينتمي الى الرؤيا الكوميدية. البغي او الساحرة وغيرها من تشكيلة يونغ Jung للام البغيضة جدا تنتمي الى الرؤيا المأساوية . كل المجتمعات السماوية أو البطولية او الملائكية مما هو فوق - انساني تتبع النسق البشري.
2 - في الرؤيا الكوميدية العالم الحيواني هو مجتمع الحيوانات الاليفة ، عادة قطيع اغنام ، او حملان او احد الطيور اللطيفة ، عادة الحمامة النمط الأصيل للصور الشعرية الرعوية او الريفية . في الرؤيا المأساوية يبدو العالم الحيواني في اشكال وحوش وطيور مفترسة ، ذئاب وطيور جارحة ، افاع ووحوش كالتنين وما أشبه.
3 - في الرؤيا الكوميدية عالم الخضرة هو حديقة ، بستان ، او متنزه ، او شجرة الحياة او الوردة أو زهرة اللوتس. النمط الأصلي للصور الشعرية للوداعة المثالية البسيطة (كما في اركاديا) او عالم مارفيل الاخضر او غابات شكسبير في الكومديات. في الرؤيا الماساوية هناك غابة مشؤومة مخيفة كتلك التي في كوموس ( قصيدة ملتون ) او في الجحيم لدانتي او في الارض المهملة او البراري الموحشة او شجرة الموت .
4. في الرؤيا الكوميدية عالم المعادن هو مدينة او بناية واحدة او معبد او حجر واحد عادة ثمين ومتوهج - في الواقع السلسلة الكوميدية برمتها يمكن تصورها متوهجة نارية مضيئة خصوصا الشجرة . النمط الاصلي للصور الشعرية الهندسية : القبة السماوية المضاءة بالنجوم تنتمي لما سلف . في الرؤيا الماساوية العالم المعدني يرى في اشكال صحاری ، صخور وخرائب ، او في صور هندسية مخيفة وترمز للموت مثل الصليب.
5- في الرؤيا الكوميدية العالم الذي لم يتطور بعد بالشكل المطلوب هو تقليديا نهر باربعة اوجه ، وهذا ما اثر في الصور الشعرية لعصر النهضة المتعلقة بالجسم المعتدل بمزاجاته الاربعة في الرؤيا المأساوية هذا العالم يصبح عادة بحرا حيث ان اسطورة السرد القصصي للانحلال غالبا ما تكون اسطورة الطوفان . ان التركيب المتألف من صور البحر والوحش يعطينا الوحش البحري الضخم والرهيب اللوفياثان Leviathan وما يشبهه من الوحوش التي تعيش في الماء.
وتنطبق على جدول مثل هذا بادي الوضوح مجموعات منوعة كبيرة واشكال من الصور الرمزية الشعرية التي يمكن العثور عليها في الادب . فقصيدة ييتس "الابحار الى بيزنطة" ، لكي ناخذ مثالا شهيرا كيفما اتفق للرؤيا الهزلية ، فيها المدينة، والشجرة، والطير، ومجتمع الحكماء والحلزون الهندسي والانفصال عن عالم الدورة التامة او الحلقة . وبالطبع فان السياق العام الكوميدي أو الماساوي فقط هو الذي يحدد تفسير اي رمز: وهذا واضح بالنسبة للنمط الأصلي المحايد نسبيا كالجزيرة التي قد تكون جزيرة بروسبرر (كما في مسرحية شكسبير "العاصفة ") او ( جزيرة سيرس- لدى هومر).
ان جداولنا ليست فقط اولية وانما هي مبسطة للغاية تماما مثلما كان سبيلنا في استقراء النمط الأصلي هو مجرد حدس . ان النقطة المهمة هي ليست نواقص اي من المنهجين مأخوذا لوحده ، ولكن حقيقة ان النهجين كما هو واضح سيلتقيان بطريقة ما وفي مكان ما، في الوسط . وان التقيا فان التصميم الاساسي للتطور المنهجي والشامل للنقد قد تم تثبيته.
* ترجم هذا المقال من الكتاب الموسوم
Fables of Indentity
P. P. - 1 – 20
Harbinger Book 1975
لنورثروب فراي الصفحات 7ـ 20

كوثر الجزائري, Northrop Frye, نورثروب فراي

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white