السّيّاب أيقونة لا يمكن تجاوزها في سيرورة الحداثة
السّيّاب أيقونة لا يمكن تجاوزها في سيرورة الحداثة
د درية فرحات*
تظلّ الدّعوة إلى التّجديد قائمة في كلّ عصر وزمان، وما يدعو إلى هذا التّجديد هو متطلّبات العصر، وما يحدث فيه من تغيير في الأفق والتّفكير، وما يحدث من تغيير سياسي يؤثّر في المجتمعات فتكون الدّعوات إلى تجاوز القديم، لكن يبقى أن هناك من لا يمكن تجاوزه، ويظلّ تأثيره بارزًا في ما بعده، ومن هذه الأسماء الشّاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب ، فهو كان وسيظلّ شاعرًا يؤدّي دورًا رياديًا في حركة الشّعر العربيّ، وهو صلة الوصل بين تلك الحقبة وما نشأ من حركات تجديديّة.
وتستند هذه الصّلة إلى كون الشّاعر السيّاب قد تأثّر بمن قبله، ونهل من مشارب متعدِّدة، فهو قد قرأ الأدب العربيّ، وتأثّر بالنّتاج العربيّ الأصيل، فأطلق لقب العمالقة الثّلاثة على الجاحظ والمتنبي والمعرّي، وجاء هذا اللّقب لأنّه تعمّق في فهم نتاجهم، وأخذ منهم الكثير، وفي علاقته بحركة الشّعر العربيّ نراه يأخذ من العروض الخليليّ، وينطلق من هذا التّراث، ليصل إلى التّجديد فهو وإن لم يلتزم بالشّكل الذي خرج به الخليل بن أحمد الفراهيدي، فهو قد التزم بتفعيلات البحور، وقدّم توزيعًا طباعيًّا جديدًا، كما التزم بالوحدة الإيقاعيّة. فبات الشّكل عنده ليس قالبً يحتوي القصيدة، بل إنّ محتوى القصيدة هو الذي يحدّد أبعادها. وتأثر السيّاب بعلي محمود طه وإبراهيم ناجي.
وإذا نهل السيّاب من المشرب الشّرقي فهو قد نهل أيضًا من الغرب، فكان متأثّرًا بالأدب الرّومانسي الأوروبي، وأخذ من الثّقافات العالميّة، واستطاع أن يوظّفها توظيفًا فنّيًّا ناجحًا، فلا يكون مقلّدًا بل يبدع الجديد، فهو وإن انتفع من هذه القراءات لكنّه استطاع أن يخلق شيئًا جديدًا. واطّلع على الأدب الأمريكيّ والشّعر الانجليزي، فأخذ من الشّاعرة إديث سييوبل، وقرأ إليوت ولوركا وأودن، وتأثر بالشّاعر بيرسي بيتش شيلي، وكان شعره ينطلق من هذه القراءات العميقة.
ومن المؤثّرات البارزة في شعره قراءاته للكتب الدّينيّة، والتّاريخيّة، والمصادر المثولوجيّة، فكانت العودة إلى الأساطير التي ظهرت في شعره بشكل كثيف، فعمل على الإسقاط الأسطوريّ على الواقع الاجتماعيّ، ما أتاح لهذه القصائد أن تحرّك الجماهير، وتدفعها إلى التّخلّص من ضياعها وخضوعها إلى السّلطة الحاكمة. وكلّ ذلك أغنى القصيدة العربيّة الحديثة، وأضاف إليها الكثير.
كلّ هذه المؤثّرات دفعت السيّاب إلى أن يكون من دعاة الحداثة في مجالات متعدِّدة: أوّلها الحداثة في المادة، فكانت الأسطورة. وثانيها الحداثة في الشّكل فاستطاع أن يكسر رتابة أوزان الخليل، ويقدّم نموذجًا يناسب قيم الحياة الجديدة. وثالثها الحداثة في اللّغة فتحوّلت كلماته إلى معانٍ مستحدثة تغوص وراء المعنى الحقيقيّ الكامن فيها، وجعل من اللّغة التّراثيّة لغة تساير التّاريخ الحاضر.
ولا تعني هذه الحداثة انقطاع السّياب عن تراثه، بل كان يعي هذا التّراث، وتثاقف بالثّقافة الغربيّة، وهذا ما يؤكد أنّ البناء الحداثيّ الذي قام عليه هو بناء متين وقوي، لن يتخلخل من أوّل هزّة تضربه، وهو ما يجعله قادرًا على أن يكون رائدًا يُحتذى به.
وانطلاقًا مما سبق يمكن القول إنّ السيّاب حظي بالإجماع على تقدير موهبته بعد موته، لهذا فإنّ ما بقي من السيّاب الكثير، وكما تأثّر هو بمن قبله، فقد تأثّر به الكثير، واستطاع أن يكون جسرًا عبرت به الذّائقة العربيّة.
وتأثير السيّاب في الآخرين نلمحه من غزارة الدّراسات التي تمحورت حول شعره، ومن أقوال النّقاد والشّعراء الذين جاءوا بعده، فيعترف صلاح عبد الصّبور بريادته للشّعر، إذ يقول "بدر شاكر السيّاب حين ينجلي تراب المعاصرة وتنافس الأحياء، سيشرق اسمه في حقل الشّعر العربيّ الحديث. فهو أحقُّنا نحن الشّعراء المحدثين بريادة الشّعر"، ويصفه أحمد عبدالمعطي حجازي بأنه "أعظم شاعر من شعراء المدرسة الجديدة ترك لنا تراثًا من القصائد يفوق من ناحيتي الكم والكيف ما أنتجه أي شاعر آخر".
ويُقرّ أدونيس بجدّة شعر السيّاب، على الرّغم من أنّ تجربته في الشّكل ما زالت ناقصة، فيقول "عالم الشّكل هو عالم تحوّلات غير أنّ تجربة الشّكل عند السيّاب لم تبلغ استقلالها الكامل. لقد كانت طاقة مشدودة إلى الوراء.. ولكن هذا لا يعني أن شعر السيّاب ليس جديداً، إنه طليعة الجدة في شعرنا وهذه الجدة عميقة أصيلة".
أمّا محمود درويش فيقول "إنّ قصيدته استطاعت أكثر من سواها ترسيخ شرعيّة الشّعر الحديث في ذائقة القارئ، وفي وعيه الثّقافيّ باستجابتها إلى شروط تجديد لا تسبّب الاغتراب ولا القطيعة مع تاريخها"، ويظهر جليًّا تأثر محمود درويش بالسّيّاب عبر قصيدته "أتذكّر السيّاب" من ديوانه "لا تعتذر عمّا فعلت" :
أتذكّر السيّاب… إنّ الشّعر يولد في العراق
فكُنْ عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي
هو اعتراف من محمود درويش بأنّ الشّعر منبعه العراق، ولم يكن ذلك إلّا بعد أن قرأ السيّاب، ورأى في شعره الحداثة من دون القطيعة عن التّراث، ويختم قصيدته بإعادة نداء السيّاب للعراق:
أتذكّرُ السيّاب... إنَّ الشّعر تجربَةٌ ومنفى،
توأمان ونحن لم نحلُمْ بأكثر من
حياة كالحياةِ، وأن نموت على طريقتنا :
"عِراقُ
عراقُ
ليس سوى العراقْ...".
إنّ درويش في قصيدته هذه التي قالها في العام 2004 يؤكّد بأنّ موطن الشّعر هو في العراق خصوصًا لوجود شعر السيّاب، وفي ذلك إعلاء من نتاج السيّاب.
والشّاعر محمد علي شمس الدّين يبحث في قصيدة "النّهر والموت"، كيف أن السيّاب استطاع أن يحوّل نهرًا يسير في جغرافيا الأرض إلى نهر يسير في جغرافيا الحياة والموت وهذا هو الشّعر وهذا ما يهمه، ويرى بأنّه كلّما قرأنا القصيدة نصير من الغواصين الباحثين عن لؤلؤ السيّاب. ويقول شمس الدّين إنّنا "نحن أبناء بدر شاكر السيّاب "، وفي هذا القول اعتراف من شاعر كبير بتأثير الشّاعر عليه، مع ما في الـ "نحن" من إشارة إلى التّعبير عن الشّعراء جميعهم.
ولم يكن موقف الشّاعر شوقي بزيع بعيدًا من ذلك، فنراه في كتابه "مسارات الحداثة قراءة في تجارب المؤسّسين في أعمال 25 شاعرًا عربيًّا"، يعطي السيّاب ريادة الشّعر الحرّ، وأنّه الأحقّ بالرّيادة بمعناها العميق الذي لا يجب أن يخضع للمصادفات والأحداث العرضيّة.
وإذا كان هذا حال الشّعراء الذين تربعوا على مجد الشّعر، فإنّ تجربة السيّاب الشّعريّة فتحت الأبواب أمام جيل كبير ليسيروا على نهج تجربته، وقد تأثّر به الشّعراء من العراق وغير العراق، واستطاع السيّاب أن يترك تأثيره العميق في تّجارب شّعريّة كثيرة، ففي العراق سار الشّعراء على نهجه في التّمرد، أو في النّبرة المأساويّة، أو في التّعبير عن القضايا الاجتماعيّة، وفي تتبّعه بفكره السّياسي، أو في السّير على نهج كتابة التّفعيلة.
ولم يقتصر الأمر على شعراء العراق، فنرى السيّاب يشارك شعر أبي القاسم الشّابي بتأثيره في الشّعراء التّونسيين، وتطول لائحة الشّعراء الذين قرأوا شعر السّيّاب، ولعل البارز هو أثر السيّاب في نصوص من الشّعر عُرفت بشعر المناجم نسبة إلى المنطقة في الجنوب الغربي التّونسيّ، فكان الاهتمام بارزًا باللّون الحرّ من حيث الشّكل، والاهتمام بالتّركيز على تصوير معاناة العالم المنجميّ من حيث المادة والمضمون الشّعريّ، ومن أبرز هؤلاء الشّعراء سالم الشّعباني، ومحمد عمّار شعبانيّة، وأحمد المختار الهادي، وحسن بن عبدالله ومحمد العائش القوتي.
وإذا رسمت لنا الأمثلة السّابقة تأثير الشّاعر بدر شاكر السيّاب في الشّعراء، فإنّ بصمته تتجاوز الشّعر إلى الرّواية، فيستوحي الرّوائي الكويتيّ حسين المطوع في روايته "تراب" الشّخصيّة الأساسيّة للرواية من شخصية حفار القبور في قصيدة "حفار القبور" للشاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب ، وهذا يدلّ على عمق تأثير السّيّاب في الإبداع الأدبيّ.
ويمتدّ التّأثير في الفنون الأخرى، فنرى الفنانة الملتزمة أميمة الخليل تستوحي من قصيدة "أنشودة المطر"، سمفونيتها "مطر"، وترى الخليل في أنشودة المطر التي تشكّل فاتحة الحداثة في الشّعر العربيّ، قصيدة تحمل في معانيها أبعادًا إنسانيّة وتطرح اسئلة كونيّة تتعلّق بالبشريّة ومصيرهم.
وتطول الأمثلة والنّماذج على قدرة بدر شاكر السيّاب على التّأثير في المسيرة الأدبيّة، وما هذه الأمثلة إلّا النزر القليل، وهذا يدلّ على صفاء هذه البصمة وصدقها الفنيّ، وأنّه مهما طالت المدّة سيظلّ السيّاب مثالًا يُحتذى به من جيل الشّعراء الجدد، وسيظلّ اسمه محطّة مهمة في الدّراسات والبحوث، وأنّ التّجديد الذي هو سمة الحياة، لن يتجاوز هذا الاسم الذي حفر وجوده على أديم الأدب العربيّ.
* ناقدة وقاصّة وأكاديميّة في الجامعة اللبنانيّة