النهار الذي انطفأ ... المشاعر التي اتقدت قراءة قصيدة (رحل النهار) للسيّاب
النهار الذي انطفأ ... المشاعر التي اتقدت
قراءة قصيدة (رحل النهار) للسيّاب
د. علي حداد
* في البدء :
كتب السياب قصيدته (رحل النهار) ـ على ما ذيلها به من تاريخ ومكان ـ في 27/6/1962م، أيام كان في (بيروت) يسعى للعلاج مما ألم به من مرض مزمن، وقد نشرت في العدد الأول من مجلة (حوار) اللبنانية، ليضعها لاحقاً في مفتتح قصائد ديوانه (منزل الأقنان) الصادر هناك عام 1963م، لتدرج لاحقاً ضمن أعماله الشعرية التي أصدرتها دار العودة في بيروت ـ بجزأين ـ سنة 1971م.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات التي قرأت شعر السياب فإن قصيدة (رحل النهار) لم تنل اجتهادات قرائية خاصة بها وحدها، كما نالته قصائد أخرى، كـ (أنشودة المطر) و(غريب على الخليج) و(النهر والموت) و(في المغرب العربي) وسواها، إذ كان الدائب عنها أن تقرأ في سياق تناول تجربة السياب الشعرية بعامة.
وربما كان وراء (تعليق) القراءة المنفردة لها تصور متواتر أنها تقدم نفسها بوضوح تام، لا يحتاج فيه إلى كثير جهد لاستنطاق مكنونها، فالسياب ـ على ما أجمعت الدراسات التي قاربتها ـ إنما يتحدث فيها عن غربته أيام ذهابه خارج العراق بحثاً عن الشفاء، وتركه وراءه زوجة منتظرة(1)، وقد استعار لذلك تشكيلاً شعرياً ذا طابع ترميزي ممكن الوقوف عند مضامينه بيسر، وهو التصور الذي تغادره هذه الدراسة، ساعية إلى قول سواه.
(1)
انبنت (رحل النهار) ـ التي يمكن عدّها نصاً محدود الطول، إذ لم يتجاوز الستة والخمسين سطراً ـ على حصيلة لفظية كان التكرار سمة بيّنة في كثير من مفرداتها. فإذا تجاوزنا ما كان لمفردتي العنوان من ترديد لافت ـ إذ جاءت مفردة (رحل) لمرات عشر، و(النهار) لسبع عشرة مرة ـ فإن مفردات أخرى سواهما قد تكررت ـ وإن بعدد أقل ـ كمفردتي (الموت) و(أرمدة) اللتين ترددتا لأربع مرات، و: (أفق) و(العواصف) و(سندباد) و(البحر/ البحار) و(الرعود) و(أمطار) اللواتي ترددن ثلاث مرات. وكان للمفردات: (غابات) و(السحب) و(أثمار) و(السفين) و(الزمان) و(ثلج) أن يردن لمرتين. واللافت أن هذا التداول المكرور للمفردات لم ينل من أدائية النص المترابطة ولم يعق تصاعد بثَّه التعبيري. ولعل ذلك متأت من البعد الدرامي الذي نهض عليه وجسد وجهته التعبيرية.
لقد تمثلت مفردات القصيدة مساحة تعبير منشدّة إلى موضوعة النص الكبرى التي احتكمت إلى حقلين دلاليين أساسيين: (الرحيل في البحر) من جهة، و(الانتظار الذي طال أمده) من جهة مقابلة، بما ألزم النص أن يتوافر على مفردات تنتظم في تشكيل ذلكما الحقلين، استمدها ـ في الحقل الأول ـ من بيئة البحر ومظاهر الطبيعة المتماهية معه، ليرد فيه: (البحر/ العواصف/ الرعود/ السفار/ السفين/ آلهة البحار/ قلعة سوداء/ جزر/ الأفق / غابات/ السحب الثقيلة/ الرعود/ الخوف/ الموت). أما الحقل الآخر فيتكيّف في مسارين. الأول، ما يسعى (الصوت) من خلاله إلى تكريس حالة اليأس التي ينشدها، عبر مفردات كان اللافت أن دلالتها القارة فيها (علقت) نهائياً، وحلّ مكانها نقيض لها، بعد إضفاء توصيف يترسم ذلك، فـ (النهار) الذي هو دليل إشراق قد (انطفأت ذبالته)، وأخبرت أرمدته عن خموده. و(الأفق) الذي (توهج دون نار) استحال (غابات من السحب الثقيلة والرعود)، و(خصلات الشعر) الشقراء (شربت أجاج الماء) حتى شابت، و(رسائل الحب) الملتهبة بالمشاعر ابتلت بالماء، وأمست (منطمس بها ألق الوعود).
وكان المسار الآخر خاصاً بـ (المرأة المنتظرة) التي كانت تعيد تشكيل الوقائع من خلال ما يشتجر في دواخلها من مشاعر الشوق وحرقة الانتظار والعمر المضاع، لتندى في حديثها المفردات المخبرة عن ذلك، كقولها :
كاد (الشباب) يزول تنطفئ (الزنابق) في (الخدود)
وقولها:
دعني لآخذ قبضتيك (كماء ثلج) في انهمار
من حيثما وجّهت طرفي (ماء ثلج) في انهمار
في راحتيّ يسيل في (قلبي) يصبّ إلى القرار
يا طالما بهما حلمت (كزهرتين) على (غدير)
تتفتحان على متاهة عزلتي.
(2)
جاءت البنية التركيبية لقصيدة (رحل النهار) منسجمة مع وجهة النص الدلالية، ومتمسكة باشتراطاتها، إذ تداولت القصيدة (أفعالاً) بلغ عددها أربعة وستين فعلاً، وهو ما قارب نسبة الربع من مفرداتها كلها، وتلك نسبة ليست بالقليلة، ولعلها جاءت موافقة لتلك النزعة (الدرامية) البادية السمة في هذه القصيدة، حيث تمور الموجودات من حول المرأة ـ المستكينة إلى انتظارها ـ بالحركة: (النهار يرحل، البحر يصرخ، الشاطئ يحلم، الزمان تمر خطاه ، الزنابق تنطفئ). وكان اللافت في بعض تلك الأفعال ـ وفي مسعى لإشاعة تدافعها الحركي ـ أنها تلاحقت متجاورة في أكثر من جملة:
ـ وجلست تنتظرين عودة سندباد
ـ و جلست تنتظرين هائمة الخواطر
ـ كاد الشباب يزول تنطفئ الزنابق
ـ أترى ستعرف ما سيعرف
ـ دعني لآخذ قبضتيك
ونتيجة لذلك فقد (علقت) الدلالة الأساس لزمانية بعض الأفعال متحولة نحو زمانية أخرى، فـ (جلست) الدال على المضي استحالت زمانيته حضوراً بفعل تجاوره مع (تنتظرين)، ومثله (كاد) الماضي بزمانيته الذي تماهى مع (يزول) فأمسى حاضراً.
وربما بدا حضور تلك الممارسة التي ذهبت بالزمن التركيبي للفعل إلى أقصى التداخل في عبارة (لن يعود) التي جاءت دالة في راهنية تركيبها على المستقبل، ولكنها تؤشر في سياقها إخباراً عن شخص رحل في (الماضي)، ومازال غيابه متواصلاً في (الحاضر)، ولن تتحقق له العودة في (المستقبل).
وقد وردت هذه العبارة ذاتها في أحد أسطر النص على النحو الآتي: (رحل النهار ولن يعود) محدثة تداخلاً في إسنادها التركيبي، جرى من خلاله (تعليق) واحد من طرفي المخبر عنه، فمن منهما الذي (لن يعود): السندباد أم النهار؟.
إن سياق العبارة المعلن يشير إلى النهار، ولكن مقاصد النص كلها تتحدث عن السندباد ورحيله الذي لا عودة منه، أما النهار فلاشك في أن سيعود مع قدوم اليوم اللاحق.
لم ترد لصيغة الأمر في القصيدة سوى أربعة أفعال، إذ تكرر الفعل (فلترحلي) مرتين. أما الفعلان الباقيان فهما: (مدّ) و(دعني)، في حين تقاسمت صيغتا الماضي والحاضر بقية الأفعال على نحو من التساوي، وذلك ما ينبني عليه (تعليق) يكاد يكون تاماً للأسلوب الإنشائي في القصيدة لصالح الأسلوب الخبري. ومرجع ذلك إلى أن وقائع النص جاءت على لسان (الصوت) الذي مدّ بصر معرفته كي تخبر تلك المرأة المنتظرة بتفصيلاتها.
مع تلك الفاعلية الحركية التي كثيراً ما تمثلها النص فإن سياق حركته كان يعلق (تعليقاً مستعاداً) ـ حدّ توقفه ـ من خلال تكرار ترنيمة خالصة الأسمية، هي:
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود
الموت من أثمارهنّ وبعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهار
وسنجد أن هذه الترنيمة المستعادة في النص قد (علقت) الأفعال من سياقها التركيبي تماماَ، فجاءت أسطرها محتشدة بالأسماء وحدها، مكرسة في ذلك قيماً من المعنى ثابتة الدلالة، ذهبت بعيداً في تشخيص عوالم غارقة في عتمتها وخرابها المقيم.
تداولت قصيدة (رحل النهار) الأسماء بشتى تكويناتها وصيغها، وكانت سمة تعريفها (التعريف) هي السمة المهيمنة على تلك المفردات، فسوى مفردتين هما (فنار) و(غناء) ـ اللتين وردتا بصيغة التنكيرـ كانت المفردات الأخرى مناطة بالتعريف، سواء أكان ذلك بـ (أل التعريف) أم بالإضافة أم بالوصف الذي شمل مفردات أخرى بدت نكرة، ولكنها عرّفت من خلال وصفها، مثل: (أفق) توهّج دون نار/ كـ (زهرتين) على غدير/ (شراع) رنحته العاصفات. وربما كان لذلك صلة بما (للصوت) المهيمن على مسار النص من ثقة بتقولاته.
لعل واحدة من أنصع تكشفات فاعلية (التعليق) في هذا النص هي تلك التي تكرست في تداوله الضمير وتمظهراته فيه. فحين نحيل الممارسات السياقية في النص إلى ما تعود عليه من الضمائر تتبدى لنا هيمنة للضميرين (هو) الذاهب للإخبار عن المذكر الغائب حقيقة، وهو (السندباد)، و(أنتِ) العائد على تلك المرأة المنتظرة. وما سواهما من ضمائر تعود لمسميات أخرى تداولتها القصيدة فقد كانت مضامين إخبارها مكرسة لبيان ما لهذين (الضميرين/ الشخصيتين) من وقائع ومواقف عايشاها.
وكانت حصة الغائب (السندباد) من الإخبار عبر الضمير الأوفر، فغير عائدية كثير من الأفعال على ذلك الغائب استعاد (الصوت) الضمير (هو) ظاهراً في عبارة (هو لن يعود) المكرورة لمرات متعدِّدة، وكأنه كان يسعى للإمعان في تغييب السندباد الذي ذكره باسمه الصريح مرتين، ولكن في سياق التغييب ذاته:
ـ وجلست تنتظرين عودة (سندباد) من السفار
ـ خصلات شعرك لم يصنها (سندباد) من الدمار
لتواجهه هي (بتعليق) ذلك الغياب من خلال استعادة حضوره، ومناداته: (يا سندباد أما تعود؟)، وكأنها قصدت أن تعلي بوجه مخاطبة (الصوت) لها بالضمير المؤنث: (أنتِ) ضمير الذكورة المخاطب (أنتَ) الذاهب نحو السندباد، لائذة بحضوره على لسانها، لـ (تعلق) غيابه الجسدي عنها.
(3)
تأتي أولى مواجهات (المستوى الإيقاعي) في قصيدة (رحل النهار) مع هذه العبارة ذاتها، وهي تعتلي النص عنواناً، وتستبد بسطره الأول، لتواصل حضورها ثم (تعليقها) في أسطر النص اللاحقة إحدى عشرة مرة. وإذا كان لذلك التكرار قيمته في ترسيخ الدلالة فقد استوفت البنية الصوتية ذلك وتلازمت معه، ليس في هذه العبارة وحدها بل في مفردات النص الكثيرة وجمله مارة الذكر. ولعلنا سنستعيد هنا مفردة (النهار)، لا من خلال دلالتها بل بوصفها مفردة تكيّف فيها حضور صوتي باذخ التكرار في القصيدة، عبر ترددها قافية لخمس عشرة مرة ، مثلما فرض الحرف الأخير (الراء) ـ وهو صوت مجهور ومتولد من إحساس بالتفرد والتردد، ـ أصواتيته حين أتى روياً ـ لسبعة وثلاثين سطراً فيها، تناوبت بين الحضور و(التعليق) مع حرف آخر هو (الدال) ـ وهو حرف مجهور أيضاً، ومن حروف (القلقلة). وقد تواتر تنغيمه في أسطر القصيدة خمس عشرة مرة. وستكون المفارقة اللافتة أن كلا الاسمين اللذين يقول النص بغيابهما: (النهار) و(السندباد) قد أسسا لحضورهما الإيقاعي الصائت من خلال تكرار الحرف الأخير لكل منهما (روياً) تداولته القصيدة في أسطرها كلها، مسبوقاً بامتداد صوتي بيّن يتبدى في واحد من حروف المد (الألف والواو والياء) وبتناوب إيقاعي لافت.
جاءت القصيدة في بنائها العروضي على تفعيلة (الكامل)، لتندرج في الحضور المتميز لهذا البحر في شعر السياب، فقد نظم عليه بحدود اثنتين وستين من قصائده.
وإذا كان السياب قد (علق) شكل (الشطرين) تعليقاً نهائياً في بناء قصيدته هذه، وذهب بها إلى شكل (التفعيلة) الذي هو رائده فإن النظام (العروضي) الذي التزم به وأجراها عليه يعيد (تعليق) الأمر ثانية، ليضعنا في سياق من الالتزام الموسيقي المنضبط، إذ تمسك الشاعر بأن ينهي أسطر القصيدة كلها بتفعيلة بحر الكامل المذيلة (متفاعلان)، بما فيها عبارة العنوان (رحل النهار)، لتجاريها في الأمر ذاته عبارة (هو لن يعود) أيضاً. وإذا ما أخذنا بحدّ القافية عند (الفراهيدي) ـ من كونها مساحة صوتية تتمثل في آخر حرف ساكن في البيت إلى أول ساكن يسبقه مع الحرف الذي قبله ـ فإن قوافي القصيدة كلها قد تمثلت ذلك الحدّ الموسيقي، وانتظمت عليه، على الرغم من تبدل حرف (الروي) فيها، كما في هذا المقطع:
رحل النهار (هار)
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهّج دون نار (نار)
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار (فار)
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود (عود)
هو لن يعود (عود)
(4)
يتأمل الدكتور (جلال الخياط) متحقق السياب الشعري فيرى أن من بين أهم ما أنجزه هو"أن المضمون ما عاد لديه سائباً، إنه يرتبط بحدث دائماً... ويمكن أن نصف جمهرة من قصائده بأنها درامية... والنزعة الدرامية عنده قادرة أحياناً أن تحدّ من اندفاع الغنائية وتدفقها"(2).
ولعل قصيدة (رحل النهار) واحدة من مصاديق ذلك عند السياب، إذ لا يمكن النظر إليها على أنها نص غنائي، بل هي نص أكثر من (قصصي)، فيما هي عليه من نزعة درامية طاغية، ذهبت بالغنائية ـ التي احتكمت إليها قصائد السياب الكثيرة الأخرى ـ إلى (التعليق النهائي) التام. وذلك ما يستوجب مقاربتها من منطلق هذه الرؤية، عبر استجلاب متون تلك النزعة الدرامية وعناصرها فيها.
تقوم الواقعة السردية لقصيدة (رحل النهار) ـ وهي تتشكل في (زمانية) محددة (آخر النهار)، ومثلها أخرى مكانية (ساحل البحر) ـ على مجموعة عناصر تتلاقى في تجسيد مسار القص، فهناك (صوت) مهيمن على سياق الحكي يخاطب (امرأة) تجلس عند ساحل البحر منتظرة عودة حبيبها الذي رحل ولم يعد حتى الآن، وقد تخيّر له الشاعر اسم (السندباد)، في نوع من التواصل مع التراث الحكائي لبيئته البصرية، مضفياً عليه شيئاً من وقائع أخرى ـ ستتكشف لاحقاً ـ استمدها من مخزون ثقافي أجاد التواصل معه.
ويبدو ـ في الجانب (المعلّق) من الحكي ـ أن تلك المرأة تصرّ على أن تأتي كل يوم مبكّرة، لتجلس عند الساحل حتى مغيب الشمس بانتظار عودة ذلك الحبيب، ولكنها لم تنل بغيتها، وها هو (الصوت) ـ وقد نفذَ صبره ـ يتجلى صادحاً بالحقيقة التي تصرّ المرأة على عدم تصديقها: إن (سندباها) قد ضاع في غيابات البحر ولن يعود. وأن آخر نهارات انتظارها قد رحل هو أيضاً، وعليها أن تتقبل ذلك وتغادر مكانها ولا تعود إليه مرة أخرى.
استعان السياب بأكثر من شخصية، تكرست الأولى في (السندباد) تلك الشخصية التي توافر عليها الحكي الشعبي في كتاب (ألف ليلة وليلة)، وهو يسرد رحلاته في البحر. أما الثانية فكانت شخصية (أسطورية)، استقى حضورها من تفصيلات رحلة (يولسيس) ـ أو(عوليس) كما يسميه السياب ـ بطل ملحمة (الأوديسة) الذي ضاع في البحر سنين طويلة.
وهكذا سعى الشاعرـ على طريق إنتاج هذه القصيدة ـ إلى استحضار اسم (السندباد)، ولكنه (علق نهائياً) تفصيلات رحلاته، ليورد مكانها بعضاً مما كان للآخر (يولسيس) الذي دلَ على خبره ذكر الزوجة المنتظرة (بنيلوب) الوارد ذكرها في الأسطورة، ولكن الشاعر(علّق) وجودها في القصيدة لصالح الحديث عن السندباد وامرأته المنتظرة.
وحين نرحّل سياقي القص المارين إلى متعلقهما من حياة السياب فسيتبدى لنا أنه يترسم ـ على نحو فني خصيب ـ بعض وقائع حياته في تلك المرحلة التي غادر فيها وطنه وأحبته، و(امرأة) تهيأ له أن يتصورها ستبقى بانتظار عودته من رحلة بحث عن شفاء غير مؤكد.
وإذ نراجع ما احتوته القصيدة من حضور للشخصيات ـ في توصيفها الأجناسي ـ فسيفاجئنا (تعليق) الوجود المادي للشخصيات (المذكّرة)، على الرغم من هيمنة ما يشير إليها: (الصوت / السندباد ـ أو عوليس)، ولكنها كلها مغيّبة بالرحيل أو بغياب الملامح والمشاعر الدالة عليها، ليبقى الوجود الأنثوي (المرأة) وحده الحاضر بمواصفات جسدية وشعورية مدركة.
استثمرت القصيدة ألية (الحوار) على نحو فاعل أبان عن بعض تشكلاته فيها. لقد كان (الصوت) هو المتحدث في مساحة فارهة من النص، يخاطب المرأة التي (تعلق) حضوره عندها نهائياً، فلم توجه خطاباً مباشراً له، على الرغم من قسوة ما كان يخبرها به من وقائع مؤلمة ومحبطة، حتى أنها وحين اضطرت لتفنيد تقولاته راحت تحاججه بـ (سيعود) ـ ذاهبة بها إلى السندباد ـ ملقية إياها بوجهه في حوارية بدت مشدودة إلى حالة من تضاد القناعات بينهما:
ـ سيعود.
ـ لا ...غرق السفين من المحيط إلى القرار
ـ سيعود
ـ لا... حجزته صارخة العواصف في إسار
وسنجد أن ذلك الحوار يسير في خطين زمانيين متضادين، يمثل كل زمن منهما وجهة حديث الشخصية الناطقة به، فحين يذهب صوت المرأة إلى المستقبل: (سيعود) يقوم الصوت (بتعليق) ذلك عبر الحديث في زمانية ماضية: (غرق السفين من المحيط إلى القرار). وهكذا يتواصل تبادل الحديث في مساحة زمانية متناقضة، ومن خلال (التعليق المستعاد) لهما، حيث المرأة المتمسكة بالأمل في عودة غائبها، وحيث (الصوت) الذي يجيبها بـ (لا) متبوعة بتفصيلات تبررها، ويريد بها أن يقنع المرأة التي حين وجدته سادراً في إحباط أملها بعودة سندبادها (علقت) انشغالها بتقولاته، واتجهت نحو دواخلها تستحضر فيها السندباد الغائب، مخاطبة إياه بذلك (المنولوج) الطويل الوارد في القصيدة الذي تستهله بنداء مشوق:
يا سندباد أما تعود؟
كاد الشباب يزول تنطفئ الزنابق في الخدود
فمتى تعود
وإذ ينتابها التعب (يعلق) النص صوتها نهائياً، ولا يبقي إلا ذلك الصوت الذي يكرر لازمته (رحل النهار)، طالباً منها الرحيل، مخبراً إياها أن (البحر متسع وخاو) وأن (لا غناء سوى الهدير)، وما يتراءى لها هو محض تهيؤات سرابية عن (شراع رنحته العاصفات)، وكل ما بقي لها مشاعر يجيش بها فؤادها الذي (يطير فوق سطح الماء يخفق في انتظار).
وعودة إلى سياق السرد في هذه القصيدة فقد لفت الدكتور(عز الدين إسماعيل) الانتباه إلى أن في عبارة (البحر متسع وخاو) ما يخبر عن استدعاء السياب لواقعة سردية من خارج ما تداوله عن (السندباد) و(عوليس)، فقد ذهب هنا إلى حكاية (تريستان وإيزولدة) الألمانية، حين كان (تريستان) ينتظر السفينة التي ستأتي بحبيبته (إيزولدة)، فيسأل تابعه: هل ترى من شراع؟، فيخبره أن لا شيء هناك، فـ (البحر متسع وخاو)(3).
لقد صنع السياب من هذا النسيج الحكائي المتعدد بناء قصيدته السردي الذي (علق) من خلاله النزعة (الغنائية) لصالح نزعة درامية باذخة، فالقصيدة تصلح أن تكون مشهداً مسرحياً تاماً، فهناك البحر الصارخ (بالعواصف والرعود)، والصوت المهيمن على النص، وهو يردد بضجر حاد عبارته (رحل النهار)، ويلقي على مسامع المرأة المنتظرة ما يراه وقائع مؤكدة عن ذلك الحبيب السادر في اللاعودة. وهناك المرأة ذاتها التي تسرِّح بصرها في امتداد البحر، علّه يأتي لها بنـأمة أمل، وحين يمضها الانتظار تطلق عالياً صوتها بالمشاعر المشتجرة في دواخلها (منولوجاً) متوسلاً: (يا سندباد أما تعود؟).
ولنا أن نعدّ الجملة (الغنائية) التي كانت (تعلق) على نحو مكرور:
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود
الموت من أثمارهنّ وبعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهار
هي الحصة الوحيدة التي توقف الفعل الدرامي والحواري في النص، وكأنها تتردد على لسان (كورس) يظهر من مكان ما من جوانب المشهد.
وكان سياق (الحدث) قد شهدت (تعليقات) أخرى مماثلة أوقفت تلاحقه السردي، كـ (تعليق التشبيه) في قوله:
وكأنّ معصمك اليسار
وكأنّ ساعدك اليسار وراء ساعته فنار
في شاطئ للموت يحلم بالسفين على انتظار
حيث أوقف السياق هنا مرتين، كانت الأولى حين (علق) مؤقتاً ما كان بصدده من أمر رحيل السندباد واليأس من عودته. والأخرى الانشغال بـ (التشبيه) الذي (علق) من أجله السرد، ليلتفت إلى المرأة ومعصمها وساعتها، فكأنها كانت تنظر في ساعتها لتحسب الزمن وترقب البحر من أعالي شوقها الذي استحال (فناراً) تطل من أعاليه كما يطل من يرقب السفن العائدة، إلى ساحل البحر الذي ينتظرها بلهفة من يرى فيها حيوية وجوده.
وسوف نكتشف أننا نواجه هنا ـ إلى جانب تعليق الحدث ـ تعليقاً آخر يتمثل في الانتقال من مسار (التناص) الذي يشتغل عليه النص مع الوقائع المستجلبة من الموروث إلى حيث تشكيل راهن بدلالة مفردة (الساعة) التي طوقت معصم المرأة.
وكان هناك (تعليق) آخر لحركة السرد بدا ذو طابع من التأمل الفلسفي لسطوة (الزمن) وفعله:
هيهات أن يقف الزمان، تمر حتى باللحود
خطى الزمان وبالحجار
ولعل حضور مثل هذه (التعليقات) في السياق كانت ضروريةً، كي تستوعب القصيدة مساحة مضافة من تشكيل الرؤية التي كان لابد منها كي لا تنداح في هيمنة سردية مطلقة.
*مكاسب النص الدلالية:
لعل السياب أكثر شاعر عربي حديث استوعبت قصائده جوانب من سيرة حياته، حتى أنه ليمنح متلقي شعره تصورات وافية عما كان له خلالها من مواقف وممارسات ومشاعر ومؤثرات وعي وسلوك أثقلت بها تلك الحياة القصيرة التي لم تتجاوز الثمانية والثلاثين عاماً.
لقد اشتجرت مؤثرات متعدِّدة في تشكيل تلك الوجهة التعبيرية الذاهبة في معظم تمثلها الشعري إلى الذات وما يعتمل فيها وحولها من مؤثرات واستجابات، ولعل حضور (المرأة) ـ التي نقف عند أمرها هنا ـ كان واحداً من بين أشدّ تلك المؤثرات التي عايشتها تجربة السياب الشعرية وانشغلت بها، حضوراً وكشوفات تمثل وتعبير. لقد كانت المرأة ـ طبقاً لقوله مرّة ـ "أكبر حافز دفعني إلى كتابة الشعر"(4).
وإذا كان قد ألحق تلك العبارة بتأكيده أنها خرجت من آفاقه الشعرية بعد ذلك(5)، فلعل وراء هذا الادعاء قناعة آنية أملتها الظروف السياسية والفكرية التي عايشها في تلك المرحلة، إذ بقيت المرأة "الحافز الأثير في شعره حتى آخر لحظة من عمره"(6)؛ لأن معظم مراحل حياته كانت بحثاً عمن تسد فراغ الحرمان عنده منذ أن فقد أمه، وحتى آخر حكاية حب امتلأ بها خياله وجسّدها في شعره، ليهتف صادقاً:(7)
وما من عادتي نكران ماضيّ الذي كانا
ولكن كل من أحببت قبلك ما أحبوني
وهكذا بقى السياب ـ طبقاً لقول (مدني صالح) ـ "يحوم حول المرأة غرضاً "(8)، ولما لم يجد المرأة المنشودة "ظل هذا الحلم ينتظر التحقيق، ولم يجده إلا في حضن الأم ـ الأرض"(9).
(2)
عدّ الدكتور (إحسان عباس) توظيف الأسطورة والرموز في الشعر العربي الحديث "من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثاراً حتى اليوم"(10). وهي في الشعر العراقي ـ طبقاً لما رآه الدكتور (محسن إطيمش) "إحدى الإنجازات المهمة في القصيدة العراقية الحديثة"(11).
ومثلما كان السياب رائد التجربة الشعرية الحديثة في شكلها التفعيلي ـ الذي شاعت له تسميته بـ (الشعر الحر) ـ فقد كانت له الريادة الخصيبة في التعامل مع الأساطير والرموز وتوظيفها في الشعر بتميز لا يدانى، حتى حقّ له أن يقول عن نفسه: "لعلي أول شاعر عربي معاصر بدأ باستعمال الأساطير ليتخذ منها رموزا"(12). وذلك ما يدعمه الدكتور (محسن إطيمش(13) ـ وإن على صعيد الشعر العراقي ـ ذاكراً أن السياب كتب قصيدة اسماها (أهواء) عام 1947م ـ وكان عمره آنذاك واحد وعشرين عاماً ـ وورد فيها هذا البيت:
رآها تغني وراء القطيع كـ (بنلوب) تستمهل العاشقين
واستناداَ على ذلك يقرر: "وقد لا يكون الدارس مخطئاً حين يقول إن هذا البيت هو من أوائل الإشارات إلى رمز أسطوري في حركة الشعر العراقي المعاصر"(14).
وظف السياب في شعره رموزاً كثيرة استمدها من أساطير ووقائع ثقافية وإنسانية، تهيأ لوعيه وذائقته أن تتلقاها وتنسجم ومضامينها. وكان من بينها رموز بعينها ما إن يذكر تداولها في الشعر العربي الحديث حتى يذهب التوثيق بأمرها إلى تجربة السياب الشعرية وورودها فيها وحدها، كرمز السيد المسيح وتموز والسندباد ويولسيس ـ أو(عوليس)، وهي رموز تواتر حضورها عنده حدّ (التوحد) معها(15).
وكان حضور الرمزين الأخيرين ـ السندباد وعوليس ـ في شعره أكثر من سواهما، حتى أنهما أرسيا لديه مساراً من التمثل متعدد الرؤى والصياغات يخبر عن تطور فاعلية توظيفهما عنده، سواء أكان ذلك لكل منهما على حدة أم من خلال تماهيهما في فضاء دلالي واحد(16)، ليستحيل ذلك عنده تمثلاً ترميزياً عالي النضج في المرحلة الأخيرة من حياته التي استبد المرض ورحلة البحث عن الشفاء بكثير من تفصيلاتها ـ "إذ وجد في ظاهرة الغربة والإبحار التي تجمع بينهما صورة لإبحاره الدائم وغربته في سبيل طلب كالمعجزة ـ الشفاء ، فراح يوحد بين ذاته وبينهما، ويعكس ما لقيه من عذاب وألم ومصاعب وحنين من خلالهما"(17).
ولعل اسم السندباد كان أكثر تماساً مع نزوع التمثل عند السياب من (عوليس)، من منطلق "أن صورة ارتحاله الدائم ماثلة أكثر من عوليس في وجدان القارئ العربي"(18)، كما أنه مثله عربي، بل وابن بيئة السياب البصرية ذاتها، فاستحال السياب ـ على ما أوجزه (مدني صالح) ـ "سفينة وبحراً وسندباد"(19).
ولكن المحتوى السردي المناسب الذي يبتغيه لم يكن ليجده في السندباد ورحلاته التي حققت لذلك المغامر غاياته من المتعة والاطلاع والعيش الرغيد، لقد كانت رحلات السياب بحثاً عن علاج يشفيه من الداء الذي ألمّ به، وكان يشعر بأنه تاه في البلدان بحثاّ عنه. ومن هنا كان في جانب من وقائع ما جرى لـ (يولسيس) بطل (الأوديسة) ـ الذي قضت عليه الآلهة أن يتيه في البحر لعشر سنين ـ هو الأقرب إلى التمثل عنده.
(3)
يمكن القول إن قصيدة (رحل النهار) هي التمثل الفني الأكمل نضجاً الذي انتهى إليه السياب في التعامل مع رمزي السندباد وعوليس وإعادة إنتاج مضمون حكايتيهما في متن شعري واحد يخصه ويجد فيه ملاذه الشعوري المناسب.
(علق) السياب ـ من أجل تحقيق أقصى رغبته في التمثل ـ تفصيلات رحلات السندباد التي لا تفي له بغرضه، وأبقى الاسم وحده، مضفياً عليه ما يستمده مما كان لـ (عوليس)، إذ ليس في حكاية الأول ما يشير إلى زوجة منتظرة، فهذا من السرديات المتعلقة بالآخر الذي بقيت زوجته (بنيلوب) ترقب عودته من تلك الرحلة الرهيبة التي عاقبته بها آلهة البحار.
وهنا فإن ما نفترضه من سياق حكائي متسق ومستعاد عن عوليس ورحلته هو أن يشير السياب في هذه القصيدة إلى تلك الزوجة ـ تصريحاُ أو تلميحاً ـ ولكننا لا نجده يذهب إلى ذلك، بل لقد (علقه) نهائياً، حتى أن القصيدة ـ وهي تتمحور حول السندباد والمرأة التي جلست تنتظر عودته ـ لم تقف عند توصيف تلك الصلة بينهما، وذلك ما سنضعه بدأ تيقننا، لنقول: إن خطاب (الصوت) الصادح في القصيدة لم يكن موجهاً لزوجة منتظرة، بل إن تلك الزوجة لم يكن لها من حضور مؤثر في كتابة السيّاب لهذه القصيدة، وسيكون هذا مدار وكدنا في اللاحق من الحديث الذي يستوجب في بدئه الوقوف عند ما كان لزوجته من ذكر في قصائده.
لم يكن السياب قد أشار إلى زوجته في أي من قصائده طيلة السنوات الست الأولى من زواجه. ولعل هذا أمر طبيعي، فهي معه سواء أكان مقيماً في بغداد أو في البصرة، فضلاً عن أنه كان قد كرس شعره ـ في تلك المرحلة ـ لقضايا فكرية واجتماعية خارج إطار الذات وانشغالاتها.
حتى إذا ما غادر العراق في منتصف الشهر العاشر من العام 1961م ـ مشاركاً في مؤتمر الأدب العربي الذي عقد في روما ـ كان وجوده بعيداً عن زوجته هناك مناسبة لأن يكتب لها أولى قصائده: (حنين من روما)(20)، لتتوالى قصائده عنها ولها في سنوات مرضه الثلاث اللاحقة، حتى آخر قصيدة منهن: (إقبال والليل) التي كتبها قبل أيام من وفاته في الكويت(21).
وفي تلك القصائد كان السياب يبدي شوقه لها ولأطفاله، أو يتحدث عن انتظاره لرسائلها، أو يعتذر لها عما يسببه غيابه(22). وربما بثّ في بعضها نفثات من غضبه، محملاً زوجته تبعات ما ألمّ به من مرض، كالذي ورد في قصيدته (القن والمجرة) :(23)
ولولا زوجتي ومزاجها الفوار لم تنهد أعصابي
ولم ترتد مثل الخيط رجلي دونما قوة
ولم يرتج ظهري فهو يسحبني إلى هوة
ولا فارقت أحبابي
ولا خلّفت (أودسيوس) يضرب في دجى الغاب
وتقذفه البحار إلى سواها دونما مرسى
ويبدو أن المرحلة الأخيرة من حياته التي انتابه فيها اليأس من كل شيء هي التي أعادته إلى تلك الزوجة ، ليكتب لها القصائد: ليلة وداع(24)، ورسالة، وليلة انتظار، وإقبال والليل.
تلك هي الحصة الوافية من شعره التي كانت ذات تعلق بزوجته. وهي قصائد كان الغالب عليها انشدادها إلى التعبير الذاتي الذي يبدو أكثر صدقاً في تمثل احتياجاته العاطفية ومشاعره نحو بيته وأسرته، ولكنها كانت أقل احتفاء بالنضج الفني الذي إرساه السياب لشاعريته في قصائد أخرى سواها.
وربما سيلاحظ المتمعن معنا في قراءة شعر السياب أننا استثنينا من بين قصائده ذات التعلق بحديث الزوجة قصيدته (رحل النهار) التي لا علاقة لها بموضوعة الزوجة، فقد كان من الموثق في سيرة السياب أن زوجته كانت بجانبه خلال تلك المدة التي شهدت كتابته القصيدة في (27حزيران 1962م)، كما مرت الإشارة إلى ذلك. وربما يمكننا التخمين أن القصيدة كتبت بعد أسبوع أو أكثر بقليل من وجود زوجته معه في بيروت، الأمر الذي (يعلق) الدوافع العاطفية التي طالما كانت وراء كتابته القصائد لزوجته قبل هذه الفترة وبعدها.
وإذن: لمن كانت قصيدة (رحل النهار) خالصة الوجهة والتوجه؟
سنعود ثانية للدراسات التي وثقت هذه المرحلة من حياة السياب، فهي تمدنا بالآتي:
لم يطل مكوث السياب في مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت الذي قصده للعلاج إلا أياماً معدودة، غادره بعدها كي يتلقاه في فندق (سان بول) الذي يقيم فيه، وعلى يد طبيب ألماني ارتأى أن يحضر للعناية به ممرضة لبنانية شابة اسمها (ليلى)، كانت تلازمه منذ الصباح وحتى الساعة التاسعة مساء، وتعنى به جيداً، وتعطف عليه. فبدأ السياب يشعر بانجذابه إليها. ولم ترد هي أن تخيّب أمله، فسايرته في مشاعره، حتى أنها أعطته خصلات من شعرها الأشقر، وبعض كتاباتها العاطفية ليقرأها. ويبدو أنها كانت تعدّ ذلك جزءاً من واجبها المهني الذي عليها أن تؤديه لمريضها. ولكن السياب لم ينظر إلى الأمر إلا بوصفه حباً متبادلاً ـ كعادته مع عدد من النسوة اللواتي أفضن عليه بشيء من مشاعر الود قبلها، جاعلاً ما بدر منهن ضمن رصيده العاطفي الذي طالما التذ به وحشد مضامينه في قصائده.
ويبدو أن السياب ذهب بعيداً في التعبير عن عواطفه نحو ممرضته، فقد شكت لزوجة الطبيب المعالج من أن بدراَ أسرّ إليها أنه ينوي إن يتزوجها، فما كان من زوجة الطبيب ـ يذكر (عيسى بلاطة) ـ إلا أن "أرسلت كلمة إلى امرأة بدر تنصحها بالمجيء ... وفي منتصف جزيران 1962م وصلت السيدة إقبال إلى بيروت مع ابنه غيلان... ولم تلبث أن اكتشفت خصلات الشعر الأشقر ورسائل ليلى في غرفة زوجها، فرمت بها من الشباك في اتجاه البحر بغضب شديد"(25)، ثم سعت بعد أيام أن تعود بزوجها إلى العراق، وهي الواقعة التي يوردها السياب في إحدى رسائله لأدونيس قائلاً: "لم تدم فترة لقائنا ـ يقصد بليلى ـ سوى عشرين يوماً أو أقل، ثم ساقتني زوجتي ـ كما يسوق الراعي الأغنام أمامه ـ إلى سلّم الطائرة ثم العراق. فيا لي من تعيس بزواج، وبلقاء قصير كهذا"(26) .
لقد شغلت الممرضة (ليلى) السياب كثيراً وملأت مساحة بيّنة من وجوده المشتجر بالاحتياج العاطفي، فكانت نسغ عافية استمد منه قوة جديدة يواجهه من خلالها مرضه، ليؤكد لنفسه أنه قادر أن يَحب ويُحب. وتعبيراً عن ذلك فقد نالت حصتها من قصائده تلك المرحلة المعبرة عن تفصيلات حياته وتوجهات شاعريته. وقد باح بذلك في بعض رسائله إلى أصدقائه.
كتب في الرسالة مارة الذكر التي بعثها إلى (أدونيس): "كان ذلك الحب هو الذي شفاني ... شفاني حبها كما شفى حب الشاعر روبرت براوننغ الشاعرة الإنكليزية من الكساح بعد أن ظلت تعانيه لمدة عشرين عاماً"(27).
وكان قد أبان ـ في رسالة سابقة لصديق آخرـ عن مقدار اهتمامه بـ (ليلى) وحظوتها العاطفية والشعرية عنده، حتى أنه ـ وطبقاً لما ذكره ـ ضمن شعراً لها في قصيدته (رحل النهار). كتب إليه "لدي قصيدة نثر، مقطوعة صغيرة من تأليف شاعرة لبنانية شابة التقيت بها في بيروت، وكتبت فيها ثلاث قصائد، أتراك مستعداً لنشرها في مجلة (شهرزاد) إذا أرسلتها إليك. لقد كان لي ميل قوي إلى مؤلفتها، وقد ضمنت معاني قصيدتها في قصيدتي (رحل النهار) التي نشرت في العدد الأول من مجلة حوار"(28).
كانت (رحل النهار) إذن أول قصيدة خصّ السياب بها ممرضته (ليلى)، ولكنها لم تكن الأخير، فقد استعاد بث مشاعره نحوها في أكثر من قصيدة لاحقة(29)، غير أنها تبقى أبرز تلك القصائد وأنضجهن.
ولعل مما تبثه هذه القصيدة أن السياب لم يكن قد وصل إلى حدّ اليأس من الشفاء بدليل وقائع علاجية كثيرة سعى إليها بعد تلك المدة التي قضاها في لبنان. وبدليل قصائد توحي بأمل الشفاء كـ (الأيوبيات) التي كتبها في لندن(30). وعلى هذا فإن قصيدة (رحل النهار) لا تندرج في مرحلة اليأس من الشفاء، بل لعلها تتعلق بإحساس السياب أن تجربة حب أمل أن يخوضها (مع امرأة) جديدة قد فشلت، لأسباب خارجة عن إرادته. وهذه الرؤية لا تنال من القصيدة، ولا تحيلها تعبيراً عن حالة ذاتية محض، فتوصد الباب على ما فيها من عمق وإيحاء جدير بالتأمل والاستعادة.
تمدنا قراءة قصيدة (رحل النهار) بالقناعة أن السياب قد أربك التلقي لهذه القصيدة مرتين، مرة حين أوحى لبعض الدراسات تصور أن مآل القصيدة الأخير موجهاً إلى زوجته المنتظرة. والمرة الأخرى حين جعل المرأة في القصيدة هي المنتظرة لسندباد لن يعود، في حين أن الواقعة الإنسانية التي عايشها السياب، وكانت دافعه للكتابة تخبر عن امرأة دخلت حياته وشغل بها، ثم حصل من زوجته ما أدى إلى ابتعاد تلك المرأة عنه، وبقي هو معتاشاً على أمل عودتها إليه، ولكن من دون جدوى، فقد أجبرت على أن ترحل ولا تعود. لقد كان السياب في غرفته المطلة على البحر هو من ينتظر عودة (ليلى) إليه، وذلك ما سيذكره بعد ثلاث سنوات في مقطع من قصيدة عنونها باسم (ليلى):(31)
أو تذكرين لقاءنا في كل فجر
وفراقنا في كل أمسية
إذا ما ذاب قرص الشمس في البحر العتي
تأتين لي وعبير زنبقة يشق لك الطريق، فأي عطر
وتودعين فتهبط الظلماء في قلبي
ويطفئ نوره القمر الوضي
فكأن روحي ودعتني واستقلت عبر بحر.
لقد (علق) السياب وجوده ومشاعره بانتظار يائس لـ (ليلى) بعد أن أجبر على فقدان وجودها (الحقيقي) قربه، وكذلك (الرمزي)، متمثلاً بخصلات شعرها ورسائلها التي (انطمس بها ألق الوعود)، ليمسي هو الأولى بهذا المونولوج الوارد في القصيدة:
"دعني لآخذ قبضتيك كماء ثلج في انهمار
من حيثما وجّهت طرفي ماء ثلج في انهمار
في راحتيّ يسيل في قلبي يصبّ إلى القرار
يا طالما بهما حلمت كزهرتين على غدير
تتفتحان على متاهة عزلتي"
هكذا ـ وبمهارة فنية لافتة ـ تلاعب السياب بوجهة القصيدة، فمع أنها عنه وعن مشاعره فقد ذهب بها إلى مقابل (أنثوي) تخيله ومحضه الحضور المطلق، بإزاء (تعليق) لافت للذكورة، فـ (النهار) يرحل، و(السندباد) لا عودة ترجى له، و(الشباب) يزول، و(البحر) خاو، و(الشراع) ترنحه العاصفات.
* * *
*هوامش وإحالات:
(1) ينظر: عيسى بلاطة ، بدر شاكر السياب، ص136وما بعدها. عز الدين إسماعيل الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ص 208 وما بعدها. عبد الرضا علي، الأسطورة في شعر السياب، ص 130. علي البطل، الرمز الأسطوري في شعر بدر شاكر السياب، ص191. سعيد الجريري ، أثر السياب في الشعر العربي الحديث، ص208.
(2) د. جلال الخياط، الشعر العراقي الحديث ـ مرحلة وتطور، ص158.
(3) ينظر: عزالدين إسماعيل، ص208. و: البطل ، ص192.
(4) ينظر: محمود العبطة، بدر شاكر لسياب والحركة الشعرية الجديدة في العراق، ص83.
(5) المصدر نفسه.
(6) د. عبد الرضا علي، دراسات في الشعر العربي المعاصر ، ص81.
(7) السياب، الديوان ، 1/ 639.
(8) مدني صالح ، هذا هو السياب ، ص17.
(9) عبد الرضا علي، ص81.
(10) د. إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص165.
(11) د. محسن إطيمش، دير الملاك ـ دراسة نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر ، ص121.
(12) ينظر: علي حداد، بدر شاكر السياب ـ قراءة أخرى، ص 97. وينظر مصدره.
(13) إطيمش، ص124.
(14) المصدر نفسه، ص132.
(15) ينظر: عبد الرضا علي، الأسطورة في شعر السياب، ص130.
(16) للاطلاع على توظيف السياب للرمزين وتطور دلالاته عنده، ينظر: البطل،
ص179 وما بعدها. و: اطيمش، ص 147 وما بعدها.
(17) عبد الرضا علي، الأسطورة .. ، ص130.
(18) السياب ، الديوان، قصيدة (أحبيني)،1/639:
(19) مدني صالح، هذا هو السياب ، ص14.
(20) ينظر: السياب، الديوان ، 1/149.
(21) ينظر: المصدر نفسه ،1/716.
(22) ينظر: المصدر نفسه، القصائد: احتراق، لأني غريب، الوصية، هدير البحر
والأشواق، خذيني، الليلة الأخيرة، أسمعه يبكي، في انتظار رسالة.
(23) المصدر نفسه ،1/687.
(24) أشار في قصيدته (ليلة وداع) 1/649 التي قدّم لها بإهدائه: (إلى زوجتي الوفية) إلى بعض ما كان أورده في (رحل النهار):
ربما أبصرت بعض الحقد، بعض السأم
خصلة من شعر أخرى أو بقايا نغم
زرعته في حياتي شاعره.
(25) ينظر: بلاطة، ص136.
(26) ماجد السامرائي، رسائل السياب، ص200.
(27) المصدر نفسه، ص200. وهي مرسلة من الكويت بتاريخ 17/9/1964م.
(28) المصدر نفسه، ص176. من رسالة إلى (عاصم الجندي) بعثها من (البصرة)
بتاريخ11/ 9/ 1963م .
(29) ينظر: السياب ، الديوان ـ1/248 وما بعدها.
(30) المصدر نفسه،1/246.
(31) المصدر نفسه،1/721.