ودَّاي العطية ودوره في توثيق التراث
ودَّاي العطية
ودوره في توثيق التراث
حيدر علي الفتلاوي
من الغريب أن يوضع مثل الحاج وداي العطية في زجاجة الصراع بين منهجين، المنهج الأكاديمي، وما يسمى عند بعض الأكاديميين بمنهج المؤرخين الهواة، فالمنهج الأكاديمي يرى أن التاريخ علمٌ يحتاج إلى دراسة معمقة تتبعها شهادة جامعية، وخبرة تخصصية، تؤهل الكتّاب لإبداء آراءهم أثناء توثيق الحقائق، أما ما أُطلق عليه منهج المؤرخين الهواة فهو بالأصل منهج الباحثين الكبار الذين عاشوا قبل أن توجد الجامعات، والذين تفانوا في توثيق الحقائق التاريخية من مواردها وشهودها المعاصرين أو نقلوا تلك الأحداث عمن سبقهم من الرواة الثقات، كما كتبوا عن التراث والمدن والأنهار والقرى والشخصيات والآثار بتفانٍ يشهد به القاصي والداني، وللإنصاف أقول إن عامة مجتمعنا العراقي، لا ينظر للتاريخ بعين ذلك الأكاديمي الذي يراه من خلال الجامعات والنظريات الحديثة فقط، بل يراه ثقافة عامة لأمة العرب، فهو من العلوم العربية القديمة في حضاراتنا السابقة حيث كان يسمى "أيام العرب وأخبارهم"، لذا تراه حديث كل جلسة من جلسات السمر، ورفيق كل شيخٍ أو عجوزٍ يتلون لأحفادها شيئاً من أيام الحروب الدامية، وأخبارٍ متنوعةٍ عن أبطال القبيلة، وقد اشتهر به الكثير من الكتاب الذين لا يعرفون ما الذي تعنيه كلمة الجامعة إذ لم يعاصروها، كما لا علم لهم بنظريات دراسة التاريخ، كعبد مناف بن عبد المطلب (ع) الذي كان من حكماء العرب وابنه عقيل، وأكثم بن صيفي وغيرهم، ممن اهتموا بأخبار العرب وأيامهم، لذا فإن مؤرخينا الهواة أبدعوا وقدموا أكبر مما قدم دارسو علم التاريخ في الجامعات، ولا أدل على ذلك من أن هؤلاء الجامعيين يدينون بسبق الكتابة إلى الكتاب الأوائل كالطبري والمسعودي واليعقوبي وابن كثير وخليفة بن خياط وغيرهم، كما يعتمدون كتاباتهم مصادراً بحثياً لسبقِهم ودقتِهم، ولكن بعد إنشاء الجامعات، ودراسة نظريات التاريخ الحديثة، تحول النظر إلى إقصاء المؤرخين الهواة؛ لبعدهم عن الحداثة، لذلك سهت أقلام كثيرة عن ذكر كبار المؤرخين ومنهم الحاج وداي العطية الذي أغفلته التراجم على الرغم من أهميته(1)، فقد سها عنه قلم الدكتور أحمد عبد الرسول الشجيري الذي هو من أبناء قضاء الشامية في موسوعته، على الرغم من كونه من كتاب الرعيل الأول الذين كتبوا عن تاريخ مدينة الديوانية وحتى عن قضاء الشامية، حيث لا تكاد تجد مؤرخاً أكاديمياً إلا واعتمد على كتاباته وتوثيقه.
ولد الحاج وداي بن عطية بن غضبان بن مشيمش الحميداوي في قرية الإيشان التابعة إلى مركز قضاء الشامية في 5 تشرين الثاني عام 1889– 1983م(2)، وقيل إن ولادته كانت في 1310هـ - 1892م(3) وكان أخاً للحاج رايح(4) والحاج سوادي وعبد الكاظم وأبا ذر(5)، الذين برز منهم الحاج رايح العطية كسياسي ورجل اقتصاد.
تعلَّم العطية منذ نعومة أظفاره القراءة والكتابة على يد معلمه الأول الشيخ علي الأصغر الشيرازي، فأخذ على يده العلوم الدينية واللغة العربية والخط والحساب ثم اهتم بالتاريخ والشعر والأنساب(6)، لكن يبدو أن مكانته العشائرية وعمله بالزراعة، حيث كان أول من أدخل المكننة الحديثة إلى الشامية، وعمل في استصلاح البوار من أراضي تلك المدينة الزراعية، هما ما أحالا توجهه الثقافي إلى دراسة الأراضي وتاريخها وتنقلات العشائر فيها، وبالتالي إلى تاريخ المدن الفراتية حيث كان يرتكزُ عطاؤه الفكري.
عاصر الحاج وداي العطية الكثير من المؤرخين الأفذاذ كما حاورهم في رحلته إلى عالم التأليف، وكان أبرز من التقى بهم: الأستاذ عباس العزاوي ومصطفى جواد والأب أنستاس ماري الكرملي(7) والشيخ حمود الساعدي وهم من مشاهير المؤرخين والشيخ باقر الخفاجي شاعراً وشاهداً على العصر، وكذلك الحاج صلال الفاضل الموح والعلامة الشيخ جعفر البديري النجفي(8)، لكن يبدو من خلال تتبع المصادر التي يجردها في أواخر كتابه "تاريخ الديوانية قديماً وحديثاً" أنه قام بالعشرات من الرحلات والأسفار ليلتقي بشخص يحمل من آثار الماضي شيئاً يمكن الاستفادة منه، كما أنه تتبع أسلوباً مميزاً في تحديد وفيات الأشخاص المراد ترجمتهم في دراسته وهو لا يخلوا من الأسفار والتنقل أيضا، كما أنه غاية في الدقة إلا أن المؤرخين الأكاديميين في العادة لا يلتفتون إليه، فقد قام بتتبع شواخص القبور لينقل منها التاريخ الحقيقي لوفاة الأشخاص المراد توثيقهم(9)، وهنا يمكن القول أن العطية مال على نفسه كثيراً من أجل أن يحصل على كلمات معدودات يحملن صدق الخبر عن هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا التاريخ أو عن مدنهم وعيشهم فيها، ومن هذه الدقة وغيرها رأيت أن ما ذكره الدكتور إبراهيم خليل العلاف كان قمة في الإنصاف حيث قال: "هذا المؤرخ الذي لو لم يؤلف إلا كتاب "تاريخ الديوانية قديما وحديثا" لاعتبرناه من المؤرخين الأفذاذ"(10)، كما قال عنه الشيخ محمد رضا المظفر في المقدمة التي قدمها لكتابه تاريخ الديوانية: "إن كل ذلك كان كفيلاً بإخراج هذا الكتاب سجلاً أميناً للتاريخ النزيه حسبما استطاع أن يصل إليه تتبعه المتواصل الدؤوب، فالكتاب من هذه الناحية كان قليل المثيل فيما كُتِبَ أخيراً عن تاريخ العراق ومدنه"(11)، لكن ما ذكره المختصون من أن الحاج وداي العطية كان مؤرخاً من طراز خاص ليس هو ما جعلني أكتب عنه هذه السطور، فأنا لا أود الحديث عنه كمؤرخٍ بقدر الحديث عنه كسجل لتراث مدينة الديوانية، بل من أهم مصادر هذا التراث، إذ تناول بالذكر والتعداد الكثير من زوايا التراث في ثنايا كتابه تاريخ الديوانية على سبيل المثال.
ومن الجدير بالذكر أن بعض المفردات تمتزج وتتداخل بين التراث والتاريخ عبر الدراسات المختصة؛ لتداخل المفاهيم بين هاتين المادتين، فلك مثلا عزيزي القارئ إن حارات المدن تدرس في الجانبين مما جعل منها مادة مميزة، وقد ذكر الحاج وداي في كتابه حارات الديوانية القديمة بأسمائها وعدد بيوتها ومساحاتها(12)، ثم نقل لنا أخبار مكتبة المعارف العامة والتي أسست في عام 1938م، كما ذكر أول مدير لها، وأعداد الكتب فيها لعام 1943 وعام 1953م، ومن تراث الديوانية أيضاً ذكر الحاج وداي جوامعها التي عدها خمس جوامع واحداً منها في الجانب الغربي وأربعاً كانت في الجانب الشرقي، كما ذكر الحمامات بعددها الذي بلغ إثنين في الجانب الشرقي من المدينة وإنهما لم يكونا يكفيان لسد حاجة المدينة لتوسعها، لكن على كل حال فإن ذكر المؤرخ شيئاً من التراث المادي ها هنا، وإن كان باختصار شديد، إلا أن ذلك لا يعد شيئاً أمام ذكره المفصل لأسر الديوانية القديمة والحديثة وشخصياتها، كما نقل أخبارهم وقصصهم وأشعارهم وأهازيجهم التي تعد من أبرز ما ذكر من التراث الفكري والأدبي للديوانية، فتجد على سبيل المثال إن من القصص التي ذكرها عن الأسر الديوانية حادثة مقتل السيد مهدي الزاملي، الذي كان يطلب الرئاسة في المدينة ويسعى إليها سعياً حثيثاً أدى إلى قتله من قبل رئيس الديوانية الثاني مال الله بن ناصر العكيلي الذي قتل عام 1858 بإيعاز من هلوس بن علوان رئيس عشيرة آل أحمد وهم من الأقرع، حيث استنجدت به "عركة" زوجة السيد مهدي الزاملي، ولما تثاقل عن إجابة طلبها ذكرته ببيت من الشعر، فقتل لها مال الله بدم السيد مهدي بعد هذه الحادثة(13)، كما وثق لنا الحاج وداي مع تراث هذه الأسر الأحداث التي تربط تاريخها وتراثها، وذلك من خلال الوظائف والأعمال التي عمل بها أفراد هذه الأسر كالمتصرفين وقائمي المقام وأصحاب المال والمزارعين وأصحاب القلم والكتبة وغيرهم، وذكر أسباب تسمية الأسر أو الأفراد بهذا الاسم أو ذاك أحياناً إن كان للاسم علاقة بالعمل، حتى ذكر من عمل منهم في الأعمال التي يرفضها المجتمع كقطع الطريق، إذ ذكر مثلاً أن السيد راضي بن السيد مهدي الزاملي الذي كان ينافس مال الله العكيلي على الزعامة وتم قتله، كان شجاعاً مقداماً إلا أن شجاعته لم تكن لأخذ حق المظلوم من الظالم، بقدر ما كانت لقطع الطريق وسلب الأموال ونهبها، إلا أن أيامه لم تدم طويلا ً، إذ كان لديه بعض الرجال الذين يعتمد عليهم في هذا العمل وذات ليلة خرج ليقطع الطريق مع رجاله وحاول أن يختبر شجاعتهم فأوقفهم في منتصف الطريق وابتعد عنهم، ثم تنكر وعاد إليهم من طريق آخر، فنادوا باسمه فلم يجبهم، فاطلقوا عليه النار فاردوه قتيلا، فلما تبينوا أنهم قتلوا عميدهم السيد راضي حامت الشبهات حول الحاج كاظم مال الله الجحيشي وكان أحدهم، إلا أنه حلف ليخلص من دفع الدية وتبعات هذا القتل، كما روى لذلك مثلاً حينما ابتعد أحفاد تلك الأسر عن المشاكل التي كان آباؤهم في خضم بحرها قائلاً: "الآباء تأكل الحصرم والأبناء تضرس"(14) إلا أن الحاج وداي لم يكتف بنقل القصص والأمثال في كتابه بل نقل مشجرات هذه الأسر كمشجرة آل شيخ طاهر وآل شكَشكَ وآل سيد مهدي وآل علي الجاسم وغيرهم(15) كما نقل الشعر بنوعيه الفصيح والشعبي المتمثل بالأهازيج التراثية عن هذه الأسر، كشعر الشيخ حمود السلامي الذي رثى به الشيخ جعفر كاشف الغطاء إذ قال:
لم يشجني ذكر أحباب بذي سلم ولا جرى مدمعي شرقاً ولا أضم
ولا سألت الحيا يسقي الربوع ولا طربت شوقاً لذكر البان والعلم
ورب ناشدة الأتراب من ولهٍ لما رأت أدمعي ممزوجة بدم (16)
ثم ذكر غيرها من الأهازيج التي قيلت بمقدم الملك فيصل الأول إلى منطقة الفرات حيث احتفى به الفراتيون بطريقة تعجز عن الوصف، وطلب بدوره من شيوخ العشائر أن يلقوا الأهازيج بأنفسهم إلا أنهم تعذروا بحجة أنهم لا يحسنون لها قولا ً، واكتفوا بالشيخ مرزوك آل عواد الذي كان يجيدها، فقال:
عاركنه انكليز بخنجر وفاله
ونكس ردينه ديلي خيله وارجاله
بالمكَوار كمنه ولا ذعناّله
منا للشام اخـليناها (17)
وهكذا يمكن ملاحظة أهمية التوثيق التراثي في كتابات الحاج وداي العطية، إذْ لمع أسلوبه الرصين في توثيق أحداث المدن الفراتية بحكايات التراث وشخصياته وأشعاره وأمثاله وحكمه كما نقل لنا بأمانة أنساب الأسر القديمة في تلك المدن، مما جعل كتابه منمنمة تاريخية تراثية رائعة الجمال بألوانها المتعددة وفنونها المتباينة، ويبدو أنه استعمل هذا الأسلوب للإمتاع من جهة ولما يحمله التراث من أهمية وتداخل في المادة التاريخية من جهة أخرى؛ لذا فإن من الضرورة أن يسلط ضوء التراث على كاتب مثل الحاج وداي العطية.
الهوامش
1- ينظر: الشجيري، احمد عبد الرسول، الموسوعة الشاملة لشخصيات عراقية معاصرة، ابن النفيس – سوريا، بأجزائها الثلاثة.
2- رميض، صباح مهدي، "الشيخ وداي العطية الغضبان (رجل الريف المثقف) سيرته ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة عرض وتحليل 1889- 1983م "مقال منشور في المجلات الأكاديمية، العلاف، د. إبراهيم خليل" المؤرخ الحاج وداي العطية "مقال منشور في مدونته يوم الأحد 20/1/2013، الربيعي، نبيل عبد الأمير، "الباحث والمؤرخ وداي العطية" مقال منشور في "الحور المتمدن" 12/10/2015.
3- الأمين، حسن، مستدركات أعيان الشيعة، دار التعارف للمطبوعات – بيروت لبنان: 4/240.
4- دبلوماسي عراقي ذا نظرة سياسية ثاقبة يعد من أبرز مؤسسي حزب الوحدة الوطنية ينظر الميالي، السيد فيصل، مباحث فراتية في الجغرافية والتاريخ والآثار: 1/92.
5-الأمين، المصدر نفسه: 4/240.
6-الأمين، المصدر نفسه: 4/240 الربيعي، المصدر نفسه.
7-العلاف، المصدر نفسه.
8-العطية، الحاج وداي، تاريخ الديوانية قديما وحديثاُ، منشورات المكتبة الحيدرية – النجف الأشرف: 326 وما تلاها.
9- العطية، المصدر نفسه: 317.
10- العرف، المصدر نفسه.
11-العطية، المصدر نفسه، ذكر ذلك في مقدمة الشيخ محمد رضا المظفر (ز).
12- العطية/ المصدر نفسه: 242.
13- العطية، المصدر نفسه: 248-249.
14- هو مثل شعبي يضرب للآباء الذين يقاسون ألم العيش وصعوباته وينجبون أبناء يضيعون من جاهد الآباء من أجله.
15- العطية، المصدر نفسه: 248-255.
16- العطية، المصدر نفسه: 247.
17- العطية، المصدر نفسه: 178-179.