الكنايات والأمثال الدينية في الثقافة الشعبية البغدادية
الكنايات والأمثال الدينية في الثقافة الشعبية البغدادية
عمر علي حيدر
تناول البغداديون في أمثالهم وكناهم العامية الكثير من المفردات الدينية التي تسلط الضوء على علاقة البغدادي بالدين، فرائضه وسننه، آدابه ومعاملاته، شخصياته وألقابه، مرافقه ولوازمه، الملتزمون بأحكامه، المرائون به، المتشددون فيه، المتحللون منه، وما اتصل بذلك من المواقف الشعبية، بشخوصها، وأفعالها، وأقوالها.
وعند حصر الألفاظ والكنايات والأمثال العامية البغدادية المتعلقة بالدين (جمعاً وتصنيفاً وتحليلاً) نصل إلى نتائج بديعة (نفسية، تاريخية، اجتماعية، أدبية، فنية)، تسلط الضوء على حقيقة تدين البغدادي، سأتركها إلى نهاية هذا الموضوع.
وقد اعتمدتُ على أشهر الكتب البغدادية المعاصرة المؤلفة في هذا المجال، وبلغ ما اطلعت عليه منها 14 مجلداً هي:
الأمثال البغدادية (مجلدان) ومعجم اللغة العامية البغدادية (ثلاثة مجلدات) كلاهما للشيخ جلال الحنفي البغدادي، وموسوعة الكنايات العامية البغدادية للأستاذ عبود الشالجي (ثلاثة مجلدات)، وجمهرة الأمثال البغدادية للعميد المتقاعد عبد الرحمن التكريتي (ستة مجلدت)، رحم الله الجميع برحمته الواسعة، وأجزل لهم المثوبة والثناء على ما قدموه من خدمة، وما أسدوه من نصح لنشر الثقافة الشعبية البغدادية العريقة.
ومن المهم في بداية هذا الموضوع معرفة أن أي لفظ ورد في كناية أو مثل عامي بغدادي يشير إلى الدين يعني أنه قد ورد في سياق الحديث عن الدين، لا من حيث أن أصل كل ما ورد ديني، إذ تشمل هذه المفردات ما يمت إلى أصل الدين، أو يرتبط به بشكل من الأشكال، وهي على العموم:
العبادية: تشمل، صوم، صلاة، زكاة، حج، أذان، إمامة، والدينية: مسلم، نبي، ولي، شيخ، إمام، سيد، عالم، واعظ، مؤذن، حاج، زاير، درويش، مؤمن، كافر، منافق، والشخصية: متدين، مدعي علم، مرائي، متشدد، ضال، والعمرانية: جامع، مسجد، منارة، قبة، والمرافق واللوازم: كشوانية، حصران، برگان، سماعات، والثياب: عمامة، عرقچين، جبة، مسبحة، والنفسية: طمع، جهل، شره، والبدنية: لحية، كرش، وهناك أيضاً الشخصيات الدينية: الخضر، إلياس، الكاظم، وهكذا.
ونستهل الموضوع بالحديث عن الكنايات والأمثال العامية المتعلقة برجل الدين، وأعني بذلك: كل ما يمثله هذا المصطلح من صفات وألقاب.
رجل الدين:
هناك العديد من الألقاب الدينية التي تناولتها الأمثال البغدادية، مثل: الإمام، العالم، الشيخ، السيد، الواعظ، الملا، ونحوهم مما مر آنفاً، وتجمع هذه الألقاب مفردة رجل دين، ومع تنوع مقاصد إطلاق الأمثال البغدادية على أهل هذه الألقاب نؤكد بدايةً أن لرجل الدين الصالح قيمة كبيرة في نفس البغدادي، وله محل واسع من التوقير، وأي مثل أطلقوه بما خالف هذا المبدأ فهم يعنون به الجهلة، والمرائين، والمدعين، ونحوهم.
ومن ذلك قولهم "لحم العلما مسموم"، و"العلما أي علماء الدين، ويضرب المثل في النهي عن التعرض لهم بسوء، فان آكل لحومهم (مغتابهم) يعرض نفسه للهلاك، لأن لحمهم مسموم، وهم يريدون بذلك الكناية عن غضب الله على من يتعرض للعلماء بسوء".
وللثقة بفتاواهم، يقول البغداديون: "حطها برگبة عالم، واطلع منها سالم"، و"قلدها برگبة عالم واطلع سالم"، و"ذبها..." أى ضع الأمر في عاتق العالم الذي يفتيك فيه فتكون مطمئنا إلى عملك ويبوء هو بائمه أن كان فيه إثم" وفي المثل من المعاني ما يشير إلى أن آثام الجهلة تعلق برقاب أولي العلم إن أساءوا الفتيا والتعليم".
ولبيان القيمة والمنزلة والثقة بقدرة رجل الدين -وتحديداً الراقدون في الأضرحة من الأئمة والأولياء الصالحين- قالوا "إمام المايشور يسموه ابو الخرگ"، وورد في شرح المثل: "أنه من دأب النساء أن يعلقن خيوطاً وخرقاً على أقفاص الأضرحة، وإنما يصنعن هذا تعوذاً من شر يخشينه ورجاء في خير يصبنه، فإن لم تظهر من ذلك الإمام شارة عاجلة، تأتى من ذلك فقدان ثقتهن به".
ولكونهم من الفئة التي كان يكثر فيها الإدعاء والجهل والطمع من رجال الدين، حصل الملالي على نصيب وافر من الأمثال البغدادية التي تنتقد تصرفاتهم، وتعيب مواقفهم، وتحذر من أفعالهم، وبعض تلك الأمثال والكنايات شنيع جداً، وسنقتصر منها على المناسب في هذا المقام.
وتربع الملا على رأس الألقاب الدينية، وأكثرها شيوعاً، فالبغدادي يرى أنها أسهل المهن، لذلك قال "صير ملا، وتوكل على الله"، حيث لا تحتاج هذه المهنة لغير التوكل على الله في كسب الرزق.
ولبيان شره الملالي قالوا: "قدموا صحن الحلاوة واسمعوا طگ النوى"، المثل يوردونه على لسان أحد الملالي من الذين يُجلبون لتلاوة القرآن الكريم، أو لقراءة المولد النبوي الشريف، أو في الفواتح وغيرها من المناسبات الدينية، "وكانت العادة الجارية وما تزال أن يقدم لهم طعام العشاء بعد الانتهاء من القراءة، ويعقب ذلك تقديم الفواكه ثم الحلوى، وغالبا ما يقدم لهم (حلاوة التمر) لأنهم يحبون تناولها كثيرا، وأن النوى المستخرج من الحلاوة الذي يرمونه تسمع أصوات وقعه على (الصينية) بكثرة وبصورة مستمرة، والمثل يضرب للتعريض بالشرهين مع أن أصله متعلق بالحكاية.
ولبيان التشاؤم قالوا: "ملا حمزه وين رايح؟"، وملا حمزة هذا كان يعتمد على الأموات في عيشه، "فكان كلما شاهده أحداً مسرعاً تشاءم من سرعته معتقداً أن وفاة حصلت"، ولمن يتكرر منه ما ينهى عنه قالوا في موضع العجب والحيرة: "شلون چارتنا بيك ملا حمّادي!"، ولمن يخيب ظنك فيه منهم، قالوا :"مدحنا بالملا خِرا بالجامع "!!.
ولانتقاد سرعة انتشار الأخبار -لاسيما السيئة- قالوا "حچايه بحلگ مُلايه"، والملاية هنا هي المرأة التي تعلم القرآن في الكتاتيب ثم أطلقوا اللقب على المرأة التي تقرأ في المآتم النسوية -ويطلقون عليها أيضا (العدادة)- "وهي كما لايخفى تنتقل من مكان إلى مكان فتنقل الأحاديث التي سمعتها".
وقال البغدادي في العتاب المتكرر والإلحاح من طلب ما "كل يَوْم يملا و جهك أصفر"، وفيه حكاية عن مُلا كان يعّلم في الكتاتيب، احتال طلابه عليه للحصول على راحة، فما كان منهم إلا أن ادعوا أنه مريض، وتقدموا إليه فردا فردا يخبرونه بعلامة المرض المتمثلة بوجهه الأصفر، في حين أنه لم يكن يشكو من شيء حتى صدقهم وصرفهم إلى البيت وهم في غاية السعادة لنجاح خطتهم، لكنه طردهم حينما حاولوا تكرارها بعد أن شعر باحتيالهم، وقال البغدادي أيضاً: "چفیان شر ملا عليوي"، والملا عليوي هذا "كان صاحب كُتّاب يعلم به الصبيان وكان يلزم طلابه وصبيان كتابه بأداء الصلاة، غير أنهم كانوا يؤدونها مرغمين اتقاء غضبه"، وهكذا يضرب البغدادي هذا المثل في كل أمر يتكرر عليه، ويؤديه وهو مجبور عليه.
وهناك مثل مباشر في الإشارة إلى المُلا الجاهل ومدّعي العلم الديني، حيث قال البغدادي ساخراً من ذلك "حدثني شختِي عَنْ بَختي"، يقصد به: "حدثني شيخي عن يحيى"، ويساق أيضاً لانتقاد كل حكاية غير معقولة، كما يقول البغدادي "متوضي" كناية عن المعمم الجاهل، وحاولت أن أفهم علاقة "متوضيء" بالمعمم الجاهل، فوجدت أن الجامع بين الإثنين هو (الخلو)، فالمتوضيء خال من الحدث المانع من الصلاة، والمعمم الجاهل خال من العلم.
واستدل البغدادي لوصف شدة فساد الزمان بفساد الذين يفترض أنهم معنيون بالإصلاح، داعياً إلى الحفاظ على الأبناء منهم فقال:" من الملا بالك بالك، ومن العالِم احفظ عيالك"!.
ونتيجة للمواقف غير المقبولة من بعض رجال الدين فإنهم أصبحوا مثلاً لإلقاء النكتة والطرفة بين البغداديين في أحاديثهم ومجالسهم، بل صاروا شخصيات هزلية يتم تمثليها في بعض مقاهي ومراقص بغداد من قبل ممثلين يدّعى واحدهم بالإخباري، وقد أغضب رجال الدين تناول الإخباري لهم بالتمثيل والنكتة والهزل حتى أفتى نعمان خير الدين الآلوسي (1899م)، قائلا: إذا تشبه المضحك بقاض أو مفت أو خطيب أو نحوهم وأتى بحركات مضحكة أو تكلم بكلمات كفرية ليضحك السامعين كفروا جميعهم، وهذا الفعل شائع في زماننا هذا، ويسمون المضحك المذكور بالأخباري مع أن المطابق للحال تسميته بالاكفاري"، وقد انقطع الأخباري عن بغداد بعد الحرب العالمية الأولى، فلم يعد له وجود.
الجبة:
يعرّفها الشيخ جلال الحنفي في معجم اللغة البغدادية ويعدد أنواعها بالقول: "أنها رداء واسع فضفاض عريض الكمين يتخذه رجال الأديان شعاراً لهم جمعه (جُبَبْ)، وهي أنواع، منها، البغدادية ومنها الاصْطَمْبُلِيَّة. وتكون الجبة البغدادية فضفاضة يغرق فيها لابسها وقد انقرضت". ج2/ص182.
وقد ورد ذكر الجبة في مثلين، الأول:"من چان طيب ما لبسوه جبة، من مات بنوا له گُبّه"!، والگبه: هي القبة، وتبنى عادة على الجوامع، والأضرحة والمقامات، ونحوها"، وقد ضرب البغدادي هذا المثل في أن الناس لا يثيبون المحسن في أيام حياته، حتى إذا مات أغدقوا عليه الثناء وأحاطوه بمظاهر التكريم والتبجيل"، وهذا المثل الذي انتبه له البغدادي منذ ذلك الزمان ينسجم في أيامنا هذه مع كل "مظلوم حظ" من مفكر وأديب ومبدع لا يعتنون به في حياته، حتى إذا مات تسابقوا فكتبوا عنه ونشروا كتبه وتباهت الفضائيات والصحف أنها أجرت معه اللقاء الأخير!.
المثل البغدادي الثاني هو "جُر الجبة"، ويضربونه لمن يبالغ في حديثه، وخلاصته أن أحد الملالي أوصى صاحبه بأن "يجر جبته" إذا بالغ في خطبته، وكان من حديثه أنه وصف قصراً من قصور الجنة بأنه بطول عشرين الف ذراع، فجَرَّ صاحبه جبته، فقال الملا، لا استغفر الله، الف ذراع، واستمر صاحبه يجر جبته والملا يخفض الرقم حتى وصل الى تسعة أذرع، فقال الحاضرون ضاحكين: "هاي ما صارت ياملا"، فقال الملا وهو يشير ألى صاحبه "ليش ديخليني أرتّب الطول ويه العرض؟"!.
العمامة:
يأتي ذكر العمامة في إطار الإشارة إلى شخصيات ومواقف متفاوتة، فالبغدادي يقول للحث على طلب المشورة، والتبصر في عواقب الأمور "إذا ما عندك چبير حط عمامتك واستشير"، ويقول للحث على الثبات والتحلي بالأمل عند اضطراب الأمور "من ساعة لساعة خمسين عمامة تنكلب"، وهناك من جعلها "الف عمامة" بدلا من "خمسين"!، ويقول عمن لا يدل ظاهره على باطنه، كأن يظهر الرخاء وهو يعيش في الشقاء "العمايم مصطفة والجيوب نظاف"!.
وينسحب أثر العمامة عند البغدادي على من يلبسها ومن لا يلبسها إذا كان ممن يدعي حسن صنعة معينة وهو في الحقيقة لا يحسنها، لذلك قال "مو كل من لف عَمَامَهُ بَيضه، گال: انا مُلَّه".
والبغدادي، على الرغم من حسن سريرته، وتقديره لرموزه الدينية، إلا أنه شخص غير ساذج ولا مغفل، ويستطيع تمييز المعمم الذي يستحق التقدير من عدمه، فيعطي لكل منهم ما يتسحق، ومن قصصهم في ذلك، أن رجلاً حضر حفلاً دينياً كبيراً فشاهد وجود كثير من المعممين، فانبهر من كثرتها، فقال له البغدادي على لسان شاعره الشعبي، ناصحاً له من الإغترار بالمظاهر:
"لا تغرك هالعمايم أكثر الرگي فطير"، والفطير: غير الناضج.
ولا ينتهي الحديث عن العمامة عند البغدادي إلى هذا الحد، بل تراه يشدد النكير على من يحمل العمامة بغير حقها، ويرميه بأشنع الأوصاف الممكنة تقديراً منه للعمامة، ولما يجب أن يتحلى به صاحبها من الدين والخلق القويم، فالبغدادي يصف المعمم الجاهل ممن يضع على رأسه عمامة على غير معرفة ولاعلم بأنه "ثور معمَّم".
ويوردون لهذا المثل قصة مفادها "أن أميراً كلّف أحد ندمائه بأن يأتيه بثور معمم، فأخذ ثوراً من الدواب وعصب رأسه بعمامة وبينما هو قاصد الأمير إذ لقيه أحد أصحابه فعجب من عصابة رأس الثور، فسأله عن السبب فذكر له رغبة الأمير في ذلك. فقال: ويحك أن ذهبت بهذا عَلم جهلك وأقصاك. قال: فما وجه العمل؟ قال: تعال معي فلقيا جاهلاً معمماً ليس فيه من العلم إلا ظاهر عمامته، فقال له: سيدي إن الأمير يريد أن يحظى بلقياك فتعال إليه مع النديم فذهب معه، فلما رآه الأمير أخذ يختبره فإذا به أقل علما من ثور يحسن تدبير أمر معاشه، فشكر ندیمه، لكن النديم أبى أن يستأثر بالشكر، فذكر له عمله وإرشاد صاحبه، فطلب ذلك الصاحب واتخذه نديما له"!.
اللحية:
اللحية: ما ينبت على وجوه الرجال من الشَعر بعد البلوغ، ويدل طول اللحية -في الغالب- على أن الرجل متدين، وملتزم دينياً كلما طالت أكثر!. أما في وقتنا الحاضر فيدل طول اللحية عند أغلب الشباب البغدادي على تقليعة ظهرت تقليداً لشخصيات في مسلسلات تركية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولا علاقة لتلك اللحى بالدين أو الإلتزام الديني لا من بعيد ولا من قريب!.
والبغدادي يكثر استخدام مفردة "لحية" في أحاديثه للإشارة إلى أبرز شيء في وجه المعني بالعبارة، وأغلب هذه المفردات غير مدون -للأسف- ومنها ما انقرض أو كاد، فهم يقولون "اللحية الك لو مشتريها، الچان الك لـ ... بيها!" للمزح والإعجاب، ويقولون"انت ولحيتك!" للإنكار على فشل الملتحي في تنفيذ أمر ما، أو إتيانه بتصرف معيب لا يناسب رجولته التي تعكسها لحيته!، ويقولون "دروح انت ولحيتك" للإنزعاج أو التبرم، و"فاتت سيارة بيها أربع لحاية" لوصف أربعة اشخاص ملتحين في سيارة!، و"بوس اللحى" للدلالة على النفاق والمداهنة، وهكذا.
وتنوعت مقاصد البغداديين في أطلاق الأمثال على اللحى بين:
الإشارة إلى قصور عقل الملتحي، فهم يقولون "من طال ذقنه قصر عقله"، و"وعلى قدر طول اللحية يكون نقصان العقل"، وأنشد أحدهم:
ما رجل طالت له لحية فزادت اللحية في هيبته
إلا وما ينقص من عقله يكون طولا زاد في لحيته
ومن المقاصد الأخرى لأمثال اللحى نفورهم ممن يتدخل فيما لا يعنيه، كقولهم"وَاحِدْ شَايِلْ لِحَيْتَه، وَاللاخُ يَكُولْ تَنْغَزْني"، وأيضاً " وَاحِدْ شَايِلْ لِحَيْتَه واللاخ متعاجز منها".
ومن المقاصد أيضاً، إستنكار من يستغل مصيبة الغير لفائدته، حيث يقول البغدادي: "وَاحِدْ كَاعد تِحْتِرِكْ لِحَيْتَه واللَّاخُ يرِيْدِ يشْوِي عَلَيْهَا بَصَلْ"، وهو يشبه المثل الشائع "مصائب قوم عند قوم فوائد"، وبهذا المثل نختم الحديث عن اللحى.
شخصيات دينية:
ورد الكثير من أسماء الشخصيات الدينية في الأمثال والكنايات البغدادية، وسنقتصر منها على وصف البغدادي لمن يكثر الترحال، أو الذي يظهر فجأة من دون سابق انذار أنه "مثل الخضر كل يوم بمكان"، ويريد البغداديون بالخضر صاحب كليم الله سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام الذي وردت قصته في سورة الكهف، وهم يعتقدون أنه ولي حي، ولذلك فانه يظهر في كل مكان يريده ويختاره، وهو المسؤول عن محافظة الماء، وإلياس الذي يرد اسمه مقترناً مع الخضر -خضر الياس- هو ولي حي أيضاً، وهو المسؤول عن محافظة اليابسة، وفي جانبي الكرخ من بغداد محلة باسم خضر الياس"، وبهذا يتبين خطأ الكثير من الناس الذين يظنون أن خضر الياس شخص واحد.
الإسلام والدين:
من الأمثال البغدادية التي أوردت صفة المسلم، يقول البغدادي "مو بس آني مسلم "، أي لست المسلم الوحيد بين الناس، فهناك مسلمون كثيرون مثلي، ومعنى هذا، أن ما يطلب مني -لكوني اتصف بصفة معينة يشترك الجميع فيها- يمكن أن يطلب من الغير، وليس مني فقط، "والأصل فيه أن رجلاً شاهد غلاماً جميل الصورة فسأله ماهو اسمك فقال "محمد"، فهرع الرجل اليه يقبله من وجهه ويقول "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"،. وفي وقت آخر مر عبد أسود ذو مشفرين فقيل لذلك الرجل قم فقبله فان اسمه محمد ، فرد عليهم قائلاً : مو بس آني مسلم، فلينهض إلى تقبيله من شاء منكم ما دمتم مسلمين مثلي".
ومن الأمثال التي وردت فيها مفردة دين، ما قاله البغدادي توبيخاً لمن يتحايل على النصوص الشرعية "هذا دين مو طين"، داعياً إلى احترامها ومنحها التكريم اللائق، وتأويلها على الوجه الصحيح تجنباً للعقاب الشديد.
القرآن والكتب الدينية:
"الغلطة بالقرعان"، القرعان: هو القرآن الكريم، ويعني البغدادي بهذا المثل به ما قد يعترض المقريء من خطأ عند تلاوة آية قرآنية كريمة، حيث ينبه إلى ذلك فيصحح أداءها، والمثل يضرب للحديث عن إمكانية وقوع الخطأ، فلا ينبغي أن يرافقه "ضجة واحتجاج". وهذا مثل يسوقه البغدادي للتخفيف من أخطاء الغير "القولية"، وما يمكن أن تتركه من أثر سيء في نفوس السامعين، "وقد يضربه المخطيء لنفسه معتذراً به عن الهفوة العارضة له"، بأنه لا يقصدها، وأن ما وقع منه وارد لأنه إنسان، وسبحان من لا يخطئ ولا ينسى.
وفي الأمثال ما سيق للحديث عن الكتب العلمية الدينية المختلفة من الفقه والأصول والسير وغيرها، حيث أشار رجل أمي إلى مكتبة دينية عامرة بالكتب وهو يقول "گاريهن"، ويعني أنه قرأهن، "يريد بذلك أن هذه الكتب معروفة الغايات فلا حاجة لإجهاد النفس في معاناة مطالعتها".
أعمال عبادية:
العبادات من أهم المظاهر التي تعكس الدين، وتدل عليه، حتى أن المتمسك بها يسمى متدين، وللفرائض الدينية موقع محترم في نفس الإنسان البغدادي، لكن مقاصد ضربه للأمثال وإطلاق للكنايات المتعلقة بالعبادات حملت العديد من الصور التي لا يمكن أن يحمل بعضها على ظاهرها، لأنها تناقض ببساطة نظرة البغدادي المحترمة للدين على وجه العموم.
ومن ذلك قوله على لسان السفهاء "صوم وصلي رزقك يولي"، ويُضرب المثل تهرباً من أداء الفرائض لا سيما الصلاة، وأشنع منه المثل القائل: "حشِّش واسكر رزقك يكثر"!!، وحشش تعني: دخن الحشيشة، واسكر وتعني اشرب الخمر إلى حد الثمالة!، ويضرب للدلالة على أن الأرزاق تصيب العصاة والبعيدين عن الدين مثل "شرابة" الخمر ومدخني الحشيشة!.
وقولهم "كل يوم عيدوا صلاتكم يا جماعة"، يضرب فيما يشق على ضاربه من أمر مزعج ممل، كما يسوقه قائله تذمراً من قوم يكرر عليهم النصيحة دون أن يفهموها، حيث جاء لقرية من يرشدهم إلى التعاليم الدينية ويلقنهم الصلاة، فصلوا يومهم، ولما طلع عليهم اليوم الثاني طالبهم بالصلاة فسخطوا عليه وتذمروا من هذه المهمة التي بدا لهم أنها لن تنتهي أبداً"!
وفي نقد تناقض من يدعو الناس إلى أمر أو يلزمهم به وهو لا ينفذه، قالوا على وجه الاستغراب: "يعلم الناس عالصلاة وهو ميصلي"، وهو مثل يتداولوه في للصلاة وغيرها من أمورهم، ويستمر النقد ليشمل هذه المرة من تظاهر بخلاف ما يبطن لينال ما يطمح إليه فقالوا: "تميت أصلي، لمن حصل لي، بطلت أصلي"!، وفي هذا قال الشاعر:
صلى وصام لأمر كان يطلبه حتى حواه، فما صلّى ولا صاما .... "موسوعة الكنايات العامية البغدادية، 1/ 436".
ومن الصلاة إلى الحج، حيث وردت كنايات عدة في هذا الركن المهم، نقتصر منها على المثل القائل: "حج الجمل والبرذعه"، والذي "يكنون به عن الشرير يدعي أنه صلح وأرعوى ، ولكنه أزداد شراً وأذى"، وله حكاية، وهو "إن أحد الاشرار ، زعم أنه صلح وتاب وذهب إلى الحج ، ولكنه استمر على ارتكاب الموبقات في طريقه إلى الحج، وفي عودته، فقال الناس فيه: إنه لم يحج، وإنما حجّ الجمل الذي حمله، وقيل فيه: حج الجمل والبرذعـه، راح بذنب جا باربعه".
أعمال دينية:
كثيرة هي الأعمال التي ارتبطت بالدين -سواء بشكل مباشر كالفرائض المعروفة، أو بشكل غير مباشر كالقضاء والفتوى-، وقد أخذت الأعمال المباشرة وغير المباشرة نصيبها من المثل والكناية البغدادية، وقد مر شيء من الحديث عن الأعمال المباشرة، ويتبين من مجمل ما ضربوا من الأمثال والكنايات المتعلقة بالأعمال غير المباشرة تجد أن مقاصدهم منها راوحت بين انتقاد الشر والأشرار، والتبرم من إطالة الكلام من غير جدوى، والإنكار على تجيير الدين للمنافع الشخصية بغير وجه حق.
فلوصف اثنين يتعاونان في الشر قال البغدادي: "وَاحِدْ يِقْضِي، وَوَاحِدْ يفْتِي"، وللتبرم من إزعاج الإطالة في الحديث وعدم جدواه قالوا "مرحبا رضا"!، وضربوه لمفتي مدينة الحلّة في العهد العثماني، وكان ضيق الصدر، متبرماً بالناس، سريع الضجر، قصده رجل في حاجة، فلما سلم عليه وجلس، قال له: من أنت؟ فقال مجيباً: أطال الله بقاء سيدي المفتي، وأدام علاه، أنا المخل ص لكم الحاج محمد عبد الرضا بن الحاج محمد امين الحلي، فاغتاظ المفتي منه، وقال له: (مرحبا رضا)، يريد أنه ما دام اسمه، رضا، فإن باقي الحديث آل كله عبث ولغو".
وعمن يحاول جر الدين لمنافع شخصية قال البغدادي "لگالها فتوى"، فالجري وراء المنفعة الشخصية -ولو على حساب حقوق الغير أحياناً- هو أمر شائع عند كثيرين، وتجنباً لما يقعون فيه من الحرج بين الناس بسبب ذلك، يحاولون الحصول على فتوى شرعية تبيحه لهم، وبعضهم يحتال حتى في طريقة طرح الإستفتاء، ليرغم المفتي أو الفقيه للإجابة على سؤاله بما يشتهي، فيتحقق مراده بالحيلة من دون وجه شرعي.
مراؤون ومتشددون:
انتقد البغدادي المرائين بمرارة، وشنع على أفعالهم بقسوة، ووصفهم بصفات قاسية لأنها لا تنسجم مع أخلاق البغدادي الأصيلة التي ورثها أبا عن جد، فقال عمن يتستر بالتدين لاضرار الناس، أو يأكل أموالهم ظلماً "الوُجُوْه تُسَبِّحْ، والكُلُوبُ تُذَبِّحُ"، أي كأنما يذبحون الناس بافعالهم البشعة هذه وأشنعها التستر بالدين لتبرير باطلهم، ومثله قول البغدادي "جوا المسبحة مذبحة"، وهي أيضاً "كناية عن الشرير الذي يتظاهر بالتقوى ".
وورد في الأمثال البغدادية قولهم "چاوي گصته"، وهي الكي الذي يقوم به البعض في الجبين ليبرز منه موضع السجود، فيبدو أمام الناس بمظهر المتقين، مع أن معنى "سيماهم في وجوههم" إنما هو الشحوب والإصفرار الناجم عن السهر لقيام الليل، وإمعانا بالسخرية من هذا الفعل، "روي أن اثنين كانا جالسين، فمر بهما ثالث على جبينه أثر الكي، فقال أحدهما لصاحبه: ألا ترى هذا قد كوى جبهته ليوهم الناس بأنه من المصلين الزهّاد ، فقال له صاحبه: إذا عاد الرجل فسوف أنقل له ما وصفته به، لئلا تكون غيبة، فقال له صاحبه: إرو له ماقلت، حتى تكون نميمة"!!.
وقد أعرضت في هذا الباب عن التطرق إلى أمثال ذات معان تقترب من معاني الأمثال السابقة، وذلك لبشاعة بعض المفردات المستعملة التي لا ينسجم إيرادها مع هذا المقام.
ولم يكن حال المتشددين الذين تناولهم البغدادي بالنقد اللاذع بأفضل من حال المرائين، فقد وصفوا المتشدّد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنه "بوليس السماء"، وقد أورد المرحوم عبود الشالجي حكاية في هذا الصدد تتعلق بالعلامة محمد بهجة الأثري فليراجعها من أراد في (موسوعة الكنايات العامية البغدادية، 1/ 385)، ورحم الله الجميع.
الجامع ومستلزماته:
الجامع دار عبادة ومكان مقدس عند المسلمين، وفي ضوء أهميته وتأثيره في حياتهم كان له نصيب من أمثالهم الشعبية المباشرة، أو وكناياتاهم المختلفة التي كانوا يطلقونها على الجامع لكنهم يرومون بها مقاصد أخرى.
فإذا قال البغدادي عن إنسان أن "بيته جامع" فيعني أن صاحب البيت فقير لا يملك شيئاً، وإذا وصف بيتاً زاره أنه "مثل جامع اللكمانيَّة" -وهو من جوامع ديالى، (خالي من الحصير وماي البير)- فهو يعني أنه خال من الأثاث كالجامع المذكور، ومثله قول البغدادي "شيبوك الحرامي من الجامع؟"، للشخص الخالي الهم من اللصوص في أن يسرقوا شيئاً من بيته، لأنه لا شيء فيه مما له قيمة ويستحق السرقة، كالجامع!.
وبتعبير قاس عن غياب شخص تافه يقول البغدادي "جامع بليه طهارة"، وبوصف لا يقل قساوة، أطلق البغدادي على ذوي العاهات مثلاً شبههم فيه بأنهم "مثل برگان (أباريق) الجامع"، والجامع المقصود هو جامع (الأزبك) وهو ملاصق لمبنى قلعة بغداد، كان يقيم فيه جماعة من فقراء الازبك -أهل أوزبكستان، وتشبيههم بالبركان "لأن أباريق الجوامع، وهي من الفخار، ويكثر استعمالها للوضوء والاستنجاء، فتتثلم حواشيها، وتنقلع عراها وتتكسر (بلبلاتها) ويبطىء إبدالها وأصلاحها، فتبدو مجموعة من الأباريق المحطمة"!، وياله من وصف!.
وإذا تصرف المقامرون تصرفاً خرجوا به على قواعد الأمانة في اللعب فأنكر عليهم ذلك منكر منهم ردوا عليه قائلين "قابل إِحْنَا گاعدين بالجامع" أي إنهم ليسوا في مسجد لكي يحافظوا على القيم الكريمة، وإنهم ليسوا في حالة صلاة يُلتزم فيها بالأصول والنزاهة"!.
وقالوا في ذم البخل لمن ينزل ضيفاً عند أحد فيقول له "البيت بيتك، والجامع ادفالك"، وفي وصف شخص بعيد عن التدخل في أمور الناس ومشكلاتهم أنه: "من البيت للجامع، ومن الجامع للبيت"، ولمن ابتلي ببلوى، أو ضويق عليه في أمر قالوا إنه انحصر، "حصرة الچلب بالجامع"، ذلك لأنه اذا دخل كلب في المسجد ضيقوا عليه الخناق وأوسعوه ضرباً انتقاما منهم للمسجد من جناية الكلب عليه بالتلويث والنجاسة!.
وعندما تصدر هفوة بسيطة من شخص في مجلس ما، يتأثر أحد الحاضرين تأثراً بالغاً مستفظعاً تلك الهفوة، حاسباً إياها من الكبائر، وهنا يقول أحد الحاضرين دفاعاً عن المذنب بما يشبه صيغة الإستفهام "قابل وگَّع حجارة الجامع؟"، أي أنه لم يصنع شيئاً يستوجب تشديد النكير عليه، وكأنه شرع في هدم بيت من بيوت الله بقلع حجارة من الجامع!.
ولإبعاد التهمة عن النفس بين صديقين قال البغدادي "من الجامع ولا منك"، أي أني يمكن أن أسرق من الجامع مع عظم ذلك الذنب ولا افعله معك برغم صغر الذنب بالنسبة للجامع، اذعاناً منه واعترافاً بأثر الصحبة والصداقة. ولوصف مكان شديد القذارة قالوا "أوصخ من المرجانية"، ويراد منه المرحاض في جامع مرجان، فالجامع تحوطه الأسواق كل جانب، والأسواق خالية منها، لذلك كثر مرتادوا المرجانية، فشاع القذر في جنباتها، فذهبت هذه كناية!.
ولوصف التزام شخص بالصلاة في الجامع قال البغدادي عنه أنه :"مشگِّگ حصران الجامع"، وبعكسه، انتقدوا أي شخص لا يصلي في المسجد، وهنا قال البغدادي معرضاً: "الحيوان ما عنده عقل وخش للجامع"، ويعني أنه من باب أولى أن يدخله الانسان الذي أكرمه ربه سبحانه بالعقل.
ومن طريف ما يذكر في انتقاد من يتحجج بحجج واهية كي لا يذهب إلى الجوامع، قال البغدادي عن مثل هذا "لِكَى بَابِ الجامع مسدود، قال: آني مبطل من الصلاة"، وفي انتقاد الطمع قالوا: "إله ولأخوه البالجامع"، وأصل المثل أن رجلاً طاف على البيوت يستجدي، فأعطوه طبقاً فيه طعام، فقال لهم: إن له اخاً في الجامع فأين طبقه؟"، والأطرف من هذا قولهم عن الشرير الذي يرونه في الجوامع "شُجَابِ الجِنِّي لِلْجَامِع؟"، وهكذا.
المنارة:
المنارة من أهم أجزاء الجوامع، كان المؤذن يصعد عليها ليرفع منها الأذان، ثم استعيض عن صعوده بمكبرات صوت منذ الربع الأول للقرن العشرين تقريباً. وليست كل الجوامع ذات منائر، فلبعضها أربع منائر، أو اثنتان، ومنها -وهو الأغلب- ما يكون له منارة واحدة، ومن الجوامع من ليست له منارة، وهنا يتم وضع مكبرات الصوت فوق القباب، أو على سطح الجامع إن لم يكن له قبة.
والمنارة، هي أشهر أجزاء الجوامع التي أطلق عليها البغداديون أمثالهم وكناياتهم الشعبية، وكالعادة، كان من وراء ذلك الكثير من المقاصد التي أرادوها. فلوصف بليد جاهل قال البغدادي أنه "ما يفرق بين الألف والمنارة"، وكنوا عن المبتلى بمشاكل غيره أنه "شايل منارة الجامع"، للتعبير عن ثقل الهموم البادية عليه، وللتحذير من اقتراف جريمة لا يمكن التستر عليها قال: "ليبوك المنارة يسوي لها مكان"، وهذا واضح، وهو أن على الإنسان أن يعد العدة لكل شيء حتى لا يفتضح أمره بين الناس، وليس المراد منه سرقة المنائر بعينها، فهذا غير ممكن!.
ولتحقيق طموح كبير قال البغدادي "ليطم -الذي يردم- بير، لازم يفلش منارة" وهذا يعني القيام بفعل كبير ينسجم مع تحقيق ذلك الطموح الكبير. وللنقد قال واصفاً ما يسمعه من المبالغات أنها "منارة من ثلج"، بمعنى أنها لا تستقيم.
وفي مثلين لوصف تبدل الأحوال بالناس ارتفاعاً ونزولاً قال البغدادي: "من الطهارة للمنارة" لوصف ارتفاع الخسيس والوضيع الذي يحالفه الحظ فيعلو، والطهارة هي موضع النجاسة، كما قال عاكساً المثل: "من المنارة للطهارة "، لوصف من "تنزل به الأيام بعد العز ورفعة الشأن"!، وواضح أن معنى المنارة في المثلين هو العز والرفعة والمكانة الحسنة.
بين الأذان والمنارة:
ترتبط المنارة بالأذان في الجوامع، وكذلك تربط بعض الأمثال البغدادية بين الاثنين، إذ يقول البغدادي عمن جاهر الآخرين بالخصومة والعداء وجهاً لوجه أن فلاناً "صعد وَذَّنْ عالمنارة"، غير أن أشهر مثل بغدادي متداول في هذا الباب إلى الآن هو قولهم "لو توذن"، وقليل منهم يعرف معناه، والمثل بصيغته الكاملة هو "لو توذن عالمنارة"، بإضافة مفردة المنارة، وذلك ليكون الموضوع أكبر وأشهر بين الناس، ويسوق البغدادي هذا المثل لإعلام المقابل أنه لن ينفذ طلبه، ولهذا المثل قصتان قريبتا المعنى، سأورده باختصار.
وقد ورد أن رجلاً كانت له مظلمة عند الحاكم، وحاول الوصول اليه فلم يفلح، فابتكر طريقة لذلك، وهي أنه أذن في منتصف الليل في غير وقت صلاة، ولما سمع الحاكم الأذان استدعى شرطته للقبض عليه كي يعاقبه لأنه استهان بشعائر الدين بالتأذين في غير وقته، فلما مثل بين يديه حكى له مظلمته، فأنصفه الحاكم وأكرمه وعفا عنه، وفي قصة أخرى أن الحاكم -بعد هذا الموقف- اخبر الرجل بأنه إذا رأى منكراً لا يستطيع تغييره فالعلامة بينهما أن يؤذن في غير وقت الأذان، وقد علم الناس بهذا الحديث وكانوا يتحاشون الرجل، ولم يقع منهم منكراً بعد ذلك ابداً.
ومن الكنايات والأمثال إلى حادثة طريفة نختم بها الحديث عن الأذان والمنارة، رواها حسين الكرخي في كتابه مجالس الأدب في بغداد 388-389، جاء فيها:
كان في مدينة الحلة مؤذن اسمه (قُني)، اعتاد بعد الانتهاء من الآذان أن يردد هذه العبارة:
طاح حظ إلما يصلي وطاح حظها إلما تصلي!؟
وفي أحد الأيام صادفه في السوق أحد القصابين التاركين للصلاة، فتصدى له وأخذ يؤنّبه قائلاً: لماذا تشتمني كل يوم وقت الأذان من على المنارة؟ وقبل أن ينتظر الجواب ضربه بجريدة نخل كان يحملها على رقبته دون أن يعطيه مجالاً للاعتذار. فتركه (قني) وفرّ من أمامه هارباً خشية أن يبطش به. وفي اليوم الثاني صعد (قني) إلى المنارة، وبعد أن أذن، حث الناس على الصلاة، ولكن بطريقة تختلف عن طريقته السابقة ، فقال: طاح حظ إلما يصلي، وطاح حظها إلما تصلي، من حشه الگصاب!.
النتائج:
بعد هذه الجولة، وجدنا أن البغدادي يتمتع بأريحية كبيرة في إطلاق المثل والكناية المتعلقة بالدين، بل له في ذلك ذائقة أدبية وفنية ملفتة، وهو ما أسهم في سرعة تداولها وانتشارها وشهرتها، وقدرتها على البقاء والإنتقال بين الأجيال كرسائل اجتماعية برغم مرور كل هذه الأعوام، لأنها صورت -بعمق وصدق- مواقف مختلفة من صميم حياتهم.
ومن هنا أظهرت الكنايات والأمثال الدينية المعروفة في الثقافة الشعبية البغدادية أن البغدادي:
إنسان متدين، يعظم حرمات الدين، وفرائضه وسننه، وما تدعو إليه من فضائل وقيم إنسانية واجتماعية.
يعظم الجوامع، ويعد أهانتها والمساس بها وتحريف مقاصد إنشائها من المنكرات العظيمة التي لا يمكن السكوت عنها.
يقدر رجال الدين الملتزمين الصالحين، وينتقد بشدة مواقف المدعين والمرائين ونحوهم من الجهلة والمنتفعين.
يحب المواعظ والدروس الدينية، ويتأثر بها، لكنه يفضل أن تكون موجزة، لأن خير الكلام ما قل ودل.
يرفض المبالغات والأكاذيب والخزعبلات، وينكر إلصاقها بالدين عنوة، لأنه يحب أن يتدين على بصيرة.
لا يهتم بمظاهر الدين الخارجية كالجبب والعمائم واللحى والألقاب وإنما بما يعكسه أصحابها من تقوى وعلم وحلم.
حينما يضرب مثلاً أو يطلق كناية ظاهرها مخالفاً للقيم البغدادية إنما يريد منها مقاصد أخرى، فالأمثلة تضرب ولا تقاس.
يرفض التشدد والتطرف في الدين، ويرى أن التوسط هو المنسجم مع روح الشريعة التي اختارت لخير الأمور أوسطها، ولهذه الأمة أن تكون وسطاً بين الأمم.
انتهى
الشيخ جلال الحنفي البغدادي رحمه الله وكتاباه في العامية والأمثال البغدادية
العميد المتقاعد عبد الرحمن التكريتي رحمه الله وكتابه جمهرة الأمثال البغدادية
الأستاذ عبود الشالجي رحمه الله وكتابه موسوعة الكنايات العامية البغدادية