الجاحظ وريادة البحث العلمي

 

 

عادل محمد علي
وزارة الشباب ـ دائرة الرعاية العلمية

ـ1ـالمنزع العلمي في كتاب الحيوان
المتتبع لمؤلفات الجاحظ العديدة يعجب من سعة اطلاع هذا الرجل و يقف حائرا امام الاساليب العلمية التي اختطها لنفسه في منهاج التاليف و الكتابة وتنوع معارفه ، وعمق ثقافته مما جعلته يهدي عطاء خصبا للناطقين بالضاد .
يمتلك الجاحظ عقلا قويا لا يسع و لا يتقبل الخرافات ، بل هو يهزأ من يقبلها ويدخلها في حسابه . وهو في كثير من الاحيان يقف على الاعتقاد حين يجرب ويشك ويدعوا الى الشك حتى تثبت صحة النظرية . في الوقت الذي كانت فيه افكار المعلم الاول ارسطو مسيطرة على عقليات اكثر علماء العرب ، كان الجاحظ يرفض قبول ما ياباه العقل والمنطق حتى ولو كان مصدره ارسطو . وهو لا يقبل بالحواس ، حيث يرفضها لانه يعتقد بانها معرضة للخطا مهما ابدت مظاهر الوجود او احداث الحياة للانسان من خلل الحواس ، حيث ان الواقع يقترن دائما بالعقل والعقل دائما يعتمد الاستنتاج والاستدلال والمقارنة والمقايسة والمفارقة . وهذه جميعا تستند الى استخلاص الحقيقة واستقراء النتيجة . وهذا مما جعل الجاحظ متحفظا في قبول الغرائب التي سمع عنها او طالعها في مؤلفات الاخرين فهو لا يرفضها ولا يتعبطها اعتباطا وانما يقف منها بين ذلك موقف الملتمس لوجه الحق لا يعنيه اان يكون ذلك الحق غريبا ام لا . ومن هنا اتبع الجاحظ في كتابه الحيوان نهجا واسلوبا عقلانيا اختياريا يقوم على المعاينة والمشاهدة و الاختيار عندما تقتضي الحاجة لذلك ، وساحاول من خلال بحثي هذا ان اتناول الاسلوب والمنهج الذي اختطه الجاحظ لنفسه في وضعه كتاب الحيوان ، ثم بمقارنة ما جاء به من وصف وشرح لانواع الحيوانات واساليب معيشتها وبيئاتها وسلوكها مع ما جاء به علم الحبوان الحديث وقد استطاع الجاحظ ان يسبق العصر الذي عاش فيه في غياب الوسائل العلمية التطبيقية التي تواكب البحوث النظرية كما متبع الان في مراكز البحوث ومعاهد الدراسات التطبيقية ذات الاختبار التجريبي .
منهج الجاحظ في دراسة الحيوان :
لقد اختط الجاحظ لنفسه منهاجا علميا بز فيه كل العلماء في مجال دراسته للعلوم عامة وللحيوان خاصة ، فهو يستهل اي موضوع يتناوله بالتقسيم و التحديد و التعريف بغية الابائة و الوضوح فيبدأ بتقسيم الكائنات على هذا الشكل :
" ان العالم بما فيه من الاجسام على ثلاثة انحاء : متفق ، ومختلف ، ومتضاد " (1)
ثم يقدم تقسيمات اكثر دقة وتفصيلا ، فيقسم الكائنات الحية الى قسمين : حيوان ونبات ثم يقسم الحيوان الى اربعة اقسام شيء يمشي ، وشيء يطير ، وشيء يسبح ، وشيء ينسلخ (2) .
ويحاول ان يعطي لتقسيمه هذا علمية اكثر حيث يقول : " الا ان كل طائر يمشي وليس الذي يمشي ولا يطير يسمى طاثرا " (3) . وبالنظر لدقته في السرد العلمي ياخذ في تحديد الحيوانات التي تمشي فيقسمها الى اربعة اقسام " ناس ، وبهائم ، وسباع ، وحشرات " . ومن هذه الدقة العلمية التي لازمت الجاحظ نراه يقسم الطيور هذا التقسيم ويضع كل منها في مكانها الصحيح " سبع وبهيمة وهمج . والسباع على ضربين : فمنها العقاق ، والاحرار والجوارح ، ومنها البغاث وهو كل ما عظم من الطير : سبعا كان ام بهيمة اذا لم يكن من ذوات السلاح و المخالب المعققة كالنسور و الرخم و الغربان ، وما اشبهها من لئام السباع " (4) .
وعند النظر فيما وصل اليه الجاحظ في مجال تصنيف الحيوانات ، يتوضح للباحث ان هذا العالم قد سبق كل من حاول تصنيف الحيوانات بصورة اقرب الى التصنيف العلمي الصحيح والذي اسنده الاوروبيون الى العالم السويدي كارل لينوس .
وعن تقسيم الطيور يقارن بين مختلف الحيوانات التي تطير فليس عنده كل من امتلك جناحا او طار فهو من الطيور . وهذا كلام علمي له قيمته ويعطي دلالة على اتساع تفكير الجاحظ .
كذلك في الحيوانات البحرية فليس كل حيوان يعيش في البحر من الاسماك وانما هناك العديد من الكائنات التي تختلف اختلافا كبيرا من حيث الشكل والموقع التصنيفي والمعيشة والسلوك . " وليس ايضا كل عائم سمكة ، وان كان مناسبا للسمك في كثير من معانيه . الا ترى ان في الماء كلب الماء وعنز الماء وخنزير الماء وفيه الرق ( الكبير من السلاحف ) والسلحفاة وفيه الضفدع وفيه السرطان والبينيت والتمساح والدخس والدلفين واللخم والينبك وغير ذلك من الاصناف " (5)
ويقوم بمبادرة جليلة ، فهو يقيم التفرقة بين الانسان والحيوان على اساس جديد من الفصاحة والعجمة وليس على اساس النطق والصمت . فالجميع ناطق الا ان الحيوان لا يفهم ارادته من نطقه الا بنوع جنسه اما الانسان ففصيح مهما استخدم من لغة غير لغته وارادته مفهومة للناطقين بلغته او بغير لغته (6) .
وقد قام الجاحظ بتفرقته تلك بين الاساس الذي ينبني عليه ما ياتيه كل من الانسان والحيوان من اعمال بمبادرة في علم النفس الذي لم يعرف في عصره فهو يبني افعال الحيوان على الغريزة ويبني افعال الانسان على امعان فكر وتدبر وتدريب فالحيوان وان اتى بالغريزة ما قد يعجز عنه الانسان من عمل معين لا يستطيع ان ياتي عملا اخر اقل من ذلك العمل المعين في جهده ومشقته او في اتقانه وصنعته بينما يعجز الانسان بفكره وتدبيره وتعليمه وتدريبه ان ياتي العمل وضده ، ما احتاج منه فن واتقان صنعه وما لم يحتج كل ذلك او بعضه.
الملاحظة والتفكير المستنتج من العقل عند الجاحظ :
كان الجاحظ يقول : " اعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له " . ومعنى هذا اي اعرف الشك لتعرف به اليقين فالشك في نظره سبيل الى اليقين فهو لا يشك في الامور لمجرد الشك وانما يشك ليصل الى يقين قاهر . وفي كثير من الاحوال وجد الجاحظ نفسه يتقبل بعض الاحكام من غير استنتاج ومن غير جدل يتقبلها كامور بديهية حتمية كوجود الخالق وقدرته اذ ان كل ما في الطبيعة ينم عن الخالق وقدرته فموقعه منهاموقف المسلم المؤمن (7) .
اما في غير هذه الموضوعات ، فان الجاحظ يلزم جانب الحذر ، وكان يتاكد من صدق حامل الخبر قبل الخبر. وعندما لا يصدق خبرا او يشك فيه فانه يثبت ذلك مع استخدام الفاظ مثل : زعيم ، ويزعمون ويزعم ، وقيل . ولا يكتفي الجاحظ بايراد الزعم ، ولاسيما ان كان صادرا عن المشهورين من العلماء ، بل يعمل على مناقشته وتفنيده ، ويخرج منه باستدلالات يدحض بها كثير من الخرافات والاساطير فهو نفسه يدعوا الى اعتماد العقل دون الحواس لان الحواس خادعة . ومما اهتدى عليه الجاحظ بعقله العلمي الحاد ان النمل تاخذ من الحب الذي تدخره للشتاء جزء الانبات والتناسل لئلا يفسد ويتعفن وقد اعجب الباحثون بذلك ومنهم برادن ، وكان " بلينوس " قد اهتدى الى ذلك من قبل ، ولكن ابا عثمان اهتدى اليها بتجربته الخاصة ، لا بالنقل من غيره (8). وقد ادرك الجاحظ ان الاساطير اذا ما زجت العلم افسدته وذهبت قيمته البحتة لذا يقول : " وقالو في الخلق المركب ضروبا من الحق والباطل ، ومن الصدق والكذب فمن الباطل زعمهم ان الشبوط ولد الزجر من البني، وان الشبوط لا يخلق من الشبوط وانه كالبغل في تركيبه وانساله " (9) .
وناقش الجاحظ احكام ارسطو مناقشة الند للند ، ولم يتورع عن اتهامه بالجهل في اكثر من مكان ولنرى رده على بعض ما قاله ارسطو الذي يلقبه بصاحب المنطق حين زعم ان اصنافا من السباع المتزوجات المتلاحقات مع اختلاف الجنس والصورة معروفة النتاج مثل الذئاب التي تسند الكلاب " وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل ، وما نظن بمثله ان يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان ولا يعرف صدقها اشباهه من العلماء ، وعندنا في معرفة ما ادعى الا هذا القول " (10) . ويعلق مرة اخرى على ما قاله ارسطو عن الكلاب السلوقية ( كلما دخلت في السن كان اقوى منها على المعاظلة ) ، حيث يقول : " فهذا غريب جدا وقد علمنا ان الغلام امر ما يكون ، واشبق وانكح واحرص ، عند اول بلوغه . ثم لا يزال كذلك حتى يقطعه الكبر، او اصفاء ، او تعرض له افة " (11) .
وفي هذا التعليق نقض صريح لنظرية ارسطو ، وهو نقض مبني على واقع التجربة والاختبار . ولم يكن ارسطو هو اول واخر من كان هدف نقد الجاحظ ، فقد كان زرادشت الحكيم الفارسي هو الاخر قد تعرض لتعليق الجاحظ عندما ادعى بان السنور اذا بال في البحر يهلك عشرة الف سمكة ، والجاحظ يرد عليه ساخرا: " هل سمعت بحجة قط او بحيلة او باضحوكة .. يبلغ مؤن هذا الاعتلال " (12) . ويمتلك الجاحظ قوة استنتاج هائلة فعندما تحدث عن اسباب كثرة انتشار الذباب في بلاد الهند ، ويضع لذلك تعليلا علميا معقولا فيقول : " وهذا يدل على عفن التربة وسخن الهواء " (13) . ويرد الجاحظ بشدة على اي خبر لا يتفق والمنطق العلمي الذي كرس حياته من اجله وهذا مثال لنقده للذين يزعمون اخبارا عن بعض الحيوانات والتي لا تمت للعلم بصلة من قريب او بعيد بشيء فيقول : " والذين زعمو ان البغل انما طال عمره لقلة السفاد ، والعصفور انما قصر عمره لكثرة السفاد وغلمته ـ لو قالوا على جهة الظن والتقريب لم يلمهم احد من العلماء . والامور المقربة غير الامور الموجبة ... " (14) .
وهكذا نجد ان الجاحظ كان يستخلص الحقائق العلمية التي يتصيدها ويرد بروح فلسفية عالية ونقد مبني على التجربة على بعض الخرافات والاساطير التي شاعت بين الناس ، والتي انتشرت انتشارا كبيرا في كتب من سبقه باعتبارها من الحقائق العلمية فيتصدى لها ويدحضها بالبرهان والاسانيد التي تلائم الحقائق العلمية الصرفة .
بحوث الجاحظ تعتمد على المشاهدة والتجربة :
كان الجاحظ من اشهر علماء العرب في مجال استخدام التجارب والبحوث والمشاهدة في اسناد وضع مؤلفاته وخصوصا كتابه الحيوان وقل ما كان يؤمن او يصدق بكل ما يسمع لذلك كان الجاحظ يهرع دائما للتشبث مما يسمع عنه ، كلما سنحت له الفرص ، حيث يشاهد ويختبر في وقت كان التحقيق العلمي لا يزال في طفولته المبكرة والخرافات والاساطير منتشرة بين الناس بصورة شائعة . وفي هذا الصدد يقول الدكتور حسين فرج زين الدين : " والجاحظ في الحيوانات ملاحظات ومشاهدات ، تميزه عن غيره من فلاسفة وكتاب تلك العصور ممن كتبوا في الحيوان ، وتقربه الى ناحية العلم اكثر منهم ، بل ان له بالفعل بعض تجارب علمية اجراها بنفسه ، وهي وان كانت لا ترقى الى مرتبة التجارب المعملية ، الا انها ولا شك بداية طيبة ومبادرة منه على طريق العلم التجريبي " (15) . والجاحظ عالم يراقب ويفسر فعندما يشاهد طائرا قبيح الصوت ، يسرع الى صاحبه يساله عنه ، فيجيبه انه من نتاج صنفين من الطيور هما القمري والفاختة . وفي هذا الخبر نرى الجاحظ يلجا الى اصحاب الطيور من الطيور واصحاب الحيوان عن الحيون ، وهكذا. ومن عقلية الجاحظ الواسعة انه كان شديدا في طرح تفسيراته العلمية في مجال نفي الاساطير والخرافات الملفقة ، فلقد لاحظ مثلا ان بيضة الطير يبدا خروجها من جانبها العريض بينما كان في السابق يعتقد ان راسها هو الذي يخرج اولا . وعن سلوك النمل فهو يراقب حركاتها ثم يخرج بنتيجة تضعه في سلم علماء السلوك الحيواني فيقول : " وعلى اننا لم نرى ذرة ( اي نملة ) قط حملت شيئا او مضت الى جحرها فارغة فتلقاها ذرة الا واقفتها واخبرتها بشيء. فدل ذلك على انها في رجوعها عن الجرادة انما كان لاشباهها كالرائد لا يكذب اهله " (16 ) .
وعن فضل الجاحظ في مجال سلوك الحيوانات والطرق العلمية التي اختطها في بحوثه في هذا المجال يحدثنا الدكتور احمد امين فيقول : [ ان الجاحظ ، سبق الى اتجاهات قيمة فيما يسمى بسيكولوجية الحيوان ، فهو يراقب نداء الديك باليل ، ويبحث هل اذا كان في قربة وحده يصيح اولا ، ليعلم هل تصيح الديكة بالتجاوب او يطيعها . ويراقب الدجاج هل يكثر فراخها اذ كثر عديدها او نقل ؟ ويلاحظ الكلب ملاحظة دقيقة ليعلم مقدار ذكائه ووجوه تنبهه والفروق الدقيقة بين اصنافها الىى كثير من امثال ذلك ] (17) وقد روى الجاحظ تجارب كثيرة لغيره من معاصريه كالنظام وسهل بن هارون ومحمد بن الجهم الذي اجرى تجربة على الذباب لمعرفة ما اذا كان ياكل البعوض ام لا (18) .
وقد كان مذهبه الذي سار عليه هو التجربة او الامتحان كما يعبر الجاحظ احيانا ـ فقد استخدمها الجاحظ استخداما بارعا عجيبا ، وكذلك كان استاذه النظام (19) فهو يسقي الخمر للحيوانات ليرصد نتائج ذلك ، ويجري تجارب على ذكر النعام ليعرف كيف يبتلع الجمر والحجارة المحماة والحديد والزجاج والمسامير وغيرها (20) .
وان يرى الامور مع عللها وبراهينها ، يلاحظ ويحس ويتدبر ، لا يمتهن شيئا في الكون وان كان ضئيلا . يقول الجاحظ : " اوصيك ان لا تحفر شيئا ابدا لصغر جثته ، واعلم ان الجبل ليس بادل على الله من الحصاة ... " (21) وكان الجاحظ يتدرج في اساليبه ، في البحث والتقصي تدرجا عموديا ، حتى يبلغ الذروة التي يشاؤها له العلم . فهو يتدرج من الغرض العقلي فالاستنتاج المبني على المنطق والجدل فالرؤية فالاختبار والتجربة ، والحقيقة ان الجاحظ قد يكون قد سبق كثيرا من علماء العصر الحديث في مجال اجراء التجاروالاختبارات فيما يخص الحيوانات ، فقد جرب على اصناف شتى من الحيوان كالضب والحيات والظليم ( النعام ) والخنفساء والسمك والعقارب والجرذ والنمل وجرب على النبات ايضا . وكان في كل تجربة متجاربه الكثيرة يذهب مذهبا خاصا فكان في بعضها يقطع طائفة من الاعضاء وفي بعضها كان يلقي على الحيوانات ضربا من السم وحينا كان يروم في تجربته الى معرفة بيض الحيوان واستقصاء صفاته . وحينا كان يعزم على ذبح الحيوان وتفتيش جوفه وقانصته ، ومرة كان يدفن الحيوان في بعض النبات ليعرف حركاته ، ومرة يقوم بذوق الحيوان ، وكان في اوقات يبعج بطن الحيوان ليعرف مقدار ولده ، وفي اوقاتيمدى تاثيرها في الحيوان . ومن اقواله في هذا الشان ومما يؤكد اقوالنا ، يقول : " ان الناس تزعم ان الافاعي تكره ريح السذاب والشيح ، وجرب الجاحظ ذلك بنفسه وقال : " اما انا فاني القيت على راسها وانفها من السذاب ما غمرها فلم اجد على ما قالو دليلا " (22) .
ويصف برنيه زجاج وضع فيها عشرون عقربا وعشرون فارا وما فعلت العقارب بالفئران وبالعكس (23) . ويورد الاستاذ شفيق جبري عن تجارب الجاحظ ما يلي : [ قد نجد فيها صفة من صفات المجرب الحاذق واريد بهذه الصفة التطلع العلمي فان هذا التطلع قد يحمل العالم على الاهتمام بامور لايكون لها في نظر العامة معنى من المعاني وقد نجد فيها شيئا من الصفات التي تستلزمها التجربة كالانتباه والتنزه من كل غرض وانما ينقصها لوازم التجربة في عصرنا هذا فمن هذه اللوازم تنويع التجربة وبسط افاقها ونقلها من شكل الى شكل وقلبها وماشابه ذلك فلئن كان الجاحظ يجرب فيما رأناه في بعض تجاربه يذهب مذاهب مختلفة وصولا الى الحقائق فما كان ينوع هذه التجارب او يبسطها ويخرج بها من صورة الى صورة او يقلبها من وجه الى وجه ولقد كان ينقصه شيء اعظم من هذا كله ما اعتقد فما كان يذهب من التجريب على امور خاصة الى استنباط القوانين العامة وما كان يقابل بين اصناف الحيوان ويصنف ضروب هذا والمقابلة والتصنيف وكناف من اركان التحقيق في علم الحيوان وما رايناه من بعض مقابلاته قد يكون كثيرا. على ان الجاحظ وقد ضهر منذ احد عشر قرنا وليس من العدل ان تكلفه امورا لم تهتد اليها الفلسفة والعلم الا من زمن غير بعيد ] (24) . وعن اختباراته يعتمد احيانا على نفسه واحيانا اخرى على بعض اصدقائه من العلماء في اجراء مثل هذه الاختبارات العلمية على بعض الحيوانات ليستخلص منها بعض النتائج التي كان يتوخاها الجاحظ نفسه ، كما نرى فيها المنحى العلمي الذي سار عليه في كتابه الحيوان (25) . وقد اعتبر بعض المستشرقين كتاب الحيوان كتاب ادب وهو اقرب الى ذلك من ان يعد كتابا في طبائع الحيوان ورد على هذا الراي محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، ردا مقنعا مفحما لان ما حققه الجاحظ في صنوف الحيوان قبل غيره من العلماء كاف في عد الجاحظ السابق المبرز في موضوعه وفنه ، وبان الشعر الكثير الذي نقله لا يزرى بما كتب، وهويملىء على الناس روح عصره ، وما كان فيه من ادب فهو ادب واقعي ، وبجواره امتع الفوائد و المسائل الادبية الدينية واجمل النوادر والحكايات واجمع من هذا كله كلامه على اجناس الحيوان (26) .
اثر الجاحظ في علم الحيوان الحديث :
كان اثر الجاحظ واضحا وملموسا في اكثر كتب ومؤلفات العرب التي توالت بعد كتابه الحيوان وكذلك كان اثره كبيرا في كثير من مؤلفات الغرب التي تبحث في مجال علم الحيوان ، لان هذا العالم العربي الكبير كان جريئا فيما ذهب اليه في استنتاجاته والاخذ بها . فقد برهن الجاحظ من دقة ملاحظة وقدرة هائلة على التصوير العلمي واظهار المفارقات والخصائص التي تميز حيوانا عن حيوان ، لانه كان يعني عناية فائقة في تقصي التفاصيل والجزيئات وربطها بقرائنها . وهو كعالم حيوان كان يحاول ان يصنف ، وكان تصنيفه بدائيا في بعض الاحيان وان كان لم يفارق ما سبقه من تصنيف ، فالتصنيف العلمي الحق وليد القرن الثامن عشر ، اي بعده بنحو تسعة قرون (27) . وكان يحاول ان يضع القاعدة ، فمثلا يحدثنا عن الارجل ، ويذهب الى انها تكون ازواجا ، فاذا سمع بحيوان له مائة رجل لم ينكره ، ولكن اذا نقصت واحدة منها انكره . والجاحظ اول عالم من علماء الحيوان التجريبيين فقد كان يتذوق طعم لحم الحيوان حتى السام منها كالعقرب مثلا . ومن اصدق مشاهدات الجاحظ واكثرها روعة ما ذكره من الذرة (النملة) حين يقول : " ولها مع لطافة شخصها وخفة وزنها في الشم والاسترواح ما ليس لشيء . وربما اكل الانسان الجراد وبعض ما يشبه الجراد ، فتسقط من يده الواحدة او صدر الواحدة ، وليس يرى بقربه ذرة ، ولا له بالذر عهد في ذلك المنزل، فلا يلبث ان تقبل ذرة قاصدة تلك الجرادة ، فترومها وتحاول قلبها ونقلها وجرها . فاذا اعجزتها بعد ان بلغت عذرا مضت الى جحرها راجعة . فلا يلبث ذلك الانسان ان يراها قد اقبلت وخلفها كالخيط الاسود الممدود حتى يتعاون عليها فيحملنها ، فاول ذلك صدق الشم لما لا يشمه الانسان الجائع ، ثم بعد الهمة والجراءة على نقل شيء في وزن جسمها مائة مرة واكثر ...
ويصف الجاحظ لنا التمساح وصفا بديعا وعلاقته باحد الطيور المسمى باسمه وهو يذلك
يكون اول عالم درس سلوك الحيوانات وطرق التعاون (التكافل) فيما بينها فيقول : " بانه [اي التمساح ] مختلف الاسنان فينشب فيه اللحم فيعمه فينتن عليه ، وقد جعل في طبعه ان يخرج عن ذلك الى الشط ويشحى (اي يفتح) فاه لطائر يعرفه بعينه يقال انه طائر صغير ارقط ، فيجيء من بين الطير حتى يسقط بين لحييه ثم ينقر بمنقاره حتى يستخرج جميع ذلك اللحم فيكون غذاء له ومعاشا ، ويكون تخفيفا عن التمساح وترفيها ، فالطائر الصغير ياتي من هنالك يلتمس ذلك الطعم والتمساح ـ يتعرض له لمعرفته بذلك منه " . وهذه مشاهدة صادقة معروفة عن تمساح النيل ، والطائر اسمه الزقزاق المصري ( باو فيانس انجبتيوس ) وقد اخذ يقل من مصر بعد اختفاء التمساح منها (28) وعن مشاهداته في في حيوان اليربوع (وهو من الثديات ) فيقول : " انه دابة كالجرذ ، منكب على صدره لقصر يديه ، طويل الرجلين له ذنب كذنب الجرذ برفعه الصعداء اذا هرول ، واذا رايته كذلك رايت فيه اضطرابا وعجبا " . وهذا وصف علمي مطابق تماما للوصف الحديث له . ولم يغب عن الجاحظ وصفه مشابهة الحيوان للوسط
الذي يعيش فيه وبذلك كان الجاحظ قد ارس اسس علم استخفاء الحيوان او مماتنة الحيوان للبيئة التي يعيش فيها ، فيحدثنا في هذا الموضوع عن القمل والصؤاب ، فيقول : " والقمل يعتري من العرق والوسخ اذا علاهما ثوب او ريش او شعر ، حتى يكون لذلك مكان عفن وخموم . والقملة تكون في راس الاسود الشعر سوداء فاذا كانت في راس الخضيب بالحمرة كانت حمراء ، وبان كان الخاضب ناصل الخضاب كان لونها شكله ، الا ان يستولي على الشعر النصول فتكون بيضاء ، وهذا شيء يعتري القمل كما تعتري الخضرة دون البقل وجراد وذبابة وكل شيء فيه " . وكان الجاحظ قد سبق علماء الفسيولوجيا المعاصرين في [وصفه العادة واثرها في الكلاب وهي التي تسمى في العصر الحاضر ( بالانعكاسات المشروطة ) والتي قام بها العالم السوفياتي الشهير ايفان بافلوف في بحوث قيمة ادت الى تقدم علم سلوك الحيوان . ومن طريف ما يرويه في هذا الصدد " ان كلبا اذا كان يوم الجمعة اقبل قبل صلاة الغداء الى باب جارية فلا يزال هناك مادام على معلاق الجزار شيء من اللحم ، وباب لجارية تنحر عنده الجزر في جميع ايام الجمعة خاصة ، وكان
لهذا الكلب عادة ، ولم يره احد في ذلك الموضوع في سائر ايام الجمعة حتى اذا كان غداة الجمعة اقبل ، فليس يكون مثل هذا الا عن مقدارية بمقدار ما بين الوقتين ... " . ويقول الدكتور احمد حماد الحسيني [ ومن اصدق مشاهدات ودقة واسلوب وبلاغة الجاحظ العلمية ما جاء عن الحمام في ابان تزواجه ورعاية فراخه وبناء عشه] . ولنستمع لعالمنا الجاحظ يحدثنا عن وصف الحمام فيقول: " فاذا علم الذكر انه اودع الانثى ما يكون منه الولد تقدما في اعداد العش ونقل القصب وتشقيق الخوص واشباه ذلك من العيدان الخور الرقاق حتى يعملا الخوص واشباه ذلك وينسجاه نسجا مداخلا ، وفي الموضوع الذي اتخذاه واصضعاه بقدر جثمان الحمامة، ثم اشخصا لتلك الافحوصة حروفا غير مرتفعة ، لتحفظ البيض وتمنعه من التدحرج ، ليكون رقدا لصاحب الحضن وسندا للبيض ، ويرخيانها ويطيبانها وينفيان عنها طباعها الاول ويحدثان لها طبيعة اخرى مشتقة من طبائعهما ومستخرجة من رائحة ابدانهما ، وقواهما الفاضلة من ارحامهما ، مع الحضانة والاثارة لكي لا تنكسر البيضة بيبس الموضع ، ولئلا ينكسر طبائعها طباع المكان ، وليكون على مقدار من البرد والسخانة والرخاوة والصلابة ، واذا وضعت الانثى البيض في ذلك المكان ، فلا يزالان يتعاقبان الحضن ويتعاورانه ، حتى اذا بلغ البيض مداه ، وانتهت ايامه ، انصدع البيض عن الفرخ ، فخرج عاري الجلد صغير الجناح قليل الحيلة ، منسد الحلقوم ، فيعينانه على خلاصه من بيضة وترويحه من ضيق هوانه ، وهما يعلمان ان الفرخين لا تتسع حلوقهما للغذاء ، فلا يكون لها عند ذلك هم الا ان ينفخا حلوقهما الربح ، لتتسع الحوصلة بعد التحامها، وتنفتق بعد ارتفاقها ، ويعلمان انه ان امتنعت الحوصلة شيئا لا يتحمله في اول غذائه ، انه يزق بالطعم فيمزق بالعاب المختلط بقواهما وقوى الطعم ، وهو يسمون ذلك اللعاب اللبا ، ثم يعلمان ان طبع حواصلهما يضعف عن استمرار الغذاء وهضم الطعم ، وان الحوصلة تحتاج الى دبغ وتقوية ، وتحتاج الى ان يكون لها بعض المتانة والصلابة ، فياكلان من صروح اصول الحيطان وهي شيء بين الملح والحمض ، وبين التراب الخالص ، فيزقان الفرخ ، حتى اذا علما انه قد اندبغ واشتد زقاه بالحب الذي هو اقوى واطرى فلا يزالان يزقانه بالحب والماء على مقدار قوته ومبلغ طاقته وهو يطلب ذلك منهما ويبض نحوهما ، حتى اذا علما انه اطلق اللقط ،منعاه بعض المنع ليحتاج الى اللقط فيتعوده ن حتى اذا علما ان ذاته قد تمت ، وان اسبابه قد اجتمعت وانهما ان فطما فطما مقطوعا مجذوذا قوى على اللقط ، وبلغ لنفسه منتهى حاجته ، ضرباه اذا سالهما الكفاية ونهياه متى رجع اليهما للعادة ، ثم تنزع تلك الرحمة العجيبة منهما له ، وينسيان ذلك العطف المتمكن عليه ، ويذهلان عن تلك الاثرة والكد المضني من الغدو يوميا عليه ، والرواح اليه ، ثم يبتديان العمل ابتداء ثانيا على هذا النظام ، وعلى هذه المقاومات . فسبحان من عرفهما والهمهما وهناهما وجعلهما دلالة لمن استدل ومخبرا صادقا لمن استخبر ، ذلكم الله رب العالمين " .
ومن الدراسات العلمية التي ابدع فيها الجاحظ ايما ابداع ملاحظاته القيمة عن هجرة الطيور ، وهو بذلك قد ضرب مثالا رائعا على مدى عمق فكره الذي استمده من حضارة العرب العريقة وعن ذلك يقول الدكتور محمد يحيى الهاشمي [ يحدثنا الجاحظ في كتاب الحيوان عن الحمام الزاجل وعن كيفية رجوعه الى وطنه . وقد راى ان في هذا الامر عجبا ، ذاكرا لنا محاورة جرت بين ابي اسحاق وبين مثنى بن زهير وقول الاخير انه يبيلغ كرم الحمام ووفائه وثبات عهده وحنينه الى اهله انه ربما قضى الطائر دهرا بعد ان طار منه زمنا طويلا ، فمتى نبت جناحه عاد اليه ، وكلما زهد فيه كان اليه ارغب . ويعلق الجاحظ على هذه القصة سائلا: هل الطير يحن الى صاحبه ام الى عشه الذي درج منه ؟ ] (29 ) .
ويقرر الجاحظ ان الباعث على رجوع الطيور الحنين الى الوطن ويستدل بذلك بالطيور المهاجرة " التي خرجت تقطع الصحاري والبراري والجزائر والفياض والبحار حتى تصير الينا في كل عام . فان قلت انها ليست تخرج الينا على سمت ولا على هداية ولا دلالة ولا على امارة وعلامة ، وانما هربت من الثلوج والبرد الشديد ، وعلمت انها تحتاج الى الطعم ، وان الثلج قد البس ذلك العالم فخرجت هاربة ، فلا تزال في هروبها الى ان تصادف ارضا خصبا ودفئا فتقيم عند ادنى ما تجد ، فما تقول عند رجوعها ومعرفتها بانحسار الثلوج من بلادها قد اهتدت طريق الرجوع ؟ ؛ ومعلوم عند اهل تلك الاطراف وعند اصحاب التجارب وعند القانص ان طير كل جهة اذا قطعت رجعت الى بلادها وجبالها واوكارها والى غياضها واعشتها ... ثم لا يكون اهتداؤها على تمرين وتوطين ولا عن تدريب وتجريب ولم تلق بالتعليم ولم تثبت بالتدبير والتقويم " .فالجاحظ امام لغز معقد لم يتمكن العلم الحديث من حله ايضا . وقد مضى على قول الجاحظ اكثر من احد عشر قرنا وهو لا يزال لغزا معقدا .
ان الجاحظ فرق بين الطيور المهاجرة التي تترك اوطانها ثم تعود اليها من غير سابق تمرين ومعرفة وبين الحمام الزاجل الذي يتعلم ذلك ، وهو يريد ان يدلل على ان الطيور تشبه البشر في المعرفة حيث ان هنالك معرفتين هما المعرفية الفطرية والمعرفة العقلية المكتسبة (30) . ولعل تفسير هذا ات من مذهبه في الاعتزال الذي يجمع بين الوحي الفطري الكائن في الجبلة دون سابق معرفة وتمرين ودون مقدمات ونتائج وبين عالم العقل المستمد من العالم الحسي مع عمل الفكر والرؤية وهو بهذا يعتبر سابق للعلماء العصريين امثال ارنست هيكل القائل ان طبيعة الادراك في الحيوان والانسان من جوهر واحد . ويقارن لنا الجاحظ هجرة الاسماك بالطيور المهاجرة حيث يقول : " واعجب من جميع قواطع الطير قواطع السمك الاشبور والجران والبز ، فان هذه الانواع تاتي دجلة البصرة من اقصى البحار ، تستعذب الماء في ذلك الابان كانها تتمحص بحلاوة الماء وعذوبته بعد ملوحة البحر .. ونحن بالبصرة نعرف الاشهر التي يقبل الينا فيها الاشبور واصناف السمك وهي تقبل مرتين في كل سنة ، ثم تجدها في احدهما اسمن الجنس فيقيم كل جنس منها عندنا شهرين الى ثلاثة اشهر فاذا مضى ذلك الاجل ، وانقطعت مدة ذلك الجنس اقبل الجنس الاخر في جميع اقسام شهور السنة من الشتاء والربيع والصيف والخريف في نوع من السمك عند النوع الاخر " . ان دراسة الجاحظ لهجرة الحيوانات المختلفة ذاكرا المشابهة منها والمتباين ، ساعيا لاقامة البراهين بالحجج المنطقية فمشابهة عالم الاسماك بعالم الطيور من وجهة الافعال و الاعمال وخصوصا في مجال الهجرة والترحال ، هو قياس منطقي صرف اقره البحث العلمي الحديث . ومن مشاهدات الجاحظ البديعة في مجال ملاحظة بعض ضروب الحيوان فيما يخص سلوك غذائها ، فيقول : " وقد ياكل الاسد الملح ليس على طريق التغذي ولكن عن طريق التملح والتحمض". وهذا يتفق مع العلم الحديث ، حيث ان افتقاد كمية من الملح بالقدر اللازم من غذائها له اهمية في فسيولوجية الدم وتكوين بعض الحوامض التي تفرزها المعدة (31) . ويحدثنا الجاحظ عن الحيات ويصفها وصفا جيدا فيقول : " انها تلد وتبيض وانها ليست بذات قوائم ، وانما تنساب على بطنها ، وفي تدافع اجزائها وتعاونها في حركتها ، الكل من ذات نفسها ، دليل على افراط قوة بدنها . وربما كانت الحياة عظاما جسدا ولا سموم لها ، ولا تنفر بالعض ، وفي البادية حية يقال لها الحفاث ، تاكل الفار ولها وعيد منكر ، ونفخ واطهار للصولة وما اكثر ما يكون بين اعناق الحيات تحضير ، ولصدورها اغباب ، وذلكفي الافاعي اعم " .
ومن وصفه العلمي القيم مخالب الاسد واشباهه من السباع حيث يقول : " انها تكون في غلق ، اذا وطئت على بطون اكفها ترفعت المخالب ودخلت في اكمام لها ، وكذلك انياب الافاعي هي ما لم تعض فمصونة في اكمام". وللجاحظ ملاحظات كثيرة تشابة فيمايعرف اليوم بعلم الوراثة ، ففي النتاج المركب وهو ولادة بين جنسين مختلفين من الحيوان من بعض يقول الاصناف : " فقد وجدنا بعض النتاج المركب وبعض الفروع المستخرجة منه اعظم من الاصل " (32) . ومن المعروف ان النتاج المركب ممكن بين عدد من اجناس الحيوان : بين الذئب والكلبة ، بين الحمار والفرس ، بين الحمام البري والحمام الاليف ، ثم هو غير هو غير ممكن بين عدد اخر من اجناس الحيوان كالتيس ( ذكر المعزى) والنعجة ( انثى الخروف ) او بين البقرة والجاموس بينما الشبه كبير بينهما في الشكل . اما النتاج المركب بين جميع سلالات البشر فهو ممكن ، وفي هذا الصدد يقول الجاحظ : " وراينا الخلاسي من الناس وهو الذي يختلف بين الحبشي والبيضاء والعادة من هذا التركيب ان يخرج ( المولود ) اعظم من ابويه واقوى من اصليه . وراينا البيسري من الناس ـ وهو الذي يخلق البيض والهند ـ لايخرج ذلك النتاج (منه) على مقدارضخم الابوين وقوتهما ولكنه يجيء املح واحسن " (33) .
فضل الجاحظ على الحضارة الانسانية :
قد يظن الكثير ان الجاحظ ذلكم الكاتب الذي حاول ان يصنف كتابا في علم الحيوان ليكون على منوال ما قام به من سبقه من علماء اليونان كارسطو ، ويكون ذلك الكتاب مجرد سرد لاقوال قيلت ولقصص سردت ، ولكن هذا العالم العربي خرج عن هذا التقليد الاعمى فوضع موسوعته العلمية هذه في الحيوان بعد دراسات واختبارات وبحوث اعتمادا على اشخاص موثوق بهم من النواحي العلمية والفلسفية وعلى نفسه شخصيا . ولما كان العلم في العصر الذي عاش فيه الجاحظ في طفولته المبكرة ، ولعدم توافر ما لدى علماء العصر الحديث من اساليب وادوات ونظريات ليصل الى نتائج يقينية ذات اطار علمي ثابت . وبالرغم من كل ذلك فانه استطاع ان يبذر البذور الاولى لمثل هذه المعارف التي لم تكن لها اهمية تذكر على صعيد التطور الحضاري . وان مثل هذه البحوث التي تدل على باع الجاحظ وعقليته الموسوعية الشاملة واصالته في كل ما طرقه ، وهي تدعو الى الدهشة وتشير الى الروح العلمية التي كان يمتلكها اكثر علماء العرب في البحث والتقصي وتتم عن عمق جذور الحضارة العربية الاصيلة .
ان الروح العالية التي كان يمتلكها الجاحظ هي برهان اخر على ما قدمته الامة العربية من رصيد وزخم عظيمين في الثقافة والفكر العلمي والفلسفي . وان راينا عدم وجود ترتيب في المواضيع التي عالجها الجاحظ في كتابه الحيوان فان الدكتور محمد يحيى الهاشمي يجيبنا عن ذلك فيقول : [ ان شفيعه بذلك حب نشر المعرفة على اكبر عدد ممكن من الناس ، وعدم املال القارىء املال القارئ بالنظريات العلمية البحتة ، بل مزجها بالاقاصيص والشواهد ايضا ـ ومهما قيل في حقه فيكفيه فخرا انه قال باراء وتفسيرات في عالم الحيوان لم يعرفها الا اساطين العلم الحديث في العصر الحاضر ] .
وصفوة القول ان الجاحظ لم يكن من الادباء الفطاحل وحسب بل وكان كذلك عالما فذا الى جانب كل ذلك له ثقافة جمعت كل صنوف المعرفة الرفيعة . ولو كان الحاحظ قد عاش او ظهر في هذا العصر لكان اعظم فلاسفة العلم عامة وعلم الحيوان خاصة . وسيبقى الجاحظ خالدا وحيا بيننا ما دامت افكاره الشامخة باقية في افكارنا ونفوسنا وعند اجيالنا .

المراجع :
اـ الكتب :
1ـ الحيوان للجاحظ / تحقيق : عبد السلام محمد هارون اجزاء 1ـ7 ، ط3، دار الكتاب العربي ـ القاهرة ـ 1969 .
2ـ ابو عثمان الجاحظ / محمد عبد المنعم الخفاجي / دار الكتاب اللبناني ـ 1973 .
3ـ تاريخ الفكر العربي / اسماعيل مظهر / القاهرة ـ 1928
4ـ دائرة المعارف الاسلامية ، ج9 . القاهرة تاريخ اداب اللغة العربية ـ جرجي زيدان ، الجزء الثاني ـ القاهرة ـ 1957 .
6ـ دراسات في علم الحيوان ورواد التاريخ الطبيعي / د . حسين فرج زين الدين ، د . رمسيس لطفي ، القاهرة بدون تاريخ
7ـ اثر العرب والاسلام في النهضة الاوروبية / د . عبد الحليم منتصر / القاهرة ـ 1970 .
8ـ تاريخ العلوم عند العرب / عمر فروخ / بيروت ـ 1970 .
9ـ تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه / د . عبد الحليم منتصر القاهرة 1973 (ط5) .
10ـ العلوم البحتة في العصور الاسلامية / عمر رضا كحالة / دمشق ـ 1972 .
11ـ كتاب الحيوان للجاحظ / فواد فرام البستاني ( من سلسلة الروائع الاعداد 18ـ20) بيروت 1928 .
12ـ تهذيب الحيوان للجاحظ / عبد السلام هارون / القاهرة ـ 1957 ـ جزان .
14ـ الؤوح العلمية عند الجاحظ / صموئيل عبد الشهيد / بيروت 1975 .
15ـ ضحى الاسلام / احمد امين (الجزء الاول ) / القاهرة ـ 1961 (ط6)
16ـ الجاحظ حياته واثاره / طه الحاجري / القاهرة ـ 1962
17ـ الجاحظ / حنا الفاخوري (من سلسلة نوابغ الفكر العربي عدد2) ـ القاهرة 1964
18ـ الجاحظ / خليل مردم بك / دمشق ـ 1921.
19ـ تاريخ الزراعة لقديمة عادل ابو لنصر / بيروت ـ 1960 .
20ـ الجاحظ معلم العقل والادب / شفيق جبري / القاهرة / 1948 .
21ـ تاريخ الادب العربي / لبروكلمان / ترجمة د . النجار، الجزء الثالث القاهرة ـ 1974 .
22ـ مصر المامون / لمحمد فريد رفاعي /القاهرة ـ 1927 ـ الجزء الاول ، الثالث .
23ـ تاريخ الادب العربي / حنا فاخوري / حريصا 1951 .
24ـ الجاحظ / احمد الحوفي ـ القاهرة .
25ـ تطور الفكر العلمي عند المسلمين / د . محمد الصادق عفيفي / القاهرة ـ 1977 .
ب ـ الدوريات : ـ
26ـ الجاحظ / د . احمد حماد الحسيني / مجلة رسالة العلم العدد 4 ، السنة 28 ـ القاهرة 1961(ص 428ـ431) .
27ـ كتاب الحيوان للجاحظ / د . احمد حماد الحسيني / تراث الانسانية ج 2 ـ القاهرة ـ 1964 (215ـ227)
28ـ ماثر العرب في علم الحيوان / جوزف بطرس / مجلة العلوم / العدد الاول ـ السنة 3 ، بيروت 1958 . (ص61ـ63) .
29ـ من عمالقة العرب في البولوجيا / عادل محمد علي الشيخ حسين / مجلة المامون في النفط ، العدد 107،السنه 11، بغداد 1969 . (ص26ـ37)
30ـ الحيوان للجاحظ/ عبد السلام محمد هارون / مجلة المقتطف/ الجزء 104ـ105 ، القاهرة 1944 (ص460ـ84 ،178 ،347)
31ـ ماثرة الجاحظ في علم الحيوان / عادل محمد علي الشيخ حسين / مجلة العلوم العدد7 ، السنة 14 ، بيروت 1969 . (ص45ـ46) .
32ـ الطب البيطري وعلم الحيوان عند العرب / عادل ابو النصر / مجلة العلوم العددان 11و12 السنة 53 بيروت 1958 . (ص26 ـ31) .
33ـ مقتطفات من كتاب الحيوان للجاحظ / مصطفى الشهابي / مجلة المجمع العلمي بدمشق / ج 11 دمشق 1931 (ص501ـ504) .
34ـ كتب الحيوان عند العرب / د. محمد باقر علوان / مجلة المورد العددان 3و4 / ج1 ، بغداد 1972 (ص24ـ34) .
35ـ علم الحياة عند الجاحظ / د. محمد يحيى الهاشمي/ مجلو الخليج العربي ، العدد 5 ، بغداد 1976 . (ص150ـ159) .
36ـ تحليل راي الجاحظ في الطيور المهاجرة / د. محمد يحيى الهاشمي / مجلة الثقافة ، العدد 380،السنة 6 القاهرة ـ 1944. (ص444ـ446) .
37ـ لجاحظ(عصره وحياته وعلومه ومؤلفاته وفلسفته) شفيق جبري ، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ، الاجزاء من 1ـ12 ، ج11، دمشق 1931. (ص468ـ 483،557ـ564) .
38ـ كتب العرب في علوم الحياة / عادل محمد علي الشيخ حسين/ مجلة افاق عربية، العدد10،بغداد 1976.
الهوامش
(1) الحيوان ج 1 : ص 26
(2) الحيوان ج1 : ص26
(3) الحيوان ج 1 : 27
(4) الحيوان ج1 : ص28
(5) الحيوان ج1 : 30
(6) الجاحظ ـ شفيق جبريـج11،ص557
(7) الروح العلمية : ص39 .
(8) ابوعثمان الجاحظ : ص179 .
(9) الحيوان : ج1 :ض149.
(10) الحيوان : ج1 : ص185 .
(11) الحيوان : ج3 : ص517 .
(12) الحيوان : ج3 : ص533 .
(13) الحيوان : ج3 : 528 .
(14) الحيوان : ج5 : ص223 .
(15) دراسات في علم الحيوان ورواد التاريخ الطبيعي/ ص422
(16) الحبوان : ج6 : ص18 ـ19 .
(17) الحيوان : ج3 : ص320ـ321 .
(18) ضحى الاسلام : ج1 : ص398ـ399 .
(19) ابوعثمان الجاحظ : ص174 .
(20) المصدر السابق ص174
(21) الحيوان : ج2 : ص299.
(22) الحيوان : ج5 : ص365
(23) تطور الفكر العلمي عند المسلمين : ص242 .
(24) الجاحظ /شفيق جبري / مجلة المجمه العلمي العربي بدمشق ج1 ، ص557ـ564 .
(25) امراء البيان الجزء 2،ص426 .
(26) ابوعثمان الجاحظ / ص319ـ320 .
(27) كتاب الحيوان للجاحظ / تراث الانسانية / ج2/ص223
(28) كتاب الحيوان / تراث الانسانية ص 220 .
(29) تحليل راي الجاحظ في الطيور المهاجرة / مجلة الثقافة : 445 .
(30) المصدر السابق : ص 446 .
(31) كتاب الحيوان / تراث الانسانية : ص 220
(32) الحيوان : ج1 : ص137 .
(33) المصدر السابق: ص157 .

عادل محمد علي

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white