العين الأكثر زرقة" لتوني موريسون
صدر حديثاً عن دار الشؤون الثقافية العامة، عن سلسلة ترجمان، الكتاب الثالث وهو رواية للكاتبة "توني موريسون" بعنوان "العين الأكثر زوقة" ترجمة مصطفى ناصر.
"بهدوء فالامر يبقى سراً"، هكذا تستهل الكاتبة الافرو ــــ امريكية "توني موريسون" روايتها الأولى "العين الأكثر زرقة" لتشرع في بوح شفيف لكل الآلام والمآسي التي تصادف بطلتها الطفلة البريئة التي تُحملها حياة السود، مشاق واوجاع التفرقة العنصرية وخضوع الانثى وتعرضها للأذى في كل حين. بدأت موريسون كتابة الروايات الخيالية عندما كانت مشتركة مع مجموعة من الكتاب والشعراء في جامعة هاوارد حيث كانوا يلتقون ويناقشون اعمالهم، وذات مرة ذهبت موريسون الى الاجتماع وهي تحمل قصة قصيرة عن فتاة سوداء تتوق للحصول على عيون زرقاء وقد طورت هذه القصة فيما بعد لتصبح روايتها الأولى التي تحمل عنوان "العين الأكثر زرقة" والتي نشرتها عام 1970. لقد استقت موريسون قصتها هذه من امنية حقيقية لأحدى صديقاتها في المدرسة عندما كن في سن الطفولة وقد بقيت هذه الامنية للصديقة عالقة في ذهن موريسون الفطن والمبدع فحولتها الى رواية تتناول مفهوم الجمال العنصري في الستينات إذ تقول موريسون: "لم يكن التوكيد على مفهوم الجمال العنصري رد فعل على السخرية من الذات، أو نقداً مشوباً بالفكاهة للعيوب الثقافية/ العنصرية المألوفة في كل الجماعات، لكنه موقف ضد القبول المدمر بافتراضات النقص غير القابل للتغيير التي تأصلت في نظرة خارجية. لذلك فقد ركزت على الطريقة التي يمكن من خلالها لشيء قبيح مثل تحويل عنصر بأكمله الى شيطان ان تكون له جذور ممتدة داخل الفرد الأكثر رقة في المجتمع: الطفل؛ الفرد الأكثر حساسية وضعفاً، الأنثى. في محاولة للتعبير فنياً عن الدمار الذي يسببه الاحتقار العنصري المادي". فالتمييز بين القبح والجمال لدى بيكولا الطفلة السوداء التي تخلو ملامحها من اي علامة للجمال فترى في العيون الزرقاء علامة مميزة وتتمنى من الرب ان يمنحها هذه العيون، إذ انها كانت تقارن نفسها بصديقاتها من البيض امثال مورين وجوانا وميشلينا حتى تشكلت لديها عقدة ازدراء الذات: "اما بالنسبة لبيكولا، فكانت تتوارى خلف بشاعة منظرها. كانت تختفي، تحتجب، تنكسف كالشمس ـ وغالباً ما تسترق النظر من خلف ذلك الحجاب، لكنها لا تشعر بشيء سوى الحنين لأن تعود للاختباء وراء قناعها". ولم تكن بطلة روايتنا تعاني من أزمة التمييز بين القبح والجمال فقط فقد عانت من التفرقة الطبقية والعنصرية اذا تضطرهم الى الانتقال من مكان لآخر، وللتعبير عن هذه المعاناة لابد من ان اقتبس هذه الفقرة التي تعبر احسن تعبير عن ما يعتلج في خاطر الراوية: "هناك فرق بين ان يلقى بالمرء الى الخارج وان يلقى به الى العراء. إذا القي بك الى الخارج، فيمكنك الذهاب الى مكان آخر؛ أما اذا كنت في العراء، فليس هناك مكان تذهب اليه. كان الفرق دقيقاً وحاسماً. العراء نهاية لشيء ما، حقيقة مادية غير قابلة للنقض، تحدد ملامح حالتنا الغيبية وتكملها؟. ما دمنا أقلية من النواحي الطائفية والطبقية، فقد كنا نتنقل هنا وهناك بشكل او بآخر على هامش الحياة، نكافح من اجل توحيد نقاط ضعفنا والاستمرار بالصمود، او التسلل كل على انفراد للانضواء تحت الطيات الكبيرة من الكساء". اضافة الى هذا، لطالما دأبت الروائية توني موريسون على معالجة موضوعة العبودية في رواياتها و "العين الأكثر زرقة" واحدة منها، تجسد الرواية هذا الموقف عندما تعمل بولين وليمز لدى احدى السيدات الكبار في السن من البيض، إذ تحرص على خدمتها بكل اخلاص لكن عندما يتهجم عليها زوجها "جولي"، تطردها دون ان تمنحها اجرها. كما تناقش الرواية موضوع اغتصاب الفتيات الصغيرات وشعورهن بالخضوع والذلة والامتهان حيث نظرة الاحتقار واللوم التي توجه لهن دون محاسبة المذنب او حتى لومه على فعلته، تبدأ موريسون كما اسلفنا روايتها بـــ "عبارة" "بهدوء فالامر يبقى سراً، لم تكن ثمة اي هندباء برية في خريف 1941، تصورنا وقتها، ان السبب في ذلك هو ان بيكولا كانت ستلد طفلها من ابيها فلم تنمو شجيرات الهندباء البرية"، انها بدأت اولاً بمناقشة السر الذي لم يبقى سراً وبالخريف موسم الجفاف وذبول الاشياء على انه في امريكا موسم لنمو شجيرات الهندباء البرية ولعلها اوعزت عدم نمو هذه النباتات الى الخطيئة التي ارتكبت "هو ان بيكولا كانت ستلد طفلها من ابيها" وفي عام 1941 هو عام بداية الحرب العالمية الثانية وهذه اشارة الى فتح "خزانة" من الاسرار التي تتعلق بمأساة العالم اجمع. هذه التعبيرية الدقيقة واسلوب تكثيف العبارة المقتصدة الغزيرة بالمعنى المعبر عن الافكار والاحداث، التي تصفها بدقة متناهية وشاعرية دفاقة تآسر القاريء وتأخذه الى عالم من السحر والانبهار، جعلت موريسون كاتبة من الطراز الأول. ففي عام 1993 حصلت موريسون على جائزة نوبل للآداب وجاء في كلمة المؤسسة المانحة للجائزة "تميزت روايات موريسون بقوة البصيرة والمضمون الشاعري الذي يمنح الواقع الامريكي ملامحه الاساسية".
فيما يتعلق بتقنيات السرد فقد اتبعت التعبيرية رغم ان نواة روايتها كانت قصة واقعية الا انها طعمتها بخيال تفيض منه امنيات مستحيلة "عيون زرقاء على بشرة سوداء"، ورغم الاستحالة تتحقق امنية بيكولا لكن هذا التحقق يآتي مشوهاً ومسبباً ضراراً كبيراً إذ يقوم الكاهن الساحر بمنحها عيون اكثر زرقة من خلال اصابتها بالعمى حينما تلمس الكلب الاجرب الذي كان يريد الكاهن التخلص منه. وتبدأ الرواية بحكاية حمل بيكولا من ابيها الا اننا نجد نهاية هذه الحكاية في الصفحات الاخيرة رغم ان الرواية تقف عند فصول ومحطات، فتبدأ من فصل الخريف، وفيه: تقف عند محطات المنزل الاخضر والابيض ووصف الطفولة والبراءة وجمال الاشياء وألفة الاسرة. ثم الشتاء، الذي يقف عند محطة اللعب مع قطة البيت، حيث الدفء، ودور الأب في تحصين الاسرة وتوفير مستلزمات الحماية من الحيوانات المفترسة والبرد، لكنه يبقى فصل تتطلع فيه الاسرة لاطلالة الربيع. الربيع، يتعدل هنا مزاج الام، فتطلق اغنيات الربيع واللعب مع القطة (انظروا الى أمي أمي لطيفة جداً اماه هل ستلعبين مع جين امي تضحك اضحكي امي اضحكي امي اضحــ ......) والكلب (انظروا الى الكلب الكلب ينبح وينبح هل تريد ان تلعب مع جين انظروا الى الكلب وهو يركض.....) وينضم لها الأب بابتسامة عريضة (الى أبي انه ضخم وقوي ابتاه هل ستلعب مع جين ابي يبتسم ابتسم ابتسم......). أما فصل الصيف، فوقف عند محطة (انظروا انظروا ها قد اتى صديق الصديق سيلعب مع جين سيلعبان لعبة جميلة العبي جين العبي ....) كانت هذه العبارات تجمع بين السخرية والتوكيد، ربما لغرض لفت نظر القاريء، وتشويقه وشد انتباه، او ربما هي طريقة تخرج عن مألوف العبارة الاعتيادية، لهذا الغرض او ذاك.
وقد توجت موريسون روايتها بخاتمة رائعة أوضحت فيها؛ امنية بطلتها التي تثير اشمئزازاً عنصرياً من ذاتها، وذكرت مفهوم الجمال، واللغة، والصراع حول كتابة تناقضات السرد وعن صوتها وصوت السارد اللحوح، والاصوات التي استخدمتها في اللغة (المتكلم، المسموع، العامية) لقد وصفت التكتيك السردي بدقة متناهية: "كانت إحدى المشاكل تتمثل في تركيز ثقل الرواية على متابعة شخصية ضعيفة ومعرضة لمواجهة الاخطار، وربما من شأن هذا ان يقود الى تحطمها الى شعور القراء بالارتياح لدى إشفاقهم عليها بدلا من استجواب انفسهم عن سبب التحطيم. كان الحل الذي اعطيته ـــــ هو تجزئة السرد الى اجزاء ينبغي ان يعاد تجميعها من قبل القاريء ـــــ وقد بدى هذا بالنسبة لي فكرة جيدة، رغم ان تنفيذها في الوقت الحالي لم يعد يقنعني. والى جانب ذلك، فالفكرة لم تنجح: لقد بقي الكثير من القراء عند حد التأثر لكنهم لم يتحركوا الى ابعد من ذلك". ومع كل هذه الدقة والتشخيص واستخدام ادواتها، نرى ان موريسون لم تكتفي براويتها بل تسحبها من ميدان السرد لتمنح شخوصها فرصة للتعبير عن ما في ذواتهم بشكل مباشر، فتقتطف بين الحين والآخر جزء من حديث احدى بطلات الرواية لتضعه بين قوسين صغيرين ليتحدث البطل/ البطلة للقاريء مباشرة. في نهاية الخاتمة تقول موريسون عن روايتها: "مع وجود استثناءات قليلة جداً، كان النشر الأولي لرواية (العين الأكثر زرقة) يشبه حياة بيكولا نفسها: لقد استبعدت، اعتبرت تافهة، أسيئت قراءتها، وتطلب الأمر خمس وعشرين سنة قبل ان تحظى الرواية بحالة نشر محترمة في هذه الطبعة.
تبقى رواية "العين الأكثر زرقة" عملاً مميزاً للروائية الكبيرة "توني موريسون" واختياراً موفقاً للمترجم مصطفى ناصر.