إضاءاتٌ جديدةٌ حولَ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليهِ في "كِتابِ" سيبَوَيهِ
جان باتريك غيوم
جامعة باريس III
ترجمة: أنيسة زريق
جامعة القيروان
ألهَمَتني أعمالُ بوهاس ودياب دورانتون بعضَ الملاحظاتِ التي أودُّ أنْ أسوقَها في هذا المقال. تَتَعلقُ النقطةُ الأساسيّةُ في عرضِهما بالفصلِ الثالثِ من كتابِ "الكتاب" لسيبَوَيهِ حيثُ يُطبّقُ مُصطَلَحي المُسنَد والمُسنَد إليهِ على التوالي وحصريّا للخبرِ والمُبتَدَأ في الجُملَةِ الإسميّةِ، مُقتصرًا فيما يتعلق بالجُملَةِ الفعليةِ على التأكيدِ على أنَّها تتمتّعُ بالهيكل نفسه، ولا يَسَعُني سوى أنْ أوافقَ تَمامًا على هذا التفسير: فهوَ الوحيدُ الذي يَستندُ إلى بياناتِ النَّصّ وهو مَنطقيٌّ في ذاتِهِ، مما يُعفينا من إدخالِ أيِّ تَعديلٍ عليه. أمّا عن النقطةِ الثانيةِ والثانويةِ بشأنِ الطابعِ "التّقنيِّ" للمُصطَلَحَينِ المَذكورينِ عندَ سيبَوَيهِ، فسأميلُ هنا مَرّةً أخرى إلى مُشاطرة هذا الرأيِ، ذلكَ أنّنا إنْ قُلنا خلافَ ذلكَ فسيُصبحُ لزامًا علينا الاعترافُ بمعناهُما الأوّلِ الحَرفيّ والماديّ، وهو أمرٌ غيرُ مَعقولٍ إلى حدٍّ ما.. وتبعًا لذلكَ، تَجدرُ الإشارةُ إلى النقاطِ الآتيةِ:
1) ليسَ من السّهلِ التمييزُ بشكلٍ لا لَبسَ فيه، في "الكتابِ" بينَ ما يَنتمي إلى المُعجَم التّقنيِّ البَحتِ وما لا يَنتمي إليهِ.
2) إنَّ المُصطَلَحاتِ المَعنيّة، بعدَ هذا العرضِ العامّ، لم يَعدْ يَستخدمها سيبَوَيهِ، إذ يُشيرُ إليها مَرّتين فقط في الكتاب (الجزء الأول/ ص 218، والجزء الثاني/ ص61 من طبعة ديرمبوغ).
يُمكِن أنْ تؤدّيَ هذهِ الملاحظةُ الثانية (وهيَ ليستْ جَديدةً تمامًا كما هوَ الحالُ للأولى) إلى التَساؤلِ حولَ وضعِ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليهِ ليسَ من وجهةِ نظرِ إدراجِهما أو عدمِ إدراجِهما في المُعجَمِ التّقنيّ لـسيبَوَيهِ بشكلٍ عامّ، ولكنْ من حيثُ وجودُهما في هذهِ النقطةِ الاستراتيجيةِ بالذات منَ "الكتابِ" أي الفصل الثالث منه. وعليه، بما أنَّ المُصطَلَحينِ المَذكورينِ لا يَبْدو أنَّ لهُما أهميةً كبيرةً على مُستوى التّحليلِ النَّحويِّ التقنيِّ كما يُمارسه سيبَوَيهِ ، فإنهُ يَجدرُ بنا أنْ نَسألَ عن الاستراتيجيةِ التي يَستجيبُ لها استخدامُهما في هذا السياقِ المُحدّد؛ ولهذا، فمنَ الضَّروريِّ أنْ نَسعَى إلى تَعميقِ فهمِنا تحديدًا لوضعِ هَذينِ المُصطَلَحَينِ، أو بالأحرى للمَجازِ الذي يَكمنُ وراءَهُما، في سياقِ التَّفكيرِ في اللُّغةِ في تلكَ الفترةِ الزَّمنيةِ وفي ذلكَ الجزءِ منَ العالم.
و رغمَ أنَّ المَعلوماتِ ليستْ كثيرةً، إلا أنَّها موجودةٌ وتَسمحُ لنا في الأقلّ بفتحِ بعضِ المَسارات؛ الأول هو مَسارُ الخَليل، وهناكَ، على ما أعلمُ، شهادتان حوله:
الأولى لِلِسانِ العَرَب ويُمكِننا انتقادُها حَتمًا لأنَّها جاءَتْ مُتأخّرةً ولكنْ بما أنَّها تُنسبُ إلى شيخِ سيبَوَيهِ استخدامًا يَنحرفُ عن الاصطِلاحِ المُتداوَلُ يُمكِن أنْ تَتَمتعَ ببعضِ المِصداقيّةِ. وهذا هو المَقطعُ المَعنيّ:
قالَ الخليلُ: الكلامُ سَنَدٌ ومُسنَدٌ فالسَّندُ كقولِكَ "عبدُ اللهِ رجلٌ صالحٌ"، فعبدُ اللهِ سندٌ ورجلٌ مُسنَدٌ إليهِ.
ويَبْدو أنَّ هناك في البدايةِ حاجةً إلى مُلاحظتَينِ بَديهيتَين:
الأولى هي أنَّهُ، كما هو الحال لسيبَوَيهِ تمامًا، يَبْدو أنَّ الخليلَ لا يَتحدّثُ عن "المُسنَد" و"المُسنَد إليه" إلاّ فيما يَتعلقُ بالجُملَةِ الإسميِّة مُقصيًا بذلكَ تَركيبَ الجُملَةِ الفِعليّة؛ والثانية هي أنّهُ، على عَكسِ تلميذِه، يَستخدمُ الخليلُ مُصطَلَحَ سندٍ للإشارةِ إلى العُنصر الأوَل (أي المُسنَد لدى سيبَوَيهِ)، كما يَبْدو أنَّ الخليلَ يَتردّدُ، للمرةِ الثانيةِ، بينَ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليهِ ويُمكِن تفسيرُ هذا التردّد، الذي لاحظَهُ لوفين ، بسهولةٍ تامّةٍ بمُجردِ أنْ نَتوقفَ عندَ الاستعارةِ التي تَكمنُ وراءَ هذا التَّحليل:
بناءُ الجُملَة يتطلبُ مواجهةَ عنصرٍ بعنصرٍ آخرَ، بحيثُ يدعمُ العُنصرُ الأولُ التَّجميعَ ويُوضعُ العُنصرُ الثاني بإزاءِ الأوّل. لذلكَ، من المُمكنِ تَمامًا الاشارةُ لهذا العُنصرِ الثاني بمُصطَلَح "مُسنَد" (أي المُعطَى والمَدعوم), دونَ إلزامٍ بتحديدِ أنَّهُ وُضِعَ بإزاءِ الأول. بمعنى آخر، في هذا السياق، يُمكِن للمُسنَدِ (المُعطَى) والمُسنَدِ إليهِ (المُعطَى إليهِ والمُرتَكَز علَيهِ) أنْ يُستخدما بالتناوبِ بشكلٍ مِثاليّ. أما الشهادةُ الثانيةُ المُتعلقة بالخليلِ فتظهرُ في "الكتابِ" ذاتِهِ (الجزء الثاني/ ص61): وقد أقرّ سيبَوَيهِ أنّهُ استفسَرهُ عن وضعِ بعضِ التَّراكيبِ مثل "ضارب رجلًا، مفتون بك، خير منك" عندما تُستخدمُ كأسماءَ مُؤنثةٍ مُستعارَةٍ؛ وبالتحديدِ، السؤالُ هو: أكانَ يَنبغي اعتبارُ الجزءِ الأوّلِ من هذهِ العباراتِ ثُنائيَّ المَقام أم لا؟.
إجابةُ الخليلِ هي أنَّهُ يَجبُ الاحتفاظُ بالتنوينِ (التشكيل) في هذهِ الحالةِ، بحُسبانِ أنّهُ لا يُشكلُ وحدَهُ كاملَ الاسمِ، ففي هذا السّياقِ "ضارب رجلًا أو مفتون بك" اذا كانا في وَضعِ المُبتَدَأ فإنَّهما يُؤدّيانِ الوظيفةَ نفسَها التي يُؤدّيها اسمُ العَلَم "زيد" إذا كانَ في الوضعِ نفسِه، وذلكَ لأنَّهما يَحتاجانِ إلى خبرٍ ليُصبحَ البيانُ كاملًا؛ ويضيفُ أنَّ منك (في خير مِنك) يَحملُ وضعَ جزءٍ من الاسم، "بمعنى أنَّهُ ليسَ مُرتبطًا بسَند" (لمْ يُسندْ إلى مُسنَد) ويُستخدمُ لاستكمال الاسم فقط، تمامًا مثل المُصطَلَحِ الثّاني للتَناسقِ الكاملِ ويُنهي الأولَ (كما أنَّ المُضافَ إليهِ مُنتَهَى الاسمِ وكمالُه).
في الواقع، النصّ ليسَ واضحًا تمامًا ويُثيرُ مشكلاتٍ مُتعدّدة في التَّفسير، من وجهةِ النّظرِ التي تهمُّنا، ولكنْ يُمكِننا ملاحظةُ نقطتَينِ في الأقلّ: أوّلًا، إنَّ العبارةَ الآتيةَ "لمْ يُسندْ إلى مُسنَد" تَظهرُ مرّةً أخرى في سياقٍ يَتناولُ الجُملَةَ الإسميّة (وليس الفعليّة)، وثانيًا، إنّ الخليلَ يستخدمُ مُصطَلَح "مُسنَد" (وليسَ سَنَد) للإشارةِ إلى "المُبتَدَأ" (السَّنَد).
يُمكِن، بالطبع، أنْ نَعدَّ هذا الاختلافَ الظّاهريَّ يُفسَّر بسببِ تقلّباتِ النّقل: اذ قد يكونُ سيبَوَيهِ أعادَ صياغةَ أقوالِ الخليلِ بلغتِهِ الخاصّة؛ ومن الجانبِ المُقابل، يُمكِن أنْ نقولَ إنَّ شهادةَ اللّسانِ تُظهرُ ببساطةٍ أنَّ الخليلَ استخدمَ مُصطَلَحَ "سَنَد" مرّة واحدة في أقل تقديرٍ ليُشيرَ إلى المُبتَدَأ ولكنْ لا يُوجدُ أيّ دليلٍ على أنَّهُ فَعَل ذلكَ بنحوٍ مُنظّمٍ ومَنهجيِّ تمامًا.
لكنَّ كلَّ هذا لا يقودُ بعيدًا وفي الحقيقة ليسَ لهُ أهميةٌ كبرى: فبمجردِ أنْ نناقشَ هذا السؤالَ، ليسَ من منظور المُصطَلَحاتِ المفهومةِ كتسميةٍ مُتكلّسةٍ وغيرِ مُترابطة، ولكنْ من وجهةِ نظرِ الاستعاراتِ التي تَكمنُ وراءَ لغةِ النُّحاةِ العَرَب، يُصبحُ من المُمكنِ الآنَ استخلاصُ استنتاجاتٍ أكثرَ قوّةً وعلى ما يَبْدو لي، أكثرَ أهميةً من ذلك كلِّهِ.
ويَظهرُ بوضوحٍ أنّ ما يشتركُ فيه هذان العَلمان من لَدُن النُّحاةِ العَرَب هو فهمُ التنبيه اللغويّ (وحدَه) كتجميعٍ، وكبناءٍ يَشتركُ فيه عنصران، الأوّل هو "المُبتَدَأ" الذي يُدرَك على أنّه أكثرُ ترتيبًا واستقرارًا من العُنصر الآخر أي "الخَبَر" وأنّهُ يَسبقُ هذا الأخير.
اذ يَجبُ أنْ يَكونَ المُبتَدَأ موجودًا للحفاظِ على الخَبَر. وقد جَرَت الإشارةُ الى هذهِ العلاقة في النصوصِ التي تحدَّثنا عنها في مَجموعةٍ من المُصطَلَحاتِ المُشتقّة من "س- ن- د"؛ ولكنْ لاحظنا بالفعلِ أنّ سيبَوَيهِ في مقاطعَ أخرى أكثرَ عددًا، يُحلّلُ الجُملَةَ الإسميّةَ بمُصطَلَحاتٍ على سبيلِ "الاسم الأوّل" (أو "الاسم المُبتَدَأ") و"المَبنيّ له"، وهي تعبّرُ أساسًا عن الفكرة نفسِها بألفاظٍ مُختلفة. ومع ذلك، يَبْدو أنّهُ عندَما يَستخدمُ الخليلُ وسيبَوَيهِ "سَنَد" أو "مُسنَد" أو "مُسنَد إليهِ"، يكونُ ذلكَ دائمًا في سياقاتِ يُشدّدانِ فيها على طابعِ التَماسكِ والترابطِ بين الجزءَين، وللتمييز بين الوحدةِ التي يُشكلانِها وبينَ هذا العُنصرِ أو ذاكَ العُنصرِ الذي لا يَكونُ جُزءًا منه . وهذا واضحٌ تمامًا في المَقاطعِ التي تَحدّثتْ عن "المُسنَد"، كالمقطعِ الذي ذكرتُه للتوّ (في "خير منك" المُستخدمِ كاسم )، والمقطعُ الذي يَتحدّثُ فيه سيبَوَيهِ عن "المُسنَدِ" و"المُسنَدِ إليهِ" في الجزء الأول/ ص218: حيثُ يبرزُ استخدامُ سيبَوَيهِ لهذينِ المُصطَلَحَينِ عندَ التَّعاملِ معَ جُملٍ من نَوعِ "هذا عبدُ اللهِ مُنطلقًا" ليظهر أنَّ "مُنطلقًا" لا يكونُ جُزءًا من النّواةِ الإسناديةِ. وبالمقابلِ، عندما يَتَعيّنُ التمييزُ بينَ الجُزءَينِ واعتمادُهما بنحوٍ مُنفصل، يَستخدمُ النُّحويانِ كلاهُما تعبيراتٍ مُختلفة، تَندرجُ أيضًا تحتَ استعارةِ "التَّجميعِ" أو "البناء".
و هكذا لا داعيَ للتعجّبِ من تعيينِ الخليلِ للمُبتَدَأ أحيانًا باستخدامِ "مُسنَد" وأحيانًا باستخدامِ "سَنَد"، وأنَّهُ يُقابلُ هذا الأخيرَ أحيانًا بـ"مُسنَد" وأحيانًا بـ "مُسنَد إليهِ"، إذ يَتعلقُ الأمرُ ببساطةٍ بالتَّعبيرِ عن العلاقةِ بينَ المُبتَدَأ والخَبَر، ولا يوجدُ معنىً أكثرُ من ذلك، كما أشارَ إلى ذلكَ ج. بوهاسوس دياب دورانتون بشكلٍ رائع، تَساءلَ حولَ ما إذا كانَ الفعلُ والفاعلُ في الجُملَةِ الفعليّةِ هما "مُسنَد" و"مُسنَد إليه" على الرّغمِ من أنَّ هذا السّؤالَ لا يَجدُ إجابةً لدى سيبَوَيهِ. وهذا هو ما يُمكِن استنتاجُه، في رأيي، من النقطةِ التي وُضِعتْ بَصمة الخليلِ عليها. أمّا النقطةُ الثانية، فستُعيدُنا قليلًا إلى الوراءِ في الزّمنِ، وستوجّهُنا إلى ميدانٍ أكثرَ اختلافًا، حيثُ يتعلّقُ الأمرُ بكتابِ المنطقِ لابن المُقفّع. يظهر مُصطَلَح "مُسنَد" فيه مرّةً واحدةً في الأقلّ، في تعليقِ الفصلِ الثالث من كتابِ بيري هيرمينياس، فيما يَتعلقُ بالفعلِ (حرف في تَصنيفِ ابنِ المُقفّع): وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَحْمُولًا عَلَى غَيْرِهِ مُسنَدًا إليهِ (ص 28) "إنّه لا يُمكِن أنْ يَكونَ إلاّ مرتبطًا بشيءٍ آخرَ [أي الفاعل] ومستندًا إليهِ"؛ هذا المَقطعُ يُقابلُ بوضوحٍ النّصّ الذي يُبيِّنُ أرسطو فيه أنَّ "الفعلَ يُشيرُ دائمًا إلى شيءٍ مُثبتٍ عليهِ من شيءٍ آخر "؛ ويظهر المُصطَلَح نفسُهُ وحدَهُ بعد بضعةِ أسطرٍ في سياقٍ مشابهٍ: لا يَكونُ الحرفُ إلّا مُسنَدًا إلى الاسمِ، مما يُقابلُ في نصِّ أرسطو بـ "أنَّهُ دائمًا علامةٌ على ما يُقالُ عن شيءٍ آخرَ ". وعلى ذلك، يَبْدو أنَّ "المُسنَد" هنا يَظهرُ كنوعٍ من المُعَادِلِ، أو التَّعليقِ، أو إعادةِ الصّياغةِ لـ "المَحْمُول"، وهو المُصطَلَح التقنيِّ الذي استخدَمه ابنُ المقفّع لترجمةِ الكلمةِ اليونانيّةِ "كاتيغورومينون" (katègoroumenon) أي الخبر حرفيَّا، التي انتشَرَ استخدامُها في هذا السياقِ بعد ذلك. وكما هو معروفٌ، يُثيرُ هذا الاستخدامُ مشكلة، إذْ لا يُمكِنُ أنْ نَعدَّ "المَحْمُول" ترجمةً حَرفيّة لـ "كاتيغورومينون"؛ فمن المُتوَقَعِ عادةً أنْ تَكونَ الترجمةُ شيئًا مثل "مَقُول ".
لا أدّعي تقديمَ حلٍّ لهذا السؤالِ، الذي يقعُ ضمنَ اختصاصِ مُؤرخي الفلسفةِ، ولكنْ لا أستطيعُ أنْ أمنعَ نفسي من سياقةِ بعضِ المُلاحظاتِ: أوّلًا، يَبْدو أنَّ "المَحْمُولَ" و"المُسنَد" يَنتميانِ بوضوحٍ إلى الاستعارةِ نفسِها المُشارِ إليها أعلاه، وهي التي تصوّرُ العِبارةَ كاتّحادِ جزءَينِ، بحيث يَحملُ الجزءُ الأولُ الجزءَ الآخرَ. وربَّما كانت هذهِ العلاقةُ غائبةً عن المُصطَلَحِ اليونانيِّ ذاتِه، ولكنَّها ظهرتْ بالمقابلِ في المُصطَلَحِ الذي يترافقُ معَه، وهو "حُوكِيمِينُون" (hupokeimenon أي المُبتَدَأ وحرفيّا "السَنَد الذي يُوضَعُ من الأسفل"). وهكذا، يَبْدو أنَّ الصّياغةَ توافقتْ بنحوٍ ما على أساس المَجازِ المُقترحِ من لدُنِ الجزءِ الأولِ من الثنائيةِ. وبعد ذلك، وبناءً على هذهِ الاستعارة، يَبْدو بوضوحِ أنَّ ثنائية "سَنَد/ مُسنَد" أو "مُسنَد/ مُسنَد إلَيه" تُقدّم تعبيرًا لغويًّا أكثرَ وضوحًا وأكثرَ تطابقًا مع جوهرِ اللّغةِ العَرَبيّةِ من "مَوْضُوع/ مَحْمُول"؛ كما لاحظه سَلَفاً زيمرمان (1972)، ثنائية "مَوْضُوع/ مَحْمُول"، إلى جانب أنها تَبْدو غريبةً عندَ العَرَب، يجب أنْ يَكونَ غيرَ مُرضٍ لحدّةِ بصيرةِ ابنِ المُقفّعِ للتناغمِ المُصطَلَحيّ".
لا يُمكِن، بالطبع، أنْ نَستنتجَ أنَّ إدخال َ"المُسنَد" يعودُ إلى مبادرةٍ شخصيّةٍ من ابنِ المُقفّعِ، ولا حتّى، كما يَبْدو أنَّ زيمرمانَ يَفعلُ، إنَّها استعارةٌ من المُصطَلَحاتِ النَّحويّةِ: الأمرُ ليسَ مُستبعدًا بالطبعِ، ولكنّهُ أيضًا ليسَ واضحًا على الإطلاقِ في غيابِ بياناتٍ نصيّةٍ موثوقة. كل ما يُمكِنُ القولُ به هو أن "المُسنَد"، وعُمومَ مجازِ النواةِ كتجميعٍ، يَبْدو أنَّها تنتمي، منذ منتصفِ القرنِ الثّامنِ، إلى خلفيّةٍ مُشتركةٍ من التصوّراتِ المُتعلّقةِ باللّغةِ، يَستدلُّ بها كلٌّ من النُّحاة والمَناطقةِ، حتّى إنّهم يَفعلونَ ذلك بطريقةٍ عَفْويّةٍ وبشكلٍ غير مُنتظم. وأخيرًا، وربَّما هو الأهمّ، فإنّ هذهِ الاستعارةَ، بغضِّ النّظرِ عن المواردِ اللغويةِ التي تُعبّرُ عنها، لها آثارٌ مُهمّةٌ في ذاتِها.
تحديدُ الفعلِ أو توصيفُه بما يُبنَى به (أو بالأحرى، ما يُبنى عَليه) وليسَ بما يُمثّله فقط، كما كانَ يَفعلُ "بري هيرمينياس"، يُعطيهِ مَنظورًا ليسَ دلاليًا فقط بل، في الأقلِّ على المستوى الافتراضيّ، نَحويًا. ربّما يُستغلُّ هذا التوجّهُ بدرجاتٍ متفاوتةٍ من تَخصّصاتٍ مُختلفة، وحسبَ شفافيّةِ الاستعارةِ: في حينِ يُمكِنُ استخدامُ "المَوْضُوع" و"المَحْمُول" بشكل مجرّدٍ وتقليديّ (وهذا ما سيفعلُه المناطقةُ)، يَبْدو أن "المُسنَد" و"المُسنَد إلَيه"، على العكس من ذلك، أكثرُ تحفيزًا، ولعلّ ذلكَ منَ الأسبابِ التي تجعلُ النحاةَ يُفضلونَهما. ولكنْ، بإدخالٍ بُعدٍ نَحويٍّ في تحليلِ العِباراتِ، تُظهرُ استعارةُ التَّجميع فيها شيئًا يُفترض ألاّ يَعلمَهُ المَنطق (على الأقل في تلكَ الحِقبةِ الزمنيّةِ وفي هذا الجزءِ من العالم): ألا وهو تنوعُ اللغاتِ. في الواقع، إنّه سهلٌ جدًا أنْ نتصوّرَ الفِعلَ "مدعومًا" بِـ"فاعلٍ" في لغةٍ يَسبقُ فيها هذا الأخيرُ الفعلَ عادةً، ولكنْ في حالةِ اللغةِ العَرَبيّةِ، حيثُ يسودُ الترتيبُ العَكسيُّ، يُصبحُ هذا أكثرَ صُعوبةً بكثير. اذ يُمكِنُ ولا ريب لابن المُقفّعِ أنْ يتجاوزَ هذهِ الصعوبةَ، أو بالأحرى، أنْ يَكونَ على غيرِ وعيٍ بها، بما أنَّ موضوعَهُ هو تقديمُ فكرةِ أرسطو وليسَ تحليلَ خصائصِ اللغةِ العَرَبيةِ؛ لأسبابٍ متناظرةٍ وعكسيةٍ، ولكنْ لا يُمكِنُ أنْ يَكونَ قد فاتَ هذا على النُّحاةِ مثلِ الخليلِ وسيبَوَيهِ.
والراجحُ أنَّ هذا هو ما يُفسّرُ، لا حقيقة أنّ سيبَوَيهِ لا يستخدم مُصطَلَحات "المُسنَد" و"المُسنَد إلَيه" إلاّ فيما يتعلق بالمُبتَدَأ والخبر في الجُملَة الاسمية فقط، بلْ يُفسّرُ أيضًا بعضَ الغرابةِ في صياغةِ بعضِ الجُملِ في هذا الفصلِ، التي كانتْ تُثير فضولي مُدّةً طويلة. في الواقعِ، بعدَ أنْ بَدأ بتوضيحِ هذهِ المَفاهيمِ قائلًا: هما ما لا يَستغني واحدٌ منهُما عن الآخر"، ويَستمرُّ سيبَوَيهِ قائلًا: "ومن ذلكَ الاسمُ المُبتَدَأ والمبنيّ عَليه" (وأبرز هذا بالتأكيد)، إذ تُوحي البِنيةُ الجُزئية بأنَّ الجُملَةَ النَّحويّة النَّمطيّة قد تكونُ إحدى الإمكانياتِ لنمطِ المُبتَدَأ والخبر لا غير.
ولكن كل شيء يجري كما لو أنَّ مؤلِّفَ الكتابِ يَتراجعُ في هذهِ المرحلةِ، أمامَ التّبعاتِ التي قد تنجمُ عن تعميمِ النَّمطِ إلى النَّمطِ الفِعليّ: إمّا أنْ يعدَّ الفعلُ هو الخبرَ الذي يُساقُ في حقِّ الاسمِ، مما يتعارضُ مع المنطقِ الكامنِ وراءَ الاستعارةِ (إذا وضَعنا الخبرَ قبلَ السَنَد، مما يُسقطُها في الفراغ)، أو يُسمّيه "سَنَدا"، وهكذا يَفصلُ الاستعارةَ تمامًا عن مفهومِ التَّصريحِ الفعليِّ الذي تحاولُ بالضبط تركيبَه.
لذلكَ، يتجاوزُ سيبَوَيهِ السؤالَ ببساطة: فيكتفي بالتأكيدِ على أنَّ الجُملَة الفعليَّةَ تتمتعُ بالعلاقةِ الترابطيّةِ نفسِها بينَ الفعلِ والفاعلِ كما الجُملَة الاسميّة بينَ المُبتَدَأ والخَبَر، ويَبقى عندَ هذا الحدّ. وسيكونُ للتقليدِ اللاحقِ، كما نَعلمُ، عن طريقِ إعادةِ ضبطِ المُفرداتِ، الأدواتُ الفنيّةُ لتحليلِ كلِّ جُملَة، سواءٌ أكانتْ ذاتَ طابعٍ اسميّ أم فِعليّ، بمُصطَلَحاتِ "المُسنَد إلَيه" (الفاعلِ المعرّفِ هذهِ المرة) و"المُسنَد" (الحُكم أي الفِعل).
سيَستغرقُ ذلكَ بعضَ الوقتِ: اذ في القرنِ الرّابعِ الهجريّ/ العاشرِ الميلاديّ، كانوا ما يزالونَ يَتنافسونَ مع "مُخبَر عَنْهُ" و"خَبَر"، أو "مُحَدَّثٍ عَنْهُ" و"حَدِيث"، التي، على عكس "المُسنَد إلَيْهِ" و"المُسنَد"، لها ميزةُ عدمِ تَقديمِ أي دلالةٍ نَحويةٍ وتمكّنُ من التعبير عن العلاقةِ الخَبَريّة في ذاتِها، بغضِّ النظرِ عن البِنيةِ الشّكليّةِ التي تتحققُ فيها، وهذا ما يُحيلُنا على استعارةِ النواةِ الإسناديّةِ اذْ ما يزالُ من الممكنِ أن تُفهَمَ كذلك على الأقل جزئيًا في هذهِ الحِقبةِ الزمنية. وبالطبع، يثيرُ كلُّ هذا سؤالًا جديدًا: إذا كان تردّدُ سيبَوَيهِ لم يَسمحْ له باستخدامِ مُصطَلَحاتِ المُبتَدَأ والخبرِ لصياغةِ نمطٍ مُوحّدٍ لكل أشكالِ الجُمَل، فلماذا ذَكَرهُما في هذا الجزءِ من الكِتاب؟.
الإجابةُ، في رأيي، يُمكِنُ أنْ نجدَها في النصفِ الثاني من الفصلِ، حيثُ يُطوّرُ سيبَوَيهِ بإصرارٍ فكرةَ أنَّ العلاقةَ بينَ المُبتَدَأ والخبرِ (هذان المُصطَلَحان يُشيرانِ هنا إلى الجزءَين اللذينِ يُشكلانِ الجُملَةَ الاسميّة النَّمطية) تكونُ مُستقلةً تمامًا عن التعليمةِ النَّحويّة: "وممّا يكونُ بمنزلةِ الابتداءِ "كانَ عبدُ اللهِ مُنطلقًا "و "ليتَ عبدَ اللهِ مُنطلقٌ"
وأكثرُ من ذلك، فإنّها تتأكدُ حتّى عندَما لا يُشكّل المُبتَدَأ والخبرُ النّواةَ الإسناديّة الحقيقيّة للجُملَة: [...] وذلكَ أنّكَ إذا قلتَ "عبدُ اللهِ مُنطلقٌ" إذا أردتَ دخلتَ فقلتَ "رأيتُ" وقلتَ "رأيتُ عبدَ اللهِ مُنطلقًا" أو مررتُ بعبدِ اللهِ مُنطلقًا". كما يفعلُ في كثيرٍ من المَقاطعِ في الكتابِ، يُقدِّمُ سيبَوَيهِ هنا نوعًا من الجُمل التي تُوضّحُ في الوقتِ نفسِهِ استقرارَ العلاقةِ بينَ "عبدِ الله" و"مُنطلق"، وتنوعَ البنى التي يُمكِنُ أنْ تتحققَ فيها، مع التأكيدِ على أنَّ الشكلَ الأبسطَ والأكثرَ نَمطيّةً هو الجُملَةُ الاسميّةُ "القياسيّة": "فالابتداءُ أوّلٌ كما كانَ الواحدُ أوّلَ الأعداد.
إنّنا نستطيعُ أنْ نقولَ، رغم أنّه ليسَ من السهلِ التعبيرُ عن هذا الطرح - وهو يَبْدو لي من بينِ أقوى وأكثرِ الأفكارِ الأصيلةِ لسيبَوَيهِ - أنّ التصانيفَ النَّحويَة المُعتادةَ لا تتَمكّنُ من التحدّثِ عن علاقةٍ تتجاوزُ تمامًا توزيعَ الحالاتِ النَّحويّة. وهذا هو، في رأيي، أحدُ الأسبابِ التي تدفعُ مُؤلّفَ الكتابِ إلى الاعتمادِ على مُصطَلَحاتٍ تَنتمي، في عصرهِ، إلى رصيدٍ مُشتركٍ من التصوّراتِ والاستعاراتِ اللغويّةِ الذاتيّةِ المُشتركةِ بينَ المناطقةِ والنُّحاة، وربما تكونُ أصولُها موجودةً في التقليدِ الأرسطيّ. ولكنه، بذلكَ، يَمنحُهم مدىً جديدًا: إنه لم يَعدْ الأمرُ هنا، مثلما هو الحالُ مع ابن المُقفعِ، متعلّقًا بإعادةِ صياغةِ تحليلِ النواةِ البسيطةِ، التي تتألفُ تمامًا من فاعلٍ وفعلٍ، أو، كما في مقاطعَ أخرى من الكتابِ - سواءٌ أكانت تحت إشرافِ الخليلِ أم لا - للتنافرِ بينَ النواةِ الإسناديّةِ الرئيسةِ وما لا يكونُ جُزءًا منها، ولكنَّهُ بالعكسِ يُبرزُ حَقيقةَ التراكيبِ من نوعِ: "رأيتُ عبدَ اللِّه مُنطلقا" إذ أنَّ العلاقةَ بينَ "المُسنَدِ" و"المُسنَدِ إليهِ" قد تكونُ موجودةً تمامًا حتى لو لم تَكنْ ملامحُ النواةِ الإسناديةِ واضحةً.
تُرجم من مجلة: لغات وآداب العالم العَرَبي،
العدد5 )لسنة(2004
المراجع:
1. تروبو، جيلبرت، 1981، "منطقُ ابنِ المُقفّعِ وأصولُ النَّحوِ العَرَبيّ"، عَرَبيكا، العدد الثامن والعشرون، ص 242-250. نُشر في تروبو، 2002، دراسات في النَّحو والمَعاجم العَرَبيةِ، دمشق، IFEAD، ص. 13-21.
2. زيمرمان، فرانز ف، 1972، "ملاحظاتٌ حولَ الفارابيّ والتقليدِ المَنطقيّ"، في س. م. ستيرن، أ. حوراني وف. براون (محررون)، الفلسفةُ الإسلاميةُ والتقليد الكلاسيكيّ، لندن، كاسير، ص 517-546
3. ليفين، ألبرت، 1981، "المُصطَلَحاتُ النحويّةُ؛ المُسنَدُ، المُسنَدُ إليه، والإسناد"، مجلةُ الجمعيّةِ الشرقيّةِ الأمريكيّة، 101.2، ص 145-165.