تقاطبات الزمان والمكان في رواية ( امرأة القارورة ) لسليم مطر
تقاطبات الزمان والمكان في رواية ( امرأة القارورة ) لسليم مطر
د. بشرى موسى صالح
يعد الروائي (سليم مطر) من الروائيين العراقيين الذين نالوا شهرة كبيرة في السرد الروائي العراقي الحديث، ولاسيّما من خلال روايته (امرأة القارورة ) التي اصدرها عام (1991) ونال عنها جائزة (الناقد العربية)، وترجمت روايته إلى الفرنسية، والإنجليزية، وصدرت لها طبعات كثيرة في بيروت وبغداد.
والرواية على الرغم من حجمها الصغير إلّا أنها تكتظ بأبنية سردية عميقة يستقل كل عنصر من عناصر بنائها بخصائص سردية (ما بعد حداثوية) لايمكن الإلمام بها في دراسة واحدة مستقلة، ولذلك اخترنا عنصري الزمان والمكان لدراسة تقاطباتها السردية في الرواية.
الزمان الواقعي والتخييلي
تدور أحداث الرواية في أعوام الحرب العراقية الإيرانية وتحديداً من العام ( 1988 ) عندما وجد الراوي نفسه في جنيف (سويسرا ) هارباً من تلك الحرب بعد أن أمضى سبعة أعوام فيها منذ العام الأول للحرب 1981 ( ).
ومن الطبيعي أن هذا الزمان هو (الهيكل الواقعي) الذي شيدت عليه الرواية معمارها التخييلي، وهو في الرواية بمثابة هوية المرور السردية التي انطلق منها السرد إلى عوالمه التخييلية أو السردية.
والزمان هو ركيزة السرد التي يستند إليها البناء السردي كله لأن فن السرد من أكثر الأنواع الأدبية التصاقاً بالزمن (2)
وفي الرواية الحديثة صعوداً إلى روايات (ما بعد الحداثة ) يغادر الزمن ماهيته وطبيعته التصاعدية التتابعية التي تعد من خصائص التيار التقليدي (الحكائي)؛ فالأزمنة الحداثوية وما تلاها لا تعتمد "على التتابع ولا تخضع لقانون الرتابة اللغوية، لذا فهو زمن تخييلي يبتدعه الكاتب ويتحقق عن طريق الصياغة اللغوية، أي أنه زمن لغوي في الأساس، لكي يوفّر عنصر التشويق الاستمرار والإيقاع :( )
وتبدو رواية (امرأة القارورة) مثالاً واضحاً على السرد (ما بعد الحداثي) فهي رواية ذات طابع تخييلي، ونسيج سردي معقّد، فهي تفارق زمنها الواقعي منذ لحظة انبثاقها لتعلن عن زمنها ( العجابي ) التخييلي ، ومنذ العنوان يصرّح الراوي ( بين العراق وسويسرا المغامرات العجيبة لامرأة خالدة منذ خمسة الآف عام ).
وواضح أن الزمن التخييلي قد (تقاطب ) مع الزمن الواقعي وفارقه خمسة الآف عام هو عمر امرأة القارورة وهو زمن نصطلح عليه بـ (الزمن التقاطبي) الذي يتقاطب فيه الزمان والمكان.
المكان ꞊ العراق ≠ سويسرا
الزمان ꞊ 1988 ≠ خمسة الآف عام
ومن هذا التقاطب تنبثق حكاية ( امرأة القارورة ) الباهرة المشعة، حكاية التحوّلات المستمرة والعلاقات الغربية، التي تنسج رمز الترحال أو زمن الترحال، والهجرة الأبدية فهي الأسطورة الأنثوية ( الزمن الأسطوري ) العائمة فوق التواريخ والأوطان، والحلم الذي يسعى الذكور كلهم إلى نيله.
افتتاحية الرواية ونسيجها الزمني
تفتتح رواية (امرأة القارورة) نسيجها الزمني بالسرد (اللحظوي) أو (الآني) وهو (المظهر الزمني الأول ) فالرواية تبدأ من الحاضر عبر بناء ( ميتا سردي ) يشترك في تشييده المؤلف، والراوي، والمتلقي " قبل الولوج في عوالم هذه الحكاية مع (امرأة القارورة) العجيبة يهمني منذ الآن أن أعلمكم أني لست مسؤولاً عنها ولم أشارك في أي من أحداثها وخيالي بريء منها" ( ) وبعد ذلك مباشرة يشير إلى زمن عثوره على هذه الرواية المخطوطة " حَدثَتْ هذه الحكاية بطريق المصادفة قبل أسابيع" ( )
ويحاول الراوي في الفصل الأول أن يمهد للمخطوطة التي يشيّد عليها أحداث روايته بطريقة السرد الواقعي ـــ التخييلي المتجسّد في (بنية الميتا سرد) التي تعد من أكثر الأنواع السردية البنائية ما بعد الحداثوية شيوعا ( ).
وشكّل (مفتتح الرواية) قوام (المفارقة السردية) عبر إشارة الراوي إلى براءته من (عوالم) حكايته، و (العوالم) جمع عالم، ووصفها بالعجائبية (العجيبة )، والتخييل (خيالي بريء منها)، وهذا السرد هو ما تقاطب مع أرضيته الزمن الحاضر، ولاسيّما عند سرد الراوي قصته مع المخطوطة، والمخطوطة (علامة دالّة) على تدوين الأحداث ورسوخها، وهو قد مازج قصته مع المخطوطة مع استذكاره لسنوات الحرب وانبثاق امرأة القارورة من خضمّ تلك الاسترجاعات ليتحوّل الزمن من واقعيته ، ويتقاطب مع ايهاميته.
ويتلوى الزمان في افتتاحية الرواية ويتعرج لمنح الجسد سمة التحوّل، والديمومة والصيرورة، والسيرورة، عندما تتحول (المرأة السومرية ) إلى (امرأة القارورة) الخالدة عبر الزمن.
ويتم ذلك عبر تحوّل الزمن الحاضر إلى الماضوي، والماضي الموغل في البعد التأريخي حيت يتحدث عن الآلهة عشتار، وينزع السرد واقعيته، ويصير زمناً إيهامياً عجائبياً وهو يمهّد للمخطوطة التي تحكي التحديات التي واجهته في زمن الحرب الواقعي وحتى وصوله بشكل عجائبي إلى (سويسرا) لتخترق امرأة القارورة سكون الزمن، وصراخ الأحداث.
ويختار السرد (الزمن المتعرج) وما يناسبه من (البناء اللولبي و المتداخل) الذي تتدفق الأحداث فيه عبر (تيار الوعي) والانثيالات الشعورية، وتتم العودة إلى الماضي من خلال توظيف الأحداث وإعادة تشكيلها زمنياً، وان عملية العودة إلى الماضي ما هي إلا معادلة زمنية يوازن فيها الراوي بين ماحدث و ما يحدث؛ حيث حشد حدثاً زمنياً طويلاً متعرجاً قي مساحة سردية قصيرة يحاور فيها المروي له، ولا ينفك يحاوره منذ الافتتاحية وحتى النهاية " لعله من الضروري أن أحكي لكم باختصار عن ظروف حصولي على هذه المخطوطة... ويمكنكم أن تقولوا عني أني لم أكن شجاعاً في الدفاع عن بلدي" ( )
وهذا يعني أن الزمن في تقاطباته بين الماضي والحاضر يبقى ملازماً لعلاقته مع الحاضر أو الراهن السردي، في ارتباط الراوي مع المروي له (لأن أحد أسباب القوة في رواية المتكلم هو أن يجعل الراوي متجرداً تماماً فهذا من شأنه أن يترك تأثيراً على القارئ " ( )
وهو في هذا يعود إلى الأحداث التي تمت في الماضي والتي هي سابقة على زمن السرد و يستحضر مادته منها، وعندما يريد تسليط الضوء، وإنارة حدث في زمن الماضي يوقف الراوي السرد ايقافاً حاسماً مفاجئاً، ويعود لينزلق من الحاضر إلى الماضي بصورة سريعة وخاطفة ومرنة " في الوقت الذي أخذت فيه الأحجار بالإنهيار كنت أكوّر نفسي على صدر المرأة ورحت بالتدريج انزلق في فجوة أحضانها انهارت صخور بطنها من جرح نازل من العنق حتى أسفل البطن وانكشف نفق عجيب يمتد من جذعها إلى أعماق الأرض خلال الجدار ! أجهل حتى الآن كم من زمن قد مرّ علي وأنا أزحف بين متاهة أنفاق قادتني إلى عوالم وعوالم عشتها خلال آلاف الأعوام"( )
وفي هذا القص (المشهدي) يتعانق الزمنان (الواقعي ) و (التخييلي) وهو يصف جسد امرأة القارورة الذي هو (جسد طيني) متجذر في الأرض (انهارت صخور بطنها ) ويمتد الوصف الانبثاقي للمرأة الأسطورة (انكشف نفق عجيب) يمتد من جذعها إلى أعماق الأرض خلال الجدار، ويعود إلى التقاطب بين الماضي والحاضر في حواريته الزمنية (كنت أكوّر نفسي)، ودهشته في تقاطعه مع حاضره وواقعه (أجهل كم من زمن قد مرّ علي)، وتعبيره عن تعددية الأزمنة وانفلاتها من الوعي إلى التخييل، وهو يزحف بين متاهات أنفاق، قادته إلى عوالم عجائبية (عشتها خلال آلاف الأعوام).
هذا التوالي في الأزمنة بين الماضي والحاضر في هذا المشهد يخلق التقاطب الزمني في الرواية الذي ينزع عن السرد الخصيصة الزمنية التقليدية المطّردة (ماضي ـــ حاضر ـــ مستقبل) الشائعة في الحكايات الشعبية وفي القص الكلاسيكي.
في امرأة القارورة يتذبذب الزمن في علاقة تقاطبية واضحة بين الزمنين (الحاضر ــ الماضي) إلا أنه يبقي على علاقته الواقعية بزمنه الأصلي مما يعني أن السرد لا يمعن في طبيعته ما بعد الحداثية التي لا تصنع جسورا رابطة بين الواقعي والمتخيّل فامراة القارورة تقع في منطقة وسطى بين الواقعي والمتخيّل عبر بنائها الميتاسردي ؛ فيكون للسرد صفته الموضوعية بالدرجة ذاتها التي تمنحه السمة العجائبية إذ يبدأ الراوي بسرد الأحداث من النهاية عبر الاسترجاعات ليتوقف ، ويعود السرد من البداية وصولاً إلى نقطة انطلاق السرد الأولى في بناء لولبي متعرج " مئات المرات أنولد ومئات الشخصيات عشت ومن ثم مت حتى وجدت نفسي أخرج من بين صخور شواطئ جنيف " ( )
وبذلك يتقاطب الاستباق مع الاسترجاع ليخلق ديمومة الزمن الإيهامي العجائبي وهو يسرد الكيفية التي وصل بها إلى جنيف عبر عجلة الزمن، وهو يؤسس زمن الوقائع الذي يضيئ ما كان يعيش فيه (آدم )، فيتقاطع الزمن، ويتقاطب، ومن تقاطع الزمنين ينبثق (السرد العجائبي)، ويتوتر الفعل الروائي عبر تقنيات (الحذف، والتلخيص، والمشهد، والوصف) مما منح السرد عنصر (الخفة )عبر المرور السريع على المراحل الزمنية الطويلة.
ويستعيد السرد في امرأة القارورة تقنية ( التتابع) وهو يسرد (الماضي العجائبي) لسيدة القارورة ( هاجر ) " استمرت القارورة تنتقل مع أحفادها بين أزمان و أوطان عاشت مع أحفاد في الهند والصين وتركستان وأحفاد زنوج أفارقة وشقر صقالبة أحفاد وثنيون وبوذيون وهندوس ومسيحيون ويهود وصابئة بعد أجيال وأجيال(.. . ) هكذا ظلت سيدة القارورة خلال قرون وقرون تمضي الأجيال..."( ) ومن الطبيعي أن الكاتب يضع إشارات نصية ترشد المتلقي إلى متابعة حركة الزمان منها: استخدام ظروف الزمان وغيرها من الأدوات لتنبيه المتلقي إلى التسلسل الزمني للأحداث ( )
تقاطبية الازمنة بين الواقعي والعجائبي
وحين نحاول تطبيق تقاطبات الزمان في امرأة القارورة نجد مصطلح (المفارقات الزمنية ) ماثلاً بسعة فيها بتقنيات الزمان المعروفة التي حددها جيرارد جينيت : الاسترجاع، الاستباق، الثغرة، المدة... إلخ ( )، وتهيمن الاسترجاعات مع تقاطبات الزمان منذ مفتتح الرواية حين يقدّم الراوي المشهد الأول في الرواية مؤطراً بزمانها الأول في ( فجر يوم بارد من شباط 1988 ومكانها الأول (شواطئ بحيرة جينيف) وقد سلمته (سيدة الحانة) تلك المخطوطة المزعومة التي هي (متن) رواية امرأة القارورة ثم وعبر تقاطبات السرد الاسترجاعي يشرع بسرد حكايته عن الحرب العراقية ــ الإيرانية منذ عام 1980، ويقص محاولاته السبع للهرب منها عبر السرد الاسترجاعي.
ولم يكن (السرد الاسترجاعي) بمنأى عن الحذف وهو التقنية الزمانية الأكبر في تسريع الأحداث إذ يقوم الراوي بإسقاط مدة زمنية طويلة أو قصيرة من زمن الحكاية، من دون أن يتطرق إلى ما جرى فيها إذ ينكسر تقاطب الزمان في ثغرات زمانية وتحفل امرأة القارورة بضربين من الثغرات ( الثغرة الصريحة ) أو (الثغرة الضمنية) إلا أن النوع الثاني هو أكثر انتشاراً وهيمنة إذ هي أكثر انسجاماً مع الروايات السحرية أو الفنتازية ومن امثلتها في الرواية " خرجت من أعماق الأرض لأجد نفسي في فجر يوم بارد من شباط 1988 بين صخور شواطئ بحيرة جنيف" ( ) "وذات ليلة من شهر شباط، وبعد مرور تسعة أشهر على وجودي فيها"( )
وتستعير امرأة القارورة من السرد التأريخي حساسية التمثيل للواقع تخييلياً، إذ يشكّل التأريخ بصيغته الماضوية مفصلاً مهماً من مفاصل العمل الروائي، وهو مما يندرج في التأريخ الحديث، وفي أحداث الرواية يجري تمثيل لهذه العلاقة التقاطبية بين الأزمنة بين زمن التأريخ السرمدي متمثلاً بين (ماضي) وزمن الوقائع المُعاشة متمثلاً بـ (الحاضر) وعبر العلاقات الاستعارية المفارقة للسيرورة الزمنية الواقعية ينشأ زمن الرواية التخيييلي من خلال محاكمة العلاقة بين الواقعي والمتخيل ومن هنا فإننا " نتعرف على السرود التأريخية بوصفها خيالات لفظية ذات مضامين هي في الحقيقة مختلقة لا مكتشفة "( )
إن زمن الرواية هو الزمن المتخيّل المكتشف وفيه ينهض زمنان زمن السرد و يتسجد في الحاضر الروائي وهو في امرأة القارورة زمن حضور (آدم) ، وزمن حضور (الراوي) أو زمن الوقائع، وهو زمن ما تحكي عنه الرواية لينفتح باتجاه الماضي فيروي أحداثاً تأريخية، أو ذاتية شخصية أو تأريخ الأقوام الماضية ( تأريخ العراق القديم )، وهنا يتقاطب الزمن الحاضر مع الماضي مع الزمن المطلق، وهو زمن ظهور امرأة القارورة (هاجر) لتضيع فيه ومعه معالم الزمان الفيزيائية" أجهل حتى الآن كم من زمن قد مرّ علي وأنا أزحف بين متاهات أنفاق قادتني إلى أعوام وعوالم عشتها خلال آلاف الأعوام كأني استحلت إلى طاقة من نور" أطوف بين عصور وأوطان وأقوام، مئات المرات أنولد ومئات الشخصيات عشت ومن ثم مت حتى وجدت نفسي أخرج من بين صخور شواطئ جنيف"( )
وتتقاطب الأزمنة (الماضية، الحاضرة، المستقبلة) صانعة زمن الرواية العجائبي، ويكشف لنا هذا النص الزمن الهلامي الذي يقود (آدم) وهو يزحف بين متاهات أنفاق يصل منها إلى أعوام (أزمنة ) وعوالم (أمكنة) ، وهو (طاقة من نور) تتبدد سماته البشرية ليطوف بين عصور (أزمنة) وأوطان ( أمكنة ) وأقوام (أزمنة وأمكنة ) عبر ولادات وميتات لانهائية حتى يخرج من هذه الرحلة إلى شواطئ جنيف.
ولعل البناء الميتاسردي هو الذي صنع تقاطبية الزمان في امرأة القارورة لما يمنحه من سمة موضوعية متوهمة تنفذ منها عجائبية الرواية وأزمنتها المنفلتة من الأنساق الزمنية المألوفة هذا من جانب، ومن جانب آخر هو الذي وضعها في (المنطقة الوسطى) بين زمنين الواقعي (تأريخ آدم في العراق ) والمتخيّل ( أحداث امرأة القارورة ) وكلاهما انبثق من الماضي ، وتدافع نحو الماضي فالمستقبل.
كما أن أحداث امرأة القارورة العجائبية منقسمة على سياقين أيضاً، الأول: ذكرياتها مع (آدم) في الرواية (المتن) أو المركزية وقد استهلها السارد الثاني بـ ( منذ أعوام بدأت حكاية الشاب آدم مع تلك المرأة العجيبة ). وسياق ثان هو حكايات تلك المرأة ومغامراتها مع ورثة قارورتها الذين هم أحفادها؛ والسياقان سرديان استرجاعيان في متوالية (استرجاعية ــ استباقية) كما مرّ بها تعود إلى خمسة آلاف عام هو عمر امرأة القارورة.
وفي بناء مشهدي تخييلي ندخل في فضاء اللازمن إذ يتداخل الماضي مع الحاضر، والاسترجاع مع الاستباق في صياغة عالم (غرائبي ) موح أو استباق داخل استرجاع في بنية مشهدية تختزل الأحداث والأزمنة التقاطبية في امرأة القارورة في سرد الراوي العليم " عندما رآها.. تتكلم بصوت ذي نبرة حلوة.... قالت : أنا ياسيدي منذورة لك ولذريتك.. ظل مبهوتاً وقد تدلى لسانه في فم فاغر! كل شيء كان يمكن أن يخطر على باله إلا هذا.. ! امرأة خالدة الشباب والجمال طوع امره ولإرضاء ملذاته! الآن فقط قد رأى بأم عينيه حورية أحلامه التي استقرت في أعماق طفولته"( )
ويلخص هذا المشهد الممتد في الرواية بصياغات مختلفة طبيعة السرد العجائبي في الرواية الذي يوقف الزمن ، ويعمل على إبطاء حركة السرد في ( فنتازيا ) الحضور السحري لامرأة القارورة وعلى الرغم من الزمن السرمدي الذي يتخلل الرواية كلها ويبني معماريتها إلا أنه زمن هلامي متمرد على الوصف يتراجع، ويتقدم، يتلوى، وينكسر، في حركته الوقائعية وأحداثه المتشعبة المشكّلة للمتن السردي العجائبي.
تقاطبات الأمكنة في امرأة القارورة
لم يكن المكان مختلفاً عن الزمان في طبيعته السردية من حيث السمة الثنائية المزدوجة الواقعية ـــ التخييلية في امرأة القارورة، فما اتصف به السرد (الزماني) اتصف به الوصف (المكاني) ، إذ تقاطبت الأمكنة الحقيقية مع الأمكنة الافتراضية (المتخيّلة) ضمن البناء الميتاسردي.
وتجسّدت في (القارورة) العلامة المكانية الأولى التي تتشظى إلى دلالات مختلفة مأسورة بالقيد والانغلاق تارة ، وبالانفلات والتشظي تارة أخرى، ولاسيّما حين تقترن بـ (امرأة) مما يخلق التضاد بين الواقع واستحالة دخول المرأة في القارورة، والخيال الذي يجعل القارورة مسكناً ومرتعاً لصاحبته (امرأة القارورة)
ومن الأهمية بمكان أن نعرف بأن تجسيد المكان في النص السردي يختلف عن تجسيد الزمان ؛ لأن المكان هو فضاء الرواية وموطن أحداثها أما الزمان فهو الرواية ذاتها ممثلة بأحداثها وسردها وهو في امرأة القارورة " نوع من الوسط غير المحدد حيث تتسع الأمكنة"( )
ويختلف الوصف في الرواية الفنتازية عنه في الرواية الكلاسيكية التي يتسم فيها بالتصوير الفوتغرافي أو الاستقصائي، لأن الروائي شغوف بنقل صورة الواقع ومحاكاته، بينما يستقل المكان بأهمية خاصة واستثنائية وانتقائية في روايات الحداثة وما بعد الحداثة ، ومن هنا جاز لنا النظرة إلى القارورة وما جسدته صاحبتها من أكسير الخلود المتمثل بـ (هاجر) على أنها (المكان السرمدي) الذي احتوى (آدم) بعد أن لفظه بلده (العراق ) المثقل بالحرب والدمار ،وهذه المقاربة تأخذ صورتها في أن المكان" سواء أكان واقعياً أم خيالياً يبدو مرتبطاً بل مندمج بالشخصيات كارتباطه واندماجه بالحدث أو بجريان الزمن"( )\
وإذا كان السرد هو لغة الزمان فان الوصف هو لغة المكان، وفي امرأة القارورة كانت لغة الأمكنة (لغة فنتازية) ، وان الوصف يرتبط بشخصية الرواية المركزية ( هاجر ) حيث نجد حضور الوصف ــ المكاني تحديداً في مفاصل الرواية كلها بصيغة تقاطبية يتقاطع فيها ما هو واقعي بما هو تخييلي، فقد أضفت الفنتازيا أو الغرائبية على أمكنة الرواية وأوصافها الصبغة الغرائبية التي يبدو الهدف منها" جلب اهتمام المتلقي إلى غرابة المكان، مثلما يلجأ إلى إثارته عن طريق وصف الشخوص والأشياء"( )
ويصعب استخلاص صورة محددة الملامح للأمكنة في الرواية الغرائبية أو لتقاطب الأمكنة فيها، وتتفاوت في ملامحها وصفاتها بين الألفة والعداء، وبين الضيق والاتساع، وبين الإقامة والترحال، وامرأة القارورة هي التي تمنح المكان السحر واللطافة في كل لقاء كانت هاجر تنتزع (آدم ) من واقعه وترميه في أغوار أحد عوالمها المنسية. ولا تفوت أية مناسبة إلا وذاكرة التأريخ حاضرة فيها، إذا مارأت فيلماً تأريخيآ خرجت منه تذرف دموعاً، وهي تحكي له عن جده فلان الذي مرّ بمثل أحداث الفيلم في سجن تحت الأرض بعد اجتياح الأسكندر مقدوني لمدينة بابل " يوماً كان آدم يتنزه معها في غابة مطلة على شاطئ بحيرة ليمان عند أطراف مدينة (مونترو) كانت شمس خريف نادرة في طريقها للاختباء وراء جبال الألب" ( )
في هذا النص تتمثل تقاطبية الأمكنة بين الواقع والخيال، والألفة والعداء، ويحفل المكان بمعالم حلمية يظهرها النص تنتزع (آدم) من واقعه وترميه في أغوار عوالمها (أمكنتها) المنسية، ويتقاطب المكانان الواقعيان :بابل وجنيف (مونترو) مع الأمكنة التأريخية التخييلية الافتراضية ( سجن تحت الأرض) المرتبطة بشخصية الأسكندر المقدوني التأريخية.
وعلى الرغم من هذا التقاطب الواقعي التخييلي يبقى الراوي مشدوداً إلى سرّة أمكنته الواقعية العراقية يقف عند بابل، ونينوى، وبغداد، والبصرة، والأهوار، ولم تستطع جنيف أن تختطف (ذاكرته العراقية) إلا أن ورودها لم يكن بمنأى عن وجع الحرب التي امتصت حنينه إليها وبررت محاولاته السبع للهرب من وطنه إلى أوربا وجينيف تحديداً وكانت امرأة القارورة وحكايتها معادلاً موضوعياً لسحر وطن وفضاءاته العجائبية المفقودة" أمّا أنا و (هاجر) كانت خلاصي وملجأي الخفي، كلما ورم الحنين في قلبي، في منامي كنت أعيش كوابيس أوطاني القديمة الأهواء، موطن أسلافي، وعذابات طفولتي، البحر موطن عنفواني، وثورة فتوتي وشبابي"( )
وتظهر بغداد (المكان الأليف) الواقعي (مكاناً معادياً) هرب منه الراوي إلى فضاءات السحر العجائبية ومثلها (جنيف) التي لم تكن سوى (المكان العتبة) الذي شهد صراعاته الداخلية، ولم يكن فيها بمأمن من اغتيال أحلامه وقارورته بعد أن لفظته مدينته وصارت مرتعاً للقتل والنهب وساحة حروب لا تنتهي، وما عاد حديثه عن بغداد بوصفها عاصمة الحضارة والثقافة بل بوصفها مكاناً مستلباً " عدت إلى بغداد عن طريق صديق قديم كان سياسياً وتحوًل إلى مهرب محترف بعد أن برعت مواهبه المدنسة يوم قبضوا عليه فتنكر لقضيته لقاء ضمان حمايته... (ثم قوله) عدت منتكساً إلى بغداد بعد أن شتتت الطائرات والخيانات الكثير من جماعاتنا، واستهلكت الملاريا دمي.. عدت لا لكي أموت بين أهلي وأصحاب لا اتذكرهم، بل لأني لكم أكن امتلك خياراً آخر" ( )
وإذا ما اردنا أن ندع جانباً الأمكنة العامة؛ الشوارع، المقاهي، الجسور، الحانات، التي وردت في الرواية بأوصافها الكثيرة فضلاً عن المدن الشرقية، والغربية، تظهر لنا ( القارورة ) هي المكان العجائبي أو الملاذ الآمن الذي كشفت عن هيمنته الرواية منذ مستهلها حتى استلم مخطوطة الرواية وبحوزته تميمته (القارورة) " أنا المبهوت، في شوارع المدينة حتى دخلت إلى حانة مطلة على نهر (الرون) هناك قدّمت لي صاحبة الحانة كأس نبيذ أحمر وهذه المخطوطة" ( )
وعلى الرغم من أنّ شوارع جينيف هي النهر اليومي للمدينة الذي تجري فيه سفائن الناس ومراكبهم وأقدامهم وأعينهم وتتحاور ألسنتهم( ) إلا أنها لم تكن أمكنة حياة لدى آدم فهولايتذكرها ولا يذكرها إلا عندما تكون خلفية للأحداث التي يمر بها، وتكاد تكون أمكنة حياد أو أمكنة محايدة لا يتفاعل معها الّا لتتقاطب مع أمكنته التخييلية.
و(القارورة ) ممثّلة بصاحبتها (هاجر) هي أول ملمح مكاني في الرواية وهي نقطة التحوّل والانسلاخ بالنسبة للراوي وهي المكان (البيني) أو (المكان البرزخ) " بين العراق وسويسرا المغامرات العجيبة لامرأة خالدة منذ خمسة الآف عام"( )
هذا المكان (البيني) يصعب تحديده ومعرفة حدوده فهو مكان بداية الرواية (جينيف) حيث المخطوطة بانتظاره، ومكان ولادة امرأة القارورة (العراق) وولادة الراوي تتخللها أمكنة انتقالية وأمكنة عتبة أخرى الشام، اسطنبول، مصر ومدن شرقية أخرى.
إن امرأة القارورة تنقلت كثيراً في أمكنة كثيرة بحثاً عن هويتها، أمكنة قديمة مندثرة وتأريخية، وأمكنة حديثة زاهرة.
أما مكان عثور الراوي على (القارورة) فكان مكاناً مغلقاً تخييلياً "اثناء نبشه الأغراض المتراكمة في الزحمة، لمح القارورة، كانت مركونة في زاوية مثخنة بعتمة ورطوبة وخيوط عنكبوت، متكئة على حائط كأنها تستريح من الانتظار"( )
وفي هذا المكان انتقل الراوي إلى (يوتوبيا المتعة ) التي تمثل المكان المنشود الذي يتقاطب فيه الواقع مع الخيال ؛ المكان الذي يبحث عنه فاصطاده حين اصطاد (القارورة) التي ورثها كذكرى من أبيه فنقلته من الكبت إلى الحرية، ومن الألم إلى المتعة.
ولم تكن أماكن اللذة التي وجدها في جينيف المسابح، المراقص، القطارات، الأزقة، الحدائق والمتاحف .. إلخ إلا أماكن خاطفة يمر بها مروراً مادياً ولا يرتبط بها إلا حين تكون خلفية لممارسته الحياة مع هاجر (امرأة القارورة).
وفي عبارة موحية تظهر لنا تقاطبية الزمان مع المكان في امرأة القارورة " كما ترون، صار يحلو لي أن أتخيل آدم كقصر عتيق قشطت عنه ريح زمان زينته وعرّته من فخامته ولكن (امرأة القارورة) بسحرها ومهارة فنها أعادت إليه أمجاده ونفخت الريح في قاطنيه"( )
وبذلك لم ترهق رؤية (امرأة القارورة) القارئ في متابعة المكان وتضاريسه الممتدة بتفاصيل مادية جامدة وإنما كان المكان في تقاطبيته مع السرد جزءآ مهماً من النسق الرمزي للأحداث في الرواية.
و يبدو لي انّ (امرأة القارورة) تعادل في عمقها الرمزي وتقاطبات الزمان والمكان فيها،ونسيج أحداثها الذي يتعالى من الواقعي إلى العجائبي (بغداد) التي صنعت لها الرواية (قارورة تخييلية) نسجت زمنيتها وما تعرضت له في تأريخها من محاولات خطف وتبديد لسحرها ولكنها ظلت سحرآ عصياً على الازمنة والامكنة ، يفلت من قبضة الريح.