المقياس النّحويّ عند الطّبريّ وأثره في موقفه من القراءات القرآنيّة
المقياس النّحويّ عند الطّبريّ
وأثره في موقفه من القراءات القرآنيّة
د. بشائر علي جاسم
مُلخّص البحث:
حين يُذكَر الطّبريُّ وتفسيرُه "جامع البيان في تأويل آي القرآن"، نكاد نقف إجلالًا لذلك التّفسير الّذي احتوى على كمّ هائل من اللّغة والنّحو والصّرف والبلاغة. أمّا القراءات القرآنيّة فعلى الرّغم من أنّه اعتذر عن الخوض كثيرًا فيها؛ لأنّه ألّف في القراءات كتابًا خاصًّا فُقِد ولم يظهر له أثرٌ حتّى الآن، إلّا أنّه حلّل في تفسيره وناقش أغلب القراءات اعتمادًا على: المقاييس اللّغويّة والنّحويّة، واتّفاق المعنى، وعدم التّناقض بين المعاني، واستفاضة القراءة بين القُرّاء. وهذا جهدٌ جعل الطّبريَّ وكتابَه في أرقى مجال، رحمه اللّه رحمةً عامّة.
إنّ البحث في هذا الموضوع مُتشعّب الأنحاء وعر المسلك؛ لأنّه يدخل في أكثرَ من علم، فالطّبريّ كان واسعَ العلم، ألّفَ في علوم كثيرة، لذا سوف أقتصرُ في بحثي على تفسيره الواسع "جامع البيان"، فهو قد تحدّث في هذا التّفسير عن كثيرٍ من القراءات وناقشها، وصوّب بعضها وخطّأ بعضًا آخرَ منها، قبل ظهور القراءات القرآنيّة السّبع التي ظهرت بعد وفاة الطّبريّ.
الكلمات المفتاحيّة: الطّبريّ، جامع البيان، المقياس النّحويّ، القرآن الكريم، القراءات.
التّمهيد
علينا أن نعلم أنّ القراءات القرآنيّة السّبع ظهرت بعد الطّبريّ( )، وأنّ الّذي سبّعها هو تلميذُه أبو بكر بن مجاهد (ت324هـ)، أي أنّ التّسبيع ظهر واشتهر بعد الطّبريّ. وممّا يُذكر أنّ ابن مجاهد لم يذكُرْ في كتابه "السّبعة في القراءات" الطّبريَّ على الرّغم من أنّه كان شيخه. وذكر ابن الجزريّ أنّه حين روى قراءةَ نافع ذكرَ أنّه أخذها من (محمّد بن عبد اللّه)، وقال عنه ابنُ الجزريّ أنّه دلّس في ذلك، ولم يذكر اسم الطّبريّ الّذي أخذ عنه القراءة. ولكنّ الطّبريّ (محمّد بن جرير) لم يُروَ أنّ اسم أبيه عبد اللّه في المصادر الّتي رجعتُ إليها، وهذا ما ذكره ابنُ مجاهد، قال: "وأخبرني محمّد بن عبد اللّه بن يونس بن عبد الأعلى عن وَرْش...."( )، ويونسُ بن عبد الأعلى أخذ عنه خلقٌ كثيرٌ، فربّما ذكر ابنُ مجاهد روايةَ وَرْش عن يونسَ بن عبد الأعلى من طريقٍ آخرَ غيرِ طريق الطّبريّ، عند ذلك يكون ابنُ مجاهد غيرَ مدلّسٍ في كلامه.
المقياس النّحويّ وأثره في موافقة الطّبريّ لبعض القراءات
حين نتحدّث عن المقياس النّحويّ، فذلك يعني أنّنا نتحدّث عن مجموعة قوانينَ نحويّةٍ لها وجودها لتصحيح أيّة جملة عربيّة أو تخطئتها، والطّبريّ كان من العلماء الّذين شقّوا طريقًا مهمًّا في علم القراءات، ولا سيّما أنّه ألّف كتابًا في هذا العلم، وإن كان هذا الكتاب قد فُقد، لكنّ ما تحدّث به الطّبريّ في سِفرْه التّفسيريّ الواسع (جامع البيان) عن القراءات، ووصفها بالصّحة والخطأ، يدلّ دلالةً واضحةً عن العلم الواسع الّذي كتبه فيه.
اعتمد الطّبريّ في هذا القياس على مجموعة من الأسس، سأذكرها، أصبحت بعده أساسًا مهمًّا في علم القراءات.
الأوّل: اتّفاق المعنى بين القراءتَين، كما في حديثه عن قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ)( )، إذ اختلف القُرّاء في قراءة (ويعلمه)، فقرأ نافع وعاصِم ويعقوبُ وأبو جعفر وسَهْل (ويُعُلّمهُ)( ) بالياء، وعلّل الطّبريّ ذلك بأنّ مَن قرأ (ويعلمه)( ) ردّها على قوله تعالى في الآية قبلها بسطر قال: (كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)( )، فوجود التّجانس بين صيغة الفعلين (يخلق، يعلم) سوّغت القراءة بالياء.
أمّا القراءة بنون العظمة( ) (ونُعلمه) فقرأ بها ابنُ كثير وأبو عمرو ابن العلاء وابن عامر وحمزةُ والكِسائيّ وابن مسعود، وعلّل الطّبريُّ القراءةَ بالنّون، بأنّ مَن قرأ بالنّون فقد ردّها إلى قوله تعالى: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)( )، فوجود النّون وصيغة المضارعة في الفعلين سوّغ القراءة بالنّون، وهذا تفسير قوله: (عطفًا به على قوله...). والقراءتان (نَعلمه ويعلمه) لا بأس بالقراءة بهما وذلك لعدم اختلاف المعنى( ).
الثّاني: اتّفاق المعنى مع كون القراءتين من الكلام المشهور عند العرب، أي أنّه جعل شُهرة الكلام وشيوعه عند العرب من ضمن مقاييس قبول القراءة، ومن ذلك تصويبه للقراءتين الواردتين في قوله تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)( )، ذكر الطّبريّ أنّ بعض القُرّاء قرأها (وكأيّن) بالهمزة على الألف مع تشديد الياء( )، هي قراءة الجمهور( )، وقال عنها العُكْبريّ بأنّها المشهورة وأنّها الأصل( ).
وذكر الطّبريّ، بأنّها وردت بوجهٍ آخرَ وهو مدّ الألف وتخفيف الياء( ) وقرأ بها ابنُ كثير وأبو جعفر( )، قال الطّبريّ في هاتين القراءتين: ((وهما قراءتان مشهورتان في قَرَأَةِ المسلمينَ، ولغتان معروفتان لا اختلاف في معناهما، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارئُ فمصيب، لاتّفاق معنى ذلك وشهرتهما في كلمة العرب))( )، والطّبريّ هنا جعل اتفاق المعنى والشّهرة في كلام العرب مقياسًا رجّح به صحّة القراءتين.
الثّالث: اتّفاق المعنى في القراءتين مع استفاضتهما في قَرَأَةِ الإسلام( ) كما في قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)( )، فقرأ ابن كثير، وشُعْبَةُ عن عاصِم (مُبَيَّنة) بفتح الياء، أي يبيّنها من يدّعيها ويوضّحها( )، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزةُ والكِسائيّ، وحَفْص عن عاصِم (مُبَيِّنة) بكسر الياء على أنّها اسم فاعل من الفعل (بَيِّن) أي بَيِّنة في نفسها ظاهرة( )، ويُعلّل الطّبريّ رضاه عن القراءتين ومَن قرأ بأيّهما كان على صواب لتساوي المعنى: "لأنّ الفاحشة إذا أظهرها صاحبُها، فهي ظاهرة بيِّنة، وإذا ظهرت فبإظهار صاحبها إيّاها ظهرت، فلا تكون ظاهرة بيّنة، إلّا وهي مُبيِّنة، ولا بيّنة إلّا وهي مُبيَّنة"( ).
الرّابع: اتّفاق المعنى وعدم الاختلاف، وبهذا المقياس صَوّب الوجهين في قراءتي: إنْ هذا إلّا سِحْرٌ مُبِيْنٌ في قوله تعالى: (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)( ).
قرأ: "ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصِم (سِحْر) من غير ألف، وفي هذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البيّنات"( ).
وقـــرأ: حمـــزةُ والكِسائيّ وخلف (ســاحر) على أنّه اسم فاعــــل فـــي إشـــارة إلى عيسى (عليه السّلام) نفسه.
وذكر الطّبريّ في تصويب القراءتين: والصّواب من القول في ذلك أنّ القراءتين معروفتان ومعناهما صحيح، وأنّ الاتّفاق بين المعنيين حاصل؛ لأنّ مَن يعمل بالسّحر يكون فاعله ساحرًا، ومَن كان ساحرًا فهو يعمل السّحر، والموصوف يدلّ على صفته، والفاعل يدلّ على فعله( )، فهذا المعنى متّفِق لأنّ السّحر والسّاحر متّفقان بِحيثيّتَيْنِ: فمن حيث الفعل فهو سحر، ومن حيث الفاعل فهو ساحر.
الخامس: صحّة الإعراب وصحّة المعنى، وبهذا المقياس صَوّب الوجهين في قراءتي (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)( ).
أ. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر ((جاعلُ اللّيلِ))( ) وربما اعتبر المناسبة مع (فالق الإصباح) قبله ثمّ قال (وجاعلُ اللّيلِ) وجاعل اسم فاعل أُضيف إلى معمولِه وهو (اللّيل) لأنّه مجرور لفظًا ومنصوب محلًّا مفعول به لجاعل( ) وجاعل مرفوع عطفًا على فالق، وعلى هذه القراءة يكون نصب (والشّمس والقمر) على موضع اللّيل، وهناك قراءة بخفض الشّمس والقمر بالعطف على اللّفظ( )، وهي قراءة يزيدَ من قطيب السّكونيّ( ) وهي من القراءات الشّاذّة( ).
ب. وقرأ عاصِم، وحمزةُ، والكِسائيّ، وخلَف (وجَعلَ اللّيلَ) على أن (جعل) فعل ماضٍ فاعله ضمير يعود إلى الباري سبحانه وتعالى، و(اللّيل) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظّاهرة على آخره، "والصّواب من القول في ذلك عندنا أن يُقال: إنّهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَةِ الأمصار متّفقتا المعنى غير مختلفتين"( ).
وبهذا صوّب القراءتين لأنّهما قراءتان مستفيضتان، ويبدو أنّ لفظ مستفيض عند الطّبريّ يقرب من مصطلح التّواتر، مع وجود بعض الاختلاف في حدود المصطلحين.
السّادس: صحّة المعنى وشهرة القراءة بين القُرّاء، ومن أمثلة ذلك تصحيحه للقراءتين الواردتين في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) ( ).
وقد ورد فيها عدّة قراءات، منها من السّبعة ومنها من غير ذلك، إذ:
1. قرأ ابنُ كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصِم (لا تُفتَّح) بتاء المضارعة الّتي تُفيد التّأنيث وشدّدوا التّاء الثّانية وببناء الفعل للمجهول.
2. قرأ أبو عمرو من السّبعة، ومحمّد بن محيصن (ت 123هـ)، ويحيى بن المبارك اليزيديّ (ت 202هـ)، وهما من القراءات الشّاذّة: (لا تُفْتحَ) بالتّاء في أوّله وتخفيف التّاء، وجرى التّأنيث على أنّ الأبواب جماعة( ).
وقال مكّيّ بن أبي طالب القيسيّ: ((والتّشديد أحبّ إليّ؛ لأنّ عليه الحرمين وعاصِما وابن عامر))( ) ويقصد بالحرمين (ابن كثير ونافع)، ويظهر أنّ مكّيّ القيسيّ جعل جوار الحرمين مُرجِّحًا لحبّه للقراءة.
وقال النّحّاس: "والتّخفيف يكون للقليل والكثير، والتّثقيل للكثير لا غير، والتّثقيل هنا أولى لأنّه على الكثير أدلّ"( ).
3. قرأ حمزةُ والكِسائيّ: (لا يُفْتَحُ لهم أبواب) بياء في أوّله على أنّ الأبواب مذكّر؛ لأنّه جمْع باب وبتخفيف الياء( )، أمّا التّذكير فلأنّ الأبواب مؤنّث غير حقيقيّ، ولأنّه فصل بين الفعل والمؤنّث بفاصل( ).
وصوّب الطّبريُّ القراءتين لأنّهما قراءتان مشهورتان ومعناهما صحيح( ) ووجود الياء والتّاء (يفتح، تفتح) صوابٌ على أنّ معمولهما أبواب، أمّا بالياء فلأنّه جمع مذكّر، وأمّا بالتّاء فلأنّه مفصول عن فعله.
السّابع: صحّة اللّفظ لكونه من لُغتَين مشهورتَين، مثل: تصويبه للقراءتَين في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ)( )، إذ وردت قراءتان: القِسطاس بكسر القاف، والقُسطاس بضمّ القاف( )، إذ ذكرتْهما المعجماتُ اللّغويّةُ( )، مثل القِرطاس والقُرطاس.
1. وقد قرأ بكسر القاف حمزةُ، والكِسائيّ، وحَفْص عن عاصِم( ).
2. وقرأ بضمّ القاف نافعٌ، وابنُ كثير، وابنُ عامر، وأبو عمرو، وشُعْبَةُ عن عاصِم( ) وهي لغةُ الحجاز.
وصوّب الطّبريُّ القراءتين؛ لأنّ اللّفظين صحيحان ورد بهما كلامُ العرب، والقراءتان مستفيضتان مشهورتان بين القُرّاء( )، وكأنّه يريد بالاستفاضة والشّهرة التّواترَ الّذي قال به مَن جاء بعده من علماء القراءات.
الثّامن: صحّة المعنى وعدم تعارض اللّفظين بالمعنى، وصوّب به قراءة القُرّاء للآية الكريمة: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ( ).
أ. فقرأ ابنُ كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحَفْص عن عاصِم (حَمِئَة) بهمزة مفتوحة وبدون ألف ((والحَمْأَة والحَمَأ: الطّين الأسود المُنتن))( ) فهي بهذا مأخوذة ((من الحمأ، وهي الطّين))( ).
ب. وقرأ الكِسائيّ، وحمزةُ، وابنُ عامر، وشُعْبَةُ عن عاصِم، وعددٌ من القُرّاء الآخَرين (حامية) بألف وياء، وتكون اسمَ فاعلٍ ويكون معناها حارّة( ) أي أنّ ((مَن قرأ حامية بغير همز أراد حارّة))( )، يقال: ((حَميتُ في الغضب أحمي حميًا))( ).
وفي تصويب القراءتين ذكر الطّبريّ في صحّة القراءتين:
1. كِلا المعنيين صحيح ومفهوم.
2. أنّ أحد المعنيين لا يعارض الآخَر.
3. أنّ القراءتين قرأ بهما القُرّاء في الأمصار، فهما مستفيضتان( )، وعليها جماعةٌ من الصّحابة( ).
وقال السّمين الحلبيّ: "ولا تناقضَ بين القراءتين، لأنّ العين جامعة بين الوصفَين: الحرارة، وكونها من الطّين"( ).
التّاسع: تصويبه للقراءات الثّلاث في قوله تعالى: (مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا)( )، (مَلْكِنا).
1. بفتح الميم وهي قراءة عدد من قرّاء السّبعة وغيرها، فمن السّبعة قرأ بها نافع وعاصِم( )، ويكون معناها القدرة( ).
2. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوبُ: بِمِلْكنا بكسر الميم( ).
3. وقرأ حمزةُ، والكِسائيّ، والحسن بضمّ الميم: بمُلكنا.
ووجّه العلماء معاني القراءات الثّلاث بهذه الصّورة.
أ. قال العُكْبريّ عن قراءة الفتح: "والفتح بمعنى المملوك، أي بإصلاح ما يملك"( )، يُقال: "ومَلَكنا الماء: أرْوانا فقوينا على مَلْك أمرنا"( )، أي أنّ مَن فتَح الميم فيها فإنّه يقصد القوّة والغلَبة( ).
ب. أمّا قراءة الضّم فوجّه الطّبريُّ معناها: أي أنّنا "أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا"( )، وروى ابنُ منظور عن عدد من علماءِ اللّغة أنّها تُلفظ بثلاث صور: "مِلْك، ومُلْك، ومَلَك"( ) وأنّها من المثلّث( ).
ت. أمّا قراءة الكسر فوجّه الطّبريّ معناها: "ما أخلفنا موعدك ونحن نملك الوفاء به لغلَبة أنفسنا إيّانا على خلافه"( )، وذكر العُكْبريّ أنّ الكسر هو مصدر مالِك( ).
ومن هذه الأمثلة الّتي ذكرناها يتبيّن أنّ الطّبريّ جعل المقياس النّحويّ، وكأنّه مصباح يُضيء به الجوانب غير الواضحة، ويكشف عن معانيها والزّوايا المخفيّة فيها، فيُعين القارئ على أن يختار منها القراءةَ الّتي يُريد.
المقياس النّحويّ وأثره في عدم رضاه عن بعض القراءات:
ذكر الطّبريُّ في كتابه عددًا من القراءات، ورجّح بعضها على بعض بحسب المقياس الّذي سار عليه، والّذي سبق أن بينّا نقاطه التي سار عليها؛ لأنّ القراءات في زمانه لم تكن لها مقاييسُ ثابتةٌ، ولا سيّما مقياس التّواتر الّذي استعاره العلماء من عِلم الحديث، والتّواتر عند علماء الحديث: هو ما رواه جمعٌ عن جمعٍ لا يُتصوَّر تواطؤهم على الكذب، وهذا المصطلح بهذا المفهوم لم يكن معروفًا على زمان الطّبريّ، وإنّما ظهر بعده، كما أنّ مصطلح التّسبيع لم يكن معروفًا في زمانه، وإنّما ظهر بعد أن ألّف تلميذُه ابنُ مجاهد كتابه السّبعة في القراءات، وصيّر القراءات سبعًا، ثمّ أضاف عليها ابن الجزريّ الثّلاثة المُكمّلة للعشرة، وعليه فلا يحقّ لبعض المُحْدَثين من الّذين ألّفوا رسائلَ جامعيّةً أن يتحاملوا على الطّبريّ، ويصوّروه ناكرًا لبعض القراءات السّبعيّة بحسب المصطلَح المُتأخِّر عنه، وهناك مَن جعله رادًّا لها، وغير ذلك ممّن تحدّث في هذا الموضوع على غير هُدًى. وعلى كلّ حال فلا أريد الدّفاع عن الطّبريّ، ولكن أريد إحقاق الحقّ في أنّه لم يكن ليردّ قراءةً ثبتت لغةً ومعنًى وروايةً، وكان اللّغويّون في زمانه (أواخر القرن الثّالث وبداية القرن الرّابع) يُناقشون اللّغة والشّعر وكيفيّة الاحتجاج لكلّ القضايا الّتي يتناولونها، وكان التّفسير أحد العلوم الّتي تناولها العلماء بإقامة الدّليل على صحّة المعنى أو خطئه، وكان للطّبريّ القدَح المُعلّى في بيان المعاني ودقّتها أو عدم إصابتها للهدف المقصود، ونالت القراءات الّتي كانت من ضمن موضوعات التّفسير قسطًا كبيرًا من الاهتمام، إذ تناولها كثيرٌ من المُفسّرين في تفاسيرهم، وإن كان هناك مَن أفرد لها تآليفَ خاصّةً بها، إلّا أنّها أخذت مجالًا واسعًا من التّفاسير، والطّبريّ ناقش معانيَ القراءات شأنها شأن كثيرٍ من القضايا النّحويّة واللّغويّة، وبيّن المعاني ورجّح بينها، ولا سيّما أنّ مصطلح التّواتر أو القراءات السّبعيّة لم تكن شائعة في مؤلّفات العلماء، ومِن هنا انطلق الطّبريّ يُرجّح بين القراءات ويُوازن ويُفضّل.
ولا أراه مُسَوَّغًا أن ينبري بعضُ الباحثين بالنّيل من الطّبريّ ويحمّله وزر مصطلحٍ لم يطّلع عليه، ولم يُناقَش في زمانه، فألّف أحدُهم رسالةً بعنوان "القراءات المتواترة الّتي أنكرها ابنُ جريرٍ الطّبريّ في تفسيره والرّدُّ عليه"( )، وحينَ قرأتُ هذه الرّسالةَ وجدتُ أنّ صاحبها يريد محاسبة الطّبريّ بموجب مقاييسَ ما كانت موجودةً في زمن الطّبريّ، ولو كانت لكان له موقف معيّن منها، فبعضها دخيل على علم التّفسير وعلى القراءات. وفي هذه الرّسالة إجحاف، وتحميل أقوال الطّبريّ الشّيء الكثير ممّا لا تحتمل، ونُسب الطّبريّ فيها إلى المَيل والحَيف والخطأ والنّسيان، وغير ذلك من الأمور الّتي لا أساس لها من الصّحة.
وسوف أختار عددًا من القراءات الّتي أعْمَلَ فيها المقياسَ النّحويَّ لتكون نماذجَ لذلك، والّتي خرج بنتيجة: هي عدم رضاه عن بعض القراءات الّتي ناقشها، إذ بيّن أنّ بعض القراءات تعوِزها دقّة المعنى المطلوب، فرجّح غيرها عليها، ولم يُنكرها أو يكذّبها، والاختيار في القراءات وارد إذا صحّ الدّليل المعتمَد في الاختيار، والطّبريّ (رحمه اللّه تعالى) اختار أن يكون مقياس المطابقة بالأفصح من العربيّة ومن كلام العرب، الّذي حوّله مَن جاءوا بعده إلى أنّ القراءة تكون مقبولة إذا وافقت وجهًا من أوجه العربيّة، وقال ابن الجزريّ في توضيح هذا الضّابِط: "وقولنا في الضّابِط ولو بوجهٍ، نريد وجهًا من وجوه النّحو، سواء كان أفصحَ أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مُختلَفًا فيه"( ) وهذا ما لم يرضَه الطّبريّ، فالطّبريّ كان يقف مع الأفصح والأقوى من الأوجه العربيّة، ويُرجّح ما كان فاشيًا في كلام العرب، وقد سبق أنْ ذكرْنا أدلّة من القراءات، علّلَ تصويبَها كونها الأفصح والأشيَع والأجوَد.
فالطّبريّ كان مقياسه النّحويّ واللّغويّ يقوم على:
1. مطابقة القراءة للأفصح من كلام العرب، على خلاف مَن جاء بعده، من الّذين ارتضوا المطابقة مع وجه من العربيّة حتّى ولو كان ضعيفًا.
2. شيوع القراءة بين القُرّاء واستفاضتها، ومصطلح الاستفاضة هذا ربّما كان يقصد به ما يقارب التّواتر.
3. عدم وجود تناقض بين القراءتين أو القراءات في المعنى، إذ لا يمكن أن نقرأ بقراءتين إحداهما تنقض الأخرى.
وبناءً على ذلك حاور الطّبريّ القراءات ورجّح بعضها على بعض، إلّا أنّه لم يجحدها، وما ألقى حَجَرًا ولو صغيرًا ناحيتها على ما زعمَ بعض مَن تحدّث في الطّبريِّ.
بعض القراءات الّتي تحدّث فيها الطّبريُّ ولم تُطابق مقاييسه:
الأولى: رجّح الطّبريّ في سورة الفاتحة (مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ) وهي القراءة الّتي رجّحها من بين قراءات كثيرة أبو عبيد، وهي قراءة كثيرٍ من الصّحابة والتّابعين( )؛ لأنّها عنده أفصح القراءات، وهو يأخذ بالأفصح بحسب مقياسه، ويترك الفصيح، وهو هنا لم يردّ قراءة (مالك)؛ لأنّ القراءة في زمنه لم تُحدَّد بكونها سبعيّة أو غير سبعيّة، وأنّ القراءة شائعة عند كثيرٍ من الصّحابة والتّابعين على ما روى الطّبريّ في تفسيره( )، وأنّه لم يقل إنّ غيرها خطأ على ما ذكره محمّد عارف عثمان، فهو قد حمّل قولَ الطّبريّ قولًا لم يقلْه الطّبريّ ولا صرّح به( ).
الثّانية: رجّح الطّبريّ- بحسب مقياسه- قراءةَ (وما يخدعون) لأنّ لفظ (يخادعون) فيه معنى المُفاعلة بين طرفين، وأحيانًا يأتي من غير المُفاعلة كما في قوله تعالى: (قَــٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)( ) وقاتل هنا جاءت بمعنى لعنهم، "وليس من باب المُفاعلة بل من باب طارقت الفعل وعاقبت (اللّص)"( ) فعاقبت اللّص ليس من المُفاعلة، والطّبريّ لم يُنكر القراءةَ- كما زعم بعض من كتَب عن الطّبريّ- ولم ينسبها إلى الفساد، وكان على الكاتب أن يأخذ الأمر بالهيّن، لا أن يُقوّلَ الطّبريّ ما لم يقل، فالطّبريّ رجّح ولم يُنكر، وقد قرأ بالقراءتين عددٌ من القُرّاء، وصدر الآية مُثبِت للمخادعة (يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ) وهذا حكته الآيةُ بحسب تصوّرهم، ولكنّ اللّه تعالى لم يشأ أن يُثبِت هذا التّصوّر، فنفى أصل الخداع وجاء بالفعل منفيًّا، موضّحًا أنّ فعل الخداع منفيّ عنه، لأنّ اللّه تعالى مُطّلِع على ما في قلوبهم، ففعل الخداع مردودٌ على أنفسهم، واللّهُ أعلم.
الثّالثة: رجّح الطّبريّ قراءة التّشديد في قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)( ).
أ. قرأ عاصِم، وحمزة، والكِسائيّ من السّبعة بفتح الياء وتخفيف الذّال: (يَكذِبون).
ب. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بضم الياء وتشديد الذّال: (يُكذّبون).
ذكر الطّبريُّ أنّ القُرّاء قد اختلفوا بين التّخفيف والتّشديد، وكأنّ الّذين قرأوا بالتّشديد رأوا أنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما أوجب للمنافقين العذاب بما كانوا يُبطنون من العداء للرّسول (صلّى اللهُ عليه وسلّم) وللإسلام، وأنّ العذاب على أنّهم يكذّبون بالتّشديد، لأنه جامع بين الشّك والتّكذيب( ) و"أنّ كينونة العذاب الأليم لهؤلاء سببها كذبهم وتكذيبهم"( )، والقراءة بالتّشديد يكون مفعول يكذّب محذوفًا لفهم المعنى على تقدير "بكونهم يكذّبون اللّه في إخباره والرّسول في ما جاء به"( )، وبذلك يكون الوعيد لهم على التّكذيب لا على الكذب.
الرّابعة: طبّق الطّبريّ مقياسه على القراءة في قوله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا)( )، وهذه قراءة جماعة من القُرّاء "وروى أبو عبيد أنّ حمزة قرأ (فأزالهما) بالإمالة مع الألف، وهذا غلط"( ) وهذا ليس قول الطّبريّ وإنّما هو قول أبي عبيد أنّ هذا غلط من حمزة؛ فكيف يُفهم بأنّ الطّبريّ غلّط القراءة، لَعمري إنّ هذا لَهو التّجنّي الصّريح على الطّبريّ رحمه اللّه تعالى، وكذا نقل ابنُ خالويه أنّ ذلك غلط من حمزةَ بسبب أنّ حمزةَ كان "يميل من نحو هذا ما كانت فاء الفعل مكسورة إذا ردّها المتكلّم إلى نفسه نحو خافَ وخِفت، وضاقَ وضِقت، وزال وزِلت وأمّا (فأزالهما) فإنّك تقول: أَزَلت، فالزّاي مفتوحة كما قرأ (فَلَمَّا زَاغُوٓاْ)( )، بالإمالة"( )، وهذا مَوضع الغلَط عند حمزةَ الّذي أشّره أبو عبيد أنّه قاس مفتوح العين على مكسور العين.
ويتّضح من هذا أنّ الطّبريّ لم ينسب حمزةَ إلى الغلَط، ولكنّه علّل المعنى تعليلًا دقيقًا، وهنا أقول: إنّ القراءة الّتي اختارها الطّبريُّ كانت موافقةً لعدد كبير من القُرّاء، منهم ستّة من أصل سبعة من القراءات السّبعيّة، فضلًا عن علماءَ كبارٍ وافق قولُهم قولَ الطّبريَّ، واللّه أعلم.
الخامسة: قراءة قوله تعالى: (فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ)( ).
أ. قرأ الجمهور: (آدمُ) بالرّفع و(كلماتٍ) بالنّصب.
ب. قرأ ابن كثير من السّبعة، وابن محيصن: (آدمَ) بالنّصب و(كلماتٌ) بالرّفع.
وقراءة الجمهور "برفع آدمَ ونَصْبِ كلمات؛ لأنّ آدمَ تعلَّم الكلمات من ربّه، فقيل: تلقّى الكلمات"( )، "والذي قرأ به ابنُ كثير جائز في العربيّة؛ لأنّ ما تلقيّته فقد تلقّاك، والقراءة الجيّدة ما عليه العامّة"( ) ونرى هنا أنّ الأزهريّ قد رجّح ضمنًا قراءةَ الجمهور.
وذهب الطّبريُّ إلى أنّه "غير جائز عندي في القراءة إلّا رفع (آدمُ) على أنّه المُتلقّي الكلمات لإجماع الحُجّة من القُرّاء وأهل التّأويل من علماء السّلف والخلف على توجيه التلقِّي إلی آدمَ دون الكلمات"( ) والطّبريّ هنا احتجّ لقوله بالعربيّة، وبقول أغلب القُرّاء وأهل التّأويل والعلماء.
وهناك قراءات كثيرة أخرى، رجّح فيها قراءةً على قراءةٍ لقيام الدّليل عنده على رُجحانها في سورة البقرة، منها:
(وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ ....... وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا) ( )، وقد رُويت حَسَنًا، وحُسنًا.
(وَإِن يَأۡتُوكُمۡ أُسَٰرَىٰ)( )، وقد رُويت أُسارى، وأَسرى.
(قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ)( )، وقد رُويت جبريل ، وجَبْرئيل.
(وَلَا تُسَۡٔلُ عَنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَحِيمِ) ( )، وقد رُويت بضمّ التّاء ورفع اللّام، وقد رُويت أيضًا بفتح التّاء وجزم اللّام.
(وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗىۖ)( )، وقد رُويت بكسر الخاء على الأمر، وبفتح الخاء على أنّه فعلٌ ماضٍ.
وغير ذلك كثير في سورة البقرة، واستيعابها وعرض أقوال العلماء فيها يحتاج كتابًا كاملًا.
وسوف نختار بعض القراءات من سورة آلِ عمرانَ لتوضيح موقف الطّبريّ منها:
1. (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ)( ).
وجاء فيها قراءتان سبعيّتان:
أ. ويَقتُـلُون بالتّخفيف، هي قراءة قرأ بها ستّةٌ من القُرّاء السّبعة.
ب. ويقاتلون بألف مِن قاتَل. هي قراءة حمزة وحده( ) وهو من القُرّاء السّبعة وقد قال الطّبريُّ عن القراءة الثّانية أنّها قراءة بعض المتأخّرين من قُرّاء الكوفة، ورجح الطّبريُّ القراءة الأولى لإجماع القُرّاء عليها( ) وموافقتها للتّأويل.
2. قراءة قوله تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ)( ).
قال الطّبريُّ إنّ القُرّاء قد اختلفوا في (وكفلها).
أ. قرأ حَفْص، وحمزةُ، والكِسائيّ، وخلف: (وكفّلها) بتشديد الفاء على أنّ الفاعل هو اللّهُ تعالى، والهاء يعود على مريم وموقعها المفعول الثّاني، أمّا المفعول الأوّل فهو (زكريّا) وتأوّلها الطّبريُّ "بمعنى كفّلها اللّهُ زكريّا"( ).
ب. قرأ ابنُ کثیر، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: (كَفَلَها) بتخفيف الفاء وإسناد الفعل إلى زكريّا، والهاء العائد على مريم مفعول به( ).
ورجّح الطّبريُّ بقوله: "وأَولى القراءتين بالصّواب في ذلك عندي مَن قرأ وكفّلها مُشدّدة الفاء"( )، وأشار بقوله: (في ذلك عندي) إلى أنّ ذلك هو اختياره، وهنا نقول: أنّه في زمن الطّبريّ كان العلماءُ يختارون القراءةَ بحسب مقاييس اللّغة والرّواية، أي قبل ظهور مصطلح السّبعة والتّواتر في علم القراءات القرآنيّة.
3. قراءة قوله تعالى: (أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا....) ( ).
ذكر الطّبريُّ أنّ القُرّاء قد اختلفوا في كسر همزة (إنّ) وفتحها.
أ. قرأ حمزةُ، وابنُ عامر: (إنّ) بكسر الهمزة.
ب. قرأ نافع، والكِسائيّ، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصِم، وغيرهم من العشرة بفتح الهمزة: (أنّ اللّه يبشّرك).
وجاءت قراءة الكسر عند الكوفيّين على أنّها نداء، والنّداء يجري مجرى القول، أي فنادته الملائكة كأنّه قال: فقالت له الملائكة( ).
وأمّا قراءة فتح الهمزة فعلى تأويل نزع الخافض من (أنّ)، وكأنّ الأصل فنادته الملائكةُ بأنّ اللّه، فلمّا حُذف حرف الجرّ جاز الفتح( ).
4. وفي قوله تعالى: (يبشرك) ذكر الطّبريّ أنّ القُرّاء انقسموا إلى قسمين رئيسَين هما:
أ. قرأ نافع، وابن عامر، وابن کثير، وأبو عمرو، وعاصِم: (يُبَشّرك) بضم الياء وتشديد الشّين.
ب. قرأ حمزةُ، والكِسائيُّ (يَبشُرك) بفتح الياء وتخفيف الشّين.
ورجّح الطّبريّ قراءة الضّم مع التّشديد( ) وأنّ التّشديد بمعنى التّبشير، وفي الفعل بَشّر ثلاث لغات وهي: بَشّر بتشديد الشّين، والثّانية بالتّخفيف، والثّالثّة أَبشرت رباعيًا، ومن هذا الفعل تكون قراءه يُبْشِرك( ) وهي على ذلك ثلاث لغات( ).
5. قراءة قوله تعالى: (بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ) ( ) كلمة (تعلمون) انقسم القُرّاء في هذه القراءة إلى:
أ. قرأ عاصِم، وحمزةُ، والكِسائيّ، وابن عامر: (تُعَلِّمون) بضمّ حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللّام وكسرها، واختار هذه أبو عبيد ورجّحها الطّبريّ وذكر أنّ معناها تعليمكم النّاسَ الكتابَ، ودراستكم إيّاه، وعلّلوا هذا الاختيار بأنّ مَن وُصف بالتّعليم فقد وُصف بالعلم، فلا يُعلّم إلّا مَن كان يَعلم، ومَن كان يَعلم فهو موصوف بأنّه عالم( ).
ب. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح الياء وتخفيف اللّام وفتحها: (تَعلَمون) وهو مضارع من الفعل الثّلاثي (عَلِمَ يَعْلَم وتَعْلَم).
والتّخفيف والتّشديد إنّما هما لغتان من لغات العرب( ) والطّبريُّ إنّما رجّح قراءة الضّمّ مع التّشديد لكونها أبلغ بالمدح، وذلك بحسب مقياسه النّحويّ الّذي سار عليه.
6. وقوله تعالى: (وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ)( )، إذ رجّح قراءة (ولا يأمرَكم) بالنّصب على الاتّصال بما قبله المنصوب (أن يُؤتيَه)( )، وقال الطّبريّ في ذلك: "وقرأه بعضُ الكوفيّين والبصريّين (ولا يأمرَكم) بنصب الرّاء عطفًا من قوله (ثمّ يقولَ للنّاس)، وكان تأويله عندهم: ما كان لبشرٍ أن يُؤتيه اللّه الكتاب، ثمّ يقول للنّاس( )، وهذه قراءة ابن عامر وعاصِم وحمزةَ( ).
أمّا قراءة رفع الرّاء فقرأ بها ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكِسائيّ، واستدلّوا على الرّفع على أنّها مقطوعة عمّا قبلها وأنّها مُستأنَفة( ).
وقال الطّبريّ عن قراءة النّصب إنّها أولى القراءتين بالصّواب( ).
• ووازن بين القراءتین (وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ)( ). وهي الصّواب عنده، وبين قراءة (وما تَفعلوا .... فلن تُكفرون)( ) بالتّاء على الخطاب.
• ووازن بين القراءتين (يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ)( )، (مسوِّمين) بكسر الواو وهي الصّواب عنده، وبين قراءة (مُسَوَّمين) بالفتح، ويكون معناها أنّ السّومة وهي العلاقة وقيل إنّ مُسَوَّمين مُعَلَّمين( ).
• ووازن بين القراءتين (إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ) ( )بفتح القاف وسكون الرّاء، وهي الصّواب عنده( )، وقراءة (إن يمسسكم قُرح) بضم القاف وسكون الرّاء.
• ووازن بين القراءتين (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ....) ( ، بألف بين القاف والتّاء وهو فعلٌ ماضٍ. وقرأ بذلك عاصِمُ وابنُ عامرٍ وحمزةُ والكِسائيّ.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: (قُـتِـلَ) على صيغة المبنيّ للمجهول، والطّبريّ رجّح هذه القراءة( ).
وغير ذلك من القراءات في السّوَر الأخرى. ويحتاج هذا الموضوع دراسةُ مُوسَّعة تضع الطّبريّ (رحمه اللّه تعالى) في نصابه الحقّ، لا أن يُؤخَذ بمصطلحات ومقاييسَ جاءت بعده؛ لأنّ النّقد الصّحيح هو أن يَعلم النّاقدُ المقاييسَ الّتي استعملها الطّبريُّ والجوَّ العامَّ الّذي كان يُحيط بالقراءات القرآنيّة في زمنه، لكي يبني أحكامه على أُسس رصينةٍ، لا أن يَكيل الاتّهامات اعتمادًا على أُسس غير دقيقة. واللّه المُوفّق.
أبرز النّتائج الّتي توصّل إليها البحث:
1. إنّ الطّبريّ استعمل مقاييسَ للتّرجيح تختلف عن تلك الّتي استعملها مَن جاء بعده.
2. إنّ الطّبريّ رجّح بين القراءات، ولم يُنكر قراءةً من القراءات، ولم يُعرِّض بالقُرّاء، ولكنّه وازن ورجّح.
3. إنّ الطّبريّ استعمل مقياس المعنى الّذي تحرسه قواعدُ النّحو واللّغة والبيان، لغرض الموازنة والتّرجيح بين القراءات.
مظانُّ البحث
1. "إعراب القراءات السّبع وعللها"، ابن خالويه (ت 3٧٠هـ) تحقيق: د. عبد الرّحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، ١٩٩٢.
2. "إعراب القرآن الكريم وبيانه"، محيي الدّين الدّرويش، دار ابن كثير، دمشق، 2011.
3. "إعراب القرآن"، أبو جعفر النّحّاس (ت 338هـ) تعليق: عبد المنعم خليل إبراهيم، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، سنة ٢٠٠١.
4. "البحر المحيط"، أبو حيّان الأندلسيّ (ت 745هـ) تحقيق: عادل أحمد وآخرين، دار الكتب العلميّة، بيروت، ٢٠١٧.
5. "التّبيان في إعراب القرآن"، أبو البقاء العُكْبريّ (ت 616هـ) تحقيق: علي محمّد البجّاوي، المكتبة التّوفيقيّة، القاهرة، ط1، ٢٠١٩.
6. "جامع البيان عن تأویل آي القرآن"، محمّد بن جرير الطّبريّ (ت 3١٠هـ) تحقيق: عبد اللّه بن عبد المحسن التّركي، دار هجر، القاهرة، 2001.
7. "الدّر المصون في علوم الكتاب المكنون"، أبو العبّاس بن يوسفَ المعروف بالسّمين الحلبيّ (ت ٧٠٦ هـ) تحقيق: علي محمّد معوّض وآخرين، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2013.
8. "السّبعة في القراءات"، أبو بكر أحمد بن موسى المعروف بابن مجاهد (ت 324هـ)، تحقيق: جمال الدّين حمد شرف، طنطا - مصر، ط1، ٢٠٠٧.
9. "القراءات المُتواترة التّي أنكرها ابنُ جرير الطّبريّ في تفسيره والرّدّ عليه"، الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة، محمّد عارف عثمان، ١٩٨٦.
10. "القراءات عند ابن جرير الطّبريّ في ضوء اللّغة والنّحو"، أطروحة دکتوراه، أحمد خالد بابكر، جامعة أمّ القرى، 1983.
11. "القراءات وعِلل النّحويّين فيها، المُسمّى (عِلل القراءات)"، أبو منصور محمّد بن أحمدَ الأزهريّ (ت 370هـ) تحقیق: نوال بنت إبراهيم الحلوة، ط1، ١٩٩١.
12. "الكشف عن وجوه القراءات السّبع وعِللها وحججها"، مكّيّ بن أبي طالب القيسيّ (ت 437هـ)، تحقيق د. محيي الدّين رمضان، مجمع اللّغة العربيّة، بدمشقَ، ١٩٧٤.
13. "لسان العرب"، ابن منظور (ت 711هـ) دار صادر، بيروت، د.ت.
14. "معاني القرآن وإعرابه"، أبو إسحاق الزّجّاج (ت 3١١هـ)، علّق عليه: أحمد فتحي عبد الرّحيم، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، ٢٠٠٧.
15. "معجم القراءات"، د. عبد اللّطيف الخطيب، دار سعد الدّين، ط2، 2009.