التصورات الشعبية العربية في المُلك والسياسة قراءة في (سيرة الملوك التباعنة)
التصورات الشعبية العربية في المُلك والسياسة
قراءة في (سيرة الملوك التباعنة)
حكمت البخاتي
عُنيَ العرب بأخبار دول اليمن القديم وملوكها من التبابعة أو التباعنة بحسب التسمية الشعبية، وأول من لُقِّبَ بتُبَّع هو الملك صيفي بن شمر بن يرعش بن عمرو ناشر النعم، أو هو الحارث الرائش، على اختلاف بين المؤرخين، وأنَّ أخبار دول اليمن كانت غير معروفة لدى العرب ما خلا دولة حمير (جرجي زيدان، تاريخ العرب قبل الاسلام 109 – 114)، ويعود هذا الخلط في تاريخ اليمن السياسي الذي أشار إليه قبل ذلك ابن خلدون (تاريخ ابن خلدون 1/12) إلى هيمنة حكايات التراث الشفوي العربي على السرد التاريخي لدول اليمن القديم حتى في ما ينقله المؤرخون المسلمون الكبار، ويعود أيضاً إلى عدم اهتمام التراث السياسي الرسمي العربي بتاريخ اليمن السياسي القديم في الوقت الذي امتلأت صفحات هذا التراث بأخبار غيرهم من الملوك والأمم (ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد 1/33)، وهو مؤشر على تجذر انفصام الذات العربية في الحقل السياسي على الرغم من إشارات القرآن الكريم التي تكشف عن اهتمام العرب في الجاهلية باليمن دولاً وملوكاً، واستمر ذلك في الإسلام؛ فما يبدو من اهتمام التراث الشفوي والمحكي باليمن على خلاف التراث العربي الرسمي الذي لم يعبأ بذلك .
وفي تاريخ يبدو أقرب كان العرب في أواخر جاهليتهم يهتمون بأخبار ملوك المناذرة في العراق وملوك الغساسنة في الشام وهم من بقايا قبائل وملوك اليمن القديم، وقد خلَّدت ذكراهم قصائد الفحول من الشعراء، وكانت كندة تشكل إمارة يمانية في جزيرة العرب ويطلق على رئيسها لقب الملك، مما يدلُّ على الطبيعة السياسية في تاريخ بلاد اليمن بما يخالف قبائل العرب في الحجاز والجزيرة التي بدت خالية من كل تاريخ سياسي في الجاهلية قبل الاسلام .
ملاحظ تمهيدية
يعود اهتمام العرب بأخبار الملك اليماني وحكاياته إلى قرب الأرض ومشترك اللغة واتصال التاريخ بينهم على الرغم من بُعد النسب في أصولهم إذا صحتّ مشجرات النسب القديمة، واتصال التاريخ هذا يحدثنا به الإخباريون والمؤرخون القدامى، فقد ذكر الرواة وأهل العلم بالأخبار أنَّ أوَّل من ملك من ولد قحطان هو سبأ بن يعرب بن قحطان، وكان اسم سبأ عبد شمس (تاريخ اليعقوبي 1/195)، فهذا الذكر يؤشر التواصل التاريخي الاجتماعي بين العرب واليمن، بل يؤكد ذلك التواصل أو اتحاد التاريخ بينهم ما زعمه كبار الإخباريين من العرب أن أول من تكلم العربية هو الجد الأول لملوك اليمن يعرب بن قحطان (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب ، 1/14_15)، وعلى الرغم من التشكيك بهذا القول وتاريخيته فإن جذر اللغة الواحد يتلائم وذلك التواصل التاريخي والاجتماعي بين عرب الجنوب وعرب الشمال سواء أكان يعرب أم اسماعيل هو أول من فتق لسانه بالعربية أو أن العربية المشتركة بين قبائل اليمن وقبائل الحجاز والجزيرة جاءت تطوراً عن لهجات ولغات أسبق؛ إنَّ مشترك اللغة وتواصلها بين اليمن وجزيرة العرب يشكل مصدراً ثقافياً واحداً مودعاً في نصوص العربية وأدابها وتراثها وهو مصدر التصورات الشعبية العربية في الملك والسياسة.
ولعل المناكفة والخصومة بين المضريين وهم أصحاب الدولة في الاسلام واليمانيين هي التي حالت دون الإشارة إلى تراث اليمن السياسي القديم، لاسيما أن قبائل اليمن كانت تشكل قاعدة المعارضة في الدولة الاسلامية، وإذا استثنينا المسعودي واليعقوبي اللذين أرخا لتاريخ اليمن، نجد ابن خلدون الأكثر اعتراضاً على أخبار تاريخ اليمن السياسي ورواياته وأشد نقداً للمؤرخين الذين نقلوا أخبار اليمن؛ إذْ يستند في نقده واعتراضه إلى الطبيعة الأسطورية في هذا التاريخ من وجهة نظره، وهي وجهة نظر محقة علمياً، لكن الأساطير دائماً تشير إلى حقائق مجهولة أو على أقل تقدير غامضة، وحين تتخلى الذاكرة الرسمية عن تلك الحقائق أو تعمد إلى إلغائها فإنَّ الذاكرة الشعبية هي من يتبنى روايتها بشكل أسطوري؛ لأنها تظل أسيرة الصياغات المتراكمة للرواية الشفوية التي تشكل سمة الذاكرة الشعبية وسر أسطرة حكاياتها .
سياق تشكُّل الصورة الشعبية للمَلك
تقف التصورات الشعبية المحكية في التراث الشعبي العربي عند حدود الملك إنساناً غير خارق في وجوده وطبيعته خَلقياً، وأنه لا يمتلك القوى الخارقة والخارجة عن المألوف البشري، إلا أنَّهُ يمتلك استثناءات هائلة، وخاصة بعنصره وطبقته الملكية استناداً إلى الصورة الشعبية للملك في قصص وسير الملوك التّباعنة، وفي حكاية الملك شاه فيروزو عرف الصياد الذي تبنى الملك فيروز شاه في طفولته أنه ينتمي إلى العنصر الملكي حين شاهد قوته الخارقة في صيد الوحوش المفترسة، ونعثر على صلة واهية بالغيب في هذه السيرة تعكس تدخلها بشكل غامض وغير واسع تقدّم من خلالها العون للملك المطارد في طفولته أو في لحظات الاختبار الصعب لمُلكه، فالكهانة والجن لا تشكل محوراً أساسياً في هذه السيرة وهي تعكس طريقة إيمان العرب بالغيب وتأثيره عليهم، وقد صنفت هذه الحالة لدى بعض الباحثين بأنها تعكس خواء الخيال عند العرب أو ضعف الخصب في مظاهر الخيال لديهم؛ فلا نجد في تراث العرب الشعبي ملاحم وأساطير مثل الإلياذة لهوميروس أو الشهنامة للفردوسي (المعيد، الأساطير والخرافات عند العرب 30-31 )، لكن لا يمكن نبذ الخيال عند العرب ضمن الممكن العجائبي أو قدرات الكائن البشري الاستثنائية وهو ما أفصحت عنه الحكايات الشعبية ذات الحبكة العجائبية في قصص وسير الزعماء والأبطال العرب .
تراجيديا الحياة الملكية
ضمن قدرات الكائن البشري الاستثنائية التي تقف على حدود الخارق تبدأ قصة التباعنة العظام في عهد التّبع أسعد في بلوغه أقصى الأرض شرقاً والحروب التي خاضها، ثم تنشأ سيرة التّبع حَسَّان، وأول مسالكه في دخول دائرة المُلك هي تحديات معهودة تبدأ بالوصية الملكية، ثم بدور راعية الملك القرابية، ثم دور مُشرِّعة الملك الكاهنة الجبلية، حيث تقف هنا على حدود الخارق في عجائب الكهوف وسرير الأفاعي والحيات، ثم خدش الضمير الأخلاقي وقتل الأخ الشقيق والقريب ليعود الملك ضمن قدرات البشري؛ لتبدأ تراجيديا الحياة المرّة التي تألفها في أعماقها الشخصية العربية، ويبدو التّبع حَسَّان في هذه الحكاية الشعبية إنساناً ممزقاً مضطرباً حزيناً، وهي التصورات المستمرة عن الحياة لدى الشخصية العربية، لاسيما الشعبية على الرغم من القوة والجبروت؛ فالتّبع حَسَّان هو إنسان ضعيف أمام كاهنة الجبل (ضهر) وسيدة الكهف الذي خرج منه للمُلك سبع تباعنة عظام، وكان هو طريق مرور التّبع حَسَّان الى الملك كما تصوره سيرة الملوك التباعنة، فأعتصره الضعف أمام الرغبة في المُلك شأنه شأن كل فراعنة الأرض، فالضعف هو وليد هذه الرغبة الملكية على وفق التصورات الشعبية العربية التي ضمنتّها تلك السيرة اليمانية، بل بدا التّبع حَسَّان أضعف من كل الناس الذين في مملكته وكانوا يدينون له بالولاء والطاعة؛ فيلجأ الى تصفية المقربين منه من أمراء وقادة ومستشارين، وهي سلوكيات مرَضية ما زالت تجد لها حيزاً في سيرة الملوك، وكأن الحكاية العربية الشعبية خبيرة بشؤون السياسة والملك لتُعبِّر بدقة عن التصورات الشعبية في هذا الاتجاه .
ويظل المَلك أو السلطان العربي في هذه التصورات الشعبية ضمن السياقات البشرية العجائبية المتخيلة في الذهنية العربية من أجل أن لا تسقط في فخاخ الشرك والكفر بإناطة الخارق بخصائص واشتراطات المُلك والحكم، لكن هذا المَلك يبدو مطلق التصرف في ما يشاء، ولكن يبقى الشعب بعيداً عن استشارته وخططه، ولا يظهر الشعب في هذه الحكاية إلا في هيجان الاحتفاء الشعبي بالملك أو بتلك الجيوش المسيرة بإرادة الملك حصراً، واقصاء الشعب في الذاكرة الشعبية العربية هو ما أسس لهذا الحضور الطاغي للملك أو السلطان في الدولة والسياسة والتاريخ؛ وهنا غُرست بذرة الاستبداد في القناعات الشعبية العربية؛ فالملك في الحكاية الشعبية العربية يحقق ما يريد ويصل الى طموحاته اعتماداً على قوته وقدراته الاستثنائية، ومن أجل ذلك فهو يمتلك حقاً دائماً في اشتراطات المُلك والحكم، ولا يوجد مانع ديني أو عرفي أو أخلاقي يحول بينه وبين ما يُريد؛ ومن ثمَّ نشهد في سيرة الملوك التباعنة إقدام التّبع حَسَّان على قتل أخيه وشقيقه الأصغر عمرو بعد أنْ أظهرت له كاهنة الجبل (ضهر) أن قتله من اشتراطات المُلك التباعني، وسمع من والده التّبع أسعد في وصيته وجوب العمل بما تشترطه هذه الكاهنة الدموية والعجائبية في سيرتها وسكنها الكهفي؛ ولعل حكاية القتل الأخوي في هذه السيرة الشعبية جاءت متأثرة بأحداث ووقائع تاريخية شهدها العصر العباسي المتأخر، ومنذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وفيه بدأت الدسائس والمؤمرات بين الأخوة وأبناء العمومة من الخلفاء، وفيها سُملت أعيُن بعضهم وأغلقت عليهم القصور والمحابس، ثم عمد المنتصر على خصومه منهم إلى تصفيتهم جسديا (السيوطي، تاريخ الخلفاء)، وهي مؤشرات تختزنها الذاكرة الشعبية العربية على سقوط وإنتهاء عصر الدولة العباسية حين أكلت بعضها بعضاً بالدسائس والمؤامرات بين الأخوة الأعداء؛ فجاءت معبرة عنها كلمات التّبع حَسَّان في هذه السيرة الشعبية في ندمه على قتل أخيه فيقول (ألا سحقا ليوم يأكل فيه بعضي بعضاً، أيها الحبيب عمروا)، لكن هذه السيرة الشعبية لا تدين هذا السلوك اللارحمي – اشتقاقا من الرحمة أومن الرحِم - للتّبع حَسَّان بل تمرره على وفق اشتراطات المُلك والحكم؛ إذْ لا نشهد في الحكاية الشعبية العربية إدانة لأفعال الملوك القاسية من هذا النوع، لكن الإدانة الشعبية في أفعال الظلم تكون من نصيب الملوك الأعداء ونماذجها في حكاية الملك فيروز شاه عن ملوك الزنج والساحرة الصفراء ملكة البحار.
الأصول الرسمية للرواية
على الرغم من أن التراث العربي الرسمي يتحدث عن الملك عمرو وتملكه اليمن وبقاع واسعة في الأرض (المسعودي 2/51)، وأنه هو الذي قتل أخاه حَسَّان بعد أن تواطأت حِميَر معه على قتله فحالفه الحزن والندم (اليعقوبي 1/197)، إلا أن التراث العربي الشعبي صاغ شخصيته على وفق خياله الأسطوري وأنه ضحية الرغبة في المُلك واشتراطات بقائه في سلالة التبابعة في تبرير واضح لكل أفعال الملوك والسلاطين، ودور التبرير هنا تمارسه الأميرة البسوس عمّة التّبع حَسَّان والممهدة لملكه والمغرية له بقتل أخيه عمرو بموجب الوصية التي استمع إليها التّبع حَسَّان في الكهف وألقتها عليه كاهنة الجبل وبررتها له البسوس: (إن لم تفعل لا مكان لك في حكم التباعنة)، وتصورها الحكاية الشعبية بأنها على استعداد بأن تمارس هي دور الأضحية القربانية من أجل ديمومة المُلك في سلالتها ذات العناصر الملكية الخاصة، لكن البسوس تُعبِّر عن قناعة الرؤية الشعبية بهذه الأضحية القربانية للمُلك، ولعل الدور المناط بالبسوس أو حتى بكاهنة الجبل في سيرة الملوك التباعنة جاء متأثرا تاريخياً بدور جواري القصور العباسية ونسائها، ولا سيما أمهات الخلفاء العباسيين وتدخلهن السافر في شؤون الخلافة (السروجي، التطور التاريخي لدور المرأة في العصر العباسي)، إذْ كانت الدسائس والمؤامرات التي جرت بتخطيط وتنفيذ من قبل هاتيك الجواري/الأميرات من أجل بقاء المُلك في سلالاتهن من الأبناء يتكرر في ما قامت به الأميرة البسوس، أو استنسخت الحكاية الشعبية عن الملوك التبابعة كل سلوكهن السياسي والأناني المُشبع بالرغبة بالملك، لاسيما في السعي الدؤوب للأميرة البسوس من أجل إرتقاء ولد أخيها الى عرش ذي يزن بن عمرو القتيل، وتُؤلِّف العناية الفائقة التي يحظى بها الأمير الوليد من لدن عمته البسوس نوعاً من التناغم مع الذات الشعبية في حنانها وعطفها على الأمير الشاب أو ابن الملك اليتيم وهي تشكل مبدأ أساسياً في هيكل الحكاية الشعبية العربية التي تتناول سير الملوك وقصصهم برواية التراث المحكي الشعبي .
صراع الإرادة الشعبية
تظهر فجأة في سير الملوك التبابعة العداوات التقليدية بين اليمانية من حمير وعرب الشمال من ربيعة؛ إذْ تشتبك جيوش التّبع حَسَّان مع قبائل ربيعة تغلب وبكر بن وائل؛ فيغزوها التّبع في بلاد الشام وفلسطين ويهزمها، لكن قبائل ربيعة لم تستكن وأبدت مقاومة امتزجت بالأساطير؛ ولعل ذكر ربيعة من دون قبائل عرب الشمال إنما يرجع الى سبب سياسي – اجتماعي؛ فقبائل حِميَر التي منها ملوك اليمن التبابعة كانت تقف وتصطف الى جانب بني أمية، بينما كانت قبائل ربيعة تقف الى جانب الإمام علي في الحرب بينه وبين معاوية؛ وهو سر العداوة التاريخية بين حِميَر وربيعة؛ مما دعا الذاكرة الشعبية الى استعادتها وتوظيفها بشكل غير معلن عن دوافعها السياسية – الاجتماعية، وتنسب هذه الحكاية الشعبية الخيانة والتعدي الى ربيعة؛ وبذلك تكشف عن توغل فكرة الخيانة في تبرير الهزيمة في الرؤية الشعبية العربية التي تستثمرها الأنظمة العربية السياسية دائماً في تبرير هزائمها .
وتنتصر سيرة الملوك التباعنة لحِميَر اليمانية مما يوحي بأصولها اليمانية وأنها اشتقاق ثقافي شعبي عن كتاب وهب بن منبه (التيجان في ملوك حمير)، وبانتصارها الشعبي لليمانية فأنها تبرر الفتنة التي أحدثتها البسوس بين تغلب وبكر بن وائل بمنطق الثأر الذي يكسبها الحق في إحداث الفتنة والتسبب في الحرب التي دامت أربعين عاماً وعرفت باسمها حرب البسوس؛ وكأنها تدفع فكرة الشؤم التي ظلت لصيقة بالذاكرة العربية عن الأميرة اليمانية البسوس حتى قالت العرب (أشأم من البسوس)، بينما البسوس التاريخية التي اسمها سعاد بنت منقذ هي من زيد مناة بن تميم، فهي ليست باليمانية ولا بالحميرية، لكن الذاكرة الشعبية العربية وظفتها بهذا الاتجاه الحكائي وأقحمت شخصها في تاريخ اليمن السياسي وهي تكشف عن التصورات المستقلة للتراث العربي الشعبي عن التراث العربي الرسمي .
كذلك تصور الحكاية رغبة الشعوب في المَلك المحارب من خلال إلتفاف حِميَر حول ذي يزن حتى أدرك وزيره يثرب بأن الحرب إرث الملوك التباعنة قائلا : لاحياة بلا حرب أو قتال أو أنهار دم؛ لتعود الحكاية الى جذرها الأول أو أس البناء فيها وهو حكمة التّبع أسعد التي إبتدأت بها الحكاية (سيرة الملوك التباعنة، شوقي عبد الحكيم 16) ونسبها كتاب التيجان الى جد اليمانية الأول سبأ بن يشجب فهو القائل: (وليس جمع خيراً من جمع ولكن جداً خير من جد) (التيجان 56 ).
ونجد أن سياقات الذاكرة الشعبية العربية إتسعت في تناول حكايات ملوك اليمن وتوظيفها باتجاه الصراعات والأزمات التي كانت تواجهها في دولها وممالكها؛ وهو ما دعا المصريين الى استعادة حكاية سيف بن ذي يزن واستخراجها من مصادرها الرسمية، بل وفصلها تماما عن مصادرها تلك، فاصطنعت سيف بن ذي يزن ملكاً مصرياً إضافة إلى كونه تبعاً يمانياً، فقد أرخت هذه الذاكرة لهذه السيرة في عصر المماليك (عزيز، البطولة والبطل في المقرا /العهد القديم 1/64)، وتنشغل حكاية سيف بن ذي يزن بأحداث الحروب بين الساميين العرب والحاميين الأفارقة وتتبنى فكرة صراع تقليدي بينهم لم تثبت وقائعه في تاريخ مصر الإسلامي لاسيما في عصر المماليك، ولم نشهد صراعاً مصرياً حبشياً أو صراعاً إسلامياً مسيحياً/ حبشياً، فقد كان الصراع المصري في عصر المماليك إسلاميا أوربيا- مسيحيا؛ مما يحيلنا الى توقعات تأليفها الى قبل ذلك التاريخ ولعلها أنتجت أو حُكيت في العصر الفاطمي – المصري الذي إندمجت فيه اليمن سياسياً وثقافياً بمصر وشمال أفريقيا بعد استحواذ الفاطميين على تلك البلاد من أفريقيا إلى اليمن؛ لاسيما مع الجذور اليمانية للدعوة الفاطمية؛ مما دعا الى ترويج فكرة صراع تقليدي مع الحبشة من أرض وثقافة اليمن، ثم استوعبها الخيال الشعبي المصري ليعيد تحويرها على وفق الهوية المصرية الشعبية .
تحقيق النبوءة وكيد الأمهات
يُشاع في تلك السيرة اليزنية وفي نسختها المصرية إقحاماً ظاهراً لحكايات التوراة في تفصيل العلاقة بين الساميين والحاميين وكيف أن سيف بن ذي يزن توظفه الحكاية الشعبية في تحقيق نبوءة التوراة في دعوة نوح على ابنه حام ليكون عبداً لأخوته، فهي تصور ذلك الجذر اليماني في الاهتمام التوراتي من خلال الإخباريين اليمانيين كعب الأحبار ووهب بن منبه، وفي هذا الاستحضار القديم للتاريخ في الذاكرة الشعبية تعبيرٌ عن أمنيات كامنة في الرؤية الشعبية العربية غير المعلن عنه دائماً في الخلاص من الملوك الذين هم ليسوا عرباً سواء المماليك أو الأحباش، وتمجيدٌ نفسي لذكرى ملك عربي أسبغته هذه الحكاية ثوباً اسلامياً تعويضاً نفسياً عن افتقاد القدرة العربية في نيل الملك في العصر المملوكي الذي خرج فيه العرب من الملك والسياسة؛ وهذا ما يُؤكد استمرار سيرة سيف بن ذي يزن الى العصر المملوكي مع توقعات جذورها في العصر الفاطمي .
وتقحم الرؤية الشعبية ذاتها بقوة في صياغة أحداث السير للملوك العرب، فأم الملك سيف الذي أحبه الشعب في الذاكرة الشعبية، واسمها قمرية، تتمثل في سيرة الملوك التباعنة صورة الكراهية الشعبية للنساء، لا سيما الملكات المتآمرات دائماً، ومن أجل تمرير وتبرير تلك الكراهية الشعبية تنسب الحكاية الشعبية الى قمرية كراهية ولدها سيف وسعيها منذ اليوم الأول لولادته في الخلاص منه وكيف إنها نصبت له المكائد وشنت عليه الحروب لقتله، وهذا ما لا ينسجم وطبيعة علاقة الأمومة؛ لكنه الذوق الشعبي العام الذي كانت تجري أمام ناظريه مؤامرات الأمهات ومكائدهن في إسقاط الملوك لاسيما من أبناء الضرائر أو حتى أبنائهن .
وتبقى الحكاية الشعبية في سياقاتها التاريخية والاجتماعية صفحات تملؤها وتحكيها وتدونها التصورات والرغبات والانفعالات والأمزجة الشعبية – الجماهيرية وهي تعبر عن الذات الشعبية بشفافية المجتمعات الشفوية والمجتمعات التي تستقر في المنطقة الوسطى بين البداوة والحضارة، وهي ملهمة للسلوك السياسي والاجتماعي في مجتمعاتنا التي ظلَّت تعاني أزماتها الاجتماعية والثقافية والسياسية وهي تستحضر تلك الرؤى أو التصورات الشعبية بسياقاتها القديمة وبشكل غير واع في واقعها المرتبك والمضطرب بتأثير التحديات السياسية والاقتصادية التي تمر بها .