دراسات وبحوث
النقد البيئي والنظرية الأدبية وحقيقة علم البيئة
النقد البيئي والنظرية الأدبية وحقيقة علم البيئة
دانا فيليبس
ترجمة: د. عادل الثامري
1. النظرية الأدبية وحقيقة علم البيئة
في مقالته الكلاسيكية الصادرة عام 1975 (رحلات في الواقع الفائق)، يطرح أمبرتو إيكو سؤالاً لا يزال ينتظر إجابة صحيحة بعد خمسةٍ وعشرين عامًا: "أين تكمن حقيقة البيئة؟"(1) أن الكلمة الأخيرة في هذا السؤال يمكن أن تعني أكثر من شيء واحد؛ لكن غموضها ليس من قبيل الصدفة، ويبدو أنه يتوافق تمامًا مع روح إيكو.
وقد تأثرت تلك الروح بشكلٍ غريب بزيارةٍ إلى حديقة حيوان سان دييغو، المشهورة بموائلها الحيوانية المصممة وفقًا لأشد قواعد الصرامة البيئية. وبطبيعة الحال، تعد حديقة الحيوان متحفًا حيًا ومتنزهًا ترفيهيًا، إذ لم يكن الدب الأشيب الموجود في وقت زيارة إيكو معروفًا باسم الدب المرعبUrsus Horribilis وإنما باسم أقل إثارةً للقلق بكثير وهو "تشيستر" Chester. ولذا لم تفعل حديقة حيوان سان دييغو شيئًا لتبديد أجواء الواقع الفائق التي شق إيكو طريقه عبر رحلاته الأميركية. في الواقع، هذا ما عزّز الأجواء، ولذا كان على إيكو أن يتساءل: إذا كانت حقيقة البيئة تبدو غامضة في أحد مزارات علم البيئة في البلاد، فأين تكمن تلك الحقيقة إذن؟ وكيف ينبغي لنا أن نتفاعل عندما نجد علم البيئة حاضرًا ولكنه تحول إلى كذبةٍ، كما يبدو الحال في حديقة حيوان سان دييغو، نظرًا لمتاهاتها الطبيعية التي تبدو وكأنها من صنع الإنسان، وولائها المتضارب مع كل من العلم وصناعة الترفيه؟ يرى إيكو بأن الطبيعة المزدوجة لحديقة الحيوان هي مثال حيّ على كيف يمكن لرغبتنا في الواقع أن تؤدي إلى ظهور الواقع الفائق، إلى ثقافةٍ يكون فيها التقليد هو الشكل السائد للواقع. وكما توضح مقالته، فإن الواقع الفائق ليس مجرد فكرة سيئة أو نتاج انحرافٍ في الذوق فحسب، بل هو حالة ثقافية كاملة. لا يمكنك الهروب من الواقع الفائق بتمنّي أن تكون الأشياء أكثر أصالةً مما هي عليه بالفعل. أنه أمر كبير جدًا بحيث لا يمكن التعاطي معه بتلك الطريقة.
المفارقة في الواقع الفائق هي أنه على الرغم من أنه ليس حقيقيًا تمامًا، إلا أنه ليس غير حقيقي أيضًا. هذه المفارقة محبطة بشكلٍ خاص فيما يتعلق بحقيقة علم البيئة ولا حقيقيته المحتملة. أن اكتشاف حقيقة علم البيئة أصعب بكثير مما دفعنا مناصروه إلى الاعتقاد، وذلك بسبب التأثيرات المبهمة للواقع الفائق، ولسببين إضافيين أيضًا: (1) أن الطبيعة معقدة؛ (2) أن الطبيعة مضمنة تمامًا في الثقافة، والثقافة مضمنة تمامًا في الطبيعة. وبحكم تدريبي التخصصي، فأن الأسئلة التي يثيرها كل هذا بالنسبة لي هي: ما هي حقيقة علم البيئة بقدر ما يجري تناول هذه الحقيقة عبر الأدب؟ إلى أي مدى يتعامل الأدب مع هذه الحقيقة؟ لقد بدأ طرح هذه الأسئلة في أقسام اللغة الإنكليزية عبر النقد البيئي، وهو نوع جديد من التفكير النقدي الذي يعارض الموقف اللامبالي تجاه العالم الطبيعي السائد في الدراسات الأدبية. وبينما أشاطرهم مشاعرهم السلبية تجاه هذا الموقف اللامبالي، إلا أنني أشك فيما إذا كان النقيض الذي يفضله النقاد البيئيون– تجديد الواقعية، على الأقل فيما يتعلق بالطبيعة – هو رد قوي للغاية، المستند إلى بعض الأفكار المشكوك فيها بخصوص طبيعة التمثيل وتمثيل الطبيعة. أود إذن أن أضيف سؤالًا ثالًثا إلى جدول أعمال النقد البيئي، سؤال مستوحى من أمبرتو إيكو: هل تكمن حقيقة علم البيئة في الأدب؟
أن طبيعة التمثيل هي أحد الاهتمامات الرئيسة للنظرية الأدبية، لكن غلبة النظرية هي شيء آخر لا يحبذه النقاد البيئيون في الدراسات الأدبية الحالية. والكثير منهم لا يريدون المساعدة التي تقدمها. وهذا أمر مؤسف، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الشكاوى بشأن النظرية الأدبية والإشاعات عن تجاوزاتها كانت سمة مركزية لخطاب المحافظين الجدد في المناقشات الثقافية في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من أنهم دقوا ناقوس الخطر بشأن النظرية في سجلٍ جديد ومختلف، فأن النقاد البيئيين يواجهون أيضًا خطر وصمهم بالرجعيين وخلطهم مع المحافظين الجدد. ومع ذلك، فأنهم يزعمون أنهم يتحدثون ليس نيابةً عن التقاليد، التي غالبًا ما ينتقدونها، ولكن نيابةً عن الطبيعة. وعلى عكس المحافظين الجدد في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، فأنهم لا يرتابون في التبعات السياسية للنظرية، أو في هجومها على الأدب الغربي التقليدي؛ من الناحية السياسية، يمكن أن يكون الاهتمام بالعالم الطبيعي متقلبًا للغاية، بل وحتى راديكاليًا، كما أن القانون هو شيء يود النقاد البيئيون أيضًا أن يروا التغيير فيه. ومع ذلك، فأنهم منزعجون من إدعاء النظرية بأن الطبيعة تُبنى عن طريق الثقافة. أن بناء الطبيعة هو عقيدة أساسية لما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وأشكال أخرى من النظريات التي تشترك في الشعور نفسه بالتأخير والقناعة المشتركة بأن التمثيل دائمًا ما يكون غير كافٍ بالفعل. أن نفاد صبر النقاد البيئيين فيما يتعلق بالنظرية أمر مفهوم، مع الأخذ في الحسبان غطرسة الإدعاء بأن الطبيعة مبنيةً ثقافيًا. ومع ذلك، فأن الكراهية السائدة للنظرية بين النقاد البيئيين تبدو في كثيرٍ من الأحيان وكأنها تعبير عن نفاد الصبر، ليس فقط تجاه النظرية، بل تجاه أي نشاطٍ فكري ينطوي على تداولٍ في التجريدات، أي نشاطٍ فكري له بعض القوة الفلسفية. في نهاية المطاف، قد يكون النقد البيئي رجعيًا ولو بطريقته الخاصة.
بالنسبة لبعض المراقبين، بدت روح النقد البيئي المناهضة للنظرية جديرة بالثناء تمامًا، كما لو كانت نسمة هواء نقي، أن استخدمنا تعبيرًا مبالغًا في تحديده في هذا السياق. في مقالٍ نشر عام 1995 في مجلة نيويورك تايمز، احتفل جاي باريني بالظهور الرسمي الأول لهذا النوع الجديد من النقد في مؤتمر عقد ذلك الصيف في ولاية كولورادو وحضره مئات عدة ممن سيكونون نقادًا بيئيين، وأنا منهم. وأوضح مصدر النقد البيئي بالإشارة إلى أنه "يمثل العودة إلى النشاط والمسؤولية الاجتماعية؛ كما أنه يؤشر إلى تنحية الميول الأكثر أنويةً للنظرية. من الجانب الأدبي، فهو يمثل إعادة الارتباط بالواقعية، مع العالم الفعلي للصخور والأشجار والأنهار الذي يقع خلف برية العلامات(2). هذا الوصف مفرط، لكنه دقيق: يقدم باريني تقريرًا عما تعلمه في مقابلاتٍ مع ممارسي النقد البيئي المعروفين، بما في ذلك جون إلدر من كلية ميدلبري ولورانس بويل من جامعة هارفارد، اللذين سأتناول أعمالهما أدناه.
إحدى أكثر سمات بلاغة النقد البيئي إثارةً للاهتمام يتردد صداها لدى بارييني: دمجها لمصطلحات علم البيئة ecology والبيئية environmentalism ، وبشكلٍ مفارق للغاية، مع لغة النظرية الأدبية. أن "برية العلامات" هي استعارةً سيشعر معها العديد من المنظّرين بالراحة التامة. ولابد أن يشعر النقاد البيئيون براحةٍ أقل مع مثل هذه الاستعارة، لكنهم يميلون إلى معاملة المفاهيم الأدبية ومفاهيم علم البيئة والمفاهيم البيئية التي تشبه بعضها بعضًا في خطوطها العامة كما لو كانت متطابقة تمامًا في تفاصيلها. وهكذا ينظر إلى تعقيدات اللغة، واللغة الشعرية على وجه الخصوص، على أنها تعبر عن تعقيدات الطبيعة أو حتى تحددها. ثم يمضي التحليل النقدي البيئي للنصوص الأدبية على نحوٍ عشوائي، بواسطة مفاهيم غامضةً مصاغة من مصطلحاتٍ مستعارة: تُستخدم كلماتٍ مثل "النظام البيئي" و"الكائن الحي" و"البرية" استعاريًا، من دون الاعتراف بحالتها الاستعارية، كما لو أن الطرق الأدبية والبيئية والبيئوية للتعبير كانت أكثر توافقًا مما هي عليه في الحقيقة، وكما لو كان آمنًا تجاهل اختلافاتها. ويصبح زملاء قسم اللغة الإنكليزية الذين لا يستخدمون الاستعارات نفسها، أولئك الذين لا يرون روابط مهمة أو حاسمة بين "برية العلامات" وبرية الصنوبر، موضوعًا للازدراء. ومع ذلك، هناك عدد من الافتراضات التي يشاركها النقاد البيئيون مع زملائهم الأكثر نظريةً ولكن الأقل وعيًا بالبيئة، من بينها على وجه الخصوص افتراضات عن الهوة الوجودية بين الثقافة والطبيعة، وميتافيزيقا التمثيل التي يفترض أنها لازمةً لتجسير تلك الهوة. وعمومًا، فقد وصل النقاد البيئيون إلى مدرسة الدراسات العليا. لكنهم غالبًا ما يعاملون النظرية الأدبية وكأنها عشبة ضارة يجب قمعها قبل أن تغمر أشكالًا للخطاب أكثر أصالةً وخضرة. والنتيجة ليست نوعًا جديدًا من الخطاب غير النظري المبارك بقدر ما هو خطاب مدعوم هنا وهناك بنظريةٍ هشة بشكلٍ واضح.
هناك إذن عدد من الأعشاب الضارة التي تنمو في حدائق النقاد البيئيين الخاصة أكثر مما تسنّى لهم أن يفترضوا. أن تناقضات جدالهم المناهض للنظرية واضحة بالفعل في مقال غلين أ. لوف عام 1990 وهو بعنوان "إعادة تقييم الطبيعة: نحو نقدٍ بيئي". كان لوف من أوائل من حددوا الاتجاه الجديد، ويشكو في مقاله بمرارةٍ من مدى تقصير أعضاء أقسام اللغة الإنكليزية بيئيًا. ولكن ما يدور في ذهنه حقاً هو ليس ما يدور في ذهن جميع زملائه، بل فقط في ذهن "النقاد والمنظرين العصريين" الذين يفضلون "وعي الأنا" على "الوعي البيئي". ويتجاهل لوف حقيقةً أن النظرية لم تكن متماشية جدًا مع وعي الأنا أيضًا. وبالنسبة للعديد من منظّري قناعات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، فأن الأنا - أي "الذات" - يجري بناؤها أيضًا، إن لم تكن "ميتة" بوصفها عاملًا تاريخيًا فعالًا وموضوع اهتمام نقدي. أن وعي الأنا المفرط أو "الأنوية"، بحسب مصطلح باريني، هو أقل مخاطر النظرية. ولكن هذا النوع من التفاصيل لا يهم كثيرًا بالنسبة للوف، الذي يعد أن "النظرية" و "المنظرين" ليست أكثر من كلماتٍ متحاربة. وبعد معركة أخذٍ وردّ بين النظرية والنقد البيئي، يتصور "الخطاب الواقعي وغيره من الخطابات التي ترى بأن الوحدة مترفعة على عدمية ما بعد البنيوية"(3). وللحكم عبر ما يقوله لوف عن الموضوع، فأن "تنحية" النقد البيئي (مرةً أخرى، مصطلح باريني) للنظرية الأدبية، لا يقتضي فهمًا للنظرية، بل مجرد شيطنةً لها بوصفها "عدمية".
وبشكلٍ أكثر إهمالًا، يميل النقاد البيئيون إلى تجاهل التاريخ الحديث لعلم البيئة، والافتراض بأن تمثيله للطبيعة كان أكثر نجاحًا مما هو عليه في الحقيقة. فهم غالبًا ما يلجؤون إلى السلطة العلمية لعلم البيئة، وهي السلطة التي يستغلونها بعد ذلك بلاغيًا بوصفها عقوبةً أخلاقية وفلسفية لخطابهم الخاص، كما يفعل لوف عندما يؤيد "الوحدة" ويشير ضمنًا إلى أنها قيمةً "بيئية". لكن الأمر لم يعد كذلك. يلاحظ المؤرخ البيئي دونالد وورستر أن المثال الأعلى للنظام البيئي بوصفها نموذجًا للوحدة، "للنظام والتوازن"، قد استبدل في النظرية البيئية الحديثة بـ "فكرة الرقعة المتواضعة". يقول وورستر "ينبغي أن يُنظر الى الطبيعة على أنها مشهدٍ من الرقع بجميع الأحجام والقوام والألوان، تتغير باستمرارٍ عبر الزمان والمكان، وتستجيب لوابلٍ لا ينقطع من الاضطرابات"(4). ويدعم وصف وورستر للنظرية البيئية الحديثة رسم تخطيطي مماثل للموضوع قدمه جويل ب. هاغن، الذي كتب أن "علم البيئة الجديد يؤكد على اللاتحديد واللااستقرار والتغيير المستمر"(5). يبدو إذن أن علم البيئة يتركنا "بلا أي نموذجٍ للتطور لتحتذي به المجتمعات البشرية"(6). وهكذا يمكن القول أن علم البيئة اليوم أصبح أكثر شبهًا بما بعد البنيوية وأقل شبهًا بذلك النوع من الخطاب الغني بالقيم والتصالحي والاستشفائي الذي تخيله النقاد البيئيون. يمتلك النقاد البيئيون مهارةً لتجاهل هذه المفارقة، وهو أمر لا مفر منه بالنسبة لهم لأن الاعتراف به سيجعل خطابهم الاحتفالي يبدو أجوفاً بعض الشيء.
يظهر سوء فهم علم البيئة بشكلٍ أكثر شمولية من سوء فهم لوف، على سبيل المثال، في كتاب جون إلدر (تخيّل الأرض). يفترض إلدر أن "كلية العالم غير القابلة للانفصام" هي ظاهرة ذات أهمية بيئية وشعرية(7). أي مثلما يقوم فيه علماء البيئة بتوثيق "الكلية غير القابلة للانفصام" لأنظمةٍ بيئيةٍ معينة، يقوم الشعراء بمدح هذه الكلية ذاتها في الشعر. لكن ليس هذا كل شيء. يكتب إلدر "يصبح الشعر مظهرًا من مظاهر الأرض والمناخ، تمامًا كما هو حال النباتات والحيوانات في النظام البيئي"(8). ما مقدار الضغط الذي ينبغي أن نضعه على عبارة "كما هو الحال" في تشبيه إلدر بين القصيدة والنظام البيئي؟ هل يعني أن الشعر يميل إلى أن يكون بخصوص مظاهر الأرض والمناخ، بالطريقة نفسها التي تكون بها النباتات والحيوانات في النظام البيئي، بمعنى ما، "عن" الأشياء نفسها؟ أم أنه يعني أن مظاهر الأرض والمناخ تحدد بصورةٍ جبرية شعر المنطقة ونباتاتها وحيواناتها أيضًا: أن العلاقة بين الشعر ومظاهر الأرض والمناخ، مثل العلاقة بين النباتات والحيوانات، ومظاهر الأرض والمناخ، هي أيضًا علاقة سببية؟ للأسف، يبدو أن إلدر يقصد التشابه بين القصيدة والنظام البيئي في شكله الأقوى. ولا يبدو بأنه منزعج من الجبرية المتأصلة في تشبيهه، والتي بموجبها يجري إعطاء موضوع الشاعر عبر مكان عيش الشاعر. وعلى هذا الأساس، يجب أن يكون جميع الشعراء مناطقيين لأن المناطقيين فقط هم الشعراء. وحقيقة أن ذلك الأمر لا يبدو واضحًا جدًا؛ فأن التاريخ الأدبي والتاريخ الطبيعي، في هذا الصدد، يكونان منفصلين. الشعر ليس "تمظهرًا" لأي شيء، بصرف النظر عن القرارات الواعية والدوافع اللاواعية للشعراء، والآثار البنيوية والجمالية للأنواع الادبية واللغات التي يكتبون بها. وافتراض خلاف ذلك هو قضية باطنية.
أن تشبيه إلدر معيب من الناحيتين العلمية والأدبية. في كتابه (تخيل الأرض)، يخلط بين المفهوم العضوي للمجتمع البيئي ومفهوم النظام البيئي. لقد شكك في المفهوم العضوي منذ عام 1935، عندما نشر آ. ج. تانسلي المقالة البارزة التي قُدم فيها مفهوم "النظام البيئي" للمرة الأولى. وقصد تانسلي أن يُفهم النظام البيئي ليس على أنه عضوي، بل ميكانيكي(9). أن المفهوم العضوي للمجتمع البيئي يروق لإلدر لأنه يوفر شيئًا يشبه الارتباط الموضوعي لمفهومه عن الشعر بطريقةٍ لا يفعلها مفهوم النظام البيئي. ببساطةٍ يدير إلدر المفهومين معًا. يصف علم البيئة المعاصر على النحو الآتي: "يؤكد علم البيئة عدم قابلية العملية الطبيعية للتجزئة: يجب فهم كل سمةٍ من سمات مظهر الأرض بالرجوع إلى الكل، تمامًا كما تعكس عادات كل مخلوق مجتمع الحياة من حوله وتعتمد عليه"((ت. أ 150). ما لا يبدو أن إلدر يدركه هو أن علم البيئة لم يكن قادرًا على تأكيد "عدم قابلية العملية الطبيعية للتجزئة". فمنذ ستينيات القرن العشرين، كان على البيئة أن تجرد نفسها، شيئاً فشيئاً، من المفاهيم الغامضة من هذا النوع، والتي يكون المثال الكلاسيكي هو "كل شيء مرتبط بكل شيء آخر". لم تثبت مثل هذه المفاهيم بأنها قابلة للتأكيد العلمي، مهما كانت ناضجةً للتأكيد الشعري.
تميل البيئة حين تعد علمًا إلى أن تكون أكثر اختزالًا مما يسمح به إلدر. إذا كانت الأشياء حًقا وحدة "لا تنفصم" أو غير قابلةً للتجزئة، فلن يكون هناك علم، ناهيك عن أي علمٍ للبيئة. وهكذا فأن العديد من المفاهيم الأساسية لعلم البيئة التي كانت معروفةً في السابق بسعتها قد قلّص حجمها في السنوات الأخيرة أو جعلها أكثر تحديدًا، أو التخلي عنها تمامًا. ويبدو الآن بأنه حتى مفهوم النظام البيئي قد لا يكون صالحًا من الناحية البيولوجية(10). لكن سواءً أكان مفهومًا صالحًا أم لا، فأن النظام البيئي هو في المقام الأول كيان نظري، ولذلك لا يمكن أن يكون الواقع الذي يدعم بطريقةٍ ما الشعر، حتى لو كان ذلك الشعر من النوع الجيد القديم الذي يُزعم أنه "متعضٍّ". لذا تبدو محاولة إلدر في تأسيس تفسيره للكلية على ما يعدّه حقائق بيئية راسخة هي محاولةً خاطئة بل ومغامرةً لا طائل منها. كتب إلدر "يمكن أيضًا فهم الثقافة عضويًا: فهي ميدان للعلاقة بين المتعضيات، وبهذا المعنى، فهي متعضٍ معقد بحد ذاتها"(ت. أ 169). لكن هذا الإدعاء يتجاهل الصعوبة في أن البشر يمكن أن يكونوا متعضيات، وتفاعلاتهم يمكن أن تنتج الثقافة، من دون أن تكون الثقافة نفسها عضوية - وهذا أمر بالغ الأهمية – من دون أن تكون الثقافة نفسها شبيهة بالكائن العضوي. اتبعت حجة تانسلي ضد المفهوم العضوي للمجتمع البيئي ولصالح النظام البيئي منطقًا مماثلًا. وحتى لو كان الشكل الأدبي وشكل المجتمعات البيئية أو النظم البيئية متشابهة - من الصعب تخيل ما قد يتكون منه هذا التشابه على وجه التحديد - فأن هذا التشابه سيكون واسعًا لدرجة أن يكون له أهمية تشخيصية ضئيلة. وسيكون الأمر مجرد مصادفة.
لقد تجاهل النقاد البيئيون، في ابتعادهم عن النظرية الأدبية، حقيقةً مزعجة: قبل أن يتمكن المرء من الحديث بشكلٍ معقول عن علم البيئة، على أقل تقدير، ينبغي له استعراض مجموعةٍ كبيرة مما يجب تسميته "نظرية". أن النوايا الحسنة وموقف التلقي في أثناء المشي لمسافاتٍ طويلة أو التجذيف لا تمكن المرء من إصدار أحكامٍ بيئية. إذ لا يجعل الاستمتاع بقراءةٍ جيدة، المرء ناقدا أدبيًا. وينبغي أن يتبع ذلك، إذن، بأن الاستمتاع بقراءةٍ جيدة عن المشي لمسافاتٍ طويلة أو التجذيف ومشاركة حماسك في المحاضرة أو الصحافة لا يجعل منك ناقدًا بيئيًا. فالحقائق البيئية ليست بالضرورة أكثر وضوحًا من القيم الأدبية، وربما تكون - وهي على الأرجح كذلك - أقل وضوحًا معظم الوقت.
من المؤسف إذن بأن العديد من النقاد البيئيين قد اختاروا بذل جهودهم حتى الآن في معالجة القضايا التي أثارها لهم امتعاضهم من النظرية والاحتفال بـ "علم البيئة" الذي فهم بشكلٍ زائف والذي لا يشبه كثيرًا العلم الذي يحمل هذا الاسم. لا بد للمرء أن يلاحظ بأن الكثير من الأعمال التي تسمي نفسها "نقداً بيئياً" جاءت على شكل مقالاتٍ تمهيدية واستكشافية واتهامية وتوجيهية واحتفائية(11). لم يقم سوى عدد قليل من دارسي الأدب بمحاولاتٍ متواصلة للكتابة بطريقةٍ نقدية بيئية. ولأن عمله كان الأكثر أهميةً في تحديد هذا المجال الناشئ من الدراسة، أود الآن أن أنتقل إلى دراسة دقيقة لكتابٍ حديث من تأليف لورنس بويل، من أجل إعطاء القارئ صورة واضحة قدر الإمكان عن الوضع الحالي في النقد البيئي. سأختتم بمناقشة كتاب روجر توري بيترسون (الدليل الميداني للطيور)، وهو مناقشة تنتقد النقد البيئي كما عرفه ومارسه بويل وآخرون، ولكن مع ذلك كان المقصود منه أن يكون جزءًا من النقد البيئي في حد ذاته.
2. ادعاءات الواقعية
يحاول كتاب لورانس بويل (الخيال البيئي) وضع الأسس لقراءات الأعمال الأدبية بوعي بيئي، واقتراح الشكل الذي قد يأخذه برنامج البحث النقدي البيئي في المستقبل. وبوصفه مسحًا واسعًا للأعمال الأدبية الأميركية في القرنين التاسع عشر والعشرين التي تثير اهتمام النقاد البيئيين، يعد (الخيال البيئي) كتابًا قيمًا. وتقترب معالجة بويل لموضوعه من الموسوعية، ولديه أمورٍ مثيرة للاهتمام في الحديث عن ثورو Thoreau، وهو ميدان تخصصه، وكذلك عن مجموعةٍ متنوعةٍ من الكتّاب الآخرين، بمن فيهم سوزان فينيمور كوبر وألدو ليوبولد وآني ديلارد وليزلي مارمون سيلكو.
على الرغم من حسنات الكتاب بوصفه مسحًا لجانبٍ مهمل من التاريخ الأدبي، لا أعتقد بأن كتاب (الخيال البيئي) يحل المأزق النظري للنقد البيئي. هذا أمر لا يمكن القيام به إلا إذا اقترب المرء من النظرية الأدبية من دون الشك المستمر حيالها الذي لا يزال يشعر به بويل. وتبدو معالجته للنظرية في البداية أقل عدائية من معالجة العديد من زملائه من النقاد البيئيين. أنه على استعدادٍ، في الأقل، لمنح النظرية بعض الاعتبار. وجادل بأن هناك حاجةً "لتحسين وإعادة تقييم بعض الفرضيات التحليلية الأساسية التي يستخدمها قراء الأدب "المدربين"، وأن "البحث في الخيال البيئي يجبرنا على التشكيك في فرضيات النظرية الأدبية واستخدام مواردها لكشف محددات تمثيلات الأدب". ويصر بويل على أن هذا التوازن سيمكّن النقاد البيئيين من اختراق ميدان قوة الاحتواء الذاتي الشكلي الذي عزل النصوص عن العالم لمدةٍ طويلة، مع تجنب الانغماس في عالم "النصية المستعصية" الذي تفترضه النظرية الأدبية المعاصرة (12). ويُخاطر هذا المنهج المتوازن بعدم اتخاذ القرار، لكن بويل يتبناه بطريقةٍ مبدئية.
أن المبدأ الذي يستند إليه بويل بقوةٍ ليس مبدأ أدبيًا. و"الممارسة البيئية" هي المذيب الذي يسمح للنقاد البيئيين بفك التناقضات التي يولدها عالم متضارب من النصوص وقراؤها. يكتب بويل: "يمكن تعريف "النقد البيئ" باختصار على أنه دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة تُجرى بروح الالتزام بالممارسة البيئية"(13). أن الاستناد إلى "روح الالتزام بالممارسة البيئية" يسمح لبويل برفض بعض المفاهيم النظرية من دون تردد لكونها غير مفيدة أو ضارة، أو كليهما. وبهذه الطريقة، يتخلص مما يبدو شعارًا لنقاد قناعات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة: ويكتب بويل "يصبح مفهوم الطبيعة الممثلة مثل شاشة أيديولوجية مفهوماً غير مثمر إذا استُخدم لتصوير العالم الأخضر على أنه ليس إلا خيال اسقاطي أو رمزية اجتماعية." ومن الأفضل كثيرًا رفض مثل هذه "النتائج النموذجية لمؤسسة النقد الأكاديمي الحضرية"، والسعي بدلاً من ذلك لاستعادة الإحساس بـ "الجوانب التجريبية أو المرجعية" للأدب. وعند النظر في "الجوانب التجريبية أو المرجعية" للأدب، يمكن أن يعامل المرء النصوص الأدبية ليس بوصفها تحولاتٍ عن تفاعلنا مع العالم الطبيعي بل كونها مساهماتٍ فيه: يقول بويل "لا يمكن أن ترتبط الرؤية بالهيمنة وإنما بالتقبّل، والمعرفة بالمركزية البيئية". ويضيف "إلا أن النظرية الأدبية المعاصرة تجعل من الصعب رؤية هذا الجانب من القصة- ومن ثم تجعل فرصة إعادة التوجيه البيئي، والاستيقاظ من الحلم الحضري، أقل احتمالاً مما ينبغي أن يكون عليه") ت. أ 430هوامش20, 36, 82).
ويحق لبويل التأكيد على قدرتنا على المعرفة الحميمة بالطبيعة، بدلاً من ميل بعض المنظرين إلى افتراض غرابة الطبيعة التامة والتساؤل عن جهود العلوم الطبيعية لمعرفة شيء عن هذه الغرابة. لكن على الرغم من أنه قد يكون صحيحًا أن "التأكيد على الانفصال بين النص والعالم يبدو مبالغًا فيه"، فليس من الواضح تمامًا لي كيف أن "روح الالتزام بالممارسة البيئية" كافية لجمع ما افترضت النظرية أنه متشتت (ت. أ 84). أن الانفصال الذي تحدثه النظرية قد لا يعالج بسهولةٍ. كيف ترتبط "روح الالتزام بالممارسة البيئية" من جانب النقاد البيئيين بممارسة الناشطين البيئيين وعلماء البيئة العاملين؟ أم أن بويل يتحدث هنا عن الممارسة النقدية البيئية فقط، وفي هذه الحالة تكون "روح الالتزام"، إلى حدٍ ما، هي "الممارسة"؟ وهل أن النقاد البيئيين في وضعٍ لا يحسدون عليه إذ يشجعون جهود العاملين في المجالات الأخرى القادرين أكثر على الانخراط بشكلٍ مباشر - أي مهنيًا - في النشاط البيئي وإنتاج المعرفة البيئية؟ إذا كان الأمر كذلك، فأن النقد البيئي سيبدو مجرد نوعٍ آخر من التحريض الأكاديمي(14).
لا اعتقد بأن هذا هو كل ما في موقف بويل: فهو يقدم زعمًا اقوى بكثير. فبالنسبة له، يمكن للأدب والنقد الأدبي المشاركة في "الممارسة البيئية" بشكلٍ مباشر وبشخصيةٍ مستقلة. هنا يلاحظ المرء توقف أو نقطة تحول في حجته: فهو لا يقول فقط بأن الطبيعة نفسها هي شيء أكثر من "شاشة ايديولوجية"، "خيال اسقاطي أو رمز اجتماعي"، وهو اقتراح لا نجد صعوبة في الموافقة عليه(15). ويقترح بويل بأن الطبيعة كما توصف في النصوص الأدبية هي في بعض الأحيان، وفي بعض النصوص في أحيانٍ أخرى، تكون أكثر من مجرد "شاشة إيديولوجية"، أو "خيالٍ إسقاطي أو رمزيةٍ اجتماعية". وهذا الاقتراح يجب أن يجعلنا نتوقف للحظةٍ: فهو يبدو متناقضًا مع حقيقة أن الأيديولوجيا والخيال والرمزية أساسية للأدب. فهي ليست دائمًا نتاجًا لأسلوبٍ خاطئ أو لقيمٍ "بشرية" و"أنانية"، ولا يمكن رفضها على أنها مجرد إسقاطات نقادٍ قرأوا الكثير من النظريات. ومع ذلك، يزعم بويل بأن طبيعة الأدب والطبيعة في الأدب تجعل من الممكن للنقاد البيئيين العمل بـ "روح الالتزام بالممارسة البيئية"، والقيام بذلك من دون القلق بشأن احتمال عدم صلة سلوكهم المهني.
وبإدعائه هذا، لا يستغل بويل الواقعية فقط، بل يستغل أيضًا الفلسفة الوضعية positivism الصريحة التي تمتد في النقد البيئي كله. أن واقعيته المصحوبة بالوضعية تفسر لماذا غالبًا ما يبدو النقد البيئي نوعًا من مهمة الإنقاذ: يصف النقاد البيئيون كل من الإحالات غير التخييلية والتخييلية إلى الطبيعة - إلى عادات الحيوانات، ودورة الفصول، وأساليب حياة المزارعين، والإحساس بالمكان، وما شابه ذلك - على أنها تزيل غموض النظرية في (إعادة) تأسيس ثورية (مضادة) لأولوياتٍ أدبية واقعية.
ولأن النظرية الأدبية جعلت تلك الأولويات تبدو مشكوكاً فيها، فأن بويل، حاله حال غيره من النقاد البيئيين، حريص على كشف أوجه القصور النظرية وتجاوزاتها. وهكذا يشعر المرء وهو يقرأ كتاب (الخيال البيئي) بأن بويل قد تبنى النظرية بأسلوبٍ] يشبه أسلوب دليلة(*) Delilah-like، لانتزاع قوتها [أي النظرية]. وهذا ما يشير إليه ضمنيًا عندما يشير بأنه يمكن للمرء الاستفادة من "موارد" النظرية الأدبية وفي الوقت نفسه التشكيك في بعض "مقدماتها". ويبدو بأن هذا يعادل رفض "مقدمات" النظرية، مثل الإدعاء بأن النص لا يمكن أن تكون له علاقة مباشرة بالعالم الذي يمثله، مع الاحتفاظ ببعض النكهة المبهمة للبلاغة النظرية وحتى بعض من الإطار الفكري الذي بناه المنظرون.
وبخلاف بويل، أعتقد بأن النقد البيئي بحاجةٍ إلى مبررٍ يمكّنه من استخدام "موارد" النظرية الأدبية مع الاحتفاظ ببعض الاحترام لقوة "مقدمات" النظرية، لأن "مقدمات" النظرية هي بالتأكيد "مواردها". لسوء الحظ، أن تبني مثل هذا المبرر يعني التخلي عن الزعم المركزي لكتاب بويل، أو على الأقل تخفيف القبضة عليه. هذا هو الزعم بأن النقد البيئي ينبغي له أن يركز على استعادة الإحساس بـ "الجوانب التجريبية أو المرجعية " للأدب. بالضغط على هذا الزعم، فأن بويل، شأنه شأن غيره من النقاد البيئيين، يقع فريسة للأمل الزائف بأن هناك ما وراء الأدب، سمّه الطبيعة أو البرية أو المجتمع البيئي أو النظام البيئي أو البيئة، يمكن العثور فيه على التحرر من قيود الثقافة، وخاصةً ذلك القيد المعروف باسم "النظرية". لا تفهموني بشكلٍ خاطئ: أعتقد بأنه هناك ما وراء الأدب. هناك، مثلًا، الطبيعة. لكنني أعتقد أن الطبيعة لا يمكنها تحريرك من قيود الثقافة، تمامًا مثلما أن الثقافة لا يمكنها تحريرك من قيود الطبيعة.
ما يعنيه بويل بـ "الجوانب التجريبية أو المرجعية " للأدب هو جوانبه الواقعية، وفي كتابه (الخيال البيئي) غالبًا ما يدعو إلى العودة إلى الواقعية في كلٍ من أدب الطبيعة وبين النقاد المهتمين بهذا الأدب. أن السياق الأكثر أهمية لتبنّي بويل للواقعية هو دراسة الأدب الأميركي، الذي كانت دائمًا ما تجرى بروح الدفاع عن القيم الديمقراطية والطبيعية - قيم غالبًا ما تُعدّ متطابقة - في مقابل القيم الهرمية والمصطنعة لنظيرتها ورائدتها الأوروبية. ويصدق هذا خصوصًا في دراسة عصر النهضة الأميركية، وهي المرحلة التي سبقت الحرب الأهلية والتي يُعدّ بويل خبيرًا فيها، عندما كانت القيم الديمقراطية/ الطبيعية هي التي كان يهتم بها الكتّاب الأميركيون أكثر من غيرها. برزت الطبيعة بشكلٍ مركزي في تصور هؤلاء الكتّاب لأنفسهم ولبلدهم. لذلك، قد يُنظر إلى محاولة بويل لوضع الطبيعة مرةً أخرى على رأس القائمة الثقافية على أنها إعادة صياغة لموضوعٍ قديم ومألوف للغاية(16). فهو يحاول إنشاء توصيف للخيال البيئي من داخل حدود أدبٍ وطني كان مقتنعًا منذ زمنٍ بعلاقته الخاصة بالطبيعة. وهو يدرك بأن هذا الاقتناع كان دائمًا مبنيًا على نظرة اختزالية "أميركا بوصفها طبيعة" America-as-nature (ت. أ 15). لذلك، ينطوي مشروع بويل الموسّع على ملء التفاصيل واستخلاص العواقب الحقيقية لرؤية "أميركا بوصفها طبيعة".(17)
للعودة إلى أهم نقطة مثارة، أتساءل عما إذا كانت الواقعية الجديدة أو المستعادة فيما يتعلق بالطبيعة ستكون مصدرًا للوضوح بالقدر الذي يعتقده بويل. إذا حصر النقد البيئي نفسه في قراءة النصوص الواقعية بشكلٍ واقعي، فقد يُختزل دور ممارسيه إلى دور المحكم، الذي يحدق لمعرفة ما إذا كان وصف زهرة إِطْرِلْيون مرسومة أو شجرة بلوط حية هو نفسه وصف مرسوم جيدًا ومفعم بالحيوية. لقد قرأت مقالاتٍ نقدية بيئية لا تتعدى كثيرًا هذا النوع من عمل التحكيم. أن الواقعية الأدبية تُعطي الأولوية للوصف، وحتى أدق وصف يمكن أن يبدو غير فعال إذا لم يحدث في سياقٍ سردي تعززه اهتمامات فلسفية أو نفسية أو سياسية أو علمية، والتي لا يلزم أن تكون "واقعية" بحد ذاتها لكي تكون ذات أهمية حقيقية(18). وفي ساحاتٍ ثقافية أخرى، أدى السعي إلى الواقعية في تصوير الطبيعة إلى إنتاج الكثير من الفن الهابط. أفضل مثالٍ على ذلك هو مدرسة فنون الحياة البرية التي تعمل في الغالب على تصوير الأيائل ذات القرون الضخمة وأسماك القاروس القافزة التي تحدق في محبي الفن والطبيعة بعين ريبة باهتة. والأخيرة هي عين لا تختلف عن عين الواقعي الدوغمائي.
يبدو من المرجح أيضًا بأن واقعية التنوع الأدبي هي عقيدة بالية، وهي جمالية من القرن التاسع عشر لا تصلح لإنتاج الفن وفهمه في مطلع الألفية الجديدة. كانت الواقعية الأدبية دائمًا موجهة نحو العالم الاجتماعي - أي نحو العالم المصطنع - أكثر من توجهها نحو العالم الطبيعي. وفي الواقع، أن الواقعية هي شكل "حضري"، يعرف في الأدب الأميركي عبر روايات نيويورك وبوسطن لجيمس وهاولز ووارتون(19). ترى هل يريد النقاد البيئيون فعلًا نشر الأدب البيئي بمصطلحات الواقعية المتخلفة وربما المتناقضة؟ لا يمكن أن تكون النتيجة سوى أدبٍ متواضع عن الطبيعة يستنير فقط بقيم الطبقة الوسطى، والكثير من كتابات الطبيعة المعاصرة هي كذلك بالفعل.
وعلى عكس بويل، أود أن أحث على ألا تُفهم "المركزية البيئية" للأدب على أساس مدى جودة تمثيل الأدب للعالم الطبيعي. فالتمثيل اللفظي عادةً ما يكون أضعف بكثيرٍ من التمثيل البصري، وهو ما يدفع العلماء إلى التقليل من أهمية الكتابة العلمية، ويفضلون كلما أمكن التعبير عن أفكارهم باستخدام الرسوم البيانية والجداول والمخططات والمعادلات التفاضلية والتقنيات الحديثة. ومن ناحيةٍ أخرى، يبدو لي بأن هذه الطريقة في طرح القضية ستنهار في نهاية المطاف، كما هو الحال بالنسبة للمتشككين في الفلسفة الحديثة ونظرية الأدب على حدٍ سواء. فالإشارة إلى أن تنبؤات هؤلاء المتشككين "مبالغ فيها" غير ذات فائدة، لأن هذه النتيجة هي ما يشعرون بالارتياح تجاهها تمامًا؛ وغالبًا ما تكون هي هدفهم الرئيس. فالمتشككون ليسوا معتدلين. ويقصد من النقد الراديكالي أن يكون مبالغًا فيه، لتمزيق الأشياء، أي لتفكيكها.
لقد طرأت بعض هذه المخاوف والتحفظات على ذهن مؤلف كتاب (الخيال البيئي)، وهو ما يساعد في تفسير السبب وراء قيامه، في الفصل الذي يحمل عنوان "تمثيل البيئة"، بطرح قضيته عن قيمة الواقعية الأدبية على هذا النحو الغريب(20). تتضمن نسخة بويل للسيناريو التمثيلي الواقعي فكرة المواءمة adéquation، التي استعارها من الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج. وقد وصل بويل إلى بونج بشكلٍ غير مباشر، عن طريق كتاب شيرمان بول عن الكتابة عن الطبيعة الأميركية "من أجل حب العالم". ويصف بول "المواءمة "بأنها "مكافئ أدبي يحترم الشيء ويتيح له البروز. ولا ينبغي خلط المواءمة مع المطابقة. فهي ليس نمطًا رمزيًا بل فعالية بكلماتٍ قابلة للمقارنة حرفيًا بالشيء نفسه"(21). ويفهم بول "المواءمة" على أنها محاولة لمتاخمة حواف الواقعية مطابقةً من دون الانزلاق إليها.
إلا أن فكرة "مكافئ أدبي يحترم الشيء ويتيح له البروز" تبدو غير محددة للغاية، ومجازية بشكلٍ مفرط، وهايدغرية [نسبة إلى هايدغر] بشكلٍ مبهم، وهو أمر غامض حقًا. أن وصف بول الإضافي للمواءمة على أنها "فعالية بالكلمات قابلة للمقارنة حرفيًا بالشيء نفسه" لا يزال غامضًا بعض الشيء، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير إلى أنه حين يقول بول بأن الـ "فعالية بالكلمات" هي "قابلة للمقارنة حرفيًا بالشيء نفسه"، فأن كل ما يعنيه بـكلمة "حرفيًا" هو أنه يمكنك في الواقع مقارنة "فعالية بالكلمات" بـ "الشيء نفسه". فهو لا يقصد بأن الفعالية هي تمثيل حرفي للشيء. وعلى الرغم من غموض تعريفه الثاني، إلا أنه أكثر إفادةً إلى حدٍ ما من التعريف الأول. ويصبح ما يقترحه بول واضحًا تمامًا عندما يستشهد، مثالًا على المواءمة، بمقطعٍ من كتاب ثورو (خليج كود) "Cape Cod"، وهو وصف للأمواج المتلاطمة المكونة من سلسلةٍ من مدد التلاطم: المواءمة هي نوع من الانطباعية الأدبية. ويفهم بول هذا المفهوم على أنه يقتضي نوعًا من المحاكاة إذ يكون فيها تقليد الشيء متأصلًا في بعض الخصائص الشكلية التي لا تكون حاضرًة بالضرورة على مستوى الكلمة أو العبارة أو الجملة الفردية. ووفقًا لبول، تحدث المواءمة عندما يصبح الشكل هو المضمون، مما يحرر ما يُنظر إليه عادةً على أنه مضمون [يحرره] من الاحتمالات القاتمة للخصوصية المرجعية، إذ قد تبدو غير كافية. وتمنحك المواءمة إحساسًا بجوهر الشيء، من دون الانشغال كثيرًا بإعطائك الشيء نفسه.
ويقدم بويل تفسيرًا مختلفًا لهذا المفهوم، ويقول بأنه يجده مثاليًا للغاية (ت. أ 464 هامش 31) لكن تعليقه الخاص على مفهوم المواءمة، في رأيي، أكثر مثالياً من شرح بول، وليس العكس. يمكن الجدال بأن الانطباعية محايدة نسبيًا فيما يتعلق بالتمثيل. لذلك يتعين على بويل أن يخلص المواءمة من مضامينها الانطباعية بهدف تحويل المفهوم إلى إطارٍ لشكلٍ أكثر تقليدية من الواقعية. وكتب بأن التمثيلات الأدبية المناسبة تتضمن "ألفاظًا ليست نسخًا طبق الأصل من عالم الأشياء بل مُكافِئات له، إذ أن الكتابة إلى حدٍ ما تجسّر الهوّة الحتمية بين اللغة وعالم الأشياء" (ت. أ 98). ويُظهر هذا التعليق على مفهوم المواءمة آثارًا من نظرية المطابقة، وهو أمر يرفضه بول على وجه التحديد. وقام بويل بتغيير قواعد بول وكذلك معناه. ويصبح "التكافؤ"، وهو سمة عامة ونوعية لنوعٍ معين من الأداء الأدبي في تناول بول، خصيصة أكثر موضوعيةً وتحديدًا لـ "الالفاظ" عند بويل، أي يصبح "المكافئ".
أن التمييز بين "المكافئ" و"النسخة طبق الأصل" هو تمييز جميل، وسأحاول أن أعطيه أهميةً - "وذلك من أجل تقديره" - في أدناه. وبالطبع، قد لا يكون هناك أي تمييز إطلاقًا، نظرًا لأن الكلمتين مترادفتان تقريبًا. أما بالنسبة لـ "الهوّة التي لا مفرّ منها بين اللغة وعالم الأشياء"، فنسأل: لماذا يصدّق بويل هذه الفكرة، القريبة من تلك النظريات التي يريد تحدي "مقدماتها"؟ أن الفكرة القائلة بأننا يمكن أن نكون على اتصالٍ منهجي باللغة، ومن ثم بالثقافة، وبعيدين عن "عالم الأشياء"، أي عن الطبيعة، هي فكرة شائعةً على نطاقٍ واسع في أوساط النقد البيئي، وهي تخطئ في تحديد طبيعة كل من الثقافة والطبيعة. وبمجرد أن يقبل المرء أن لغتنا هي في الأساس لغة تمثيلية، فأن هذا الخطأ يبدو لا مفرّ منه. وبعد أن نجحوا في ذلك، يقضي النقاد البيئيون وقتهم في محاولة رأب صدعٍ غير موجود. وقد يبدو هذا الطرح الأخير مثيرًا للدهشة لبعض القرّاء. أن كل ما يهمني قوله دفاعًا عنه هنا هو أنني مقتنع بحجج فلاسفةٍ مثل ريتشارد رورتي، ودانيال دينيت، وإيان هاكينغ، ومفادها أن المخاوف الفلسفية التقليدية عن قدرة اللغة على تمثيل العالم لا تعني في النهاية شيئًا في ضوء تاريخنا التطوري وممارساتنا العلمية. أعتقد بأن النقاد البيئيين ملزمون بأخذ الأمرين الأخيرين على محمل الجد، إلى جانب نوع الحجج التداولية المضادة للميتافيزيقا التي يقدمها رورتي ودينيت وهاكينغ. لم يأخذ النقاد البيئيون هذين الأمرين وتلك الحجج على محمل الجد، وفي كثيرٍ من أعمالهم حتى الآن، نجد بأن نظريات "المطابقة" للتمثيل التي فقدت مصداقيتها لم تكن أكثر من مجرد مرادفٍ أو مرادفين بعيدين(22).
ويذكر بويل كتاب روجر توري بيترسون (الدليل الميداني للطيور) بوصفه نصًّا يحافظ على علاقةٍ حيوية مع العالم، على الرغم من الملاحظات النقدية للنظرية عن إمكانية القيام بذلك، وهو يتواءم تمامًّا مع معنى بونج للمصطلح. لكن اللجوء إلى بيترسون لا يتيح لبويل إثبات مسألة أن النص الأدبي يحافظ على العلاقة الحيوية نفسها، لأن نص بيترسون ليس نصًّا أدبيًا. فكل ما يفعله إذن هو التوسل بالدليل الميداني بوصفه معيارًا قبل الانتقال لدراسة النصوص الأدبية التي تقوم، كما يجادل، بنوع العمل التمثيلي والمرجعي نفسه. وإذا كانت "صورة منمقة" لطائرٍ في دليل بيترسون الميداني يمكن أن "تضع... المشاهد على اتصالٍ بالبيئة"، فأن بويل يستنتج بأنه لأمر مشروع توقع أن الصور الأدبية المنمّقة قد تفعل الشيء نفسه (ت. أ 97).
بعد استدعاء بونج وبيترسون، يستشهد بويل ببضع أمثلة لأعمالٍ أدبية يعدّها نماذج للمواءمة والواقعية. على الرغم من أن كل مثال من هذه الأمثلة يمثل مشكلة كبيرة، إلا أن اثنين منها فقط يحتاج إلى إعادة النظر فيه هنا. يناقش بويل أولاً مقطعًا من قصيدة (الجمال المرقّط) Pied Beauty لجيرارد مانلي هوبكنز:
المجد لله على الأشياء المبرقشة –
على السماوات ذوات اللونين مثل بقرة بنيّة مرقّطة؛
على شامات وردٍ منقوشة على السلمون المرقّط السابح؛
على الكستناء المتساقطة مثل الجمر؛ وأجنحة العصافير؛
والأراضي المخطّطة والمقسّمة – المتروكة والمحروثة
وجميع الحِرَف وأدواتها وعُددها وزخارفها.
في اللحظة الحاسمة من تعليق بويل على هذا المقطع، وبعد أن لاحظ فنية القصيدة، صرخ: كيف استجابت القصيدة الدقيقة للمثيرات التي تسجلها! من كان يعتقد بأنه سيرى "شامات وردٍ منقوشة" على السلمون المرقّط؟ بهذه الطريقة، تنتج الجمالية ربطًا بيئيًا. حرفيًا، يرى الشاعر سمكة مرسومة؛ وبفعاليةٍ، يجعل التشويه الجمالي السمكة حيّة ويجعل جسدها ملموسًا. لا يمكن أن يكون هناك شك في أن هذه سمكة سلمون مرقّطة حيّة تتلألأ للحظةٍ في بركة هوبكنز الخيالية. وبنظرةٍ أخرى، يستحضر هوبكنز إحساس ومنظر تساقط الكستناء، وبنظرةٍ أخرى يستحضر المظهر المتعدد للأرض الزراعية (ت. أ 98).
باختصار: "في محلها يا هوبكنز!" يبدو لي بأنه إذا كان هذا التعليق مقصودًا على أنه نقد بيئي، فأن النقد البيئي قد يستفيد من جرعةٍ قوية من الشكلانية. وإلا، فقد ينزلق إلى نمط التقدير المجرد الذي تهدف الشكلانية - وبعدها النظرية - في الأصل إلى تصحيحه وتحسينه.
حينما أشير إلى أن قراءة بويل لقصيدة هوبكنز هي "مجرد تقدير"، أعني بأنها شعرية بحد ذاتها، وليست نقدية. مثل هذه القراءة، تدعو إلى جدالٍ لا يمكنها حلّه. فلنأخذ على سبيل المثال محاولة بويل تفسير ما "تسجله" القصيدة على أنها "مثيرات". لا يمكن أن يغطي عنوان مثل هذا قائمة من المصطلحات القاطعة والمجردة مثل "جميع الحِرف وأدواتها وعُددها وزخارفها". لكن لا يمكن أيضًا أن تقوم بذلك عبارة أكثر تحديدًا بشكلٍ ظاهري مثل "الكستناء المتساقطة مثل جمر الفحم"، والتي من الصعب جدًا إيجاد محاكاةٍ لها. أن "إحساس ومظهر الكستناء المتساقطة مثل جمر الفحم" أمر غامض، نظرًا للسؤال غير المحسوم، وربما غير القابل للحسم بخصوص إن كانت: كستناء متساقطة؟ أوراق كستناء متساقطة؟ حطب مأخوذ من الأغصان المتساقطة من أشجار الكستناء؟ الفحم المتبقي من نارٍ أضرمت من ذلك الحطب؟ يبدو بأن الدافع وراء عبارة "سقوط الكستناء الناري المنعش" هو رغبة هوبكنز في طرح وجهة نظره عن مجد الله عبر خلق تأثيراتٍ "مبرقشة" لجناس اللغة، على سبيل المثال، للإشارة إلى هذا المجد، حتى لو كان عليه أن يفعل ذلك. وذلك على حساب المعنى؛ إذ تؤدي الاعتبارات الإيقاعية دورًا هنا أيضًا. يحاول بويل استعمال سمات جمالية شكلية للغاية وذات مرجعيةٍ ذاتية من هذا النوع لدعم القراءة الواقعية التي يبدو أنها تعمل بالضد من هذه السمات. ولذلك يدّعي بأن الشاعر يرى "سمكة سلمون مرسومة" حرفياً، في حين أن سمكة السلمون في قصيدة هوبكنز هي في الواقع "مرسومة" مجازيًا فقط. ويوظف مثل هذه التقلبات في المنطق لأنه يريد من قارئه قبول المفارقة القائلة بأن الصنعة العالية يمكن أن تنتج إدراكاً عالياً بما هو طبيعي: "لا يمكن أن يكون هناك شك في أن هذه سمكة سلمون مرقطة تتلألأ للحظةٍ في بركة هوبكنز الخيالية"(23) .
ولكن هناك عدد من الأسئلة التي يجب طرحها عن سمكة سلمون مرقّط مثل هذه، ليس أقلها سؤال ما إذا كانت "البركة الخيالية" هي الموئل الذي تكون فيه "سمكة السلمون المرقّط الحية" في أفضل حال. وبربط تفاصيلٍ معينة في القصيدة بأشياء معينة في العالم - بـ "المحفزات" - يجعل بويل فكرة المواءمة الموسعة في الأصل تبدو مختزلة: "شامات وردٍ منقوشة على السلمون المرقّط السابح" هي المكافئ عند بويل، والذي يبدو ذلك نسخة طبق الأصل على أية حال. وهذه ليست مثالًا على المواءمة عند بونج".
ربما لا تكون قراءة الشعر من نقاط قوة بويل. أن كتاب (الخيال البيئي) هو في الأساس احتفال بنقاط قوة ما يحب أن يطلق عليه "الكتابة البيئية غير الخيالية" أو "النثر البيئي"(24). ويشتكي من أن مثل هذا النثر عادةً ما يُهمّش ليكون جزءاً من برامج الكتابة للمبتدئين ومساقات المواضيع الخاصة؛ وأتساءل ما إذا كانت مقاربته المتناقضة والمفتقرة إلى التنظير في التعامل مع الأمر لا تقدم أفكارًا عن سبب حدوث ذلك. خذ مثالًا آخر من أمثلة المواءمة، وهذا المثال من مجلة Keith County Journal لكاتب التاريخ الطبيعي جون جانوفي جونيور. في مقطعٍ يستشهد به بويل لتميزه، يصف جانوفي بعض عادات ذباب الكاديس الذي يعيش في جدولٍ في غرب نبراسكا:
على المرء أن يتصور حياة هذه الحشرات تحت البرد المتسارع في جدول وايت تيل White tail ثلاثة: كان ينزل نوع من الطعام إلى أسفل ذلك الجدول بكمياتٍ كبيرة وبمعدلٍ سريع جدًا، وتحاصره هذه اليرقات. يذهب ذهنه إلى الفروع أسفل جدول وايت تيل ثلاثة. كان هناك العديد من الأغصان والفروع الأقل على طول الضفاف، متدليةً ومغمورة، ويغطيها أيضًا ذباب الكاديس.. أن اعتماد هذا الذباب على الأغصان كونها منازلًا أمر يثير الإعجاب إلى أن ينظر المرء إلى اليرقات بعدسةٍ مكبرة يدوية. تعيش كل يرقة في منزلٍ شيدته بنفسها... لا يشعر المرء بوجود مستعمرةٍ لذباب الكاديس، كما يشعر بوجود مستعمرةٍ لطيور خطاف الصخور، بل يشعر بوجود مجموعةٍ من التعليمات داخل كل يرقة ذبابة اختارت الأغصان لبناء منزل.... (25)
بينما يبدو هذا الوصف لذباب الكاديس كافيًا تمامًا، إلا أنه لا يبدو كذلك بالمعنى البونجي، لأنه أيضًا نثري تماماً. لكن بويل يعامله كما لو كان حيويًا ومكثفًا مثل قصيدة هوبكنز، وفنيًا بالقدر نفسه. فهو يفسر قول جانوفي أن المرء "عليه أن يتصوّر" الحياة تحت الماء لذباب الكاديس، وأن "يذهب ذهنه" إلى استكشاف سابق للنهر، وأن المرء "يشعر" بعدم وجود هويةً جماعية لذباب الكاديس ولكن فقط عمل نمطٍ وراثي، على أنه دليل على أن "جانوفي ينكر الموضوعية، ويذكرنا بأن صورته هي شيء مبني"، وأن "السرد الصغير" عن عدم معيشة ذباب الكاديس في مستعمراتٍ هي "تلفيق كامل". لكن كون السرد الصغير "تلفيقًا كاملًا" لا يعني بأنه "خاطئ؛ إذ يقر بويل بأن وصف جانوفي لذباب الكاديس "يتوافق مع الحقائق الحشرية: المظهر الداخلي متكافل مع الخارجي". لكن بما أن جانوفي "لا يمكن أن يكون قد رأى" بعض الأشياء التي يوردها، فأن عليه، كما يقول بويل، "تصوير المشهد، بقدرٍ أكبر من الحيوية والكثافة والتكبير مما كنا سنراه في الميدان" (ت. أ 101،102). لكن لماذا يعتقد بويل بأن جانوفي "لا يمكن أن يكون قد رأى" ما يصفه؟ بالتأكيد "تكبيره" للمشهد الذي يصفه يعزى إلى العدسة المكبرة التي استخدمها لمشاهدة يرقات ذباب الكاديس. ويحول بويل التكبير الحرفي لجانوفي لتلك اليرقات إلى استعارة، ويتبنى موقفًا تشككيًا أوليًا عن وصف جانوفي لذباب الكاديس الذي يسارع للتخلي عنه عندما يحين الوقت للاحتفال بواقعية المقطع.
في قراءاته لهوبكنز وجانوفي، كان المقصود من شكوك بويل، كما يفترض المرء، أن تكون الموقف الأكثر "نظريةً". لكن الأمر هو مجرد صورة كاريكاتورية. فلا هذ الموقف ولا الاحتفال بالواقعية الذي يتبعه يكونان مقنعين: إذ نتج كلاهما عما يبدو بأنه قراءة خاطئة متعمدة للمجازي بوصفه حرفيًا وللحرفي بوصفه مجازيًا. لن تتحمل المواءمة البناء الذي يحاول بويل فرضه عليها. ويبدو بأنه يشير إلى أن قوة الكتابة البيئية تكمن في الطريقة الماهرة التي "تؤدي بها لعبة الغميضة" مع عالمٍ تعرف بأنه موجود طوال الوقت.
الهوامش:
(1) Umberto Eco, "Travels in Hyperreality," in his Travels in Hyperreality, tr. William Weaver (New York, 1986), p. 49.
(2) Jay Parini, "The Greening of the Humanities," The New York Times Magazine (29 October 1995): 52.
(3) Glen A. Love, "Revaluing Nature: Toward an Ecological Criticism," Western American Literature, 25,3 (Fall 1990): 205, 212.
تروى قصة أخرى أيضًا في مقال لوف: يجادل بأن كتّاب الأدب الأميركي الغربي ونقاده بارعون بشكلٍ خاص في تحقيق "الوعي البيئي" وتقديره - لربما بسبب الميزة المعرفية التي يستمدونها من العيش في الغرب - ويقترح بأن هذه البراعة قد تكون بمثابة شيء من التصحيح للتطور المفرط واللامبالاة بالطبيعة ونخبوية المثقفين. يقدم هذا الاقتراح بشكلٍ مباشر أكثر في ورقة متابعةٍ لاحقة:
"Et in Arcadia Ego: Pastoral Theory Meets Ecocriticism," Western American Literature, 27,3 (Fall 1992): 195–207.
(4) Donald Worster, "Nature and the Disorder of History," in Reinventing Nature? ed. Michael E. Soulé and Gary Lease (Washington, D.C., 1995), pp. 73–74.
(5) Joel B. Hagen, An Entangled Bank; The Origins of Ecosystem Ecology (New Brunswick, N.J., 1992), p. 194.
(6) Worster, "Nature and the Disorder of History," p. 72.
لقد أدرك وورستر نفسه التحديات التي تواجهها البيئة في عالمٍ غير منظم مؤخرًا فقط. يقدم كتابه Nature's Economy: A History of Ecological Ideas, 2nd ed. (1977; Cambridge, 1994) وجهة نظر طوباوية ملحوظة لعلم البيئة، وهو مصطلح استخدمه وورستر بعد ذلك بشكلٍ فضفاض للغاية، وطبقه على أعمال الشخصيات الأدبية مثل غلبرت وايت وثورو. تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب هو التاريخ الوحيد لعلم البيئة الذي استشهد به النقاد البيئيون. عالج وليم هوارث أوجه القصور في النقد البيئي في هذا في مقاله:
"Some Principles of Ecocriticism" in the Ecocriticism Reader, ed. Cheryll Glotfelty and Harold Fromm (Athens, Ga., 1996), pp. 69-91.
7)) من الواضح أن اِلدر يعني بكلمة inextricable شيئًا يتكون من قطعةٍ واحدة أو غير قابل للتجزئة، ويرتبط ارتباطًا لا ينفصم بمكانٍ معين.
(8( John Elder, Imagining the Earth; Poetry and the Vision of Nature, 2nd ed. (Athens, Ga., 1996), pp. 1, 39; hereafter cited in text as IE.
(9) A. G. Tansley, "The Use and Abuse of Vegetational Concepts and Terms," reprinted in Foundations of Ecology; Classic Papers with Commentaries, ed. Leslie A. Real and James H. Brown (Chicago, 1991), pp. 318-41.
(10( ويدرك علماء البيئة اليوم بأن مفهوم النظام البيئي تكتنفه مجموعةً من المشاكل النظرية والعملية: صعوبات في التحديد الأولي للنظم البيئية، تمييزًا لها عن الأشكال الأكبر من التضاريس؛ وأسئلة عن حالة النظام البيئي بوصفه كيانًا بيولوجيًا، لأن الأجزاء المكونة له ليست مرتبطة وراثيًا؛ والعقبات التي تحول من دون تحديد الأهمية النسبية للعمليات العضوية مقابل العمليات غير العضوية في صيانة النظم البيئية؛ وشكوكٍ عن إمكانية تطبيق الأساليب الكمية على الظواهر الطبيعية؛ ومشاكل المقياس في تصميم التجربة؛ وغيرها. وقد أسفرت محاولات استخدام مفهوم النظام البيئي في الممارسة التجريبية عن نتائج متباينة جدًا. بخصوص المناقشات النظرية في علم البيئة المعاصر، أنظر
Worster's Nature's Economy, R. P. McIntosh, The Background of Ecology: Concept and Theory (New York, 1985); Daniel B. Botkin, Discordant Harmonies; A New Ecology for the Twenty-First Century (New York, 1990); R. H. Peters, A Critique for Ecology (Cambridge, 1991); Frank Golley, A History of the Ecosystem Concept in Ecology; More Than the Sum of the Parts (New Haven, 1993); Sharon E. Kingsland, Modeling Nature; Episodes in the History of Population Ecology, 2nd ed. (Chicago, 1995); Stephen Budiansky, Nature's Keepers; The New Science of Nature Management (New York, 1995); David Quammen, The Song of the Dodo; Island Biogeography in an Age of Extinctions (New York, 1996).
(11) تتوفر عينة تمثيلية من العمل المبكر في هذا المجال في:
The Ecocriticism Reader my essay "Is Nature Necessary"
(12) Lawrence Buell, The Environmental Imagination; Thoreau, Nature Writing, and the Formation of American Culture (Cambridge, Mass., 1995), pp. 5, 11.
(13( البراكسيس Praxis [أو الممارسة] هو "مصطلح من الإرث النظري الماركسي لا ينطوي فقط على الممارسة، وإنما على الافتراضات الأيديولوجية التي تقوم عليها أو تستمد من الممارسة. من المشكوك فيه ما إذا كان بويل ينوي أن يكون للكلمة نكهة ماركسية، لأن آثارها النظرية تتعارض مع إصراره على تأسيس النقد البيئي في الفعاليات غير الأيديولوجية في العالم الحقيقي. قارن تعريف شيريل غلوتفيلتي الأقل تحفظًا إلى حدٍ ما للنقد البيئي: "ببساطةٍ، النقد البيئي هو دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة المادية... يتخذ النقد البيئي منهجًا يركز على الأرض في الدراسات الأدبية.
(14) تثير شيريل غلوتفيلتي أيضًا هذا السؤال بخصوص أهمية التخصص في مقدمتها لـ The Ecocriticism Reader. "كيف إذن يمكننا الإسهام في استصلاح البيئة، ليس فقط في أوقات فراغنا، ولكن عبر مكانتنا بوصفنا أساتذة للأدب؟" (ص xxi).
(15) ليس بالضبط الاقتراح الذي طرحه المنظرون أيضًا؛ فإعادة صياغة بويل للمواقف النظرية تكون غير موثوقة. هذا الضعف في حجته يرجع، في رأيي، إلى الطريقة التي يعامل بها - مثل النقاد البيئيين الآخرين - "النظرية" بوصفه مصطلحًا عامًا، بينما لا يتردد في توظيف وإعادة نشر مصطلحاتٍ نظرية مثل "الممارسة [البراكسيس] بطرقٍ غير اصطلاحية أو مخففة.
(16) بالمناسبة، يساعدنا هذا أيضًا في تفسير استخدامه الغريب لكلمة "حضري"، التي استعارها من النظرية ما بعد الاستعمارية والتي تعبر عن نوعٍ من الاستياء من القيم الأوروبية المركزية التي تُرى على أنها قمعية من جانب الأقل "حضرية". في الواقع، حاول بويل وصف الأدب الأميركي بأنه "ما بعد استعماري": أنظر مقالته "American Literary Emergence as a Postcolonial Phenomenon"، في American Literary History، 4 (خريف 1992): 411-
(17) أن الجودة النبوئية إلى حدٍ ما للخطاب الذي يستخدمه بويل لا تتعلق فقط بإحساسه بأهمية مشروعه للدراسات الأدبية، ولكن بالسياق الآخر الذي يجب أن يفهم فيه عمله، وهو الحركة البيئية الأميركية. العديد من دعاة حماية البيئة يتملكهم الحماس التبشيري، ويميلون إلى التحدث بلغة المتحولين عن دينهم. وقد أتت هذه الاستراتيجية البلاغية بنتائج عكسية في الماضي، حينما تبين بأن الإدعاءات المعتدلة بخصوص المسائل البيئية قد كانت كذلك (يناقش R. P. McIntosh بعض مبالغات الخطاب الشعبي "البيئي" في سبعينيات القرن العشرين في كتابه (The Background of Ecology).
(18) هذا هو بالضبط السبب في أن تأخذ الكثير من الكتابات البيئية شكل الخطب التوبيخية، وهو شكل قد يتعارض إلى حدٍ ما مع الرغبة في إنتاج تقييمٍ واضح لحقيقة علم البيئة.
(19) يمكن طرح رواية مثل (مغامرات هاكلبيري فين) مثالًا مضادًا لإدعائي هنا. لكنني لا أعتقد أنه استثناء للقاعدة القائلة بأن الواقعية هي اجتماعية وحضرية. أن سياق تواين Twain الحدودي هو سياق تكون فيه أنواع المعايير الاجتماعية وهي العوامل الثقافية المحدِّدة في القص الواقعي في حالة تغير مستمر. وهكذا تركز الرواية على العنف الحدودي. الواقعي هو بالضبط ما هو على المحك في الرواية اجتماعيًا وثقافيًا. أما بالنسبة للعالم الطبيعي، فأن نهر المسيسيبي يوفر لهاك وجيم أكثر الملاذات المؤقتة من الاضطرابات الاجتماعية التي تقاطع باستمرار سرد هوك، والقليل جدًا من المحتوى الوصفي للرواية له علاقة بالنهر. أود أن أزعم بأن "الواقعية الحدودية" تنطوي على تناقضٍ في المصطلحات: إذا كانت الواقعية ممكنة، فأن الحدود "مغلقة" إلى حدٍ ما (كما هو الحال في رواية أوين ويستر "("The Virginian
(20) يلاحظ بويل في سياق هذا الفصل أن عددًا من الدراسات المنشورة في ثمانينيات القرن العشرين أيدت الطابع المبني للواقعية الأميركية، لكنه يصر بأن مثل هذه الدراسات تميل إلى المبالغة في قضيتها. لا شك بأن لديه وجهة نظر، لكن يبدو لي بأن بويل يتجاهل النية الجدلية للمبالغات التي يرفضها، وبالتالي يتجنب رؤية بعض آثارها على وجهة نظره الخاصة.
(21( Sherman Paul, For Love of the World; Essays on Nature Writing (Iowa City, 1992), p. 19. يستشهد بويل بكتاب بول بعدّه المصدر الذي جعله على معرفة ببونج للمرة الأولى في الصفحة 464، هامش 31
(22) See Richard Rorty, Philosophy and the Mirror of Nature (Princeton, 1979) and Consequences of Pragmatism (Minneapolis, 1982); Daniel C. Dennett, Consciousness Explained (Boston, 1991) and Darwin's Dangerous Idea; Evolution and the Meanings of Life (New York, 1995); Ian Hacking, Representing and Intervening; Introductory Topics in the Philosophy of Natural Science (Cambridge, 1983).
(23) قد يبدو بأن بويل يفعل الشيء نفسه مع قصيدة "Pied Beauty" الذي يفعله شيرمان بول حين يقرأ مقطع من (Cape Cod) على أنه صدى للموجات التي يصفها في قوام نثره وإيقاعاته. لكن الحالتين مختلفتان تمامًا: لا يدعي بويل بأن قصيدة هوبكنز كونها كلًا تعكس البنية العامة لتجربة معينة للعالم الطبيعي (بما أن القصيدة عبارة عن سوناتا، فسيكون من الصعب جدًا تقديم إدعاء بهذا الصدد). إدعاؤه الأكثر طموحًا هو أن التفاصيل المنفصلة لـقصيدة "Pied Beauty" لها علاقة مباشرة بلحظاتٍ معينة من تجربة العالم الطبيعي ـ "المحفز". ويهتم بول بتقديم الشكل بوصفه نوعًا من المضمون الأعلى رتبة. إذ يهتم بويل بالحفاظ على المضمون على هذا النحو، ويعد الشكل أحد أنواع التوابل الجمالية العديدة.
(24) The Environmental Imagination, 429n16.
(25) John Janovy, Jr., Keith County Journal (Lincoln, 1978), p. 105.
(*) أسلوب دليلة: هو مصطلح يشير إلى نمطٍ من الملابس أو جمالية الموضة المستوحاة من الشخصية التوراتية دليلة. ففي الكتاب المقدس، اشتهرت دليلة بجمالها ودورها في قصة شمشون، إذ جرى تصويرها على أنها دليلة، الفاتنة التي تخون شمشون بقص شعره الذي كان مصدر قوته. (المحرّر)
المصدر:
Dana Phillips, Ecocriticism, Literary Theory, and the Truth of Ecology. New Literary History, Vol. 30, No. 3, Ecocriticism (Summer, 1999), pp. 577-602.
* تستخدم الكاتبة المختصر (IE) للإشارة لكتاب Imagining the Earth [تخيّل الأرض] وأنا استخدمتُ المختصر (ت. أ) في الترجمة. [المترجم]