التنقل بين فكرة الجنَّة وفكرة جلجامش
التنقل بين فكرة الجنَّة وفكرة جلجامش
قصائد وحوار مع الكاتب والشاعر أرييل دورفمان
أجرى الحوار: بامبوش راينا ونها ثيرانى باجري
ترجمة: سهيل نجم
أرييل دورفمان كاتب وشاعر ومسرحي وناقد أميركي من أصل تشيلي. ذهب إلى المنفى السياسي في عام 1973 عندما توفى الرئيس التشيلي سلفادور أليندي في انقلابٍ عسكري، وأطيح بحكومته المنتخبة ديمقراطياً. كان دورفمان صوتًا قويًا ضد القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان. من بين أعماله البارزة (الموت والعذراء)، وهي مسرحية تحولت إلى فيلم في هوليوود عام 1994 بالاسم نفسه. بعد أن عاش في أوروبا لسنواتٍ عدة، استقر في الولايات المتحدة وقام بتدريس الأدب والدراسات عن أميركا اللاتينية في جامعة ديوك لما يقرب من ثلاثة عقود. ومن أعمال دورفمان البارزة الأخرى نص للأوبرا يستند إلى قصةٍ من (الأوبنشاد)، التي هي نصوص فلسفية هندوسية. تحدثت إليه مجلة India عندما زار الهند.
- ما معنى أن تكون كاتبًا في المنفى؟
أرييل دورفمان: إنه لأمر رائع أن المسافة التي ابتكرتها من تشيلي ومن أميركا اللاتينية تسمح لي بالمجيء إلى هنا، وبسببها أصبحت شخصًا مرحباً به في كل مكان. أشعر كما لو أنني أستطيع أن آخذ القصص الهندية، وأجعلها ملكي لآخذها إلى العالم. كان المنفى أساسياً في حياتي. بدأت الحياة في المنفى عندما كان عمري عامين ونصف العام. غادرت الأرجنتين للذهاب إلى نيويورك، وأصبحت أميركيا واعتمدت كل شيء أميركي. اضطر والدي لمغادرة الولايات المتحدة إلى تشيلي، ثم أصبحت تشيليًا، ثم اضطررت إلى مغادرة تشيلي لأنني أصبحت في ذلك الوقت "شخصًا عالميًا".
لطالما صدمتني قوى عالمية ومحلية، متمثلة في العودة إلى الوطن وخسارة الوطن. وعلى الرغم من أنني لا أرغب في ذلك لأي شخص، وأعده قدراً لا أتمناه لأي شخص. مع إنه مصير احتضنته الآن لأنه سمح لي بالكتابة بالطريقة التي أرغب بها. أعتقد أن التواجد في المنفى لعنة، وعليك تحويله إلى نعمة. ألقيت في المنفى لتموت حقًا، ولإسكاتك حتى لا يعود صوتك إلى الوطن. وهكذا كرست حياتي كلها لأقول، "لن أسكت".
- كيف يحوّل الكاتب المنفى إلى نعمة؟
أرييل: حسنًا، تكتشف أن البعد مؤلم جدًا، لكنه يتيح لك الرؤية. يتيح لك التحرر من المحلية؛ يسمح لك بالتحرر من الراهن. يمكن لعقلك أن يشرد، وهناك تجد قدراً كبيراً من الحرية، والآن هذه الحرية حرية مشروطة. المشكلة الحقيقية هي عندما تكون في المنفى وتحدث أشياء مروعة في الوطن. تشعر بطريقةٍ ما بالمسؤولية تجاه الناس في الوطن، وتجاه أولئك الذين يُقتلون، وتجاه أولئك الذين يتعرضون للتعذيب في السجن أو المنفيين. السؤال الحقيقي هو كيف تحافظ على الولاء لهؤلاء الناس وفي الوقت نفسه الولاء لتكون ناقدًا، وتكون شخصًا يجرؤ على اختراق شيء ما - ولا تترك العالم كما وجدته.
لذلك أشعر براحةٍ أكبر مع حقيقة أنني لم أعد كاتبًا سياسيًا. أنا لست محاصرًا في فئة "سياسي". أكتب عن أشخاصٍ تعرضوا للتعذيب لأن لديّ العديد من الأصدقاء الذين تعرضوا للتعذيب. إنها طريقة للتعامل مع موقفٍ متطرف لما هو حقيقي، وما هو غير صحيح، وما هو نسبي، وما هو شر. لكن يمكنك القول إن القمع اختارني ولم أختره. لم أختر أن أصبح كاتبًا، لكن نظرًا للظروف التي أتيحت لي، حاولت تحويلها إلى شكلٍ من أشكال الحرية المتجاوزة والخيال الحساس، وهو أمر مهم جدًا.
- قلت إن الكاتب يجب أن يكون دائمًا، بمعنى ما، منفردًا حتى لو كان في وطنه. هل يمكنك التحدث أكثر عن ذلك؟
أرييل: معظم الكتاب الذين غادروا بلادهم جسديًا تركوها سلفاً عقليًا وعاطفيًا. هذا لأنهم لا يتأقلمون مع الحياة في بلدهم، لكن أحد تعريفات الكاتب هي إنه الذي لا يتكيف. إذا كانوا يتكيفون، فلن يكتبوا أي شيء. ما تراه فيما عن كتاباتك هو الفراغ من المعنى، ثمة نقص في شيء ما. عندما عدت إلى تشيلي، لم يرغب أحد في الحديث عن موضوع التعذيب والذاكرة - لا أحد. وقلت، لن أكتب عن هذا وسألتزم الصمت. ثم انتظرت لمدة ستة أشهر، لم يكن أحد يكتب عن هذا ولا بد لي من كسر ذلك الصمت. لأن هناك معنى لا يتطرق إليه أحد؛ لدينا هنا قصة لم يتم سردها. الناس يسكتون عن قصصهم. ولا بد لي من سرد هذه القصص. لذا فإن النقطة المهمة هي أنني لم أكن متكيفاً مع البلد. لو بقيت في تشيلي، لما كنت أجرؤ على كتابة مسرحية يكون فيها محامي حقوق الإنسان، بطل الانتقال إلى الديمقراطية، غشاشًا وكاذبًا. أو حيث ينتهي الأمر بالمرأة الضحية بضرب الشخص الآخر، ولذلك فهي تجابه الموت حقًا. مسرحيتي الأكثر شهرة تقوم فيها المرأة باستمرار بتحطيم الصور النمطية التي تراود رؤوس الناس. وفعلت ذلك في مسرحية عرضت مؤخرًا في إسبانيا، قمت فيها بتفكيك جميع العلاقات بين الرجال والنساء. لذلك أحب فكرة عدم الانتماء - هذا يعني أنني في المنفى حتى لو كنت في بلدي. وسأستمر في المنفى. سيكون الأمر أكثر راحة إذا علمت أنك لا تتكيف مع حال بلدك، فتتركه أيضًا وبالتالي تكون مرتاحًا بالخارج ولا تغضب طوال الوقت.
- في أي مرحلة من حياتك كنت واعيًا أنك تريد أن تصبح كاتبًا؟
أرييل: عندما كان عمري تسع سنوات. كنت مسافراً على متن سفينة من نيويورك إلى أوروبا، وكان توماس مان أحد المسافرين في تلك الرحلة. قال لي والدي، "هذا رجل عظيم" وقلت لنفسي، "أريد أن أكون مثل ذلك الرجل العظيم. أريد أيضًا أن يتحدث شخص مثل والدي عني بهذه الطريقة". ولكن أيضًا، كان بإمكاني بالفعل أن أرى أننا سنغادر الولايات المتحدة. في تلك الرحلة، أدركت أنه يمكنني حمل لغتي معي في أي مكان. سألته، "بأي لغة يكتب؟" قال والدي، "بالألمانية". وفكرت، يكتب توماس مان باللغة الألمانية، لكنه كان في الولايات في ولاية كاليفورنيا. لذلك بغض النظر عن المكان الذي يرسلونني إليه، لن أفقد لغتي، ولن أفقد هويتي - سأكون قادرًا على الكتابة بأية لغة.
كتبت روايتي الأولى عندما كنت بعمر تسع سنوات. ولدي تعليق قصير من دار نشر Simon & Schuster يقولون لي فيه، "نحن نحب كتابك، لكننا نعتقد أنك لست مستعدًا تمامًا بعد". منحتني الكتابة قوة على ظروفي، وعلى هويتي. هذا هو العالم الوحيد الذي أتحكم فيه. واكتشفت لاحقًا أن الشخصيات هي التي تتحكم بي. في تلك اللحظة، اعتقدت أن لدي فرصة حقًا لتشكيل عالم خاص بي. أنا أكثر شخص مجتمعي وشخص منعزل للغاية في الوقت نفسه. لذلك أرى الكتابة هي شكل من أشكال الوصول إلى المجتمع والوحدة، وهي أفضل ما في العالمين الممكنين.
- يبدو أنك تشير إلى أنك مواطن عالمي. هل تعتقد أن هناك اغترابًا عايشته من جذورك كان له تأثير على كتاباتك؟
أرييل: لا أرى نفسي مواطناً عالمياً – بل أرى أنني مواطن إنساني. أنا مدين للإنسانية، وحيثما كان هناك اضطهاد أو مشاكل سوف أتحدث عنها أو سأروي القصص. بوضوحٍ شديد، ترعرعت في أميركا اللاتينية، لذلك لدي ولاء أساس تجاه قارتي. لكننا قارة مكونة من جميع أطياف البشرية - مثل الهند. نحن جميعًا نقاط التقاء. كل واحد منا هو نقطة التقاء. أشعر كأنني لا يمكن أن تتحكم بي الحكومات، وهذا أمر جيد لأنني حينها يمكنني التحدث بحرية. لكني لا أرى نفسي، كما ورد أعلاه، محلقاً في الغيوم على الإطلاق. وبهذا المعنى أنا أرضي جدًا جدًا. وطني زوجتي وعائلتي وأدبي وعملي من أجل حقوق الإنسان. وحيثما يأتي السؤال، سأحاول الإجابة عنه من بعض النواحي. لكنني لا أنسى أبدًا أن هذا يتعلق بمعاناة الإنسان أو المجد البشري في أكثر حالاته واقعية. لا أتحدث عن الجذور كثيرًا لأننا لسنا أشجارًا. الأشجار ثابتة. نحن متنقلون، ونتنقل بين فكرة الجنة كونها مكان ما سنعود إليه، وفكرة جلجامش، الجميع يغادرون موطنهم. إذا لم تغادر الموطن، فلن تكبر أبدًا؛ وإذا لم تعد إلى الموطن، فلن تموت أبدًا بسلام.
- كيف تعتقد أن الكتابة في أميركا اللاتينية - مهما كانت مفيدة أو غير مفيدة - قد تغيرت بين الأجيال؟
- أرييل: جمهوريات أميركا اللاتينية حديثة عهد نسبيًا بالنظام الجمهوري، وقد ابتلينا بصراعات الحروب الأهلية والقتل عموماً وقتل الأشقاء خصوصاً. هذه الجمهوريات غير المكتملة تنادي بكلماتٍ لتسميتها ولتخيلها. أحد الأشياء التي يقوم بها الروائيون في أميركا اللاتينية على وجه الخصوص، وكتاب المقالات يفعلون ذلك أيضًا، هو أننا نسمي قارتنا - كأننا آدم وحواء. يتعين علينا إعطاء أسماء للقارة لأن أولئك الذين يجب أن يكونوا مسؤولين عنها – مثل توماس جيفرسون وجورج واشنطن في عصرنا - لم يفعلوا ذلك. لقد مات كل زعيم من زعمائنا الذين شاركوا في حرب الاستقلال في المنفى بعيدًا - ولم ينته الأمر بأي منهم كونهم رؤساء لدولهم. كان هناك هذا الفراغ إلى حدٍ ما، والروائيون مدعوون في أميركا اللاتينية لخلق طريقةٍ لفهم بعضهم بعضاً، وهو تصور جماعي.
يختلف خيالي الجماعي تمامًا عن سانتياغو رونكاليولو [كاتب وصحفي من بيرو]، على سبيل المثال، لأنه أكثر تشاؤمًا وتشككًا في السياسة. شارك جيلي في السياسة لمحاولة تغيير أميركا اللاتينية، ولم نقم بعملٍ جيد. يقول بعضهم لنفسه، "أفضل عدم التورط في هذا". ومع ذلك، فإن عملهم سياسي مثلي تمامًا في الأخير. لأنه عندما يتألم والدك أو وطنك، فأنت تستجيب. ولا تريد إجابة محددة سلفاً، أو إجابة مريحة أو إجابة سابقة من الأمس - بل تريد الانفتاح على الغد، وتريد السؤال، وتريد الإزعاج، وتريد التحريض. لكن التحريض ليس مجرد مسألة سياسية. دساتير الغد ستكتب بقصائد الحب اليوم. إذا كتبت قصيدة حب اليوم، فأنا أساعد الناس على التعامل مع بعضهم بعضًا بطرقٍ ستدفعهم إلى المحبة ورعاية الآخرين منهم بدلاً من الوحشية والسخرية.
- بناءً على خبرتك، ما هي النصيحة التي تقدمها للكُتاب الذين يكتبون في المنفى؟
أرييل: أعتقد أنه فضلاً عن الموهبة، يجب أن تكون لديك الشجاعة. لا تخافوا. لكنني أقول لك الحقيقة لا أعطي نصيحة لأي شخص. تقديم النصيحة غير مجدٍ لأي شخص لأنه إذا لم يكتشفها بمفرده، فلن يكتشفها لأنني أنصحه بذلك. أقول فقط لا تخافوا من قول الحقيقة لأن الحقيقة أساسية. المشكلة أنها مؤلمة للغاية.
- ما هي المشاريع التي تعمل عليها في الوقت الحاضر؟
أرييل: أعمل على (Naciketa)، وهو نص مكتوب للأوبرا على أساس قصة الأوبنشاد. ما أفعله هو إنني آخذه إلى عصرنا. يذهب هذا الطفل الصغير إلى الموت ويسأل الموت ثلاثة أشياء: "ما هو الحب؟" فيأخذه الموت في رحلةٍ إلى الهند إلى الصبية العاهرة التي تريد قتل طفلها. وحين يسأل "ما هي المصالحة؟" يأخذه الموت إلى إفريقيا إلى الجندي الطفل الذي اقتلع أعين أعز أصدقائه وقتل والديه. وعند السؤال "ماذا بعد الموت؟" يأخذه الموت إلى تشيلي أو الأرجنتين، حيث يوجد يتيمان لا يعرفان ما إذا كان والداهما على قيد الحياة أو ميتين. إنها ملحمة موسيقية. هذا هو مشروعي الرئيس، لكني في الأساس أكتب قصائد وقصص حب في الوقت الحالي، ولدي أفلام مقترحة عدة. لست مهتمًا بالعمل كثيرًا خارج منزلي - إن أمكن، أود فقط أن أكون في المنزل مع زوجتي وأن أكتب قصائدي وقصصي وأشيائي. وأصدرت للتو كتاب (التغذية على الأحلام) في الولايات المتحدة - وهي مذكراتي التي تتحدث عن هذه الأشياء.
القصائد
هويّة
ما الذي تقولينه، وجدوا آخر؟
وفي النهر، لا أستطيع سماعك، تقولين هذا الصباح،
واحد آخر يطوف في الماء!
تحدثي، لذلك لا تجرؤين،
هو حتى لا يمكن التعرف عليه!
وقالت الشرطة أنه حتى والدته لا تستطيع ذلك
ولا حتى الأم التي أنجبته
لا تستطيع،
هذا ما قالوه!
لذلك قامت النساء الأخريات بفحصه بالفعل، لا أستطيع سماعك جيدًا.
فقلّبنه ورأيّن الوجه واليدين،
لذا فهن جميعًا ينتظرّن معًا وصامتات
كلهن في حداد
على ضفاف النهر
أخرجنّه من الماء
من دون ملابس
مثل اليوم الذي ولد فيه
لذلك هناك نقيب شرطة
ولا يتحركن حتى أصل هناك
إنه لا ينتمي لأحد
هل هذا ما تقولينه إنه لا ينتمي لأحد؟
أخبريهم أنني سأغير ملابسي
وآتي على عجل.
إذا كان النقيب هو نفسه
الذي جاء من قبل
هو يعرف سلفاً
ما الذي سيحدث
لذلك يمكنهن إعطاؤه اسمي
واسم ابني أو زوجي أو أبي
أخبريهن أنني سأوقع على الأوراق
أخبريهن أنني على وشك الوصول، فلينتظرنني
وعلى النقيب ألا يمسّه.
لا ينبغي له الاقتراب خطوة واحدة
ذلك النقيب.
قولي لهن ألا يقلقن
أنا أدفن موتاي.
ذكرى سنوية
يوم التاسع عشر من أيلول
- ستكون قد مرّت أربع سنوات
كيف يمكن أن يمر الكثير من الزمن؟
يجب أن أسألها مرة أخرى
فيما إذا كانت لديها أية أخبار
وفيما إذا علمت بشيء ما؟
وهي، لا، لا شكرا لكَ
أُقدر عطفكَ
بينما تستمر عيناها في القول
كما في المرة الأولى
من دون كلام
- ستمر ثلاث سنواتٍ الآن
كيف ذاك؟
لا ، لا شكرا لكَ
أقدر لطفكَ
فأنا لست أرملة
ولا أوشك أن أكون كذلك
ولا أُشير إلى شيء
ولن أتزوجك
فلست أرملة
حتى الآن.
لا مزيد من الأوامر القضائية
يا رب أغفر لنا لإرسال
هذه العريضة
لكن ليس لدينا بديل.
المجلس العسكري لا يجيبنا
صحيفة الميركوريو تسخر منا وتبقى صامتة
محكمة الاستئناف ترفض أمرنا القضائي
وتعلن المحكمة العليا أن قضيتنا فاشلة
ولم يعد هناك مركز شرطة
سيجرؤ على استلام هذا الالتماس
باسم العائلة.
يا رب يا من أنت في كل مكان
هل كنت موجوداً أيضاً
في فيلا جريمالدي؟
يقولون أن لا أحد يغادر
كولونيا ديجنداد
أو الطابق السفلي من شارع لوندرس
أو عِليات أكاديمية الجيش.
هل تمكنتَ
من فعلها؟
إذا كان هذا هو الحال
إذا كنت في كل مكان
كما قيل
أجبنا من فضلك.
هل رأيت بالمصادفة
طفلنا؟
جيراردو.. تعمّد يا رب
في إحدى كنائسك
جيراردو، الأكثر تمردًا، والأحلى أيضًا،
من بين الأربعة.
إذا كنت لا تتذكره
يمكننا أن نرسل لك صورة
مثل تلك التي التقطت في الساحات العامة
في أيام الآحاد.
لمزيدٍ من التفاصيل آخر مرةٍ رأيناه فيها
بعد العشاء بوقتٍ قصير
في تلك الليلة عندما طرقوا
الباب
كان يرتدي سترة زرقاء
وبنطلوناً من الجينز الأزرق الباهت.
لا بد إنه لا يزال يرتديها.
يا رب يا من ترى كل شيء
أخبرنا
هل رأيته؟
أمل
إلى إدغاردو إنريكيز، الأب
إلى إدغاردو إنريكيز، الابن
ابني مفقود
منذ 8 مايس
العام الماضي.
جاؤوا ليأخذوه
فقط لبضع ساعات
قالوا
لنسأله فحسب
بعض الأسئلة الروتينية.
منذ أن غادرت السيارة
تلك السيارة التي بلا لوحات
لم نتمكن
من معرفة
أي شيء
عنه.
تغيرت الأمور الآن.
علمنا من رفيقٍ شاب
من الذين أطلقوا سراحهم للتو
بعد خمسة أشهر
إنهم كانوا يعذبونه
في فيلا جريمالدي.
في نهاية أيلول
استمروا في استجوابه
في البيت الأحمر
الذي كان يعود ذات يوم إلى فيلا جريمالدي.
يقولون إنهم تعرفوا عليه
بالصوت والصراخ.
أريدكما أن تجيباني صراحةً.
ما هي هذه الأزمنة؟
في أي قرنٍ نحن؟
ما اسم هذا البلد؟
كيف يمكن أن يحدث هذا؟
هذا ما أطلبه
إن فرحة الأب
وسعادة الأم
تنحصر من المعرفة
إن ابنهم
يعذب
ويفترض بذلك
إنه لا يزال على قيد الحياة
بعد خمسة أشهر
أسمى آمالنا أن نكتشف
أن في العام القادم
وبعد ثمانية أشهر
يستمرون في تعذيبه
وهو، ربما،
لا يزال على قيد الحياة.
وهي الآن تفقد أسنانها الأولى
وهذا الشخص
بجانب العم روبرت
آه، أيتها الصغيرة، هذا والدك،
ولماذا لا يأتي والدي إلى البيت؟
لأنه لا يستطيع.
هل مات أبي
فهو لم يعد إلى البيت أبدا؟
إن أخبرتها إن والدها حي
أنا أكذب
وإن أخبرتها إن والدها
مات
أنا أكذب أيضاً.
لذلك أقول لها الشيء الوحيد الذي يمكنني إخبارها به
وهي ليست كذبة:
لا يأتي إلى البيت لأنه لا يستطيع.
إجراءات
قم باستفسارات، واجمع المعلومات، واذهب
إلى مركز الشرطة ثم إلى قاعدة الجيش المحلي
وكلّف محامين يوقعون على التماسات
ليطرقوا الأبواب
واتصل بأحبابٍ قدماء
وابحث عن الرجل المناسب في المكان المناسب لتحصل على
أمرٍ من المحكمة للتحدث إلى السجناء السابقين، واستمع إلى
الشائعات، واحصل على أمرٍ آخر لحضور الاجتماعات
مع الآباء الآخرين، وانسخ صوراً واضحة
وتحدث مع صحفي أجنبي، وأرسل خطاباً جديداً
في البريد واستيقظ في منتصف الليل عندما
تقف سيارة أمام المنزل لتعلم إن إحدى
الصديقات سوف تتزوج، وأعد قراءة
فروضك المدرسية في التعبير، وخاطب المحكمة العليا
عند ناصية الشارع
كل ذلك
لتدفن جسدك
ولتجد لنفسك مكاناً
يتيح لوالدتك
أن تضع الزهور
- كنت تحب الأقحوان
لكنها باهظة الثمن -
في أيام الآحاد
وفي
يوم الذكرى السنوية.
الوصية والشهادة
عندما يقولون لك
إنني لست سجيناً،
لا تصدقهم.
سيتعين عليهم الاعتراف بذلك
بعض الأحيان.
عندما يقولون لك
إنهم سمحوا لي بالحرية
لا تصدقهم.
سيتعين عليهم الاعتراف
إنها كانت كذبة
بعض الأحيان.
عندما يقولون لك
إنني خنت الحزب،
لا تصدقهم.
سيتعين عليهم الاعتراف
إنني كنت مخلصًا
بعض الأحيان.
عندما يقولون لك
إنني في فرنسا،
لا تصدقهم.
لا تصدقهم عندما يُظهرون لك
أوراقي المزيفة،
لا تصدقهم.
لا تصدقهم عندما يظهرون لك
صورة جسدي
لا تصدقهم.
لا تصدقهم عندما يقولون لك
إن القمر قمر،
إذا قالوا لك إن القمر قمر،
وإن ذلك هو صوتي على جهاز تسجيل،
وذلك هو توقيعي على الاعتراف
إذا أخبروك إن الشجرة شجرة
لا تصدقهم
لا تصدق
أي شيء يقولونه لك
أي شيء يقسمون عليه
أي شيء يظهرونه لك
لا تصدقهم.
وأخيرًا
حين يأتي اليوم
ويطلبون منك الدخول
للتعرّف على الجثة
وتراني هناك
وسيقول لك صوت:
قتلناه
وخرّ صريعاً في التعذيب
إنه ميّت
عندما يقولون
إنني
بكل تأكيد
ميت
لا تصدقهم
لا تصدقهم
لا تصدقهم.
**
المصدر: The New York Times
A Conversation With: Author Ariel Dorfman
BY PAMPOSH RAINA AND NEHA THIRANI BAGRI APRIL 2013