حوار الأقلام مع القاص والروائي محمد خضير
حوار الأقلام مع القاص والروائي محمد خضير
• الاقلام : ثمة مشغل فكري يخضبه السرد في الاداء ظهر على حين غرة في كتابيك اللافتين للانتباه (تاريخ زقاق / في مئوية السرد العراقي) و(السرد والكتاب) وهما تنظير وسرد يتداولان حيثيات الثقافة والادب والكتابة.. مجموعة مقالات تمثل مقاربات نقدية ولا تتمثلها في الوقت عينه، تتوخى تشريح وتفكيك مقصديات الكتابة في السرد وتضمرها في آن معا. هذه المقالات تلفت الانتباه كثيرا الى قدرة منتج السرد المثقف والخبير الى الاتيان بكتابة توفّق بين أكثر من جنس ادبي، وهي كتابة ثقافية بامتياز. هل يختصر محمد خضير تجربته في المعرفة والفكر والثقافة بهذين الكتابين وهل بمقدورنا عدّهما كتابين في السيرة الذاتية بمعطيات جديدة ومغايرة؟
- محمد خضير : كاتب السرد، القاصّ والروائي، منتج نصوص سردية بالدرجة الأولى، لا ينتهي دوره بكتابة النصّ والفراغ منه بنشره في كتاب أو مجموعة قصص، إنّما ينخرط في عمليات مشغله السردي، ينظر إلى ما حول النصّ ويتأمل صيرورته في الزمن والتقليد، حتى بعد سنوات طويلة. كان الموقف النقدي غائباً في مراحل سرديتنا المئوية لدى أكثر كتّابها، ومؤجّلاً دائماً إزاء التراكم الكبير للنصوص في مشغل كلّ واحد منهم. أمَا وأنّ المئوية السردية بلغت رشدَها، صار على المؤسِّسين، والمنخرطين المتتالين، أن يفكروا بكتابة سيرة مشاغلهم وما أحاطها من مفاجآت وانعطافات وأسماء، بحسب مواقعهم ومراحلهم. وفي غياب أنطولوجيات مرحلية وأساسية، أصبحت عنوانات مثل (الحكاية الجديدة) و(السرد والكتاب) مهمات عاجلة لكاتب السرد المتأمِّل تجربتَه من الداخل. وفي النهاية كان عنوان (تاريخ زقاق) مراجعة خارجية لمراحل المئوية، لو لم أكتبه بنفسي - وهو مهمة مؤسسة كبيرة كما أعتقد- لشعرتُ بنقص خطير في مواطنيّتي ل "المملكة السردية" التي نشأتُ في ظلّها، واكتسبتُ هويتي من سجلاتها وتقاليدها. نعم، نستطيع القول أنّ كتُب المراجعة النقدية الثلاثة هذه، كانت سيرة تعرّف وتعلّم وانتماء. ومن دونها كنت سأفقد هويتي في مملكة الرؤى والحكايات. مع هذه الكتب أشعر أني قبِلتُ أن أتخلّى عن كتابة سيرة ذاتية (أوتوبيوغرافية) لأجل كتابة سيرة مستقلة (بيوغرافية) لمئوية السرد العراقي. وأنا مسرور لهذه النتائج.
• الأقلام : لنعد إلى أصل القصة: ثمة احتلال بريطاني، وثمة حداثة مفترضة تصل ذروتها بثورة العشرين، وثمة "مريض عراقي" يكتب ويسرد؛ فهل كانت ولادة الدولة العراقية المتزامنة مع ظهور أول "رواية" عراقية غرامية في مارس عام 1921؛ هل كان تزامن الحدثين محض صدفة، أم أن السرد هو تتويج لمقولة الدولة ومجالها الثقافي؟
- محمد خضير : عِبر الشخصية الاجتماعية المثقّفة، استبقَ محمود أحمد السيّد في رواية (في سبيل الزواج، ١٩٢١) وجهاً من وجوه الدولة سيظهر بعد سبعة أعوام بسحنة "المريض الثوري" في رواية (جلال خالد) للروائي نفسه. بذلك الوجه العاطفي، المدني، المغترِب، الذي جاءت الدولة لتؤسس مقترباته السياسية وتلازم شقاءه، صار على السرد ان يخترع وجوهاً أخرى للدولة العراقية (الموظّف، الصحافيّ، النقابيّ، الانقلابيّ، الجنديّ، المتشرِّد، المهاجِر) وهي وجوه متداخلة مع وجوه نسويّة ستحتويها روايات غائب طعمة فرمان، منتصف القرن، وتتعدى الى روايات فؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر، وجيل ما بعد سقوط الملكية، قبل أن تدرك شيخوختَها بعد مئة عام.
غير أن هذا التلازم بين سردية المشغل الاجتماعية وسردية المؤسّسة الدولاتيّة، وما أفرزتاه معاً من نماذج بشرية متشابهة، وحالات اغترابية شعبية، عاطفية، سينفصم بحدّة حالما انتهت فترة الاستعمار، وبدأ شكلٌ من سرد ما بعد الاستقلال. وقع الافتراق مبكراً مع نصوص الجيل الستّيني التجريبية وسرى الى نصوص ما بعد حروب الخليج التعبوية؛ وما لبثت أن أخلت الوجوه السابقة ساحةَ المشغل المئوي كي تشغله سرديات ما بعد ٢٠٠٣ التقويضية، حيث اختبرت الدولة آخر وجه رومانسيّ مصاب بمرض الثورة في أرشيفها. تكاثرت وجوه كانت خافية عن مؤسسة الدولة البطريركية، وانتشرت في نصوص تلفيقية وتشرّدية وفنتازية، فيما أخرج السرد النسويّ ذخائرَه المختزنة في الأدراج، فانتعشت بذلك السيرة الذاتية. لكن فجأة برز من الرفوف وجه شاحب، يحمل في تقاطيعه وجه (جلال خالد) القديم. كان هذا الوجه عائداً من وراء الحدود، وسرعان ما جذب اليه قرينَه "المريض الثوري" وانخرط الاثنان في سردية ما قد تسمى بسردية "الحواجز الكونكريتية" التي تُوِّجت بسردية "المحجر". هنا تقابلَ وجهان نقيضان من وجوه الدولة المئوية، حملا آثار القطائع الحادة وخرجا منها بآثار فارقة: الوعي الشقيّ الذي يأبى الترويض، إزاء الجدار الكونكريتي الشاهق بمؤسساته وتشريعاته؛ أو بعبارة أخرى يعود المريض الثوري لينقض تقاليدَ تأسيساته السردية وينتفض عليها. وإزاء هذه القطيعة الأنطولوجية العميقة، فإني أعتقد أن متلازمة سرديات الدولة المؤسَّسة على مواثيق بداية المئوية تتعرض الى تفكك خطير، ما لم تُؤسَّس مشاغل حرّة لا تعاني فوبيا الحواجز والجدران والمحاجر عند هذا الحدّ الافتراضي.
• الأقلام: في صياغة أخيرة لحقب سردية المتحف التاريخي "العراقي" ثمة تحديد نهائي لأربع حقب تاريخية عراقية كبرى: حقبة الاستعمار (1914 – 1958)، وحقبة الثورة والاستقلال (1958 – 1979)، وحقبة الحرب (1980 – 2003)، وحقبة التغيير (2003- وما بعدها)؛ ألا تعتقد أن هذا التحقيب مغرق بالمشكِّل السياسي وهو غير متصل بأي تاريخ حقيقي للنصوص السردية العراقية. وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت هذه الحقب هي الممثل للحظات الولادة والموت فزعا، أو الولادة الصاخبة ثم الاعتزال بعيدا عن أي نور ممكن؟
- محمد خضير : كان هذا التحقيب ضرورياً لاحتواء أجيال المئوية السردية، التي توالت في موجات انطولوجية متداخلة. لا وجود حتمياً للحدود والمستويات الفنية بين هذه الحقب، ذلك لوجود انشغال عميق، هو الانشغال السياسي، في صميم التجارب الفنية التجريبية والتحديثية لتلك الأجيال، يبعثرها أو يجمعها في عُصَب وجماعات. إنه تحقيب يعبّر عن متحفيّة السرد العراقي أيضاً، وأروقته التاريخية المتشعّبة، المضاءة بغموض. إنها المتاهة السردية التي تحدث عنها فاضل ثامر في أحد كتبه النقدية؛ الثيمة المحبَّبة لدى أغلب كتّابنا. لا مناصّ للسرد العراقي إلا أن يتلازم في ثنائية الحداثة والمتحفيّة، خاصة وأن السيرة الفردية لكلّ كاتب تُخفي أكثر مما تُعلِن من إشكالات الانتماء السياسي. ولقد حاولتُ في مقالات - تاريخ زقاق- تفكيك هذه الثنائية دون انتهاء منها تماماً. لا يحتوي متحفنا السردي غير تماثيل نصفية للكتّاب وحسب؛ أما النصف الثاني- الأقدام- فهو غارق في نصف ضباب، أشواك، أجراف منهارة. هذا المنظور الجزئي، أو التحقيبي، يترك خلفه، وفي سيرورته المتعثرة، فزعاً واضطراباً وتشظياً، لا تفصح النصوصُ المئوية عنها تماماً. قد نتحدث هنا بحذر شديد عن أروقة متحفيّة غارقة في الظل والعتمة. قد نتحدث عن متلازمة ثنائية، لم تستطع حداثة النظرية الأدبية ونقدها الثقافي تفنيدها، برغم اختراقهما مئويتنا في حقبتها الأخيرة خاصة. وأخيراً فإن ذلك التحقيب لا يخصّ الأساليب الجمالية - أؤكد ثانية- ويتصدى للانتماءات الفئوية بالدرجة الأولى.
• الأقلام : ثمة حتمية غير خافٍ طرفاها "المتحف" و"الدولة"؛ ولكلّ منهما نصوصه وسرديته وانتظامه، فالمتحف يحكي قصة صعود دول وادي الرافدين وفق رؤية استعمارية مردها منشئ المتحف، فيما نصوص المتحف الافتراضي تحكي قصة "الهيكلية" الطقوسية لكتابة الصعود والانهيار في النصوص الحديثة. لكننا، ربما، لا نفهم لماذا قضي الأمر بسرقة اللقية النادرة بعد سرقة المتحف عام 2003؟ هل يعني أن الحتمية "الطقسية – التاريخية" قد انتهت فيما يخص الصعود والانهيار، برغم أن البلاد ونصوصها قد صارا في سياق متحف استعماري جديد، طرفاه، هذه المرة: المنفى والهوية؟
- محمد خضير : أُسِّس المتحف العراقي العام ١٩٢٣ على يد المس جروترود بيل سكرتيرة المندوب السامي البريطاني في العراق، وعلى خلاف المتحف المصري لم يحتو المتحف العراقي على مومياءات ونواويس الفراعنة، وضمّ لقىً ذهبية وأختاماً اسطوانية وكأساً نذرية/ طقسية ارتبطت رمزياً بنشوء الدولة العراقية، لكنها ستُسرَق في نهاية الطقس، مُنذِرة بمرحلة الانهيار والرجوع الى ما قبل الدولة. هل مسَّ السردَ شيءٌ من الحِنْث بحجر التأسيس؟ هل أنهى الافتراق بين سرديات المتحف والدولة ثنائيةَ الصعود والانهيار، بما فيها ثنائية المنفى والهوية الوطنية؟ أم أنّ هناك دورة جديدة من التلازم والالتحام تشتغل باتجاه آخر ووظيفة مختلفة؟
بدأت سردية الدولة- في مرحلة التأسيس- مقصورة على نخبة مثقفة صغيرة (الصحافيّين، الموظّفين الاستعماريّين والوطنيّين، الطلاب المبتعثين والسفراء، أشراف العائلات- هؤلاء الذين خلطوا سردياتهم الروائية بيوميات حياتهم الاجتماعية والسياسية) ثم شاعت في منتصف القرن -مرحلة صعود برجوازية المدن- الرواياتُ الوجودية والرمزية، وعاد خطُّ السردية- الدولاتية- الى الضمور والتبعثر والاستئثار السلطويّ في مرحلة الحرب، لكنّها في مرحلتها الأخيرة- مرحلة التغيير- تظافرت الخطوطُ المبعثرة على لمّ الشَّعث من جديد؛ فكما انهارَ المتحف ونُهِب، صار مُشاعاً أن تطالب جموع غفيرة- فئاتٌ من محيط الدولة وخارجها، بما فيهم المنفيّون- بحقّها من سردية الطقس "النذري" المنهوب.
• الأقلام : في محاضرة شهيرة لك ألقيتها بجامعة البصرة، كان عنوانها "تغييب المصدر في القصة العراقية"، تلك المحاضرة على أهميتها البالغة ظلّت أشبه بالمحاولة اليتيمة؛ إذ لم تعقبها محاولات "تطبيقية" في موضوع خصب ومفيد جدا، حتى محمد خضير نفسه لم يطرق هذا الباب مجددا، وهو يكتب "خاتمة" مئوية السرد العراقي. ترى لماذا "غاب" البحث عن "المصدر" في السرد لصالح ثنائيات أخرى؟
- محمد خضير : تذكّرونني بمحاضرتي عن (السلاسل المرجعية) المنشورة في (السرد والكتاب) باعتبارها فصلاً من أعمال المشغل السردي، وفقرة في سلسلة المراجعات المبكرة لثنائيات المشغل- المؤسسة الثقافية، الاجتماعية والأيديولوجية الحزبية. مرّت المحاضرة عبر منصّتين رقابيّتين مُشدّدتين، كلية الآداب بجامعة البصرة، وملتقى القصة في العمارة، وعندما ارتكنت أخيراً للكِتاب الصادر عام 2009 عن مؤسسة الصدى في دبيّ، تخلّصت من حصرها والتقت بنهايات وقتها فأدركت وظيفتَها السردية الأولى؛ وهذه الوظيفة تنحصر بالبحث عن إمكانية تغييب المرجع/ المصدر المؤثِّر في كتابة القصة، الاجتماعي والأيديولوجي والحربي، بتعويض سلسلةٍ من المراجع التناصيّة، من تلك التي تتناهب الكاتبَ من كل صوب. وكما تلاحظون فإن هذا البحث التعويضي كان وسيلة النصّ الجديد، الطقسيّ والمتحفيّ المشدود بقوة لمنشئه ومصادرهِ المباشرة. وفي وقت ما، خلال فترة الحرب، كان المرجع "الأسطوري" أقوى المؤثّرات التعويضية تدخّلاً في إغلاق حدود النصّ السردي على بنيته القلقة؛ وكانت حماية هذه الحدود أبدى وأهمّ من حماية الهوية الشخصية العمومية، المهدَّدة، للكاتب. والحقيقة، لستُ وحدي مَن كان تغييب المرجع الأساسي- تعويضُه التناصيّ بآخر- وسيلتَه في حماية هوية النصّ خلال تلك الفترة، وكان يرجو أن يتمثَّله في سردياته على وجه من الوجوه. وأتذكّر أنّ العدد الخاص للأقلام الصادر في نهاية حرب الخليج الأولى (العدد ١١- ١٢/ كانون الأول ١٩٨٨) كان قد ضمّ أربع قصص تُغيّب مرجعَها/ تتناصّ مع الأسطورة تحت سطوح أحداثها (قصص: محمود جنداري ولطفية الدليمي وجهاد مجيد ومحمد خضير). جاءت فكرة تعويض المرجع الأسطوري في هذه القصص للخلاص من ضغط الأيديولوجيا الحربية المنتصرة بزعمها، والروح الجماهيرية الديماغوغية المؤيّدة لهذا الزعم؛ وكان تبديد هذا الزعم أحد الأسباب لاقتحام شكلٍ جديد من سرديات المرحلة (مرحلة الانهيار الوشيك للدولة العام 1991) ومن خلاله اقتحام ثنائية الدولة- المتحف. كذلك، فإنّي فرزتُ "النزعة الأسطورية" في مقال عنوانه "أنطقة السرد" باعتبارها النطاقَ الأهم بين أغلفة كثيرة مثل التاريخ والفلسفة والموسيقى والعمارة والسينما، غيّبَت كلّها مرجعَها الأساس في النصّ السردي. كانت الأسطورة نطاقاً صادماً لذوق النقّاد آنذاك، الذين فوجئوا بالنقض الشديد لأسلوب الكتّاب الأربعة الواقعيين، لكن النطاق حسب هؤلاء كان تفعيلاً مناعياً للسرد المئوي، وقد لجأوا الى تغييب مراجعهم، وتكييف مصادرهم، لكي يتفادوا التحلل والموات عند تلك القطيعة الحادّة من قطائع السردية المئوية الأربع.
• الأقلام : توصف الرواية بأنها ملحمة القرن العشرين، لاجتياحها الوسط الثقافي والأدبي في العالم كله، كيف يصف محمد خضير السيل الهائل من الرواية في العراق في القرن الحادي والعشرين؟ والذي تضاعف عشرات المرات مقارنة بما قبل ٢٠٠٣، هل زوال النظام السابق فتح الشهية للحكي؟ وأصبح الكل يتحدث ويروي، أم إن الأحداث التي مررنا بها لا يختزلها شكل إبداعي قدر الرواية؟
- محمد خضير : توجد ماكينتان كبيرتان تشتغلان بآليات متجاورة: الشعر والرواية، بل إن ضجيجهما يعلو على آلات أصغر منهما: المسرح والسينما والرسم والموسيقى. هذه الحال الآن، بعد انهيار الدولة، شأنها كذلك في بداية تأسيسها. كانت الرواية والصحافة توأمي الفكر الانتقادي الصاعد من رحم الأفكار المنيرة القادمة من تركيا ومصر وروسيا، وهناك أكثر من دليل على تأثير الكاتب التركي محمد نامق في روائيّي العشرينيات، ولربما تأثرَ محمود السيّد برواية آلام فيرتر "الرسائلية"- عبر الترجمة المصرية لإبراهيم عبد القادر المازني- فاستدخلها في روايته (جلال خالد). وما أدرانا بتأثير رواية الروسي ارتزيباشيف (سانين) التي أوحت بالنزعة الطبيعية الفردية غير المقيَّدة بضوابط المجتمع وأخلاقه، في روائيّي فترتي التأسيس والصعود، حتى أدرك ذلك التأثير فؤاد التكرلي وبانَ في روايتيه المهمّتين (بصقة في وجه الحياة) و(الوجه الآخر). غير أن تلك الآثار تضاءلت بعد الحرب العالمية الثانية، ودخلت ماكينات غائبة في صميم التكوين الروائي، وأبرزها الماكينة المسرحية في روايات مثل (اللعبة) ليوسف الصائغ، وماكينة الخيال السياسي في أهم ثلاث روايات عراقية (القلعة الخامسة، والوشم، والرجع البعيد). فلمّا تجاوزنا الفترة الثالثة، فترة الحرب، أطللنا على السيل الروائي الذي نلاحظ تداخل مصادره ومؤثّراته مع الرغبة في استعادة النزعة الرؤيوية والفنتازية من فم التنّين- الدولة وتقاليدها التوتاليتارية. أعتقد أنه حقّ مشروع لروائيّي ما بعد السقوط أن يثأروا من الانحطاط الروائي ويؤسِّسوا لقطيعة روائية جديدة.
عاصرت نزعةُ "التغيير" الروائية ما سُمّي ب "زمن الرواية" السائرة على أعقاب التقليد الشائع "الشعر ديوان العرب". فهل يريد النقد المتحمّس لرواية ما بعد السقوط، تشريع الوهم القائل بأنّ الرواية أصبحت من ممتلكات الديوان وتقاليده الدولاتية، التي نقضتْها نزعةُ "سانين" البوهيمية -الانفرادية، في وقت مبكر من نشأتها؟
ما عدا بعض الروايات "السانينية"- روايات نصيف فلك ووحيد غانم - فإنّ أغلب روايات التغيير هي ماكينات تعمل بوقود محطات ما قبل التغيير- السقوط. فالغزارة الروائية سِمة من سمات "الديوان" السردي الجائع الى تقاليد أيديولوجية محرِّضة، وطقس متحفيّ منقرض؛ وكان التكرلي قد تمرّد عليهما في (المسرات والأوجاع) و (خاتم الرمل) اللتين أسَّستا لنزعة ما بعد "الديوان". هذا ما كان جديراً مناقشته في مؤتمرات الرواية بعد التغيير، لكن الديوان السردي استمرّ في إدارة الماكنة القديمة بحماس مؤسَّسيّ، ونشأت حول نهاية القرن العشرين أوهام أكثر تدخّلاً في إنتاج الماكينة الضاجّة.
• الأقلام : يجري التركيز على فرضية انقطاع أو توقف نوعين من التدوين التاريخي والموسوعي: السياسي الاجتماعي، الأنطولوجي الأدبي في العراق. وهما عندك اللمحات الاجتماعية من تاريخ العراق، ثم توقف حوليات التاريخ الرسمي للوزارات العراقية، وثمة توقف أو انقطاع ثانٍ يتصل بسلسلة المحامي عباس العزاوي. ولم يجرِ التعويض، بل صرنا أمام رسائل وأطاريح جامعية ومذكرات وسير ذاتية "قطعت" أوصال التاريخ الأدبي والسياسي؟ ماذا لو تواصل تلك "السلاسل اليتيمة"؛ هل سيختلف الأمر أمام مشهد نهب المتحف؟
- محمد خضير : سنميّز بين نوعين من التدوين التاريخي، السياسي والأدبي، لحوادث القرن العشرين: التدوين المؤسّسي المنظّم، وتدوين المذكرات الشخصية (ويشمل هذا التفريق أيضاً نوعين من التأليف المعجمي اللغوي: المعجم المؤسّسي الكبير، والاستدراكات المعجمية الصغيرة). ويلاحظ المتتبِّع تعثّر النوع المؤسّسي والأساسي أو توقّفه من كلا التأليفين، واستيلاء التأليف الطرفي/ الذيلي على مراحل السرديات الدولاتية (ذيل على تاريخ، حاشية على كتاب، استدراك على معجم، مذكرات شخصية، وثائق ضائعة أو منسيّة، رسائل متبادلة، فهارس، أطاريح جامعية، روايات تاريخية). وليست هذه الجهود المتفرّقة سوى هبّات ريح في بناية خربة، جولة أخيرة في متحف آثاري مُنتهَب؛ أو هي أشبه بإحياء أنواع شعرية مسمّاة بالتشطير والتخميس والتلميع لقصيدة عمودية كلاسيكية شهيرة. لكن التأليف الطرفي/ الذيلي، الذي استطاع سحب خيوطٍ من نسيج منظوماتٍ تاريخية ميتة، وخياطة بدلة مرحلةٍ منكمشة، أوحى بما هو أهم من عملية التدوين الجزئية هذه؛ لقد نبّه على وحشة الفراغ الكبير لصومعة التاريخ المدحور، وتقلّص بحر اللغة الفسيح، بما لا يسمحان إلا بحشر الأموات في تابوت واحد، وتسريد حوادث الماضي بلغة التزوير والتلفيق والانزياح الاستعاري؛ وهذا ما آل إليه الوضع بعد نهب المتحف- المرجع المغيَّب في سرديات الماضي.
من ناحيتها فقد أفادت سرديةُ المرحلة الأخيرة من هذا التفتيت والتقليص (خياطة قميص من جبّة التاريخ) فالتفتت الأنظار إلى أشكال متنحّية في تاريخ الأدب، كالرحلات والمقالات والرسائل والتقارير الصحفية والتراجم الشخصية وسيرة المدن القديمة، وأعادت إليها الاعتبار. فتحت مرحلةُ انهيار المتحف المؤسّسي أبواباً مغلقة، كان الديوان السردي قد حَجَر وراءها أنواعاً أدبية لمنفعته الخاصة. ولربما سمحت هذه التجزئة/ التشظية لمنظومات سردية أساسية (المقامات وحكايات الحيوان والأساطير) بصعود جديد لفن قديم.
• الأقلام : جميعنا يتبنى اليوم مقولات من قبيل: ان على السرد ان يتحول إلى بحث في السوسيوثقافي لتبرير نوع القص وأهميته في زمن رث وكالح كالذي نعيشه اليوم. هل تحولت فنون السرد في العراق إلى منطقة اشتغال تقترب من هموم وتطلعات جمهورها العراقي والعربي؟؟
- محمد خضير : هناك أكثر من أسلوب وطريقة لتعويض النزعة السردية الاجتماعية، الواقعية الانتقادية، التي رافقت تأسيس الدولة، لأجل التعبير عن مرحلة تقويض الدولة. لقد تنبأت أكثر من رواية بالنهاية التقويضية هذه، روايات نجم والي وعلي بدر وأحمد سعداوي ونصيف فلك وضياء الخالدي ومرتضى كزار وطه الشبيب. إنها روايات موقعية لم تغادر مصدرَها المغيَّب تحت الأردية المنكمشة، الملتصقة بجسد السيرة الخاصة بكتّابها. لم تشتغل كلها برداء سوسيو- ثقافي، بل إن بعضها لم يغضّ النظر عن إمكانيات السوسيو - ذاتي لتقويض بنية المتحف السردي، وسجلاته "الديوانية"، بما حملت من وثائق داحضة وسيرة مقلِقة.
هل بردت جمرة التقويض مع ابتعادنا عن هوّة السقوط، ودخول مُغريات تسريدية غريبة على الموقع المقوَّض؟ نعم. بلا شك. صارت رقعة التخييل مشدودة لمغانم تجارية ومؤسَّسية، وايهامات رمزية وذاتية سهلة الكتابة. فبينما كانت روايات الهوّة قد انتزعت مصدرها من صخور التجربة الذاتية، ومصهر الأخطار التالية لها (الإرهاب، التهجير، التظاهرات، الاغتيال)، ظهرت روايات ماراثونية قاصرة عن قراءة واقع المرحلة المختلف، فاستلفَت من "الديوان" جرعات تنشيط تقليدية راكدة ومتعفّنة لاستمرار جريها (وهذه الروايات أكثر من أن تُحصى). وما زلنا نتوقع من نهايات السردية المئوية إنتاجاً يعيد صخب الماكينة المتراجعة إلى وعي الرواية التأسيسي- السوسيو- ثقافي، بقعقعته وصليله المقلِق وفصامه الأيديولوجي والتاريخي.
• الأقلام : الرمزية في الثمانينيات والتسعينيات لها ما يبررها في الخطاب السردي ومضمون القص، الأمر ذاته ينطبق على مبررات الكتابة الكلاسيكية (الناعمة) في عقود ما قبلها، إضافة إلى حمّى التجريب في تقانات القص. لكننا سنتساءل كثيرا بعد زوال الديكتاتورية عن قيمة الاشتغال الرمزي وجدواه، وكيف له أن يبرر لوجوده في فن القصة والرواية؟ علما إن القارئ العراقي يحتاج اليوم إلى نوع من المحرضات الثقافية، قد تصل حد الاحتفاء بالشعبوي؟ إننا لا نحتاج إلى إفراط في الرمزيات على حساب المعنى.. كيف تعللون ذلك؟
- محمد خضير : نعم، كما تقولون. لا يمكن استعادة سجلات الرمز والأسطورة بلغاتها المتعالية وتطريساتها التناصّية. ثمة صيرورة تقويضية مقلِقة- ليست بالضرورة شعبوية أو تبريرية- تمنع اليوم من الاسترسال وراء ذلك التخييل الغرائبي والتسريد الرمزي. ذلك لأن الكتابة السردية تواجه حاجزاً مفهومياً أعلى من حواجز الماضي، هو حاجز التفكيك البنيوي للمصادر والمرجعيات المحفِّزة للسرد، وإعادة تغطيتها بأنسجة من روح العصر، ومتغيّراته الفعلية. لكن الأغطية الواقعية غير ممكنة بتفاصيلها اليومية والأيديولوجية، بسبب شيخوخة التقاليد الساندة لمؤسّستها التاريخية، ودخول عناصر "تحريضية" أخرى. هكذا كان شعور كتّاب القطيعة الواقعية في الغرب، عندما سقطت المُثل الأيديولوجية للبنى الدولاتية الكبرى، وكذلك شعور كتّاب آسيا وأفريقيا بعد تحررها من الاستعمار؛ وهو أيضا شعور الكتّاب العرب بعد تخلّصهم من هيمنة الأنموذج الاستشراقي وبُناه التبشيرية والترفيهية. مَن ذا الذي يكتب روايته الآن على وقع ماكينة متحفيّة ساهمت في بنائها طلائع الاستعمار والاستثمار الكومبرادوري والتجريف العولمي؟ أيمكننا استرداد إرثٍ سردي شاحب القسمات والهويات بعد طول فراق؟
عندما التحقت القصة العراقية بالبحث عن مخرج للأزمة الواقعية- بعد انتهاء المؤسسة الثقافية من نشر المجموعات التأسيسية أواخر العقد السابع من القرن المنصرم- التفتَ الكتّاب الستّينيون فجأة الى متحفهم الضخم، واستخرجوا منه لغات غير مأنوسة وتراتيل غير مفهومة وحكايات عن الطوفان والخليقة. تلاءمَ البحثُ الأسطوري مع النزعة التدميرية التي أثارتها الحرب في جيل قلق ومُستثار وحالم. وفوراً تُرجِمت تلك اللغة الشعرية المعتَّقة (في كأس النذور) إلى ثيمات شعائرية، ونشأ طقس سردي التفّ حوله سُرّاد مشرَّدون في أروقة المتحف، أشبه بطقوس الانبعاث الربيعي المتمثّل في نزول عشتار وراء الإله دموزي المعتقَل في العالم الأسفل بحثاً عنه. انتقل الطقس السومري بكامل شحنته الرمزية الى لغة الخطاب السردي، مقابل ما اعتبره السُّرّاد صراعاً أبدياً بين شياطين العالم الأسفل وآلهة المدينة العليا، وانتقاماً متبادلاً من سلطة فوقية. مشهد مرغوب بقوة، ولغة كثيفة بالدلالات الغائبة، وشخصيات نصف بشرية؛ انزلاق سريع إلى الدرك الأسفل. كانت تلك الرحلة وراء حدود الأقاليم الواقعية تعويضاً عن ركون طويل تحت "الجدار الأصمّ" لواقعية عبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان ورهطهما الطويل، المسحوق بعجلة القطيعة المبكرة للمئوية السردية. (أذكرُ أن فرمان استذوقَ قصصي لمّا قرأ بعضها لكنّه استغرب بحثَها غير الواقعي ولغتها الشعائرية؛ ومثله علي جواد الطاهر وشجاع العاني وعبد الإله أحمد). كانت الموجة التغريبية كاسحة، محيِّرة، ذهبت إلى أبعد من مدارها المئوي، وهويّتها المنزلقة وراء أوهامها الرافدينية من دون ورع. لا يودّ ساردٌ عانى اشكاليات الهوية السردية أن يفرّط بحلمه الاسطوري، لكنّه يتذكر أن تغريبته صَحَت على فجوة مستعِرة بألسنة النار والوحوش وطيور العاصفة. كان سرداً جحيمياً بكلّ ارتباكاته اللغوية وشعائريته الطقسية. ربما كانت مجموعة محمود جنداري المزدوجة العنوان "عصور المدن، ومصاطب الآلهة" أفضل تمثيلٍ لذلك الانزلاق الجنوني إلى عمق العالم الأسفل- الهذيان الذي أنتج بنيةً تدميرية، ولغة غير علائقية، لغة الطائر الناري "زو" المحرِقة للفواصل والمفهومات. لكن لا أحد يودّ تذكر تلك الرحلة كما يبدو.
• الأقلام : غالبا حينما يحضر مصطلح "عصر السرد"، تتصدر الرواية شرفة الحديث؟ ولكن على الرغم من ذلك، من المتوقع بأن المستقبل القادم هو للقصة القصيرة. ويعود الأمر الى جملة أسباب جوهرية تجيء في مقدمتها الظلال التي ألقت بها منصات التواصل الاجتماعي على المجتمع عامة والأدب خاصة من جهة والاستهلاك الذي نال كل من الشعر والرواية من جهة ثانية مما يفسح لها المجال أكثر كجنس غير مستهلك. هل تتفق بأن القارئ الواقع تحت تأثير تلك الظلال هو أكثر تناسًبا مع جنس القصة القصيرة؟ وبصورة أشمل، هل نتوقع عصرا ذهبيًا للقصة القصيرة أم أن لك رأيًّا آخر؟
- محمد خضير : حينما يأتي الحديث عن القصة القصيرة، فنحن نضعها خارج سياقات التوافقات العصرية، وأسئلة "الظلال" المتمدِّدة حولها. كانت القصة في العراق بِنت الصحافة الورقية، صحافة الانتقاد والسخرية الاجتماعية وسكيجات الوجوه المختفية في عطفات الشوارع والدوائر الحكومية (هكذا يراها في الأقل كاتب شبه معروف من جيل الملفّات والرفوف والأوراق هو محمد روزنامجي). أمّا اليوم فهي قرينة مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت. وهذا الانتقال أعطاها بعداً زمنياً أعتق بكثير من عصر السرد الحداثي- المعلوماتي. إن العتق والارتقاء خطّان متقاطعان في بنيانها. تستطيع أن تضع نظرياتٍ وتصطلِح مفاهيمَ حول أجناس السرد الأخرى كالملحمة والرواية والمسرح، أمّا القصة القصيرة فالأجدى أن تقرأها باعتبارها حكاية. وأسوقُ مثلاً على ذلك قصص موباسان، التي كتبَها باعتبارها حكاية داخل حكاية. إنها الشكل المرغوب بسبب متحفيّتها، فأفضل القصص اليوم تلك التي تصدرها دور نشر كبيرة في أنطولوجيات تحوي قصصاً من جنسيات مختلفة، مصنّفة حديثاً (قصص أمريكية- هندية، أو أمريكية- أفريقية، أو أمريكية- لاتينية). ولعلّ هذا التصنيف النادر هو ما ميّز القصة القصيرة بأنها فنّ "الجماعات المغمورة" أو "الجماعات المقهورة" في عصر عولميّ كاسح للخصوصيات القومية، والمتاحف الوطنية. وما يخصّنا من هذا التصنيف قياس كتابتها بقطائع المئوية السردية وهجنة شخصياتها التي اكتسبت هوية الفئات الثانوية- النماذج الشعبية في قصص عبد الملك نوري والنماذج المغتربة في قصص فؤاد التكرلي، فضلاً عن الشخصيات المسحوقة في قصص محمد روزنامجي ونزار عباس ويحيى جواد.
لكن هذا التصنيف الفئوي، تصنيف الهويات في سلاسل سردية هجينة، لا يمنع من إعلاء الجانب الخاص، المنقطع في كتابتها. إنها تمرين الكاتب الذي يبحث عن "خط هروب" بين القرانات واللقاءات وتحديدات الأصناف والنماذج البشرية؛ إنها "جدار أبيض" مليء بالثقوب السُّود، تهرب فوقه الخطوط، الوقائع والحوادث واللغات الغريبة، حسب تعريف جيل دولوز للفلسفة. وبهذا الاعتبار فإنّ المفهوم الأصلح لسلوك القصة في مجموعة من الخطوط المتشابكة، كخطوط مئويتنا السردية، هو فصلها عن عصرها المرتبك بالتعريفات الأجناسية. إنها "الصيرورة"- حسب دولوز أيضاً- التي تشكِّل انقطاعات غير متسلسلة، وقفزات مفاجئة فوق جثة التاريخ والدولة والمفاهيم النهائية. إنها اللقية التي افتقدناها مع "كأس النذور" من متحفنا المئوي.
• الأقلام : في كثير من الأحيان يفضّل أن تتواءم لغة النص السردي مع مضمونه وثيمته الرئيسية وتفاصيل شخوصه والفضاء المكاني الذي وقعت فيه الأحداث، لكن يحدث أن نقرأ آراءً لمختصين أو كتّاب تعترض بشدة على اللغة الصحافية مثلا حتى وإن كان حضورها داخل المتن السردي حاجة ملّحة فرضتها نوعية النص واتجاهاته الداخلية. ما تعليقكم على هذه الآراء؟
- محمد خضير : مع نظرية باختين عن تعددية الصوت السردي، أصبحت لغة السرد ذات أهمية في بناء النص السردي. ومع اعتبار الجملة السردية وحدةً بنائية صغرى في معمار النص الأكبر، حسب تودروف، أصبحت قراءتنا تهتم بالأجزاء والتفاصيل والمقاطع والأنساق. فالقصة قد تحقق إقفالاً إدراكياً تسلسلياً على مستوى الجملة الواحدة قبل النهاية الفعلية. وربما أدركنا ما لحوار الشخصيات من وظيفة خاصة في التنويع اللغوي والإدراكي في القصة، بمراقبتنا قصص هيمنجواي مثلاً. كما أن الوصف وتعدد ضمائر السرد وتداعي الشعور والتضمين وغيرها من أساليب القصّ تفرض لغتها الخاصة. لكن اللغة الصحفية المقصودة هنا تناسب نوعاً خاصاً من السرد هو التقرير الروائي الذي يعتمد الوثيقة السياسية والتاريخية بالدرجة الأولى، كما في روايات صنع الله إبراهيم مثلا، وبعض روايات ما بعد التغيير في العراق، روايات علي بدر وخضير الزيدي وسعد محمد رحيم خاصة.
كانت الغاية من تبسيط لغة السرد، وتضمينها لهجات العامة، جزء من غايات مرحلة التأسيس الاجتماعية والانتقادية، عندما كان الراوي/ السارد/ الحاكي يعبّر بمفرده عن الصوت الجماعي المغيّب لشخصياته، ويوظّف وجهة نظره هذه لصالح الوضع الثقافي التعليمي الذي اتخذ القصة وسيلةً لإيصال الأفكار من خلال حوادث منتقاة ومواقف عاطفية وسوسيولوجية. وبدخول تيارات القصة الغربية، وأهمها تيار الشعور، قلّت أهمية النزعة اللهجوية الشعبية حيال الانهمار الشعري الذاتي لصوت الراوي؛ ولعل قصص غانم الدباغ من أولى التجارب التي حفرت في الشعور وأخرجت تداعياتها المكبوحة إلى الظاهر المحكي (خاصة قصّتاه: الظلام المخمور- الفائزة بجائزة مجلة الآداب ١٩٥٤، والماء العذب) إضافة إلى قصص عبد الملك نوري في مجموعة (نشيد الأرض). وعندما نتقدم الى المرحلة الثانية من التأسيس الفني، فستلطمنا قصص التكرلي في استبطانها المحرَّم للثيمات الشعبية، بلغتها الوسطى المحببة، ولهجتها الحوارية "المُبَغدَدة". وأعتقد الفاصل أصبح كبيراً بين مفهومين في استعمال اللهجات الشعبية لبناء قصة أكثر تعقيداً وانفتاحاً على وسائل الاتصال ومبادئ الإرسال اللغوي والفكري؛ كما تغيرت الوظيفة الصحفية للغة القصة.
• الأقلام : لا تزال إلى يومنا هذا تعاني القراءة السردية من الأحكام الأخلاقية إزاء المشاهد البورنوغرافية، على الرغم من أن هذه المشاهد إذا جاءت مستوفيةً لشروط استدعائها فإنها ركيزة أساسية في تبرير تحولات الشخصية اللاحقة من خلال سلوكها، كأن تتعرض الشخصية الأنثوية للاغتصاب أو التحرش وإلى غير ذلك. هل أنت مع إقصاء هذه المشاهد بشكل قطعي أم لك رأي آخر؟
- محمد خضير : يجب التمييز بين ثلاث ثيمات سردية: الحبّ والجنس والبورنو، مع أن القراءة "المتخلْقِنة" تجرفها معاً الى مستنقع واحد. لا يُعوَّل على الحكم القرائي العادي في الفصل بين ميول طبيعية كالحبّ، وغرائز مكبوحة كالجنس، ومغالاة في استعمال الجسد كالبورنو. وكلّ واحد من هذه الخطوط يبحث عن لقاء قارئه المقصود وراء الأكمة التي يتحصن بها، دافعاً إياه لتغيير زوايا النظر والصور النمطية السابقة لعملية القراءة. فالقراءة تتجدد أيضاً بتجدد النص المقروء.
ظهرت موضوعات الحبّ، والعلاقات الجنسية غير الشرعية، معاً في نماذج من سرود التأسيس والصعود في شكل علاقات ثنائية ملتبِسة في قصص فؤاد التكرلي وغانم الدباغ وعبد الستار ناصر، على درجات متفاوتة من القصد والاستئثار. كان موضوع الحبّ في قصص عبد الستار ناصر تعويضاً شخصياً عن نشأة اجتماعية قاسية، بينما من الصعب أن تفكّ القراءةُ الجنوحَ الانحرافي في قصص التكرلي ما لم تكن قراءةً قصدية ملتبسة، جانحة مثلها، تبحث عن الزوايا المعتمة لبؤر الانحلال الأخلاقي في الواقع الاجتماعي. لقد جرؤ التكرلي على تمثيل ثيمات الجنس في قصصه انسياقاً مع ظاهرات مدنية صاعدة -الثراء المادي والبغاء والسياسة والجريمة- واستئثاراً بموقف فردي سايكو- ثقافي منها. ويومئذ شاعت القراءة السايكوية لنماذج روائية مترجمة لألبرتو مورافيا واج. دي. لورنس وكولن ولسن والمركيز دو ساد، غطّت على الدافع الجنسي الحقيقي لكتّابنا العرب والعراقيين. ومن المستغرب اليوم تسابق دور النشر العربية على ترجمة الأعمال الجنسية والبورنوغرافية بشكل واسع، فما عاد التمييز بين النوازع الفردية السايكوية والظاهرات التجارية الوافدة ممكناً وواضحاً.
الأمر مختلف تماماً مع الظاهرة البورنوغرافية في روايات اليوم، التي انتقلت من الدافع الاجتماعي البرجوازي، في سنوات التحلل الأخلاقي والسياسي الوسطى، الى الجانب التحريضي والانتقادي الشخصاني، في سنوات السقوط السياسي والانهيار الدولاتي، لا سيما في قصص وروايات المهجر (سلام إبراهيم وحميد العقابي وياسين غالب). إننا إزاء انتقاض شديد لقيمة الجسد باعتباره سلعة سوّقتها أيديولوجية القمع والطرد الجماعي وألبستْها ثياب الطهر والفضيلة. إن الانغماس الجنسوي المكشوف في السرود المضادة/ المغترِبة، سيكشف عن تجربة قرائية مغايرة لنصوص الطرف البعيد عن الحبّ والجنس المتخفّية خلف ستار الزيف الاجتماعي في مطلع سرديتنا المئوية ووسطها. ففي نهاية هذا النسق الملتبِس، ستغترب القراءة "المتخلْقِنة" وتمتنع على الاشتغال بأيّ دافع سياقيّ وحكم أخلاقي.
• الأقلام : الاهتمام بوجود رؤية خلاصية بشرية يتضمنها المبنى الحكائي لتجاوز عقبات الحياة والأنظمة على اختلاف مفاهيمها ومجالاتها، هو مسعى نبيل يمنح العمل السردي وجهةً منطقية وشحنة عاطفية مقبولة. ما مواصفات مثل هكذا أعمال برأيك؟ وهل تستطيع هذه الرؤى الخلاصية في السرد من مجابهة واقع مأزوم وملتهب مثل الواقع العراقي؟
- محمد خضير : قد أفهم من سرد "الرؤية الخلاصية" اهتمامه بثيمة ثلاثية الأبعاد: دينية، يوتوبية، أو العكس ديستوبية تنذر بنهاية العالم. وهي جميعها ليست بعيدة عن الرؤية الرمزية والأسطورية التي ناقشنا أسباب انبعاثها في إجابة سابقة: النزول الى العالم الأسفل، أو الارتفاع فوقه بملايين السنوات الضوئية. تمثّلت هذه الرؤية في رسائل فلسفية حكائية قديمة لابن سينا والغزالي والسهروردي والعطار، ولم تظهر آثارها في سرديتنا المعاصرة إلا بشكل تأمليّ وعرفانيّ بحت (أعمال حميد المختار وباسم الشريف وجابر خليفة جابر على سبيل المثال).
لقد وجد روائيّو الغرب حلاً كامناً في نهاية التاريخ، أبسطها الرؤى المثالية لمدينة الله كما تّخيل إحداها توماس مور، وأعقدها الرؤى العلمية كما تمثّلتها روايات الخيال العلمي، وكلتاهما انغلقت برؤى نهاية العالم (الآبوكاليبسو)، كما تجسدت في رواية "الطريق" لكورماك مكارثي. لكننا لن نلتقي مثل هذه الثيمات الخلاصية الثلاث في سردنا العربي، بل قد نعوّضها برؤى خرافية وتراثية، إذا كنّا قانعين بموقع سردي أقل استهلاكاً لوهم الكارثة.
باعتقادي، الخلاص السردي وهمٌ خالص، يمكننا الخروج من نفقه او كهفه بنقض الأشكال السردية الغربية الثلاثة (اليوتوبيا والدستوبيا ونهاية العالم). قد نعوّض مشقّة التآلف مع أشكال/ نهايات مماثلة، بالبحث عن حلول سردية، ذات طبيعة حكائية، سعيدة أو فاجعة، أو تأملات ذاتية تعيد بناء العالم من جديد، في الموقع الذي نحن فيه، لا في مكان آخر. وعالمنا هنا ليس بقعة مجهولة، أو صحراء مشعة بمخلّفات نووية، بل ليس هو القريب أو البعيد من الصور والتخيّلات الخلاصية. بناء عالمنا السردي، نقضه واعادة بنائه، بسيط ومعقّد بحسب معيارنا للهوية السردية التي نمثّلها أو تمثّلنا، بلا أوهام غير أرضية. ولدينا أخيراً مثال "خلاصي" نستوحيه من كتابات نيكوس كازانتزاكي، الملقبّ بالصوفيّ المنشقّ.
• الأقلام : المنعطفات التاريخية مثل الحروب والكوارث، أنتجت تيارات ومذاهب وطرائق اشتغال كثيرة ومتعددة. ولنا في انعكاسات الحربين الكونيتين على الأدب الغربي أكثر من مثال. الأمر نفسه يمكننا تلمّسه بوضوح بعد هزيمة حزيران لعام 1967 على السرد المصري وبدرجة اقل العربي. في السرد العراقي لم يتبلور ذلك إلى منطقة اشتغال عراقية صرف تليق بما يوازيها من أحداث وكوارث ووقائع حادة وكبيرة.. بم تعلل ذلك؟
- محمد خضير : يتّسم تاريخنا السياسي العراقي بقطائعه العَشرية القصيرة، ومثل هذه القطائع والتحولات السياسية والاجتماعية المفاجئة لا تتيح تراكماً سردياً مشابهاً لنتاج الغرب الأدبي والفكري، المقترن بتحوّلات الفكر العلمي والفلسفي والاقتصادي (حركات الحداثة وما بعد الحداثة). إن أدقّ توصيف لدورات السرد المغلقة في تاريخنا المئوي، أنّه أشبه بالثعبان الذي يأكل ذيله في الأسطورة اليونانية. تكاد سرديتنا تعتاش على بقاياها من هشيم الثيمات والأشكال المتراقصة على سطح بركة ماء راكدة؛ نشأت مع أول احتلال عسكري أجنبي، ونقهَت من مرضها مع أول ثورة، ثم انتكست مع ثورة ثانية، وأدخِلت الإنعاش مع أول حرب، ثم صَحَت على احتلالٍ ثان.. إلا أنّ تلك الهزّات والصدمات تداولتْها بتداول السلطة العنيف بين فترة وأخرى مدّتها عشر سنوات، وصفعتْها كما يُصفع مولود خديج لم تكتمل خِلقته. ربما احتاجت سرديتنا الى تطعيمات ذاتية منعشة، كحرب حزيران ١٩٦٣، وحروب الخليج بين ٨٠- ١٩٩١، وانهيار جدار برلين، وثورات الربيع العربي، والإرهاب الأصولي، لكي تفكّ ذيلَها الذي عضّت عليه في ٢٠٠٣- سنة سقوط الرمز "الثعباني" المقدس- إلا أنّ وقتاً انبعاثياً جديداً لأنطولوجيّتها من رماد الثعبان المحترق لم يحُن بعد، وتطعيماً وقائياً من مرضها الأجناسي التقليدي لم يشْفِها تماماً من نوبات الديوان السردي القديم تماماً (وثمة أوبئة أعظم من سابقاتها على الأبواب).
لا يعني هذا المخطّط العَشري لأنفاق التاريخ السياسي المتعرّجة، أنّ السردية الثعبانية لم تحفر شقوقاً عميقة في جدرانها الآيلة للسقوط (وثيمة - الجدران والشقوق- تكررت مراراً في أعمال المئوية السردية) أو أن أرجاع الصدمات انقطعت عن السماع والتردد بينها (رجع- فؤاد التكرلي- البعيد) فقد نشأت على جوانب تلك الصدوع والشقوق والأنفاق سردياتٌ ذات مذاق لذيذ، بلذّة السقوط الشهواني في روايات نصيف فلك، وجنوح أحمد سعداوي الفنتازي، وتاريخانية زهير الجزائري وشاكر الأنباري، وشغف لطفية الدليمي وعالية ممدوح وإنعام كججي ودنى غالي وميسلون هادي ورغد السهيل بعالم النساء.
• الأقلام : بعد تراكم الجهود الكبيرة والإنتاج الهائل في السرد العراقي – كمّا ونوعا - هل يطمئن محمد خضير الآن على مستقبل السرد في العراق في شقيه القصير والروائي؟ خاصة ان الزمن الثقافي لم يعد منحازا الى السرد او الشعر في تصنيفات سوق الطباعة والنشر في ظل التزايد المفرط والاهتمام بالدراسات الثقافية في العراق والعالم: كتب التراث والتاريخ وعلم الاجتماع ونقد الدين واعادة انتاجها من جديد، وهي اشتغالات صارت الشغل الشاغل لمعظم القراء .. كيف يرى خضير إلى ضرورة التغيير في نمط الأداء السردي على ضوء ذلك؟ وهل هو مطمئن على مستقبل السرد في العراق؟
- محمد خضير : ليس السؤال عن تغيير أنماط الكتابة السردية، أو مستقبلها في العراق، مقطوعاً عن أسئلة الثقافة والفكر النقدي والاجتماعي عموماً. أسئلة الحاضر كما هي أسئلة الماضي، النشأة والبلوغ، صيرورة متعالقة بأسباب الوجود الشاحب لجسد الدولة والمجتمع معاً في أيّة لحظة يتقدم بها السرد إلى مشغله. ذلك نابع من مشكلات التلازم الوظيفي الشديد بين السرد والمؤسسة السلطوية؛ المشكلات التي درستْها أقلامٌ من زوايا أيديولوجية وبراغماتية على درجات من القرب والابتعاد، ضمن العلاقة القطبية المعروفة بعلاقة المثقف والسلطة. جرى البحث في هذا التلازم على أساس الثنائية التوافقية- الامتثالية بدلاً من فرضية الافتراق والاختلاف التفكيكية. سيظلّ السرد متشككاً بقدراته على نقض أوهام الديوان التقليدي التي قيَّدت حضوره وفعاليته بثنائية الامتثال- الاستبدال، خلاف ما يجب بحثه في علاقة: القطيعة- التغيير. مثال ذلك: يحتفي النقد الامتثالي- الاستبدالي بعلاقة رواية (الوشم) لعبد الرحمن الربيعي بأزمة المؤلف مع الفكر اليساري- في إطار علاقته الجديدة مع الفكر القومي، بدلاً من كشفه عن التمثّلات الذاتية لكينونة سردية متمثلة ب "الخروج من بيت الطاعة" كشفَ عنها المؤلف في كتُب سيرته الذاتية. ومثل هذه الرؤية القطبية: ما يشاع عن روائيّي ما بعد التغيير، امتثالهم لنطاق السقوط الكبير والصدمة الانتقالية المفاجئة، فيما أسَّست لظهور الموجة السردية الجديدة استعمالاتٌ "قطائعية" تمثلت بالبناء واللغة والرؤية التعددية للأشكال والأجناس الموازية والتناصّات العميقة والبعيدة مع فضاءات تراثية وحداثوية. سيسمح لنا المعيار "التقاطعي" بالنظر إلى الطبقات التحتية لسطوح التغيير الظاهرية، وما أحدثه من تحرير طاقة كامنة في ثيمات الخيال السياسي (في سرديات تظهر أول مرة: لمحسن الرملي وجبار ياسين وحسين الموزاني وحميد العقابي وعباس خضر وزهير كريم وبلاسم محمد وعشرات غيرهم من كتّاب المهجر). بسبب هذه التقاطعات تقدمت الرؤية السردية على غيرها من البحوث والدراسات غير السردية.
• الأقلام : ما يزال عديد النقاد والمختصين في السرد، يطلقون الأحكام حول أمراض القصة القصيرة في العراق. هل ثمة أمراض وترهلات وزوائد تعاني منها القصة القصيرة؟ وهل يساهم ذلك بتخريب سمعة الجهد السردي العراقي؟
- محمد خضير : عانت القصة القصيرة أمراضاً حقيقية خلال الفترة الثالثة (فترة الانحدار الاجتماعي والسياسي خلال الحرب) بسبب بحثها عن ينبوع الحياة الشافي، وتعثّرها في رحلة البحث عن أسلوب وراء الواقع العياني، وتقاطع وجودها مع وجود الرواية الناشئ كنبتةٍ شيطانية في تلك الفترة. هذا ما جلب إليها الأنظار المدقِّقة، من زوايا أيديولوجية بحتة، وأهمها نقدات الشاعر سامي مهدي والقاص زهدي الداوودي، إضافة إلى ملاحظات حريصة من ثلاثة نقّاد أكاديميين: علي جواد الطاهر وعبد الإله أحمد وشجاع العاني، وإشارات متفرقة من مؤيد الطلال وعبد الله نيازي وخالد علي مصطفى وعبد الستار ناصر وعبد الرحمن الربيعي وعباس عبد جاسم. فإذا جمعنا هذا التيار المتلاطم من الشكوك والافتراضات، عرفنا مدى خطورة المرض الأنطولوجي الذي تغلّبت عليه القصة بإصرار من كتّابها على حفظ النوع والدفاع عن مزاياه المعوَّقة بدوافع شتى.
كان النقد التشكيكي يتمحور حول الرمزية المفرطة لدى كتّاب فترة الحرب، ثم تركز حول كمية التناصّ مع أساليب عالمية شهيرة (بورخس وكونديرا وكالفينو) حتى أصبحت الهجمات حول بيت القصة- بتسمية عبد الستار ناصر- نوبةً دورية وعَرَضاً نفسانياً كدِراً. أما اليوم فيسير الإنتاج القصصي وسط أشواك وأدغال نبتت في حقل تعددت فيه سبلُ الأيديولوجيا المتشدِّدة، تخنق ما بقي من أسماء الفترات السابقة وما استجدّ من أصوات جديدة مبعثرة؛ حتى ليُقال إنّ هذا الفنّ العجوز استنفد دفاعاته المَرَضية كلّها، وهامَ على وجهه لا يلوي على شيء من أصداء الماضي ويقنع بالسبل الجانبية والهوامش السردية المتبقية في تقاليده. أصبح هو المرض ذاته.
• الأقلام : يدرك القراء العراقيون والنقاد، ان محمد خضير صاحب المنجز السردي الذي يربو على نصف قرن ما يزال يحتفظ باستراتيجية الاشتغال على المكان في القصة القصيرة، ألا ترى أن ذلك حدد مناخ وأجواء كتابة "خضير" ويجعلها في صدارة همومه وتطلعاته السردية؟
- محمد خضير : ما يشغلني ويطبع نصوصي القصيرة، المتعددة المداخل والمخارج، ذلك الهيام بشعرية المكان- حولياته السائلة- وما وراءها من آثار وثيمات تتصادى بلغة الاكتشاف والتأسيس، أو النقض والتحوير. إنّ ما يقلقني حقاً وجود شخصيات تنتظر دورها في الكلام، على سبيل الاستذكار والاسترجاع والتخيّل، وقد اختارتني لأكون وسيطاً شفافاً، أو وَسَطاً كثيفاً، تعبُر خلالهما للحاضر، فيعجزني الوقت والتقليد من تلبيتها. (لامكان) هو المكان الذي يخلو من حكاية خافية في الأركان المنسية لبيت قديم، أو شارع ملتو كالأفعى؛ هما نفسهما تاريخ وجودٍ وعَرَضُ مرضٍ قديم.
لا أحفل بالمفهوم التقليدي عن المكان القصصي. أفكّر بالفُسَح والسبُل والمساحات، بنقاط الالتقاء بين نصوص واقتباسات، أضَعُ عليها هوامشي وافتراضاتي الطوبولوجية. ها أنتم ترونني "وَسَطاً" متغيراً- لا تشخُّصاً جغرافياً محدوداً- نقطةً في بحر الكلمات ومقطعاً في حوار الشخصيات. ها أنتم ترونني منتقِلاً، أحملُ معنىً حاولت أن أحصره في ابتكار "بصرياثا"- عنواني المتبدِّل، ومكاني الذي لا مكان بعده. ولا غرو بعد هذه النفثات، أن تتمدد سردياتي وتتوزع مقاطعها على مدى المئوية، التي حاولتُ حصر مفاهيمها السردية، دون أن أُتِمَّ جغرافيتَها. السرد المئوي في حقيقته الأنطولوجية هو اجتماع "طوبوغرافيات" في ثيمات قصيرة تتوالى بتمهل، من دون انقطاع، على "الحاكي الحجري" الذي تخيّله ماركيز في إحدى خُطَبِه.
• الأقلام : في حديثكم عن "حداثات" السرد العراقي المختلفة، ثم في رثائكم المتأخر لموت "التقاليد" تشعرون القارئ بأن القصة والرواية هما ضرب من الصدف في مجتمع و"أفراد" يرفضون أن يكونوا تحت مبضع الجراح / القاص. فهل أن "موت" التقاليد، بل ضياعها بدل "نسيانـها، هو سبب تعدد الحداثات وتصارعها؟
- محمد خضير : الحداثة كما يعرّفها عالم الاجتماع آلان تورين ابتكار مفاهيم وتهديمها في الوقت نفسه. ولعل حداثتنا السردية واجهت هذا التسلسل من "نسيان/ضياع/تهديم" التقاليد في كل مرحلة من مراحل تأسيسها: السرد الواقعي الاجتماعي- الواقعي الوجودي- الرمزي الأسطوري- وصولاً الى مرحلة النقض والتغيير للأساليب والحداثات السابقة. وما لدينا من حداثات تأسيسية، رافقت أشكالاً من النظم الزراعية والتجارية والصناعية، أصبحت أخيراً في قبضة التحكم التسلّطي الشمولي قبل تراخيها وضعفها ثم انهيار بنيتها المؤسساتية وديوانها السردي التقليدي في نهاية القرن العشرين.
كان هذا النسيان/ التهديم ضرورياً للانتقال الى حداثة تعتمد التخليق الابتكاري لثيمات ما بعد حداثة الدولة الشمولية؛ وفي كل الأحوال لم تصل سرديتُنا مرحلة "الحداثة الفائقة" التي خصّ آلان تورين المجتمعات ما بعد الصناعية بها، حداثة أنتجت نصوصاً "فائقة" الابتكار والتخليق الاجتماعي والعقلي والمعلوماتي. بقيت حداثتُنا قيد التوريث لتقاليد التأسيس بما يشبه التقديس والتكريس الجماعي، فكان القطع الابتكاري خطوةً حاسمة نحو "الهوّة/ الفجوة" الأنطولوجية لمرحلة ما بعد سقوط الدولة. لا يعني السقوط في فجوة الحداثة نهايةً قاطعة لتقاليد التأسيس الاستعمارية، بل من المعقول جداً أن تتأسّس اليوم ابتكاراتٌ سردية "قطائعية" تتجه الى التجديد الذاتي والتخليق العابر لأنماط الديوان القديم.
• الأقلام : في صياغة بليغة وموجزة، ربما نادرة بصراحتها، تصف لنا "حالة" المريض العراقي بقولك: "شعور بالتوتر والاندفاع والحساسية الفردية المفرطة، والقلق الاجتماعي الذي يخفي تحت تعبيره الوادع تنبؤا غير ملحوظ بالنشوز والازدواج والعنف الأيديولوجي"؛ فهل "نجت" مخلوقات محمد خضير المتخيلة من "حالة" المريض العراقي وأعراضه؟
- محمد خضير : عودة إلى تلك الصفات التأسيسية، فما انفكّت نصوصي السردية تعالج تلك الحالات المضطربة بقدر من التعقّل والتنظيم. حرّكت ديناميّاتُ التأسيس الاجتماعية والفكرية رغبةَ التصعيد/ التحويل الواقعي إلى مستويات بنائية أعلى من سابقاتها؛ شَحَنَت اللغةَ السردية بطاقة، سبق أن لمسَها كولن ولسن في سيرته الذاتية، حينما تكلم عن البدايات التكوينية والصيرورة الفكرية لشخصيّته الإبداعية. الحقيقة إن تعبير دوريس لسنغ: "إنّي أتغيّر" يلهمني دائماً لعبور هوّة التناقضات "المرضيّة" في نهاية المئوية. ليس هذا وهماً؛ ولعله حذَراً/ شغَفاً/ انتصاصاً تاريخياً لمواقف الكتّاب المنقلبين على ذواتهم ومراحلهم.
• الأقلام : الرواية التاريخية، أو كما يحلو للبعض تسميتها تخييل تاريخي، أو في تسمية مجاورة "سردنة التاريخ" وقد لاقت انتشارا واسعا بعدما ترسخت مفاهيمها بفعل التنظيرات والاعمال الروائية العديدة. هل صحيح أن هذا اللون الروائي يعيد انتاج التاريخ برؤية جديدة؟ هناك من يرى أن الرواية التاريخية مجرد اختيار حقبة زمنية ماضية توضع فيها حكاية تتأثر بوقائع الحقبة نفسها وتنتهي وفقًا لمجريات تلك الحقبة؟ بمعنى ليس هناك اعادة تخليق وتشكيك في المسرودات التاريخية كما تشير آراء هذا اللون؟
- محمد خضير : في رواية "السيد أصغر أكبر" لمرتضى كزار محاولة سردية لتذويت التاريخ- حسب رؤية آلان تورين لمبتكرات مجتمع الحداثة الفائقة. افترقت هذه الرواية عن النمط التقليدي لتخييل التاريخ بأدوات حداثة التأسيس التي استعملها روائيّون عرب في تأليف رواياتهم التاريخية (جرجي زيدان ونجيب محفوظ وعبد الخالق الركابي ومَن اتّبع أنماطَهم التاريخية من كتّاب حتى وقتنا الحاضر). كذلك فإنّ مَن سَردَنَ التاريخ العربي بمنظور الحداثات الغربية (أمين معلوف) أعادَ استعمال الخيال الاستشراقي بحرفيّته في خلق الدهشة والانفعال بحوادث وشخصيات وظواهر تاريخية كامنة في المخطوطات المحظورة بمكتبات التاريخ وسردياته الأركيولوجية.
إن "التذويت" التاريخي سيحصل على سرديته الحداثوية "القطائعية" عندما يرسم خرائطَ مقطعية لجغرافيا الرغائب والتحريفات العميقة في بنية التاريخ الشمولية (روايات أمبرتو إيكو وكازو إيشيجورو وهاروكي موراكامي ومارغريت أتوود) أو عندما يبتكر نهايات افتراضية لمصائر كتّاب التاريخ أنفسهم، أي سَردَنة الحوادث برؤية ذاتية مختلقة (قصة: بحث ابن رشد لبورخس). لكننا في المنظور "التذويتيّ" نفسه للتاريخ قد نضع رواية علي بدر (حارس التبغ) إلى جانب رواية كزار (أصغر أكبر)، وروايات عربية تذويتية/ ابتكارية قليلة أخرى مثل (باب الشمس للروائي اللبناني إلياس خوري) و(دروز بلغراد للبناني ربيع جابر) و(المغاربة للمغربي لعبد الكريم جويطي) و(الديوان الأسبرطي للجزائري عبد الوهاب عيساوي) للحصول على خرائطية حداثوية عالية التخليق والابتكار.
في المحصلة قد تعترض روايتَنا التاريخية هوّةُ التحديث والتمثيل التأسيسي- ما قبل العصر التكنولوجي، بما تنتجه من رؤى ميثولوجية وكتابة حرفية لوقائع تسلسلية خارقة للمعقول الجمعي. بينما على كتّاب هذا النوع ابتكار تاريخانيته وتخليقه/ اختلاقه ذاتياً من حوادث لم تفسدها سردياتُ الديوان العمومي، ولم يتواتر ذكرُها في السجلات الوثائقية.