دراسات وبحوث
تلاشي الجنسِ السرديِّ في المقامات
د. هادي شعلان البطحاويّ
كلّية الآداب/ جامعة ذي قار
أوَّلا/ سلطة الشعر
لم يعرفْ العربُ تراثا أعزّ من الشعر، حتى تلقِّيهم للقرآن بإعجازيته البيانية لا يبتعد عن تلقيهم للشعر والاحتفاء به، إذ جاءَ القرآنُ متحدّيا للأذن المدرّبة على التلقي البياني. السؤال هنا إذا كانَ التراثُ تراثا بيانيّا، فأيُّ بيانيّةٍ تلك التي نُمّيتْ وأُعليَ من شأنها، حتى صارتْ معيارا يقاس به اللاحقُ على السابق؟
يُعيننا الجاحظُ كثيرا في فهم البيانيّة العربيّة – وهو أحدُ اعمدتها والمنافحين عن العرب – اذ يقولُ: "وقد نُقلتْ كتبُ الهند وتُرجمتْ حكمُ اليونانيّة، وحُولتْ آدابُ الفرس فبعضُها ازدادَ حسنا، وبعضُها ما انتقصَ شيئا، ولو حُولتْ حكمةُ العرب لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزنُ مع إنّهم لو حوّلوها لن يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجمُ في كتبهم"( ). ثم يقولُ بعد ذلك قولتَه الذائعةَ: "المعانيُّ مطروحةٌ في الطريق...الخ"( ). وهي في ظاهرِها ردٌ على استحسان شيخِه ابي عمرو الشيباني لبيتين باردين، لكنّها فيما تقدمُه من موقف نقديٍّ واضحٍ أبعدَ من إنَّ تقفَ عند حدودِ الرد.
إذا جمعْنا ما يقولُه الجاحظُ الى بعضه في تقديم اللفظ على المعنى - ولعلّه حين يجعلُ المعانيَ متاحةً للجميع يريدُ إنَّ يسوِّغ تفضيلا ثقافيا لا شخصيّا. يضعُنا نصُّه الأوَّلُ في عدم جدوى ترجمة الشعر العربي في مواجهة نصِّه الاخر. أي نستطيعُ أن نفهمَ نصَّ المعاني في ضوء نصِّ الترجمة. إذا كان الامتيازُ في الشعر العربي للوزن وليس للمعنى، فإنَّ الأفضليةَ ستكونُ للفظ والوزن على المعنى؛ وما المعانيُّ المطروحةُ في الطريق الا حجةً عرضيةً، لو سارَ بها واتصلَ حديثُه بما سبقَ لأعلنَ أنَّ آدابَ الاممِ الأخرى (الفرسُ والرومُ والهندُ) أعلى شانا في معانيها من شعر العربِ. هذا مؤدى كلامِه، فما دام غيرُ العربي يتقدمَه؛ فليسقطْ سببُ التقدم (المعاني) من حسابات الاعجاز؛ لأنَّ "العربَ أفضلَ الأممِ، وحكمتُها أشرفُ الحكم"( ). كما يقولُ ابنُ رشيق. والشعرُ، كما يقولُ ابن طباطبا " هو ما إن عَرِي من معنى بديعٍ ولم يَعْرَ من حسن الديباجة؛ وما خالف هذا فليس بالشعر"( )، كما إنَّ الشاعر، في معرض تمييز التهاوني بينَه وبين الحكيم يجعلُ المعانيَ تبعا للألفاظ، وكأنها مستجلبةً من أجلها عند الشاعرِ بعكسِ الحكيمِ ( ).
يقربُنا ما يقولُه الجاحظُ من سؤال: أينَ يكمنُ الإعجازُ الشعري عند العرب؟ وقد يكونُ في هذا مدخلٌ لفهم اعجازية القران؛ لما بينهما من اتحاد على المستوى البياني.
كان إحساسُ العربي بالأشياء أكثرَ من تعقّلِه لها؛ إذ عاشَ حياةً حسيةً، ولم يُؤثرْ عنه أنَّه تركَ إرثا أبعدَ من الشعر وما يتصلُ به. كما لم تكنْ علاقتُه بالشعر علاقةَ ترفيةٍ، على الرغم من خلو حياتِه من مظاهرِ الترف، إنَّما كان بمنزلةِ القوةِ التي تستقيمُ بها حياتُه، فالشاعرُ يوازي الفارسَ( ). حين نَقرنُ الشاعرَ بالفارس ندركُ الأهمِّيةَ التي أعطيتْ للشعر ومنزلتَه الاجتماعية في حياة ليستْ الحروبُ والأيامُ قليلةً فيها. يمكنُ أن نتلمسَ في الوظيفة الاجتماعية للشعر ما يُرشدنا في تفسير البيانيّة العربيّة. لم يكنْ الشعرُ في عصره الأول قرينا للإقناع والمحاجَّة، إنَّما كان يَقصدُ الاستثارةَ الذاتيةَ والغيريةَ على اختلاف موضوعاته، من الحرب الى الحب. كان يَنشدُ التصعيدَ الوجداني وإلهابَ المشاعر، والانسانُ الحسيُّ يستجيبُ للاستثارة الحسيِّة أكثرَ من أيِّ شيءٍ اخرَ. وإذا كان العربيُّ حسيَّا في تلقيِه الشعرَ، فأنَّه حسيٌّ في انتاجه أيضا. هذا إذا اخذنا ما يقولُه ابنُ سلام والجاحظ بعين الاعتبار " إنَّ الشعرَ يَكثرُ في البوادي ويقلُ في المدن"( )، وإنَّ حسيَّةَ البدويِّ أكثرَ من حسيَّة الحضريِّ، إن كان هناك تمييزٌ كبيرٌ في هذا الجانب بينهما. يبيحُ لنا هذا أن نقولَ إنَّ تلك البيانيَّة هي بيانيَّةٌ حسيَّةٌ بالدرجة الأولى، أو بتعبيرٍ أوضحَ بيانيَّةٌ صوتيَّةٌ وليستْ بيانيَّةً دلاليِّةً، بيانيَّةُ لفظٍ ووزنٍ، كما وصفَ الجاحظُ. حازتْ الصياغةُ السهمَ الأوفرَ فيها. وربَّما تمكنتْ هذه البيانيَّةُ الحسيَّةُ أو الغنى الحسِّيّ من إخفاء الفقرِ المعنويِّ، نجدُ شيئا من هذا في تأكيد الشعراءِ على شحَّة المعاني. يقولُ عنترةُ ( ):
هلْ غادرَ الشعراءُ من متردمِ أمْ هلْ عرفتُ الدارَ بعدَ توهمِ
وصارَ النقدُ فيما بعد، حينَ تحدّثَ عن مشكلة السرقات الأدبية، يقرُّ من طرفٍ خفيٍّ بفقرِ المعاني والشكوى من صعوبة ابتكارِ الجديدِ، فيَقبلُ إعادةَ انتاجِ القديمِ بصياغاتٍ جديدةٍ، أو كما يصفُها ابنُ طباطبا بالمحنةِ على أهلِ زمانه أشدُّ " منها على من كان قبلَهم لأنَّهم سبقوا الى كلِّ معنى بديعٍ ولفظٍ فصيحٍ"( ).
إنَّ افضليةَ اللفظِ على المعنى عند الجاحظِ توجّهُ الفهمَ نحوَ شيءٍ محددٍ، هو إنَّ المعانيَ اشبهَ بالمادةِ الخام التي لا تتمايزُ حتى تخرجَ عن حدِّها، فتُركَّب في الفاظٍ. وإذا كان غيرُ العربيِّ يبزُّ العربيَّ بجودةِ الأفكارِ (المادةُ الخامُ)، فإنَّ العربيَّ يتقدمُهُ في البيان (تصنيعُ الأفكارِ). ولعلَّ هذه القسمةَ هي ما يُفهم من حديث قدامةِ بن جعفر حين يقولُ: "إذ كانتْ المعانيُّ للشعر بمنزلة المادَّةِ الموضوعة، والشعرُ فيها كالصورة...الخ"( ). بعبارةٍ أوضحَ: المعانيُ موادٌ طبيعيّةٌ (مركوزةٌ في ذهن الانسان)، والالفاظُ تصنيعٌ انسانيٌّ، والشأن لما يصنعَهُ الانسانُ، لا ما تهبُهُ الطبيعةُ. تستهدفُ عبقرية الجاحظِ هنا هدفين في وقتٍ واحد، الأوّلُ افضليةُ العربيِّةِ على غيرِها، والأخرُ بناءُ البيان على اللفظ دون المعنى؛ دفعا لبيانيَّةٍ أخرى هي بيانيَّةُ المعنى التي هي بيانيَّةٌ غيرُ عربيِّةٍ تصلحُ للترجمة.
كان الشعرُ واللغةُ يسيران في طريق واحد، تُهيئُ فيه اللغةُ ما يُعينُ الشعرَ، ومن السهولة أن نجدَ آثارَ تلك الحسيِّةِ الصوتيَّةِ في العربيِّة، فهي كما يصفُ الدارسون تتوزعُ " في أوسعِ مدرجٍ صوتيٍّ عرفَتْهُ اللغاتُ"( ). وميِّزةُ هذا إنَّنا يمكنُ أن نجدَ لغةً أخرى أكثرَ أصواتا منها لكنَّها محصورةُ المخارج في نطاقٍ ضيقٍ، إمَّا في جانب الشفتين وما والاها أو متزاحمةً في جهة الحلْق. وفي الحالين يكونُ هناك ضِيقٌ في الأفق الصوتيِّ وفقدانٌ لحسِّ الانسجام ( ). "إنَّ قوالبَ الالفاظ وصيغَ الكلماتِ في العربيَّة أوزان موسيقيَّةٌ أيْ إنَّ كلَّ قالبٍ من هذه القوالبَ وكلّ بناءٍ من هذه الأبنية ذو نغمةٍ موسيقيَّةٍ ثابتةٍ فالقالبُ الدالُّ على الفاعليَّة من الأفعال الثلاثيَّة مثلا هو دوما على وزن (فاعل) وكلُّ ما دلَّ على المفعوليَّة من استفعل فهو على وزن (مستفعَل) وكلُّ ما دلَّ على متعددٍ من العقلاء من صيغة افتعل مثلا فهو على وزن (مُفتعلون) وليستْ كذلكَ الصيغُ في الفرنسيَّة والإنكليزيَّة مثلا". ويضيفُ محمدُ المبارك إنَّ " اشكالَ الالفاظ في العربيَّة هي من جهةٍ ابنيةٍ وقوالبَ وهيئاتٍ، ومن جهة أخرى أوزان موسيقيَّةٌ تدركُها الاذنُ بسهولةٍ ويسرٍ فيدركُ السامعُ جزءً من المعنى بمجرد ادراكِه وزنَ الكلمة، واتفاقُ الالفاظِ في الوزن دليلٌ في غالب الأحوال على الاتفاق في قالب المعنى أو نوعه كآليَّة أو المكانيَّة أو التفضيل أو المفعوليَّة"( ). وإنَّ الكلامَ العربيَّ يمكنُ تحويلُه الى رموزٍ موسيقيَّةٍ وأوزان ووحداتٍ تتشابهُ وتختلفُ وتتكررُ وتتناظرُ بما يؤلِّف منها قطعةً موسيقيةً.
يتصلُ بهذا ثراءُ المعجمِ العربي الذي لا يناسبُ شظفَ الحياةِ التي عاشها العربيُّ قبلَ الإسلامِ، فقد عاشَ حياةً فقيرةً في تفاصيلها شحيحةً في ادواتِها، هي كلُّ ما يحتاجُ اليه البدويُّ في صحرائه، وما يطالعُه من حيوان ونباتٍ، إضافةً الى ما يغطي تفاصيلَ حياةِ القبيلةِ المحدودةِ وعلاقاتِها الاجتماعية. وبالجملةِ هي حياةٌ ضيقةٌ مُصْحِرةٌ. وإذا كانتْ اللغةُ تتطورُ بقدرِ حاجةِ المجتمع لها، فإنَّ هذا قد لا ينطبقُ على العربيَّةِ بشكلٍ دقيقٍ. إنَّنا يمكنُ إنَّ نعودَ بثراء المعجم لا الى ثراءِ الحياة العربيَّة وانَّما الى الحاجة الشعرية - إضافة للأسباب التي يبحثُها اللغويون مثل اختلاف اللهجات – التي تتلخص في أنَّه وفَّرَ عدةً فائضةً لعمل الشاعر. إنَّ وفرةَ التفاصيل والاشياء الماديَّة والمعنويَّة يَنتجُ عنها وفرةٌ على مستوى الوحدات اللغوية (العلامةُ اللغويةُ). وحينَ تكونُ هناكَ وفرةٌ لغويةٌ وفقرٌ حياتيٌّ، فإنَّ هذا يمكنُ أن يُفسرَ على أنَّه وفرةٌ في الدالِّ هذه المرَّة وليستْ على مستوى العلامة كاملةً. أي إنَّنا امامَ وفرةِ الدالِّ ومحدوديِّةِ المدلول، وهذا أنتجَ بابا واسعا في الترادف. لا يعني الترادفُ على المستوى الشعري أكثرَ من تعدد الخيارات الصوتيَّة (الدالُّ) للمدلول الواحد. إنَّ النظرَ للمعجم العربي من هذا الجانب يكشفُ، وإن كان على عجلٍ، التأثيرَ الكبيرَ للباعثِ الشعري في ثراء العربيَّة وتطورِها الكبير. يساهمُ هذا التطورُ في تعزيز الشعريةِ الايقاعيَّةِ ببلوغِ درجاتٍ عاليةٍ في مدارج تطورِها، حتى اخذَ التفكيرُ الايقاعيُّ في فهمِ الشعرِ على أنَّه إيقاعٌ قبلَ كلِّ شيءٍ، وهو سرُّ تقدمِه على النثرِ.
من الواضح إنَّ خياراتِ عصرِ التأسيسِ اللغويِّ ستكونُ مؤثرةً إنَّ لم تكنْ حاكمةً في العصور اللاحقة؛ لأنَّ اللغةَ تصوغُ عقلَ الجماعةِ وتوجهُها. وحين يتمُّ تأسيسُ اللغةِ تأسيسا شعريا في مرحلتها الأولى، فإنَّ الفكاكَ عن ذلك في العصور اللاحقة قد يكونُ متعذرا. كلُّ ما هنالك إنَّ اللغةَ تنتقلُ من طورٍ الى اخرَ، كأيِّ لغةٍ أخرى في حدود الطريق الذي سلكته أولا.
في حديثِه عن النظام المعرفيِّ البيانيِّ يقولُ الجابريُ: إنَّ الخطابَ العربي "يؤسسُه فعلٌ عقليٌ واحدٌ أيْ آليةٌ ذهنيةٌ واحدةٌ قوامُها ربطُ فرعٍ بأصلٍ لمناسبةٍ بينهما: أنَّه القياسُ بتعبير النحاةٍ والفقهاءِ، والاستدلالُ بالشاهد على الغائب بتعبير المتكلمين والتشبيهُ بتعبير البلاغيين. إنَّ هذا يعني أنَّ هناك قاعدة base أبستمولوجية واحدة، ولنقلْ نظاما معرفيا واحدا، تؤسسُ الإنتاجَ النظريَّ في العلوم العربية الإسلامية"( ). هذا النظامُ الذي يحتكمُ دائما الى ربط فرعٍ بأصل قد لا يكونُ مقصورا على الإنتاج النظري للعلوم، وإنَّما يتعدّاه، ما دامَ المبدأُ واحدا، الى المجال الأدبيِّ. إنَّ مبدأ التأصيلِ يقضيَ إنَّ يكونَ الشعرُ أصلا؛ فهو ابنُ اللغةِ الأكبرِ والنثرُ فرعُه؛ فهو دونَه وفقا لمبدأ حملِ الفرعِ على الأصل. وصناعةُ الناثرِ فضلةٌ عن صناعةِ الشاعرِ، كما يقولُ القدماءُ ( ). لم يكنْ هذا الحملُ، كما سيتضح لاحقا، مبدأ واعيا وإنَّما هو جزءٌ من اللاوعي اللغوي الذي ظلَّ يمارسُ تأثيرَه في جرِّ الشعرِ نحوَ النثرِ دائما.
ثانيا/ النصُّ الثقافيُّ
ما نقصدُه من النصِّ الثقافيَّ هو تصعيدُ عنصرٍ ثقافيٍّ، لغويٍّ أو غير لغويٍّ، الى مرتبةٍ تُخرجُه عن تكافؤهِ مع عناصرَ مماثلةٍ الى مرتبةٍ علويَّةٍ حاكمةٍ تمنحُه ابوّةً ثقافيَّةً. إنَّ اضافةَ كلمةِ النصِّ الى الثقافة تعتمدُ أوّلا على الدلالةِ اللغويَّةِ للنصِّ (الرفعُ) ليشيرَ الى أنَّ النصَّ لا يكتسبُ هذه الصفةَ الا بعدَ أن يكتملَ وجودُهُ ويخرجَ من يد مؤلِّفه ليدخلَ مرحلتَه الثانيةِ وهي التلقيُ وما ينتجُ عنه من تأثيرٍ، أيْ إنَّ الظاهرةَ الأدبيَّةَ التي بين أيدينا اكتملتْ نصِّيتِها الثقافيِّةِ فانتقلتْ من النصِّيةِ الأدبيَّةِ الى النصِّيةِ الثقافيِّةِ.
حينَ يقومُ الشعرُ مقامَ الأصلِ في الثقافةِ العربيَّةِ، فأنَّه سيتعدى وظيفتَه المباشرةَ الى أخرى تمنحُهُ سلطةً أوسعَ يقاسُ به غيرُه ولا يقاسُ هو بغيره، وليس لشيءٍ أن يرقى لمنزلته، فهو الأبُ وما دونه ليس ابعدَ من ذريته. لقد أعطتْ ابويَّةُ الشعرِ تفضيلا له، تواضعَ الجميعُ على التسليم به. لم يُثرْ كلامُ ابنِ رشيق امتعاضا أو رفضا حين قالَ في مفتتح كتابِه: " كلامُ العربِ نوعان منظومٌ ومنثورٌ. لكلٍّ منهما ثلاثُ طبقاتٍ جيدةٍ ومتوسطةٍ ورديئةٍ فإذا اتفقَ الطبقتان وتساوتا في القيمة ولم يكنْ لأحدهما فضلٌ على الأخرى كان الحكمُ للشعر ظاهرا في التسمية لأنَّ كلِّ منظومٍ أحسنَ من كلِّ منثورٍ من جنسِه في مُعترفِ العادةِ"( ). مِن أين يأتيَ هذا التفضيلُ الذي ليس فيه ما يثيرُ حفيظةَ أحدٍ؟ أنَّه معترفُ العادةِ. قد يكونُ ابنُ رشيقٍ معتدلا حين قصرَ التفضيلَ على تساوي المرتبةِ في أوَّل كلامِه؛ لأنَّ (كلَّ منظومٍ أحسنَ من كلِّ منثورٍ) يطيحُ بكلِّ شيءٍ، ولا يبقى الحكمُ واقفا على احتمالية تساوي طبقة المنظومِ بطبقة المنثورِ. إنَّ احسنيةَ الشعرِ هي ابويَّتِه التي يستظلُ بها كلُّ حسنٍ. وبها صارَ له امتيازُ الأصلِ.
إنَّ امتيازا أخلاقيا مُنحَ للشاعر، أو لنقل توسّعا أخلاقيا قد خُصَّ به، لم يُمنحْ قبل الإسلام للفارس أو رئيس القوم، والعالم أو الفقيه بعد الإسلام؛ جوَّزَ له ما لا يجوزُ لغيرِه. بسببٍ من هذه الابويَّةِ " ليس لاحدٍ من الناس أن يطريَ نفسَه ويمدحَها في غير منافرةٍ الا أن يكونَ شاعرا فإنَّ ذلك جائزٌ له في الشعرِ غيرَ معيبٍ عليه"( ). مهما حاولنا في الأسباب التي تفسرُ ذلك فإنَّنا سننتهي الى الشعر. أبويَّةُ الشعر تعني من بعض وجوهِهاِ ابويَّةَ الشاعرِ التي تُعفي من بعض المسؤوليات الأخلاقية، ومنها هذا الذي يمكنُ عدّهُ استثناءً اخلاقيا. لا يقفُ الامرُ عندَ هذا الحد، فقد تقررَ أيضا " إنَّ مناقضةَ الشاعرَ نفسَهُ في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصفَ شيئا وصفا حسنا ثمَّ يذمُّه بعد ذلك ذما حسنا، بيّنا غيرَ منكر عليه، ولا معيبَ من فعله"( )، والشاعرُ وإن اشتركَ مع صاحب الالحان في الإيقاع لكنَّه لا يعيبُه ما يعيبُ صاحبَه ولا يحطُّ من قدره( )، وهو يكادُ يصلُ مرتبةَ الملوك؛ لأنَّه الوحيدُ الذي يخاطبهم بأسمائهم وأسماء امهاتهم ( ). وفي هذا يفصِّلُ أبو هلال العسكريّ تقدُّمَ الشعر على النثر (الخطب والرسائل)، مع ادراكه أنَّهما "مختصَّتان بأمر الدين والسلطان، وعليهما مدار الدار، وليس للشعر بهما اختصاصٌ"( ). لكنَّ كلِّ هذه الأهميَّة لا يكفي لتقدمهما على الشعر بحال من الاحوال.
لابد أن تكونَ هذه الرعايةِ الخاصةِ دالَّة على اصطفاءٍ ثقافيٍّ يُخرجُ الشعرَ من نصِّيتِه الأدبيَّةِ الى نصِّية اعلى، حتى يكونَ الشعرُ والعروبةُ شيئا واحدا. هذا ما يُفهمُ من كلام سعيد بن المسيب حين قِيلَ له " إنَّ قوما بالعراق يكرهون الشعرَ فقالَ نُسكوا نُسكا اعجميا"( ). كما تلتحمُ دلالتُه بدلالةِ العربيِّةِ وما فيها من فصاحةٍ. يقولُ عبدُ القاهر الجرجانيُّ: وإذا كان القرآن " على حدٍ من الفصاحةِ تقصرُ عنه قوى البشر، منتهيا الى غايةٍ لا يطمحُ اليها بالفكرِ، وكان مَحالا أن يُعرف كونُه كذلك، الا مَن عَرِفَ الشعرَ الذي هو ديوان العربِ"( )، فيقيدُ فهمَ القرآن بمعرفةِ الشعرِ. من المعروف إنَّ ابنَ عباس كان اوَّلَ من نَهجَ هذا ففسَّرَ القرآن بالشعر، وأنَّه كان إذا سُئِل عن شيءٍ من القرآن انشدَ فيه شعرا ( ). ثم توالى هذا النهجُ في النحوِ والتصريفِ والغريبِ والمعجمِ واللغةِ والتاريخِ والأيامِ ونحوِها. كُلُّها تستعينُ بالشعر أو تستدلُ به، حتى يمكنُ القولُ إنَّ العلومَ العربية والإسلامية تأسستْ تأسيسا شعريا، استندتْ اليه في بيان حجتِها أو دليلِها. وذهبَ بعضُها كالنحو الى ابعدَ من ذلك حين قدمَ الشعرَ على الحديث النبويّ في الاستشهاد، مرجّحا الشاهدَ الشعريِّ على الشاهد الحديثيّ، حتى جاءَ الرضيُّ (688هـ) فقدّمَ الحديثَ ( ).
لقد مُنحَ الشعرُ منزلةً عاليةً جعلتْ له نوعا من الهيمنة، اذ هو يضفي على غيره شرعيةً يفتقدها في أصله. لقد جُمعَ هذا كلُّه فيما يُؤثرُ عنهم أنَّه (ديوان العرب). هذا الوصفُ الذي تواترَ عند القدماء ( )، يُجملُ منزلتَه عند العرب. إنَّ كلمةَ ديوان لا تخلو من غموضٍ ناتجٍ عن سعة دلالتها، فالديوان "هو الدفترُ الذي يُكتبُ فيه أسماء الجيش واهل العطاء"( ). مَردُ الغموضِ هو تخصيص الكلمة بالإضافة. كلماتٌ مثل (ديوان الجند) و(ديوان العطاء) و(ديوان الشعر) تبدو أكثرَ وضوحا من المعنى الناتج عن إضافة الكلمة الى العرب. ما عسى دفترَ العربِ أنْ يحويَ؟ مِن الواضح إنَّ صرفَ المعنى الى مفاخر العرب ونحوها، كما قد يتبادرُ لبعضهِم، صرفٌ غيرُ صحيح؛ لأنَّ شعرَ العرب، قبل الإسلام على اقل تقدير، كانَ أكثر من أن يُحصى( )، ومن ثمَّ فإنَّ هذا الكمُّ لا يمكنُ قصرُه على معانيَ محددةٍ هي تلك المفاخر. لابدَ من حمل المعنى على كلِّ ما تركتهُ العربُ في اشعارها، بلا تمييزٍ بين معانٍ وأخرى. الشعرُ هو المُعرِّفُ بالذات والحاملُ لتاريخها، وحين يكونُ هو المُعرِّف بالعرب، فإنَّ فقدَ المُعرِّفِ فقدٌ للتعريف، أو هو العودةُ الى التنكير. مهمةُ الشعرِ الإبانةُ والكشفُ، وما لا يكشفُه الشعرُ لا سبيلَ له. تتساوى وظيفةُ الشعرِ هنا بوظيفة اللغة، وهي ليستْ بعيدةً عنه بوصفها اداته، إنَّ المماهاةَ بين الشعرِ واللغةِ تقرّبُ كثيرا من فهمِ تعلِّقِ العربيِّ بالشعرِ، فالشعرُ واللغةُ يحققان التواصلَ، فهما مجازان بين الإنسانِ والعجماوات. فَقدُ الشعرِ مثلُ فَقدِ اللغةِ، هو فَقدٌ للإبانةِ ونكوصٌ الى العيِّ والحصرِ. يضعُ هذا في وجدان العربيِّ مماثلةً عميقةً بين الشعرِ واللغةِ، فيكونُ الشعرُ عندَه الحدُ الذي يَخرجُ به من الطبيعةِ الى الثقافةِ، فهو عمودُها الأوّل الذي يستظلُ به غيرُهُ. لا فرقَ بين اللغةِ والشعرِ في الفهم. غيرَ إنَّ الشعرَ هو ثمرةُ اللغةِ الأولى وكنزُها الأكبرُ فلا يستقيمُ امرُها الا به، أي لا يستقيمُ الفهمُ الا به، فهو إنَّ حضرَ حضرتْ معه، بخلافِ اللغةِ فإنَّ حضورَها يعني حضورَ الشعرِ وغيرِه. الشعرُ يستبطنُ اللغةَ، واللغةُ تستبطنُ الشعرَ وغيرَهُ. الشعرُ كينونةٌ لغوية نقيّة فهو اتمَّ، واللغةُ كينونةٌ هجينةٌ من اخلاطٍ (الشعر، الكلام، الأمثال.. الخ). هكذا يمكنُ أن نفهمَ الشعرَ على أنَّه قرينُ اللغةُ دائما فتُسندُ اليه وظيفةُ التفسير. لقد اقصى الشعرُ كلَّ ما عداه، حتى جاءَ في الخبر عن الخليفة عمرَ بن الخطاب أنَّه "علمُ قومٍ ليسَ لهم عِلمٌ أصحَّ منه" ( ).
إنَّ قصرَ العلمِ على الشعر يجعلُه ديوانَهم، والسبيلُ الى العرب لا يعرفُ سوى طريقٍ واحدٍ، أو في اقلِّ تقديرٍ ثمَّةَ طريقٌ واحدٌ متفق على التسليم به. حصرُ المهمةِ بالشعر يجعلُه مصدرَ المعرفةِ بالعربِ، فيكونُ الامرُ على إنَّ الحاملَ (الشعر) بمنزلة المحمولِ (العرب). يتحققُ قدرٌ من التكافؤ بين الشعرِ والعربِ، فلا يبعدُ عن الصوابِ حين نقولُ: العربيُ شعرٌ والشعرُ عربيٌّ. تنتهي العلاقةُ الرياضَّيةُ بين (العربِ والشعرِ والديوانِ) الى المماثلة بينها جميعا. الديوانُ هو العربُ، على نحوِ التعريفِ (التعريفُ والمعرَّفُ)، والديوانُ والشعرُ واحدٌ على نحو الترادف، فلا يبقى امامنا الا أن نماثلَ بين العربِ والشعرِ بالمعنيين معا: التعريفُ والترادفُ. يضعُنا هذا بصورةٍ أوضحَ امامَ ما ينقله ابنُ رشيق عن الإمام علي بن ابي طالب: "الشعرُ ميزانُ القول، ورواه بعضُهم الشعرُ ميزانُ القوم"( ). كأن القومَ يساوون القولَ. تماثلُ الروايةُ بين الشعر واللغة (القول) مرّةً، والشعرِ والعربيِّ (القوم) مرّةً أخرى. والطريفُ أنَّها تجعلُ الشعرَ ميزانا في المرَّتين. هكذا يمكنُ أن يستقيمَ لنا فهمُ (الشعر ديوان العرب). حين يخرجُ الشعرُ عن هذه الحدود فإنَّه يخرجُ عن نصِّيته الأدبيَّةِ الى النصِّية الثقافيَّة، أي ينتقلُ من المؤثِّر الجزئي الى المؤثِّر الكلِّي فتتسعُ دائرتُهُ لتشملَ الثقافةَ عامةً. من جانبِه لم يبلغْ النثرُ هذه المنزلةَ، فبقيَ في حدود نصِّيته الأدبيَّةِ، فهو أدنى مرتبةً على امتداد التاريخ، حتى حين ارتفعَ شأَنُ الناثرِ في بلاط الدولةِ في كتابة الدواوين لم يبلغْ أيَّاً من امتيازات الشاعرِ. وهنا قد يصحُ لنا أن نستعيرَ مقولةَ هايدغر: الشعرُ بيتُ الوجودِ العربيِّ.
افضليةُ الشعرِ جعلتْ النثرَ يسعى دائما نحوَ اللحاقِ به لبلوغ بعضِ منزلتِهِ، فصارَ من المأنوس أن يشتركا في عددٍ من السمات التي نجدُها في النثرِ كما نجدُها في الشعرِ، ولعلَّ في قولِ النقادِ القدامى (حسنُ الديباجة) ما يُجملُ ذلك.
إذا نظرنا الى علاقةِ المجاورةِ بين الشعرِ والنثرِ، فإنَّنا يمكنُ أن ننتهيَ الى ما يقولُه كيليطو: "المقامةُ إطارٌ للشعر والنثر في الآن ذاته"( )؛ لأنَّهما قبلَ القرن الرابع كانا منفصلين. لكنْ إذا نظرنا ابعدَ من ذلك، وخرجنا عن حدود التمايزِ الشكليِّ الذي يفصلُ بين الشعرِ والنثرِ نستطيعُ أن نهتديَ الى أنَّ الشعرَ حاضر في النثر منذ عصره الأول. هناك ذهنيةٌ بيانيةٌ واحدةٌ تملي اختياراتها على كلِّ ممارسةٍ لغويةٍ رفيعة. لا نفهمُ إنَّ الفصل بينهما تحت معيارِ الإيقاع يجعلُ للشعر بيانيةً مختلفةً عن تلك التي للنثر، اذ كانَ العقلُ الشعري يعبّرُ عن نفسه بأساليب مختلفة شكلا متحدة جوهرا. لا يعدو هذا الاختلاف الا أن يكون تنويعا اختبرَ العقلُ الشعريُّ نفسه بإخفاء المتشابه تحت المختلف. هذه هي حقيقةُ العلاقة بين الشعر والنثر في ضوء تصور معينٍ للبيانيَّة العربيَّة التي لم يكن الشعرُ مجالَها الوحيد، إنَّما تمددتْ الى الجسدِ اللغوي كاملا: (الشعر، سجع الكهان، الخطابة، المثل... الخ). وربما كان سجعُ الكهانِ الحلقةَ الوسطى بين الشعر وما دونه؛ لأنَّ قيودَه اقلَّ من الشعر وأكثرَ من النثر. لا يقعُ التمايزُ على المعيار الايقاعي، وانَّما على عدد القيود التي يخضعُ لها القولُ. الشعرُ أكثرُ قيودا من النثر؛ هذا وجه أفضليِتِه، فالشعرُ نثرٌ وزيادةٌ، أعطيتْ له القيادةُ البيانيَّة، فصارَ رأسَ قبيلةِ البيانِ العربي وفخرَها. ثمة وحدةٌ بين اشكالِ البيان تشبهُ وحدةَ القبيلة، وهناك تراتبٌ محفوظٌ فيها. هكذا تبدو دائرةُ البيان العربيِّ لمن يفتِّشُ عن الخيط الناظم لها: النسبُ الواحدُ والتراتبُ المحفوظُ. وما حصلَ في المقامات هو تجاورُ الشعرِ والنثرِ لأسبابٍ، لكنَّها مجاورةُ أبناء العمِّ لا الغرباء. إذا قُدِّر لأبناء البيانِ أن يسيروا بأودية مختلفة قبلا، فإنهما في المقامات قد جمعهما وادٍ واحدٌ ليس أكثر. تدنيهما صلاتُ القرابةِ وإن افترقا في غير المقامة، وكثيرا ما يُردفُ العربيُّ حديثَه بالشعر، أو كما يقولُ القدماءُ: تمثَّلَ قائلا. ليستْ هناك خصومةٌ حتى يحدثَ مثلَ هذا اللقاء في القرن الرابع. يقول كيليطو بعد ذلك ما يؤيدُ هذا: "إنَّ شعريَّة الكتابة المرموزة تدفع بالناثر الى استخدام الاشكال الأسلوبيّة ذاتها (كذا) التي يستخدمها الشاعر، وأن يلجأ الى القافية التي [...] تدخل ايقاعا للقراءة – الاستماع مغايرا لإيقاع القصيدة [...] لكنه إيقاع تمليه في مبدأه إرادة محو الحدود بين النثر والشعر"( ). أي إنَّ العُدَّةَ البيانيَّةَ واحدةٌ للشاعر والناثر، وليس للشعر حِمى لا يبلغُه النثر سوى الإيقاع الذي احتال عليه النثر بما ابتدع من بدائلَ صوتيَّة كالسجع والترصيع وغيره، مما يعطي تأثيرا ايقاعيا موازيا للتأثير الشعري، فهما البلاغتان، كما في عنوان مُؤَلَّف المبرّدِ (رسالة البلاغتين)، والصناعتان بتعبير العسكري، اذ تختفي الحدود الأجناسيّة حين يتصلُ الامرُ بالبلاغة ويبرزُ المعيارُ البلاغيُّ في المفاضلة.
لقد وقعتْ الثقافةُ العربيَّةُ في اسر العقلِ الشعريِّ حين ميزتْ بين الشعر والنثر. يكفي أن نجريَ موازنةً سريعةً بين ما يميزُ به أرسطو بينهما وما تعتمده الثقافةُ العربيَّةُ من معيارٍ للفصل. يرى أرسطو أنَّ الفصل بين النظم والنثر هو المحاكاة وليس الوزن، ويستدل أنَّ نظمَ مقالةٍ في الطب لا يجعلُ من ناظمِها شاعرا وإن استعملَ الأوزانَ العروضيَّة التي يستعملها الشاعرُ ( ). يقولُ: "ليس بالتأليف نظما أو نثرا يفترقُ الشاعرُ عن المؤرِّخ. فأعمالُ هيرودوت كان يمكنُ أن تصاغَ نظما، لكنها – مع ذلك – كانتْ ستبقى ضربا من التاريخ سواء كانتْ منظومةً، أو منثورةً. بيد أنَّ الفرقَ الحقيقيَّ يكمنُ في أنَّ أحدهما يرى ما وقع، والأخر ما يمكنُ أن يقعَ"( ). من الواضح إنَّ أرسطو يقصي العاملَ الإيقاعيَّ من أيِّ تمييزٍ، ذاهبا الى ما يحاكي وما لا يحاكي. أما عربيَّا فنكتفي بحدِّ الشعرِ عند قدامة بن جعفر الذي يقولُ فيه: "قولٌ موزونٌ يدلُّ على معنى". ثم يأتي بعد ذلك على شرح ذلك الحدِّ بالجنس والفصل على عادة المناطقةِ في التعريف: "وقولنا (موزونٌ) يفصلُهُ مما ليس بموزون، اذ كان من القول موزون وغير موزون"( ). إذا كان القولُ جنسَ الشعر، فإنَّ الوزنَ فصلُهُ. وهنا لا تتمايزُ المنظوماتُ النحويَّةِ ونحوِها عن أيِّ قصيدةٍ؛ مادامتْ تحوي جنسَ الشعرِ وفصلِهِ، حتَّى قِيلَ: "إنَّ القريضَ قد تزيَّنَ من الوزنِ والقافية بحلةٍ سابغةٍ ضافيةٍ، صار بها أبدع مطالع...الخ"( ). لا تدخلُ اللغةُ والصورةُ والاخيلةُ في صلب التمييز. إنَّ قصرَ الفصلِ على الإيقاع يجعلُ ما عداه مشتركا بين الشعر والنثر، أو بتعبيرٍ منطقيٍّ يصبح عرضا لا جوهرا، فلا يدخلُ في حدِّه، بل هو عرضٌ مشتركٌ بين أكثر من جنس كالنوم عرض للإنسان والحيوان. النثرُ وإن بلغَ غايةَ الجودةِ فإنَّ الشعرَ ساواه في جميع ما بلغَه وتفرَّد عنه بالوزن والقافية، كما يصفُ المرزوقيُّ ( ). إنَّ الشعرَ في كلِّ الأحوال هو النثرُ وزيادةٌ، كما تقدمَ. وهذا يفسرُ افضليَّةَ الشعرِ التي هي افضليةٌ أساسُها العقل الشعري. إنَّ الالحاحَ على هذا المعيار جعلَ العناصرَ الأخرى مشتركةً، فلا يُمنعُ النثرُ من أن يسابقَ الشعرَ في (حسن الديباجة) التي هي على الأغلب الأساليبُ البلاغيَّةِ من تشبيهٍ واستعارةٍ وكنايةٍ وعمومِ المجاز. وإذا افترضنا أنَّنا إزاءَ عنصرين: العنصرُ الايقاعيُّ والعنصرُ الجماليُّ، فإنَّ الأخيرَ قدرٌ مشتركٌ بين الفنين. من الواضح إنَّ النثرَ هنا، بسبب العقل الشعري يزاحمُ الشعرَ في استعمال الأساليب الشعريَّةِ، أي ما يكونُ به الشعرُ شعرا غيرَ الوزن. هذه المزاحمةُ كانتْ واضحةً في أساليب الناثرين. يقولُ ابن خلدون: "وقد استعملَ المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الاسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثورُ من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا الا في الوزن"( ). أي إننا سنكون وفقَ هذا التزاحمِ امامَ شعرٍ موزونٍ وشعرٍ غيرِ موزونٍ، وهو امرٌ يقودُ الى اختفاء هويَّةِ كلٍّ من الجنسين عبر ذلك التمازجُ والاشتراك. من الطريف إنَّ نُلفتَ الى أنَّ افضليةَ الشعر على ما دونه (نصَّيته الثقافيَّة) هي السبب وراء سعي النثر ليكون شعرا ناقصا الوزن؛ التحمَ به على المستوى الجمالي، فغارَ الناثرون على عدّةِ الشعر فاستباحوها وتوسَّعوا فيها. لا حدودَ بين الشعر والنثر، وليس لكلٍ اساليبُه الخاصَّة، حتى صارتْ منافسةُ النثر منافسةً داخليةً وليستْ خارجيةً. أي إنَها تنافسُ الشعرَ من داخله باستعمال ادواته وليس بأدواتٍ خارجيَّةٍ جديدةٍ تبعده عنه وتضعُ حدَّا بينهما. فليس من الغريب أن يدخلَ النثرُ بابَ الشعر في الأغراض. كتبَ بديعُ الزمان الهمذاني عددا من مقاماته مدحا، كما كتبَ لاحقون مقاماتٍ مدحيَّةً أيضا ( ).
حين تتلاشى الحدود لا يبقى للأجناس الأدبية استقلالٌ عن بعضها؛ لأنَّنا في النثر امامَ شعرٍ ناقصٍ، وفي الشعر امامَ نثرٍ زائدٍ؛ لذلك لا يميزُ القيروانيُّ، على سبيل المثال، بين الشعر وغيره حين يستعرضُ عددا من النصوص في وصف الفرس. فبعد أن يعرضَ لأشعار ابن القِرَّية وتأبط شرا وعقبة بن سنان صعودا الى ابي تمام والمتنبي، يورد مقامة للهمذاني يصف فيها فرسا ( ). لا فرق أن يردَ الوصفُ بين الشعر وغيره. كانتْ الأغراضُ هي التقسيمات الرئيسة التي يندرج تحت كلِّ باب منها شعرٌ ونثرٌ بلا تمييز. وغير ذلك مما نبَّه اليه الدارسون المحدثون من أساليبَ شعريَّةٍ وجدتْ طريقا وإن بشكل متنكِّرٍ الى المقامات أو كتبٍ نثريَّةٍ سلكتْ طريقَ الأغراض الشعرية ( ). بل كان بديعُ الزمان يكتبُ الشعرَ أحيانا بهيئة النثر على بحر الهزج، كما يُدلُّ سعيدُ الغانميّ ( ). وفي هذا يلتفتُ كيليطو التفاتةً ذكيةً الى العلاقة بين اختيارات البديع والمؤثِّر الشعريِّ. يقولُ: "لن يتغير تركيبُ المقامة لو حلّ اللصُ محلَّ المُكدّي، لكن معنى المؤلَّف سيتلاشى ويفقدُ كلَّ حافزٍ تاريخيٍّ. إذا كان اختيارُ الهمذاني قد وقعَ على المكدِّي، لا على اللص، فلأنَّ هذا الأخيرَ لا يمتلك أيَّة مماثلة بالشاعر (وعموما مع الاديب)، في حين إنَّ المُكدِّي يكشفُ عن هذه المماثلة"( ). بل إنَّ تركيبَ المقامة لا يبقى نفسَه لو اختارَ المؤلِّفُ شخصيةَ اللصِّ؛ لأنَّ الأخير لا يماثلُ الشاعرَ، والشعرُ هو الركنُ الأوَّلُ في المقامة وغيابُه يطيحُ بها. لهذا فإنَّ الشعرَ يعملُ دائما في خلفية النثر ليكون موجِّها.
بموازاةِ كلِّ ذلك ظلَّ تلقي المقامات، وهي أحدُ اهمُّ اجناسَ النثر العربيِّ القديم، على امتداد تاريخها تلقِّيا شعريَّا، اذ كان يُطلبُ منها إنَّ تنمّيَ الشعرَ لا غيرَهُ، وإنَّ السرَ الذي جعلها تجوبُ الآفاقَ شرقا وغربا وتصلُ الأندلسَ هو محتواها الشعريِّ، كما سيتضحُ لاحقا. لقد كان تطويرُ السرد على حساب الشعر في المقامات سباحةً ضدَ التيَّار، أقدمَ عليها البديعُ بطريقةٍ يمكنُ وصفُها بالمبتكرة، حتى بدتْ أنها مع التيَّار لا ضدَه. أطبقَ الشعرُ على معاييرَ الذائقةِ العربيَّة فصارتْ معه ذائقةً شعريةً، انتجتْ عصرا طويلا من التلقِّي الشعريِّ؛ جعلَ الاجناسَ الأخرى تتصلُ بأسبابِه لتكتسبَ شرعيةَ وجودها أو لتدخلَ، كما يعبِّر أحدُ الدارسين، المعتمدَ الأدبي( ) أو ما نسميه النصَّ الثقافيَّ، في ذائقةٍ تقاومُ كلَّ ما هو غير شعريٍّ.
إنَّ الانتسابَ للشعر كان سلاحا ذا حدين، فهو إن سمح بتمريرِ اجناسٍ غير شعريَّةٍ لتكونَ مقبولةً، فأنَّه جعلها تتماهى معه نقديا. تقفُ الى جنبه ولا تقفُ قبالتَه، أو هي أولادُهُ وليستْ أبناءَ عمومته. أبوةُ الشعرِ وضعتها معه على حدِّ معيارٍ واحدٍ. فلم يكن البحثُ عن شعريَّة الشعر يقابلُهُ البحثُ عن شعريَّة النثر، وإنَّما البحثُ عن شعريةِ الشعر في النثر أيضا. يضعُنا هذا امامَ مفارقةِ التلقِّي العربيِّ، وهو (ما يجعلُ من النثر شعرا). لم يكن في ذلك الأفقِ ما يزيحُ رداءَ الشعر عن كاهل النثر؛ ليراه نثرا خالصا يفرضُ البحثَ عن ادبيَّته هو الاخر.
لقد مارستْ وصايةُ الشعرِ مصادرةً على النظريَّة الأدبيَّة غير الشعريَّة. الأمرُ الذي جعلَ نقدَنا نقدا شعريَّا لا نصيبَ فيه للنثر، بما يسوِّغُ القولَ إنَّ نظريَّة النثرِ لا وجودَ لها في مدونتنا النقدية. مردُّ ذلك، كما تقدمَ هو التلقِّي الشعريَّ الذي نظّمَ التعاطيَ مع النصوص الأدبيَّةِ على أساسِ ما تحملُهُ من شعريَّة. دليلُ هذا إنَّ التلقِّي النقديَّ اليوم يختلفُ اختلافا بيِّنا في المفاضلة بين الهمذاني والحريري عن التلقِّي القديم. فَضّلَ القديمُ الحريريَّ الى الدرجة التي شطب فيها على الهمذاني، أو كما يُعبِّر القلقشنديُّ صيَّر مقاماته كالمرفوضة ( )؛ لسببٍ واضحٍ إنَّ شعريَّةَ مقاماتِه اعلى من سلفه. بينما استعادَ التلقِّي الحديثُ منزلةَ البديعِ المفقودةَ، ففضَّله؛ لأنَّ سرديَّته اعلى من خَلَفه. تلقِّيانَ مختلفان للنصَّين نفسيهما؛ لا يقفُ وراءَهما إلا ابجدية التلقِّي المختلفة (الشعريَّة قديما والسردية حديثا). وقد يصحُ القولُ: (قلْ لي أيّا تفضلُ، أقولُ لك من أيِّ عصرٍ انتَ).
ثالثا/ المقامات من التأسيس الى التلاشي
تتجاوزُ مكانةُ الشعر في الثقافة العربيَّة حدودَ الجنس الادبيّ إلى ما يشبهُ المظلّةَ الثقافيّةَ الواسعةَ التي اباحتْ لنا تسميته بـ (النصِّ الثقافيّ) الذي يَعني إنزالَ الشعرِ منزلةَ الأب في أن يكونَ له نوعٌ من الوصاية على ابنائه. وقد أُعطيَ، تبعا لهذا، الشاعرُ مكانةً لا ينافسه فيها فارسٌ قبل الاسلام أو عالمٌ بعد الاسلام. حين تَمنحُ الثقافةُ مثلَ هذه المنزلة للشعر فإنها تعطيه سلطةً على ما دونه من اجناسٍ أدبيّة، أو تدفعُ بهذه الاجناس لترى فيه كمالَها المنشودَ. وحتى تبلغَ الجودةَ المؤمّلة لها، عليها أن تسلكَ طريقَ الشعر أو تستحضرَ عددا من الاليات الشعريّة كالأساليب البديعيّة وعموم المجاز، بلا فرقَ كبيرٍ بين جنسٍ وآخرَ. لقد كانتْ ابويّةُ الشعر وتطلّع النثرِ اليه سببا في إزاحة الحدود بين هذه الاجناس المختلفة، فصرنا نرى ما هو الصقُ بالشعر مستعملا في النثر، حتى زاحمَ النثرُ الشعرَ في شعريته.
سنعمد هنا إلى شيء من الموازنة بين تطور الدراما الاغريقيّة وتطوّر المقامات العربيّة، وإنْ لم تكن بينهما صلة تأثير؛ لبيان المنطق التاريخي الذي حكم مسارِ حركةِ المقامات قياسا بمثيلتها. ثمَّة فرقٌ كبير بين عرض المقامات على نموذجٍ سرديٍّ معاصر مأخوذٍ عن نصوص سرديَّة مكتملة، وبين عرضها على مسار تطور جنس سرديّ. النموذجُ المعاصر بما يتسمُ به من تزامنيَّةٍ يستبعد تطوّرَ النصوص التي صِيغَ عنها. ما تقدّمه الروايةُ أو القصَّة القصيرة من نموذج هو حصيلةُ تطورِ عدد من القرون بوتيرة شديدة التسارع. في النموذج المعاصر تختفي ملامحُ الضعف في رواية القرن الثامن عشر وما قبلها، لتبرز ملامحُ النصوص المعاصرة التي تَحقق فيها للرواية أو القصة تطورُها. انتقلتْ الروايةُ والقصَّة في القرن العشرين من مسار التطور إلى مسار التنويع. أي حدثَ تغييرٌ بنيويٌّ كبيرٌ في حركتها التاريخيَّة؛ لأنها صارتْ تنتقل في مراتب المستوى الافقي من خطٍّ تنويعيٍّ إلى خطٍّ اخر (الواقعيَّةُ النقديَّة، الروايةُ الجديدة، الواقعيَّةُ السحريَّة، اليمتا رواية... الخ) بعد أن كانتْ تنتقل عموديا على مسار خطٍ واحد. صارتْ الروايةُ، وهي تجتهد في حركتها الافقيَّة، أن تلبّي شرطَ عصرِها، وهو متغيّر من مرحلة الى أخرى. بعدَ أن كانتْ تلبّيَ شرطَ تطورِها في المسار العمودي قبل ذلك. كانتْ في مرحلتها الأولى في حركة داخليَّة بحتة، ثم انتقلتْ الى حركةٍ مرآوية تعاينُ الداخلَ (الرواية) بعين الخارج(الحياة). وحين كان الخارج لا ثباتَ له، فإنها هجرتْ فكرةَ النموذجِ الثابت. صار النموذجُ ليس شكلا محدَّدا للرواية يتّبعه الكتّاب، وانّما تلك اللحمة بين حركة الحياة والتمثيل الفنِّي لها..
أيُّ نموذج جاهزٍ هو نموذجٌ تزامني منزوع التاريخيَّة. والمقامة – حسب ما نفترض – نصٌّ في طور التكوين، أو نصٌّ لم يكتبْ له أن يمرَّ بالحركة التاريخيَّة فتتعاقب المراحلُ وينتقل الشكلُ الفنِّي من حالٍ أوَّلي إلى اخر أكثر تطورا وتعقيدا، حتى يبلغَ مرحلةَ النضجِ فيخرج من عباءة أيّ جنسٍ ادبي كان تحته، ليعيش لشروطِه الخاصة، لا شروطَ فنٍّ اخرَ.
لابدَ أن تأخذَ بهذا القيد الزمني أيُّ محاولةٍ لرسم نظريتها؛ لأنّنا نفترضُ أنه كان مقدّرا لها أن تمرَّ بمراحلَ حركتها العموديَّة حتى تأتيَ على اخرها، وفق مبدأ السيرورة التاريخيَّة لتطور الاجناس الأدبيَّة.
يحدثُ إن تنشأ الاجناسُ الأدبيَّةُ الوليدةُ إلى جنبِ جنسٍ قديم وارف الظلال، ومثلها كان الشعرُ قد نشأ إلى جنب الطقوس الدينية الموقّعة التي كانتْ تقامُ لإرضاءِ قوى الطبيعة( )، حينذاك تمّ تمريرُ تفاصيل من تلك الطقوس إلى المحاولات الشعريّة الأولى حين بدأتْ تشبُّ عن طوق الدين. يحكمُ هذه الحركة الجدلية ما يمكن تسميته بـ(مسار التأسيس) أو (مسار التلاشي). لكلِّ مسارٍ مرحلتان، يتكوَّن مسارُ التأسيس من (مرحلة التعزيز ومرحلة الازاحة). بينما يتكون مسار التلاشي من (مرحلة الاستدماج ومرحلة الاستحواذ). والقصد هنا هو إنَّ العناصرَ القديمة في الجنس الجديد امّا أنْ تتمكن منه فتعيدُه بشكلٍ ما إلى جنسها القديم حين تزرعُ عددا من سماتها فيه، أو تُكتبُ الغلبةُ للجنس الجديد فيتمكَّنَ منها ويذيبها في بنيةٍ جديدة تفقدُ صلاتها مع ماضيها. في مسار التلاشي يمرّ الجنسُ الجديد بمرحلة الاستدماج التي فيها قدرٌ كبير من هجنةِ؛ مبعثها وجودُ سماتٍ تعودُ لأجناسٍ قديمة مع سمات جديدة. إذا كان للاستدماج ما يبرّره تاريخيَّا، فإنّ الوصولَ إلى مرحلة الاستحواذ، أي الانتقالُ منه الى ما بعده، يستوجبُ الكشف عن الأسباب التي قادتْ إلى قَبْر الجنس الجديد؛ لأنّ الأمرَ سار خلافا لمنطق التطوّر الذي سلكته الدراما اليونانيّة مثلا، في أن تكون هناك، بالموازاة عواملُ تثبيتٍ تمنعُ الوصولَ إلى الاستحواذ الذي يعني تلاشي الجنس الأدبيِّ الجديد. الاستدماجُ يشبه التطعيمَ الذي يأخذه الانسانُ لتنشيط جهاز المناعة؛ فلابدّ أن يؤخذ على حذر، وهو ما تحقق مع الدراما اليونانية.
نشأتْ الدراما عن الجوقة، وهي الجماعةُ التي تواجه الجمهور وتؤدِّي أناشيدَ واغانٍ جماعيَّةٍ لأسباب طقسيّة مختلفة، لكن الموقع البنيويّ للجوقة أصابه تغييرٌ كبير من مرحلة إلى أخرى. وقد حكى أرسطو أن التراجيديا نشأتْ عن تطوير الأغاني الجماعيّة (الديثورامبس)، ومثلها نشأتْ الكوميديا عن الأناشيد الاحليليّة( ). ومن الطبيعي أن تظهرَ سماتُ هذه الأغاني سواءً كانت الديثورامبس أو الاحليلية في النصوص الدراميّة من خلال ما نسمّيه التمريرَ.
كان ثيسبيسُ هو من أحدثَ النقلةَ النوعيّة من الغناء إلى الدراما حين اوجدَ الممثِّلَ الأوَّل في مقابل المغنِّي أو الراقص، أي اوجدَ ممثّلا على خشبة المسرح إلى جنب المغنّي، فتمّ الانتقالُ بشكلٍ اوَّليّ من قصائد الديثورامبس الانشادية إلى الدراما. ولم يكنْ للدراما، في مستهلِّ الامر، أن تنشأ عن وجودِ الممثّل الأول، اذ كانتْ مهمتُه مقتصرةً على أن يقفَ قبالةَ افراد الجوقة ويجيبَ عن اسئلتهم؛ لهذا تعني كلمةُ ممثّل في اليونانيّة المجيبَ( ). لا يمكنُ أن يُنظرَ لعمل ثيسبيس على أنّه عملٌ بسيط؛ لأنّه وضعَ الاغنيةَ الديثراميّة في طريق الدراما لمن سيأتيَ بعده.
لا يتحققُ جوهر الدراما (الصراع) الا مع وجود الممثّل الثاني؛ لأنّ الصراعَ يتحققُ بتعارض ارادتين في الحد الأدنى، فيحدثُ التوترُ الذي هو عصبُ الصراع، وهو ما كانتْ اعمالُ ثيسبيس تخلو منه؛ لاقتصارها على ممثّل واحد. لقد تحقّقَ هذا على يد اسخيلوس الذي اوجدَ الممثّلَ الثانيَ؛ لهذا سُمّي بأبي التراجيديا( ). المهمُ هنا ما يقوله أرسطو بهذا الصدد، إنّه "قلّلَ من أهميّة الجوقة عن طريق اختزال اناشيدها؛ وجعل للحوار الأهميّةَ الأولى في المسرحيّة"( ). من الواضح إنّ علاقةً عكسيةً تنشأ بين مسار التأسيس ومسار التلاشي، فكلما زادَ عنصرُ التعزيز (المرحلة الأولى في التأسيس) الذي يشدُّ النصَّ إلى جنسه الجديد ضَعُف الاستدماجُ (المرحلة الأولى في التلاشي). يمثّلُ هذا في الدراما تناميُّ عددِ الممثلين (التعزيز) مقابلُ تضاؤل الجوقة (الاستدماج). تحتلُ الجوقةُ في مسرح ثيسبيس "موقعَ المركز في دائرة العمليّة المسرحيّة برمتها. ذلك إن الدراما كانتْ لاتزالُ في جوهرها ملحمةً غنائيّةً لا تمثيليّةً دراميّةً. ومن بعد التطور الذي ادخله اسخيلوسُ انتقل مركزُ الثقل من الأوركسترا (مكان الجوقة) إلى منصّة التمثيل. ولم تعد الجوقةُهي العنصر الغالب، فتقلصتْ مشاركتُها في الحوار الدرامي ونقصَ حجمُ اغانيها ولم تعد تلعبَ دورَ البطولة الأولى"( ). خطى بعد ذلك سوفوكلسُ خطواتٍ كبيرة في تطوير الدراما بإضافة عناصرَ تعزيزيّةٍ جديدة تمثَّلتْ بإدخالِ الممثّلِ الثالث والمناظرِ المرسومة، كما يشيرُ أرسطو( ). وهذا ما قلّصَ إلى حدٍ كبير عنصرَ الاستدماج (الجوقة). لا يمكنُ تطويرُ أيَّ جنس ادبي الا من خلال تعزيز مسار التأسيس ومقاومةُ مسار التلاشي بإضافة عناصر تعزيزية حتى بلوغ الازاحةَ التي يكون عندها الجنسُ الجديدُ استقلَ تماما وتخلّص من رواسب القديم. أي إنّ تناميَ التعزيز سيقودُ إلى مرحلةِ الازاحة بوصفها المرحلة الأخيرة في التأسيس.
يمكنُ لنا أن نقابلَ بين الجوقة في الدراما والشعر أو المؤثر الشعري؛ لأنَّ المقامةَ نشأتْ في أجواءِ سيادة النزعة الشعريّة وتحوّلُها الى النموذج الوحيد. لا يختلفُ حضورُ الجوقة أو المؤثر الشعري فيهما، لكنّ الامرَ سارَ بطريقين مختلفين. إنّ عنصرَ الاستدماج في الدراما لم يُكتب له أن يبلغَ مرحلةَ الاستحواذ، اذ كانتْ قد تحررتْ من الشخصيات فوق البشريّة عبر ادخال الشخصيات البشرية، فنزعَ المسرحُ الثوبَ الديني تماما وتحولَ إلى مسرحٍ انسانيٍّ بعيدٍ عن سادة الأولمب. لا يمكنُ للأصول المُنشئة (الاستدماج) أن تختفي بسرعة؛ لأنّ وجودها ضروريٌّ في دعم التأسيس، ثم يأخذُ عاملُ التعزيز عملَه؛ لمنع فشل الجنس الجديد وتلاشيه، عبر مواجهة الاستدماج بزخم مستمر من التعزيز. أيُّ زيادةٍ تعزيزية سيقابلها تراجعٌ في الاستدماج، أيْ الخروج عن سلطة النصّ الاصل وحين يكون التعزيزُ (إضافة ممثلين جدد، إضافة مناظر، توسيع الحبكة) قد بلغَ ذروته (مسرح يوربيدس)، فإنّ الدراما قد صفّرتْ عناصرَ الاستدماج وازاحتها تماما، ولم ينتقلْ الاستدماجُ من التأثير الإيجابي إلى التأثير السلبي في إعاقة النمو الداخلي.
ابتدأتْ في المقامة عواملُ الاستدماج (الأدوات الشعرية) قويّةً، اذ عمد البديعُ الى كلِّ الأساليب البيانيّة فرصّع بها مقاماتِه، وزاد عليه الحريريُّ، وهو اذاك لم يخرج عن الاعتدال والقبول، لكن مقاماته سحرتْ النفوسَ بما حوته من بيانٍ آسر واسجاعٍ مؤثرة. وهنا تكون المقامةُ قد شقّتْ طريقا واسعا نحو الشعريّة، لم تتمكن معه عواملُ التعزيز (الأدوات السردية) من اضعافها لاحقا ابتداء من الحريري. ما حدثَ إنّ مسار التلاشي تمكّن من مسار التأسيس، فحين لم يضفْ المقاميون اللاحقون أدواتٍ سرديةٍ جديدةٍ تعززُ المسارَ لتنتهي به إلى الازاحة، ازدادَ منسوبُ عناصرِ الاستدماج في نصوص المقامة. ومع كلِّ زيادة بما فيها العناصرُ التي اضافها البديعُ والحريريُّ (شخصيات، حبكة بسيطة) تتراجعُ امامَ العناصر الشعريّة التي صارتْ متكلّفةً وشكليّةً، أيْ بلغتْ في مرحلة الى حدِّ الانتفاخ انتهتْ بانتصار مسارِ التلاشي عبر تمدّدِ عناصرِ مرحلةِ الاستدماجِ، فتحوَّلَ العنصرُ الإيجابيُّ إلى مؤثِّر سلبيٍّ حتّى وصلَ بالمقامة الى نهاية هذا الطريق، وهو الاستحواذُ على ايدي عددٍ من المقاميين مثل السرقسطي وابن الجوزي والجزري الذين تكلّفوا الأساليبَ البديعيّةَ وتصيّد الغريبَ، حتّى تعمّتْ نصوصُهم واوغلت في الغرابة، واحوجتْ كلَّ من يقرأها الى الشرح والتفسير. لقد انتقلَ هؤلاءُ بالمقامة الى مصاف الاحاجي اللغوية. نقرأ في مقامات السرقسطي، على سبيل المثال: "أما أنّه الذي عَرَفتَ كاشِرُ النابِ، زَمِر الذَنَاب، مُقَلّصُ الظِلال، مُذَمَّمُ الخِلال، خَدُوع الإقبال، رَثُّ الحبال، إدبارهُ أسلمُ من إقبالهِ، وذئبه اقتل من رِئباله، لا يُقيل عثرةً ويُراصِدُ العَقربَ.."( ) أو في مقامات ابن الصيقل الجزري: " أنّني ولجتُ ناديكم، وكنتُ بهذه الساحة ساديكم، فربضتُ بأطراف الذَّلاذل، عند مطاف الاراذل، خاطبا حبائبَ فوائدكم، لا طالبا خبائب موائدكم، ولعلمي بأنّ عيصكم أفضل الأعياص، دخلتُ عليكم دخول الميم الزائدة على الدِلاص، ولم أرَ زعيمكم بالاقتراح.."( ). بينما كانتْ على غير هذا عند الهمذاني. نقرأ عندَه على سبيل المثال: "فأتيتُ المربد في رُفقة تأخذهم العيون ومشينا غير بعيد الى بعض تلك المتنزهات. في تلك المُتَوجِّهات ومَلَكتنا ارض فحللناها. وعمدنا لقداح اللَّهو فأجلناها...الخ"( ). ثمّةَ اقتصادٌ واعتدالٌ في طلب الأساليب البديعية عنده.
لقد تكفَّل الباحثون بدراسة الأساليب البيانية عند المقاميين اللاحقين التي امتدتْ من المقامة الأولى الى الأخيرة وأشبعوها بحثا( )، لكنّ المهمَ عندنا هو أن نشيرَ الى إن المقامة بدأتْ تفقدُ مشروعها في تطوير جنس سردي في تربة شعريّة. ما اضافه الحريريُّ – وهو أكثرُ من كلِّ ما أضافه اللاحقون الى المقامة – على المستوى السردي لم يصل الى الإضافة النوعيّة التي تزيدُ الى ما قدّمه البديعُ، بقدر ما كانتْ إضافاتٍ كمّيةٍ، اذ كان يُجري عددا من التنويعات على نموذج الحبكة التي قدمها البديعُ. اتسعتْ مثلا الحيلةُ والمكرُ لتشمل شخصياتٍ ذات طابع سياسي (الوالي، الفقيه)( ). كما زادَ حجمُ المقامة عنده فطالت عما كانت عليه عند سلفه. وبالجملة فإنّ عنايته توجهتْ الى تطوير المحتوى الشعري فيها، وجعْل لغتها لا تختلف عن لغة الشعر، كما توسّعَ في استعمال الشعر، فزادَ عنده وكان البديعُ مقتصدا في استعماله. وإذا كان هذا حال من يشار اليه على أنه اخذ بيد المقامة وطوّرها ولا يُعاب عليه ما عِيب على مَن جاء بعده، في إنّه لا يولّي المحتوى السرديّ عنايةً توازي تلك التي خصّ بها المحتوى الشعريّ.
تختلفُ الدراما اليونانية، عن المقامة، إنّ الوعيَ السرديَّ هو المحرّك في الانتقال فيها من مرحلة تعزيزيّة إلى أخرى. لقد أُتهم يوربيدسُ "إنه أفسد التراجيديا وأفقدها رونقها وجمالها بما ادخله عليها من واقعية حطّمت الهالة الأسطورية لأبطاله وشخصياته"( ). لم يكنْ وراءَ تجاوز اغراءات النموذج الأسطوريّ سوى الوعي الحادُّ في إن الدراما لازالَ يعوزها ما يجعلها شيئا اخر.
يبيحُ لنا هذا أنّ نعدّ الهمذانيَّ هو النموذجُ العربيُّ المقابل في ابتكار المقامة للإغريقيّ ثيسبيس في الدراما، حيثُ كان قد ابتكرَ الممثّلَ الأوّلَ ما أتاح مواجهةَ الجوقة وتبادل الحوار معها، وقبل ذلك لم يكن قد وجد. لقد اوجدَ البديعُ نصّا قصصيا بموازاة النصّ الشعريّ الذي يشكّل عماد التراث والذائقة العربيّة، فصاغ مقاماتِه بطريقةٍ شعريّة؛ املا في أن تقفَ بمواجهة الشعرِ وتنافسَه. هذه المغامرةُ الإبداعيّةُ لم تقابلها مغامرةُ تعزيزيّةُ لاحقةٌ من ورثته، تنقلُ المقامةَ من هذه المنطقة الوسطى التي وضعتْ فيها، وهي أن تكون بين الشعر والنثر، أو تنتسب لهما معا، مغامرة تصقل حبكة السرد بإبعاد كلِّ ما يعيقها لتتوسع فيما بعد في توظيف عناصر القصِّ.
في استقراءِ تاريخ المقامة لم تكنْ سوى الحريريِّ شخصيةٌ مهيأةٌ لتقوم بما قامَ به اسخيلوسُ، حين ابتكرَ الممثلَ الثاني. لقد كانتْ عبقريةُ الحريريِّ الأنسبَ لابتكار الشخصيّة الثانية (وهي لم تكن موجودة في المقامة على نحو سرديّ) ودفع الحوار إلى مرتبة أكثر تطورا تدخلُ به المستوى الدرامي بعد أن يتهيأ للصراع ادواتُه السرديّة. سيحدثُ شيءٌ من هذا، لو كان الهمُّ السرديُّ وتطويرُ الحكايةِ هو ما يشغلُ بالَ الحريريِّ. حين نفقدُ الفرصةَ التاريخيّة لتطوير المقامة سرديّا مع الحريريِّ، فإنّنا لا نفكرُ بعد ذلك بالبحث عن يوربيدس عربيٍ يطورُها إلى مصاف ادخال الممثّل الثالث. اذ كان الحريريُّ نهايةَ المشروع السرديّ، حين تمكّنَ الشعرُ من إزاحة ما عداه فيها.
لسنا هنا بصددِ القاءِ اللومِ أو المسؤوليةِ على المقاميين الذين فتروا عن تطويرِ جنسٍ سرديٍّ، إنّما لبيان تأثير العوامل الثقافيّة في إعاقة نموِّ أيِّ وعيٍ ادبيٍّ غيرِ شعريٍّ عربيّا، وإنّ المحاولاتِ الجادّة سرعان ما يتمُ اسكاتُها ونسفُها من الداخل عبر عناصر الاستدماج التي زُرعت في جسد المقامة.
المصـــادر
• إحكام صنعة الكلام: أبو القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي الاشبيلي الاندلسي، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الثقافة - بيروت، 1966.
• الأدب الاغريقي، تراثا إنسانيا وعالميا: د. احمد عتمان، دار المعارف – القاهرة،ط2/ 1987.
• تحقيق في المقامات اللزومية، حققها وعلق حواشيها د. حسين الوراكلي، عالم الكتب الحديث – اربد، 2014.
• تكوين العقل العربي: د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، ط9، 2006.
• الثابت والمتحول، بحث في الابداع والاتباع عند العرب: أودنيس، دار الساقي – بيروت، ط9، 2006,
• الحيوان: أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - القاهرة، ط1/ 1965.
• خريدة القصر وجريدة العصر: عماد الدين الاصبهاني الكاتب، تحقيق محمد بهجة الاثري، مطبعة المجمع العلمي العراقي - بغداد، 1964.
• دلائل الاعجاز: الامام الشيخ أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي، قرأه وعلّق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، دار المدني بجدّة – القاهرة، ط3/ 1992.
• سؤالات نافع بن الأزرق: تحقيق د. إبراهيم السامرائي، مطبعة المعارف – بغداد، 1968.
• شرح الرضي على الكافية: تصحيح وتعليق يوسف حسن عمر، جامعة قار يونس - تونس، 1978.
• شرح المعلقات السبع: أبو عبد الله الحسن بن احمد الزوزني، لجنة التحقيق في الدار العالمية – بيروت، 1992.
• شرح ديوان الحماسة: أبو علي احمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، نشره احمد امين وعبد السلام هارون، دار الجيل بيروت - ط1/ 1991.
• صُبحُ الأَعشَى: أبو العباس أحمد القلقشندي، المطبعة الأميرية – القاهرة، 1919م.
• طبقات فحول الشعراء: محمد بن سلاّم الجمحي، قرأه وشرحه أبو فهر محمود محمد شاكر، دار المدني بجدّة - القاهرة، ط3 (د.ت).
• عيار الشعر: محمد احمد بن طباطبا العلوي، شرح وتحقيق عباس عبد الساتر، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية – بيروت، ط2/ 2005.
• الغصن الذهبي، دراسة في السحر والدين: جيمس فرايزر، ت. نايف الخوص، دار الفراقد – دمشق، ط1/ 2014.
• فقه اللغة وخصائص العربية: محمد المبارك، دار الفكر - بيروت، ط2 (د.ت).
• فن الشعر أرسطو، ترجمة وتعليق. د. إبراهيم حمادة، هلا للنشر والتوزيع – القاهرة ط1/ 1999.
• الفن والمجتمع عبر التاريخ: أرنولد هاوزر، ت. د. فؤاد زكريا، دار الوفاء – الإسكندرية ط1/ 2005.
• كتاب الصناعتين، الكتابة والشعر: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي - القاهرة، ط2/ 1971.
• كشّاف اصطلاح الفنون والعلوم: الباحث العلامة محمد علي التهاوني، تقديم واشراف ومراجعة د. رفيق العجم، تحقيق د. علي دحروج، نقل النص الفارسي الى العربية د. عبد الله الخالدي، الترجمة الألمانية د. جورج زيناتي، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، ط1/ 1996.
• لسان العرب: الامام العلامة ابن منظور، تحقيق امين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي، دار احياء التراث العربي - بيروت، ط3/ 1999.
• معجم الشعراء: أبو عُبيد الله محمّد بن عمران بن موسى المَرزُباني، تحقيق د. فاروق اسليم، دار صادر – بيروت، ط1/ 2005.
• مفاتيح خزائن السرد: سعيد الغانمي، دار الرافدين - بغداد، ط1/ 2021.
• المقامات، السرد والأنساق الثقافية: عبد الفتاح كيليطو، ت. عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، ط2/ 2001.
• مقامات الحريري، نشرها عيسى سابا، دار صادر – بيروت، 1980.
• المقامات الزينية لابن الصيقل الجزري، تحقيق. د. عباس مصطفى الصالحي، دار المسيرة – بيروت ط/1، 1980.
• المقامات اللزومية لابي طاهر محمد بن يوسف السرقسطي دراسة اسلوبية: مي محسن حسين، أطروحة دكتوراه من جامعة بغداد، 2005 (مخطوط).
• مقامات بديع الزمان الهمذاني، قدم لها وشرح غوامضها الامام العلامة الشيخ محمد عبدة، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية – بيروت، ط3/ 2005.
• مقدمة في نظرية الادب: عبد المنعم تلّيمة، دار التنوير – بيروت، ط1/ 2013.
• النظام البلاغي في المقامات الزينية: ظاهر معطش جمعان العنزي، رسالة ماجستير من الجامعة الأردنية 1990(مخطوط).
• نقد الشعر: أبو الفرج قدامة بن جعفر، تحقيق وتعليق د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية – بيروت (د.ت).