دراسات وبحوث
مواقف الذّات الشّاعرة عند حفصة بنت الحاج (ت 581هـ)
الأُستاذ الدكتور إسماعيل عباس جاسم
المستخلص
تمثّل هذه الدراسة محاولة للكشف عن الصور التي تجلّت عنها حقيقة الشاعرة حفصة بنت الحاج في تناولها للمادة الشعرية بحث اماطت اللثام عن ذاتها التي تتلوّن بألوان فنية ونفسيّة وموضوعية تقود إلى ابراز شخصيتها الشاعرة.
ومن خلال متابعة النصوص تمكّن الباحث من ابراز هذه الألوان في ذات الشاعرة من خلال أربعة أقوال فكانت ذاتاً مضحيةً ، وموجّهةً ، ومجترئة ، ومعاتية.
تقديم
تميَّزت بلادُ الأندلس بخيراتها الوفيرة إذ كانت كثيرة البركة طيّبة الأرض، عظيمة النعم( )، متصلة الخيرات، معتدلة الهواء، متفجرة الأنهار، والعيون، طيّبة البقعة، كريمة التربة( )، ( فيها المعادن السبعة)( )، وفيها ما لمْ يُرَ مثله في حسن مبانيها ودقّة تصنيعها( )، وأما زيُّ أهلها (فالغالب عليهم ترك العمائم لا سيما في شرف الأندلس، فإنّ أهل غربها لا نكاد نرى فيهم قاضياً ولا فقيهاً مشاراً إليه ألا وهو بعمامة)( )، وأما حريمهم فموصوفات بالجمال والسحر وقد بالغنَ في زينتهنّ إلى حدٍّ( )، (نسأل الله أن يغضَّ عنهنّ فيها عين الدهر)( )، وفيها إلى جانب أهليها الكثير من المهاجرة والبربر( )، وأحوالهم في دينهم ضعيفة يأخذون بمذهب مالك بن أنس، وأما أرومتهم فإنها عربية( )، وهم في لهوهم يبالغون في الشراب وقد خُصّت مدينة مالقة من بين مدن الأندلس (بطيب الشراب الحلال والحرام حتى سار المثل بالشراب المالقي، وقيل لأحد الخلفاء، وقد اشرف على الموت: اسأل ربك المغفرة، فرفع يديه وقال: يا رب أسأل من جميع ما في الجنّة خمر مالقه)( ).
وكان للعلم عندهم مكانة جليلة تدلّ على مقدار حبهم له فالعالم بينهم يوقرّ ويعظّم في العامة والخاصة( ).
وأما الشعر فكان له في ربوعهم (حطُّ عظيمٌ، وللعشراء من ملوكهم وجاهة)( )، وفي مجال الحرّية فأنهم بلغوا شأوا غير قليل فقد شاع بينهم (الشغف بالموسيقى والتعلق بالغناء، والتورّط--- في اللهو والمجون)( )، وكثيراً ما كانوا يخرجون إلى رحاب الطبيعة طالبين النزهة( )، تظهر فيها نساؤهم على قدر كبير من الابداع والتنفس في أنواع الحلي والزينة( )، وقد شهدت هذه المتنزهات الكثير من جلسات العلماء والادباء( )، فغلب على الكثير من أصحاب الطبيعة المحافظة من ذوي الوجاهة تورطهم في خلع العذار، وطلب اللهو والعبث بمجرد دخولهم بين البساتين والرياض( )، وكان من مظاهر الحرية التي أخذوا بها أنهم خرجوا من عقدة الالتزام العوقي والقبلي فاقبلوا على المصاهرة مع الاسبان بحيث شاعت هذه الظاهرة في داخل بلاد الأندلس أو في الخارج مع إمارات النصارى الشمالية بتأثير من الحكام الذين كانوا يشجّعون عليها( )، هذا فضلا عن اقبال الأجيال الجديدة من البربر على تعلم العربية( )، وبذلك استحال تاريخ الاندلس إلى ما يشبه قصيدة شعرية تحمل بين سطورها الكثير من العبر( ).
لقد كان لما انطوت عليه الاندلس منن الخيرات والعلوم والثقافات والحرّيات وما شاكل ذلك أنْ برزت المرأة الأندلسية لتشغل حيزاً واسعاً في الحياة الاندلسية فما عدنا (نحسّ بما يقلل من قيمتها أو ينتقص من احترامها أو يشعر باضطهادها)( )، ولعلَّ فيما نقدّم (ايماءة واضحة الى الحرية التي نعمت بها المرأة) ( )، والمكانة العالية التي أدركتها( )، الأمر الذي جعلنا نقف أمام ظاهرة تميّز بها الشعر الأندلسي تمثّلت بظهور عددٍ ليس بالقليل من النسوة الاندلسيات اللائي دخلت ميدان الشعر ونظمته( )، لقد كان من بين هؤلاء السنوة (حفصة بنت الحاج الركونية)*( )، التي تنسب إلى (بُشرات غرناطة) ( )، وهي شاعرة عُرفت بتفرّدها بحسنها وأدبها، وظرفها( )، وغناها البالغ( )، كما عرفت بالنبل، وجودة الشعر وسرعة البديهة( )، (رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنثر)( )، تقول الشعر ارتجالاً( )، ومن دلائل ثقافتها وقوة شخصيتها أنها عملت أُستاذة فعلمت النساء في دار المنصور( )، توفيت بمراكش في أواخر سنة ثمانين أو في بداية سنة أحدى وثمانين وخمسمائة( )، وفي هذه البيئة نشأت حفصة بنت الحاج الركونية، شخصية أدبية شاعرة كشأن نساء الاندلس اللائي تفقهن في هذا اللون من الأدب وأحسن الاجادة ف نظمه( )، حتى ليمكن القول إلى منهن من فاقت الشعراء الكبار( )، وبشخصية قويّة (في مواجهة رجال أقوياء وبعض ما في شعرها يمثل على غيرها خطراً يؤدي بالحياة)( )، ومثل هذا ليس بمستغرب على امرأة نشأت في مجتمع قوي له مع (العدو كل يوم ، وقائع، وغارات)( )، تستمدُّ رواءها جمالاً و رقّةً من طبيعة جمال الأندلس التي كانت مصدراً لألهام الشعراء( ).
لقد ولدت هذه الشاعرة في بيئةٍ اشبعت افكارها و أحاسيسها بألوان مختلفة تربّت عليها نفسيتها لا بل ذاتها التي عبّرت عن دواخلها، وجوهر حقيقتها، قال: (ابن بري.... ذات الشيء حقيقته وخاصته) ( ).
ان هذه الذات الشاعرة لحفصة كانت تتجلّى لقارئ شعرها بصورٍ متنوعة أكدّتها النماذج الشعرية التي ستتولّى الحديث عنها فيما سيأتي.
أن هذه التجلّيات المتنوعة لا يتأتى الكثير منها لأيّة شاعرة ألا كتلك التي تحظى بمواصفات توافرت عليها هذه الشاعرة لذا حاول البحث الكشف عن تلك التجليات المختلفة لذات حفصة فكان أن جاء البحث موزّعاً على أربعة أقوال كانت في الأول ذاتاً مُضحيّةً، وأما الثاني فكانت موجهةً، وفي الثالث كانت مجتزئة، وأما القول الرابع فقد جاءت فيه معاتبةً.
الدراسة:
تُعنى هذه الدراسة بصور تجليات الذات الشاعرة عند حفصة بنت الحاج، تضمنتها الاقوال الآتية:
أولاً: القول في الذات المضحيّة:
الحبُّ من الظواهر الطبيعية التي تحتويها الغريزة البشرية وما هيتّهُ: (إنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة)( )، يقوم على حبُّ كلِّ جميل بذاته لجهة جمال ظاهري أو غير ظاهري( ). وقد اشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ( زُيِّن للناس حبُّ الشهوات من النساء ...)( )، وقد فُتِن الناس بالحب والغزل لأنه (قريب من النفوس لايط بالقلوب لما جعل الله في تركيبة العباد من محبّة الغزل و إلف النساء فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقاً منه بسبب وضارباً فيه بسهم حلالٍ أو حرام)( )، وقد ذكر القدماء، إنه أول علاقة جمعت بين أبوي البشر آدم، وحوّاء( )، وهو ليس منكراً، أو محظوراً في الدين( )، ففيه إراحة للنفوس، هذا أبو الدرداء يقول: (أجمّوا النفوس بشيءٍ من الباطل ليكون عوناً لها على الحق)( )، ولهذا إنصرف الشعراء العرب إلى غرض الغزل لأنه اقرب الأغراض إلى نفوسهم فقدموه على غيرها حتى في غرض المديح النبوي( )، ولأن الأدب الاندلسي جزء من الأدب العربي فقد شاع بين شعرائه الغزل بنوعيه الفاحش، والعفيف( )، وشاعرتنا ليست بعيدةً عن هذا الغرض إذ هي قامة سامقة بين شعراء الاندلس وها نحن نعرض للصورة الأولى في القول وهي صورة الذات المضحيّة ولا ريب لأنّ المحبَّ يستهين (بكلِّ خطبٍ جليل داعٍ إلى مفارقته)( ). فهذه هي تقول( ):
ولو لم تكن نجماً لما كانَ ناظِـــــري وَقدْ غبتَ عنه مظلماً بعدَ نُوره
سلامٌ على تلك المحاسنِ مِنْ شبَحٍ تَناءتْ بنعمــاهُ و طيب ســــروره
معلنةً بصرخةٍ عالية تمور بالألم والحزن على فراق من تحب لأن الحنين إلى الحبيب يكسب الشعر نغمة من الحزن ويرتفع بالعاطفة إلى مستوىً عالٍ من الصفاء والنبل( )، ولتأكيد سوء حالتيها بغيابه لجأت إلى استعمال الشرط بقولها: (ولو) إذا اتخذت من كونه نجماً سبباً لظلام ناظرها لأن (لو) تفيد (عقد السببيّة والمسببية بين الجملتين بعدها)( )، كما انها إفادت من البعد المكاني الهائل كون هذا المحبوب نجماً بعيداً إذ هي تعظمّ بعد الشقة لتعظم المعاناة والاشواق لهذا النجم الجميل الذي يزيّن السماء وقد ورد ذكره في قوله تعالى: ( انّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب)( )، على انها تؤطر كلامها بما يحسّنه حين طابقت بين لفظي (مظلماً) و (نوره)، وكذلك بين لفظي (شبح)، و (سروره) لأن الطباق يفاد منه تحسين الكلام( )، الذي يؤدي إلى ابراز مدى تضحيتها، ومعاناتها فكان طرفها مظلماً بعد نوره وحالها شجٍ بعد سروره.
وتعود حفصة مرّةً أخرى حبيةً ساهرة مضحية فتقول:
سَلُوا البارقَ الخنّاق والليل ساكنٌ
أظلُّ يأحزاني يُذكرّني وَهَنا
لعمري لقد أهدَى لقلبيَ خفقةً
وأمطرني مُنهلُّ عارضه الجفْنَا
لتظهر بالغ تضحيتها من طريقين إثنين أولهما التساؤل المعبر عنه بصيغة الأمر (سلوا) في محاولةٍ منها بقصد استخباره عن دوام حالتها الحزينة التي يذكرها بها (البارق ، الخفاق ، والليل الساكن)، إذ هما يدلان على الرعب والخوف( )، آملةً بان لا يطول هذا الحزن متوسلة بالليل أن يقصره ويقترب الأمل المنشود حيث قال رسول الله (): (الليل والنهار مطيتان يقرّبان بكلَّ بعيد، ويأتيان بكل موعود)( )، ولأجل أن تبالغ في شدة الحزن لجأت الشاعرة إلى المقابلة( )، بين صورتين اثنتين هما (البارق الخفّاق) و (الليل الساكن) ليكون لها ما تتمناه لقاء تضحيتها.
أما الثاني فهو التأكيد المعبرّ عنه بصيغة القسم في قوله (لعمري)، أي لعمري يمين بأن البارق الخفّاق قد آلم قلبها، وبرّحه و ابكى منهل عارضه جفنيها فهي حزينة لا يغادرها الأسى والبكاء ذاهبة مذهب التأكيد لذلك من خلال هذا القسم لأن القسم عند النحاة (يمين يقسم بها الحالف ليؤكد بها شيئاً، يخبر عنه من ايجاب، أو جحدٍ وهو جملة يؤكد بها جملة أخرى)( )، لتغرق في بحار الشوق وسوء أثر الفراق حتى كأنها تقول: (فارقتني فأرقتني وقرّقت شمل صبري، واستصحبت فريقاً من قلبي)( )، وذلك ذروة سنام التضحية، وتجدها مرّةً أخرى مضحيّة راضية بما كتبه لها القدر في معرض رثائها وحدادها على من تهوى متحمّلة أوزار التهديد حين تقول( ):
هَدّ دُوني مِنْ أجل ليس الحدادِ
لحبيبٍ ليَ أَردوه بالحِدَادِ
رحِمَ اللهُ مَنْ يجودُ بدمعٍ
أو يتوحُ عَلى قَتيلِ الأَعادِي
وسقتهُ بمثلِ جُود يديهِ
حيث أضحى من البِلادِ الغوادِي
|
إذ تعبَرْ عن شدّة جزعها، وحزنها الذي يرقى إلى أعلى مراتب التضحية بحالتين إثنتين الأولى هي استعمال الجناس التام حيث وقع الجناس بين لفظتي (الحداد) و و(بالحداد) في البيت الأول محدثةً جلبةً موسيقية، وصخباً موسيقياً بين تلاقي موسيقى الجناس، وموسيقى القافية (لأن مجيء هذا النوع في الشعر يزيد من موسيقاه، وذلك لأن الأصوات التي تتكرر في حشو البيت مضافاً إلى ما يتكرر في القافية يجعل البيت اشبه بفاصلةٍ موسيقية متعددة النظم مختلفة الألوان)( )، وهذا ما يتفق وطبيعة الحالة النفسية للشاعرة، ناهيك عن الموسيقى التي توفرها تلك الحروف ولا سيما حرف (الدال) الذي تكرر لاربع عشرة مرّة في هذه الأبيات.
وأما الحالة الثانية فإنها تلجأ إلى الإغراق في استعمال الاسمية حيث يرد ذكر ما يقرب من خمسة عشر اسماً في سياق تلك الابيات، فالشاعرة تريد ان تبث معاني ودلالات الحزن والبكاء والقلق التي تحملها تلك الأسماء لكي تبقى خالدة في ضميرها لأن الأسماء في الغالب تقوم عليها الاستعمالات الوظيفية اللغوية( )، لكونها تعبر (عن معاني لا يعبر عنها غيرها)( )، لأنها غير مقيّدة بزمن وهي أعمْ وأثبت( )، فضلاً عن طبيعة الالفاظ التي جاءت متساوقة مع المضامين التي تقودنا إلى أن نشاطر الشاعرة ما هي عليه من الثوران، والقلق، إذ إن الالفاظ هي (صاحبة التأثير الحقيقي لأنها تنتقل سحراً ايجابياً يعود بنا إلى ذواتنا ويضعنا في حالةٍ من الصلاة)( )، ناهيك عن استعمال الصفة المشبّهة للفظة (قتيل) في إشارة إلى تعظيم وتثبيت جريمة القتل التي يترتب عليها تحمل المزيد من اعياء التضحية لأن الصفة المشبهة تفيد معنى الثبوت( ).
ولعل مما هو لافت للنظر أن الشاعرة تعمد في أدائها اللغوي إلى الابتعاد عن المباشرة في أداء معاني التهديد والتفجّع والترحم التي فاض بها النص واللجوء إلى عدم الإفصاح من طريق الكتابة الواردة في مثل قولها (من يجود بدمع) كتابة عن البكاء وقولها (بمثل جود يديه) كناية عن الكرم لأن ذلك (أبلغ من الإفصاح كما يقول البلاغيون)( )، وهو أسلوب جميل عمدت إليه الشاعرة لأن الكناية تمثل غاية لا يتسنّى لأحد ان يدركها (الا صاحب الحسِّ المرهف والطبع الشفاف، والقريحة الصادقة)( )، ليكون النص أكثر تلاؤماً مع طبيعة مشاعر وأحاسيس الشاعرة وأكثر قدرة على مناجاة مشاعر الآخرين التي تستقبل الانفعالات.
ثانياً: القول في الذات الموجّهة:
إذا كانت ذات الشاعرة مضحية فيما سبق تفصيله فإننا نراها الآن شاعرة موجهّة يصدر منها المعنى اللطيف والفكرة الحصيفة بهدف التأثير في المتلقي بأشعار جميلة.
جاء في لسان العرب: (وجّهت الريح الحصى توجيهاً إذا ساقته.... وشيء موجه إذا جعل على جهةٍ واحدة لا يختلف)( )، وكيف لا يكون لشاعرةٍ مثل حفصة بنت الحاج وهي الشاعرة الأديبة، البارعة أن يكون لها حظ وافر في مجال التوجيه الذي يمكن ان يصل إلى حدّ مشاركة الشاعر في توجيه الأمور السياسية في بلد بشكل طبيعي مألوف( )، لا سيما وانها تمتلك الكلمة القوية( )، التي يمكن ان تجد لها صدىً في النفوس وأن تُعرف بها حين تتكلم، وقديماً قيل: (تكلّموا تُعرفوا فإنّ المرء مخبوءٌ تحت لسانه)( )، هذه الحكمة التي تتغنى بالشجاعة التي تمثّل عند العرب (وقايةً)( ).
ها هي الشاعرة تقدّم لنا انموذجاً من صورة التوجيه في قولها حين سألتها أخت الوزير ابي بكر بن يحيى ان تكتب لها شيئاً بخطها( ).
يا ربّة الحُسنِ بلْ يا ربةَ الكَرمِ
عُضيِّ جُنوتك عمَّا خطَّهُ قَلمي
تَصّفحيهِ بلحطِ الودِّ مُنعِمةً
لا تَحفلي برَدئ الخطِّ والكلمِ
بادرت الشاعرة إلى النداء( )، من خلال اللجوء إلى استعمال حرف النداء (يا) مكرّراً بقصد التأكيد( )، وإكساب الكلام لوناً من ألوان الجمال الذي يتأتى من (التماثل الصوتي)( )، واصفة المرأة بالحسن أولاً ثم مضربةً عنه إلى جمال الكرم باستعمال (بل الاضرابية)( )، ربّما لأن الكرم بمثّل (نزاهة النفس عن الحرام وسخاءها مما تملك على الخاص والعام)( )، لتعلن بصوتٍ عالٍ صورة التوجيه التي سلكتها وتبدو للقارئ معلمّةً ترشد وتوجِّه تلميذتها لفعل ما تريد باستعمال فعلي الأمر (غضيّ) ، و(تصفحيّه) والتهي في قولها (لا تحفلي)، وهو (ضرب من ضروب الطلب السلبي)( )، بأسلوب جميل سلس لا يخدش الذوق ولا ينبو عنه بقصد اظهار جمال العين لتلك المرأة وجمال الخط والكلم للشاعرة الذي يقوم اساساً على تفوّق جمال العين الذي يتلوه جمال الخط والكلام وبذلك تكون الشاعرة قد عززت حسن العين بما لا ينقص حسن الحظ والكلم لا سيما وانها كانت على قدرٍ كبير من الثقافة والمعرفة في الأدب فضلاً عن كونها أستاذة تعلم النساء في قصور الحكام.
وتعود حفصة مرّةً أخرى لتوجه صاحبها أبا جعفر بن سعيد الذي بات معها في بستان بحور مؤمّل وبعد أن حان الافتراق بعد ليلة أُنس كتب إليها قائلاً( ):
رَعــى اللَه ليــلاً لم يُـرعْ بـمـذمّـم
عـــشـــيــة وارانــا بــحــور مــؤمــلِ
وقـد خـفـقـت مـن نـحـو نـجـد أريـجةُ
وغــرد قـمـري عـلى الدوح وانـثـنـى
إذا نـفـحـتُ جـاءت بـريـا القـرنـفلِ
قـضـيـب مـن الريـحـان من فوق جدولِ
يُرى الروضُ مسروراً بما قد بدا له
عـــنـــاقٌ وضــم وارتــشــافُ مــقــبــلِ
فأجابته:
لعمرك ما سرَّ الرياض بوصلنا
ولكنَّهُ أبدى لبا الفلَّ والحَسدْ
ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا
فلا تحسن الظنَّ الذي أنت أهله
ولا عوَّدَ القمري الا لما وَجَدْ
فَما هو في كلِّ المواطن بالرشدْ
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه
لأَمرٍ سوى كيما تكون لنا رصدْ
لتردّ عليه موجِّهة إياه من خلال تفنيدها لما أدلى به من دلائل الفرح والسرور في رسالته
الشعرية معتمدة في هذا النفي في قولها (ما سُرَّ ، ولا( )صفّقَ، ولا غرّد ، فما خلتُ) وكذلك النهي( )، في قولها (فلا تحسن) إذ هي تنفي سرور الروض وارتياح النهر بلقائهما مؤكدةً ذلك بالقسم (لعمرك) الذي افتتحت به قولها الشعري لأن القسم عند النحاة (يمين يقسم بها الحالف ليؤكد بها شيئاً يخبر عنه من إيجابٍ أو جحدٍ وهو جملة يؤكّد بها جملة أخرى)( )، ولتزيد من هذا التأكيد فأنها تعمدُ إلى التكرير فهي تكرّر حرف النفي (ما)، ثلاث مرات، إذ ترد في الابيات، الأول، والثالث ، والرابع وتكرر (لا) النافية مرتين في البيت الثاني، وكذلك الحال بالنسبة لـــ(لا) الناهية فإنها ترد مرتين في البيت الثاني والبيت الثالث، وعليه فان الشاعرة تبدو مصرَّة على هذا النفي بغية توجيهه وارشاده إلى ما تراه هي لا ما يراه هو فالرياض ليس مسروراً والنهر ليس مصفقاً كما يعتقد صاحبها لذا تطلب منه ان لا يحسن الظن في كلِّ حين لأنه ليس من دلائل الرشد وأخيراً تحاول ايصاله إلى قناعتها المتشائمة والتي تذهب فيها مذهباً سلبياً يقصد توجيهه الوجهة التي تريدها متجاوزة حقد الرصد الرقيب( )، وهي تتغنى على انغام القافية المقيّدة( )، التي تستمد رواءها من الطبيعة الأندلسية باعتبارها مصدر الالهام للشعراء( ).
وتذهب حفصة إلى توجيه صاحبها في عدم التوافر على زيارتها فتقول( ):
سَارَ شعري لكَ عنِّي زَائراً
وكَذا الروض إذا لمْ يستطعْ
فأعزْ سمعَ المعَالي شَنْفهُ
زَورةً أرسلَ عَنْهُ عَرفهُ
لأنها عاشقة (والعشق جليس ممتع)( )، قريب من النفوس يجمع بينها، قال تعالى )هو الذي خلقكم من نفس واحدة)( )، فيه جور الاحكام، وامتلاك الابدان والقلوب والارواح والعيون( )، ولتعذر الزيارة فإنها سترسل عنها شعرها على هيئة صور فنية جميلة فشعرها هو القرط الذي سيلامس سمعه معتمدة صيغة فعل الأمر (أعِرْ) مقترناً بالفاء السببية( )، لتربط بين مسير الشعر ووجوب الاستماع في صورة شعريةٍ لطيفة مقيمةً نوعاً من المتشابه بين هذه الصورة والصورة الأخرى في البيت التالي الذي يعتور صورة أخرى جسّدتها الشاعرة من خلال لغتها فهي كالروض الآنس في مكانه الذي يبعث بطيبه إلى غايته ولتسهيل هذه الزيارة تلجأ الشاعرة إلى المشابهة بين صورتين اثنتين معللّة الصورة الأولى بالثانية بطريقة لطيفة سلسةٍ ورشيقة مميّزة لأن الصورة لها اسلوبها الخاص في تبيان المعاني وهي تقترن بالالفاظ( ).
ومن خلال ما سبق يتبين ان الشاعرة ذهبت إلى قصد التوجيه، بتوضيحها طريقة الزيارة فلجأت إلى السببية وإلى حسن التعليل( )، فالبيت الأول تربطه علاقة مشابهة مع البيت الثاني كما أن البيت الثاني جاء علّةٍ للبيت الأول وبذلك تكون الزيارة قد تحققت وإن لم تكن مباشرة بل من خلال لغة الشعر وعطر الورد تلك اللغة التي ازداد (بها المعنى ... جمالاً وشرفاً)( ).
ثالثاً: القول في الذات المجترئة:
إن المتأمل في اشعار حفصة بنت الحاج يجد نفسه أمام تجلٍّ آخر تظهر من خلاله ذاتها مجترئة كما هي مضحيّة وموجِّهة.
جاء في لسان العرب: (الجرأة الشجاعة .... ورحل جريء مقدم من قومٍ أجرئاء)( )، على ان هذه الجرأة شكلّت ظاهرةً فنيّةً في الشعر الاندلسي ولا سيما في مجال الغزل الذي نحن بصدده فقد انطلقت الشاعرة الأندلسية متجاوزة الحدود التقليدية الاجتماعية والدينية متناسبة كل تلك الالتزامات فالدين مثلاً: (عبارة عن قوة أخلاقية تلزم الفرد وتخضعه وتأمره وتنهاه عن امورٍ غريبةٍ عن طبيعته)( )، فالقرآن يحثُ المرأة على الالتزام كالذي في قوله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن و يحفظن فروجهنّ ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها و ليضربن بخمرهنّ على جيوبهن)( )، ولكن كثيراً من الناس يجرون وراء اهوائهم ويعصون عقولهم ويطيعون ما تهفو إليه أنفسهم( )، حتى بلغ الأمر أن أصبحت المرأة في الأدب الاندلسي راغبة في أن تكون من الشاعر أو من تحبّه ما كان المحبُّ أو الشاعر منها في المشرق تبوح بما في فؤادها وتتغزل بكلِّ من تحبّ( )، ولا تأبه بكلِّ ما يترتب على ذلك من سوء الحال لأن (قتيل الهوى لا عقل له ولا قود)( ).
وليس بدعاً أن ندعيّ أن حفصة بنت الحاج كانت واحدة من شواعر الاندلس اللاتي سلكن هذا المسلك فكانت (تجهر بمكنون الهوى، وترد تدوات الأدب، وتواجه حولها ضواغط الحياة والتقاليد العامة)( )، فهي لم تكن شاعرة مجيدة حسب بل انها لعبت دوراً هاماً في السياسة تجاوز حدود الاعتقاد إلى الاسهام في مؤامرة كادت أن تعصف بسلطان الموحدين( )، وهذه هي تُعلن صيحة الإجتراء حين تخاطب صاحبها مخيّرةً إياه بشأن الزيارة( ):
أزوركَ امْ تزورُ فإنَّ قَلبي
فَتُغري موردُ عَذبٌ زُلالُ
إلى ما تَشْتهي أَبداً يميلُ
وَقرعُ ذؤابتي ظِلُّ ظَليلُ
وَقدْ أملّت أن تظمى وتُضحي
إذا وَافى إليكَ بي المقيلُ
فَعجّلْ بالجوابِ فما جَميلٌ
إباؤكَ عَنْ بثينة يا جميلُ
في تساؤل قائمٍ على التسوية باستعمال همزة الاستفهام( )، في قولها (أزروك) والأصل (أأزورك) لتستقرَّ على دعوتها لصاحبها بزيارته لها معللّة هذه الدعوة بأسباب خاصة تتعلق بها منها شوقها البالغ وجمالها المغري، إذ تستعمل (الفاء)( )، في قولها (فإنّ قلبي) لتسويغ طلبها بالمجيء إليها وهو أمر ليس بالسهل أن يحصل في مجتمع آخر كونها امرأة طالبةً لا مطلوبة على أن مثل هذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على طبيعة هذه الشاعرة الجريئة التي لم تنِ تواصل نداءها باتجاه صاحبها الذي لم يفقد الأمل باشتياقه إليها والإسراع بزيارتها لذا فهي تواصل صراخها وذلك ليس بمستغرب من عاشقةٍ طالبة لأن من عجيب ما يحصل في الحب (طاعة المحب لمحبوبه وصرفه طباعة قسراً إلى طباع من يحيه)( )، وتبقى تلحُ في طلبه لا بل تأمره بقولها (فعجّل) أي (في الحال)( )، على زعم النحاة بالاجابة لأن التأخر ليس جميلاً كون ما بينهما هو ما بين جميل وبثينة من حب عفيف لا يمكن التخلي عنه غير آبهةٍ بما حولها مفضِّلة الاستمرار بصيحات الاجتراء.
وتستمر حفصة في التواصل مع هذا الاجتراء الذي يمثّل صورة من صور تجليّات ذاتها فتصرخ في نطاق هذا الإجتراء معلنةً غيرتها لتقول قولاً على خلاف ما يريد الله سبحانه
وتعالى: ( ولا متّخذات أخدانٍ( )و قُلن قولاً معروفا( )، حيث تنشد( ):
أغار عَليكَ منْ عَيني رقيبي
وَمنْكَ ومنْ زمانِكَ والمكانِ
ولو أنّي خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامةِ ما كفاني
تلك الغيرة التي تستند إلى المكانية المشتتة لأن المكان يجسّد (فاعليته في الغزل بكونه المدخل الأساس الذي يلج من خلاله الشاعر كي يظهر المكونات الحقيقية في نفسه فأصبح جزءاً من الغزل)( )، تلك المكانية التي تبعت فينا ذكريات الماضي( )، على ان هذه الغيرة تأخذ اتجاهين مكانيين إثنين، الأول تمثّله الغيرة المكانية الغيرية، والثاني تمثّله الغيرة المكانية الذاتية فالأولى تتجسد في البيت الأول حيث تغار الشاعرة من المكانية المنفصلة عن جسدها إذ هي تغار من عيني الرقيب وهو حُمّى وبر سام( )، ومن جسد صاحبها ومكانيته الزمانية ومن عموم المكان قاصدة من ذلك التهويل باللجوء إلى التكرير كونه سبباً للتأكيد عند البلاغيين( )، وذلك حين تلجأ إلى العطف إذ أن أصل الكلام (أغار منك، وأغار من زمانك، وأغار من المكان). وأما الثاني فهو الغيرة المكانية الذاتية التي تتعلق بذات الشاعرة مباشرة والتي يتضمنها البيت الثاني إذ هي لشدّة غيرتها على محبوبها تشعر بفقدان هذا الحبيب حتى وإن خبأته في عينيها إذ أكدت ذلك باستعمال (لو الشرطية) التي تقود إلى (إمتناع الشرط و إمتناع الجواب جميعاً)( )، وهي بذلك تتحمل الصبر الذي يشعل في قلبها نيران الغيرة بانتظار العواقب الحسنة لأن (عواقب المكاره محمودة)( )، ومثل هذا يقتضي جرأة مدوية تطلقها الشاعرة بصوتٍ عالٍ وهي تنشد اشعارها لأن المحبَّ يتوجب عليه أن يقدّم كل ما يقتدر عليه( ).
وتتواصل صورة الاجتراء عندها حين تتجلّى ذاتها المجترئة في قولها( ):
زائر قد أتى بجيد الغزالِ
مطلعٌ تحت جنحه للهِلالِ
بِلحاظٍ من سِحر بابل صيغتْ
وَرُضابٍ يَفوقُ بنت الدوالي
يفضح الورد مَا حوى منه خذّ
وكذا الثغر فاصح لِلآلي
ما ترى في دخوله بعد إذنٍ
أو تَراهُ لِعَارضٍ في إِنفصالِ
لتعلن بكلِّ صراحةٍ ووضوح اقدامها على المجيء والقيام بالزيارة التي صار من المؤكد تحققها لأنها اعتمدت الفعل الماضي الذي سُبق بالحرف (قد)، وهو عند النحاة في مثل هذه الحالة يعني (التحقيق)( )، على أنها يا شرت بالحديث عن مقانتها المختلفة التي عرضتها ضمن سياق مجموعة من الصور الفنية فهي تقف متحدثه عن شبهها بالغزال وعن لحاظها البابلية ورضابها الذي يفوق الكرم وعن خدّها الذي يفضح بجماله الورد وعن ثغرها الذي يتجاوز جمال اللالئ على أنها اكدت هذا المستوى الجمالي من خلال تتابع الصور الفنية في الابيات الثلاثة الأولى القائمة على التخّييل والتعابير البيانية لأجل أن تشاطرها مشاعرها( )، هي بكلَّ قوة و إصرار غير آبهةٍ لما سواها في صورة جلية من صور الاجتراء على أنها لا تكتفي بذلك بل تتساءل وتطلب الإجابة على الأذن بالدخول إلى الدار أم عدمه وفي هذا دلالة واضحة على مدى جرأة هذه الشاعرة في تعاملها مع من تهوى.
رابعاً: القول في الذات المعاتبة:
وتتجلّى ذات حفصة بنت الحاج مرّة أخرى بصورة المعاتبة لصاحبها ابي جعفر بن سعيد الذي قُتل بسببها( ).
جاء في لسان العرب: (والعتب الموجدة، عَتِبَ عليه يَعتِبُ ويعتبُ عتباً عتاباً ومَعِتبةً ومعتَبَةً ومَعتَباً أي وجدَ عليه)( )، وفي العتاب دوام المودة ومن كثر غِلّه شحّ عتابه لذا ترانا نعاتب كي نبلغ العفو ومن ثم الصفاء( )، وهو عند أهل الفكر باب من أبواب الخديعة تقود إلى الهجاء فإذا تضاءل كان سبباً من أسباب الالفة وإذا ازداد خشن طبعه وساء صاحبه( )، وهو في تضاؤله يقرب من الوفاء للغير باعتباره من (فاضل الاخلاق)( )، ووعد
الكرماء( )، لا من المكر والخيانة اللذين يدخلان صاحبهما في النار( )، وها هي الشاعرة تعاتب أبا جعفر بن سعيد حين علمت أنه علق بجارية سوداء( ):
يا أظرف الناس من قبل حَالٍ
أوقَعَهُ نَحوهُ القَدرْ
عَشقتَ سوداء مثلَ لَيلٍ
بدائع الحُسنِ قَدْ سَترْ
لا يظهرُ البِشرُ في دُجَاها
كلاّ ولا يبصر الخَفرْ
بالله ِقلْ لي وأنت أدرى
بكلِّ من هام في الصور
من الذي هامَ في جنان
لأنوار فيهِ وَلا زهَرْ
فيعتذر منها بأظرف إعتذار:
لا حُكمَ ألاّ لآمرٍ ناهٍ
لهُ مِنْ ذَنبهِ مُعتَذرْ
لَهُ محيا بهِ حَيَاتي
أعيذُ مَداهُ بالسّورْ
كصحبة العيد في ابتهاجٍ
وطلعةِ الشمسِ والقمرْ
عَدمْتُ صُبحي فاسوَّد عشقي
وانعكس الفكرُ والنظرْ
إنْ لمْ تلُحْ يا نعيمَ رو
حي فكيف لا تفسدُ الفِكر
إذ تلجأ إلى تبيان ذلك من خلال عدة أوجه ففي الوجه الأول تبدأ بالمناجاة لصاحبها ودعوته( )، كي ينتبه إليها ويلتفت بقصد الاستجابة( )، لما تريد معلنة عن خيبة أملها لسوء حظه الذي أوقعه فيه القدر. وأما الوجه الثاني فلكي تتمكن الشاعرة من لفت انتباه صاحبها البعيد وما في حكمه( )، تبدأ بذكر صفات تلك الجارية السوداء بقصد لومه وتأكيد هفوته التي أتى بها، فالجارية سوداء كالليل لا تبدي شيئاً من الحسن والجمال ولا يلحظ عليها شيء من امارات البشر ولا الخفر وبعد أن تنتهي من ذكر صفات الجارية السوداء القبيحة تلج الشاعرة الوجه الثالث الذي تعتمد فيه القسم بــــ(الباء)( )، لتأكيد اعترافه بهيامه بمن لا نوار فيه ولا زهر مستفيدة من التساؤل التقريري الذي يقودها إلى معاينة صاحبها بتحميله وزر فعله هذا والتقليل من شدة جنون غضبها الذي لم يكن بالحسبان، الأمر الذي ترتب عليه أن يكتب لها صاحبها معتذراً مستسلماً لحكمها لأنها الآمر الناهي صاحبة المحيّا الجميل والبهجة المشرقة لمفارقة جمال الصبح واشراقة العشق متعلقاً بأسباب التوسُّل والدعوة إلى العودة إلى رياض العشق ورحاب الحب الجميل.
وتواصل حفصة بنت الحاج عتابها لمن تهوى وهو أبو جعفر بن سعيد بعد أن كتب لها طالباً لقاءها فمطلتهُ قائلاً( ):
يا مَنْ أجانبُ ذِكْرَ
اسمه وَحُبيّ عَلاَمهُ
ما إن أرى الوعدَ يُقضى
والعمرُ أخشى انصرامهْ
اليومَ أرجُوكَ لَا أنْ
تكُونَ لي في القيامهْ
لو قَدْ بَصرتَ بحالِي
والليلُ أرخى ظلامه
أنوحُ وجْداً وَشَوقاً
إذْ تسترنحُ الحمامَهْ
إنْ لمْ تُنيلي أربحي
فاليأسُ يُثني زمامهْ
هذا هو أبو جعفر بن سعيد يبدو معانياً ضعيفاً في مواجهة حفصة، محاولاً تهويل حبّه دون ذكر اسمها لأن ما بينه وبينها من العشق هو العلامة البالغة على وفائه مبدياً خوفه من، إنعدام العمر وهجرها له لذا فهو يتوسل بها مبيناً حاله في الليل إذ يتذكر ويشتاق ويتألم ويلتذ( )، فهو (ينوح وجداً و شوقاً) إذ تستريح الحمامة( )، لذا فهو يستعطفها لبلوغ ما يرجوه حين ترى ما خطه من الشعر الذي ناجاها به فتجيبه قائلة معاتبةً:
يَا مدّعي في هَوى
الحُسن والغَرامِ الامامَهْ
أتى قَريضُك لكنْ
لمْ أرضَ مِنهُ نظامهْ
أَمدَّعي الحبِّ يثني
بأس الحبيب زمامهْ
ظَلت كُلّ ظلالٍ
وَلمْ تفدكَ الزعامهْ
ما زلت تصحب مُذ كنت
+ في السِّباقِ السَّلامهْ
حتى عَثرْتَ واخجَلتَ
بإفتضاح السّآمَهْ
لو كنتَ تعرف عذري
كففت غرْبَ الملامَهْ
لتكشف الضبابية التي تغشى العلاقة التي بينهما معتمدةً أسلوب الحوار معه من خلال التدرج الموضوعي إذ هي تبدأ بلومه وتكذيبه فتناديه وهو القريب بالأمس البعيد اليوم بقصد لفت انتباهه باستعمال حرف النداء (يا) لأنه اصبح اقرب ما يكون للبعد بعد أيام الوصال فهو مدع للإمامة في الغرام إذ هي لم تُسر بما حمله قريضُهُ فتبادر إلى الاستفهام بالهجرة( )، منكرة عليه إنقطاع حبل الوصال وولوجه سبيل الضلال والاحساس بالغرور إلى أن اوقعه القدر في العثرات حتى انجلى الأمر وافتضح ما يخفيه، فعلام ذلك والسحاب في كل وقت بيدي الانسجام والزهر ينشق عنه الكمام، وتنهي الشاعرة عتابها المشحون باللوم بمطالبته بالكف عن الملامة وأنَّى يكون ذلك لأن فعل الشرط غير متحقق كونه لم يعرف عذرها بسبب استعمال (لو) الشرطية التي تفيد (امتناع الشرط وامتناع الجواب معاً)( ).
خاتمة بنتائج البحث
من خلال الدراسة المتواصلة توفّر البحث على جملةٍ من النتائج وهي كما يأتي:
1- تبيّن ان الشاعرة حفصة بنت الحاج كانت على قدرٍ كبير من العلم والثقافة أهلاها لأن تكون أستاذة لأبناء الخلفاء.
2- اتضح من خلال المتابعة ان هذه الشاعرة تمتاز بشخصية قويةٍ امام الرجال بل والمجتمع وقد بلغت بها هذه القوة أن اشتركت في محاولة للإطاحة بحكم الموحدين.
3- هي شاعرة غزلة في الاعم الاغلب وهذا ما يؤكده مجموع شعرها إذ أن أغلبه كان ضمن موضوع الغزل أو ما هو قريب منه.
4- لثقافتها الواسعة و قّوة شخصيتها كانت ذاتها تمتلك القدرة على التشكُّل بصورٍ متنوعة فقد تكون مضحيّة في سبيل ما تريد وتهوى ولا سيما في مجال الحب.
5- وتكون ذاتها موجهة لصاحبها وذلك ليس بغريب بسبب من ثقافتها و إقدامها.
6- وفي أحيان أخرى تظهر هذه الذات الشاعرة جريئة لا تبالي بأي شيء ولا تأبه له لذا فهي تبوح بكل ما هو مكنون في قلبها اذ هي الأستاذة والأديبة والشاعرة القوية.
7- واخيراً فان هذه الذات تتجلى بصورة المعاتبة المتفحصة للأمور صاحبة العقل الثاقب والرأي السديد الذي لا تبخل به على الآخرين.
مصادر البحث و مراجعُهُ
• القرآن الكريم.
- الإحاطة في اخبار غرناطة، تأليف أبي عبدالله محمد بن عبدالله بن سعيد بن احمد السلماني الشهير بلسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776ه، شرحه وضبطه وقدّم له الأستاذ الدكتور يوسف علي الطويل، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003م/1424ه.
- الأدب العربي في الأندلس، الدكتور عبدالعزيز عتيق، ط2، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1976م.
- الأدب الاندلسي في عصر الموحدين، الدكتور حكمة علي الأوسي، ساعدت جامعة بغداد على نشره، د:ط، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1976م.
- الادب الاندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، الدكتور أحمد هيكل، دار المعارف، القاهرة، 1979م.
- الاندلس في القصيدة العربية المعاصرة، مختارات، الدكتور عبدالرزاق حسين، مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين، للإبداع الشعري، الكويت، 2004م.
- الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية، تأليف أحمد الشايب، الطبعة الثامنة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1411ه/1991م.
- الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة، تأليف: محمد بن علي بن محمد الجرجاني، تحقيق: الدكتور عبدالقادر حسين، د:ط، دار نهضة مصر، القاهرة، د:ت.
- الأصول في النحو لابي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي، البغدادي، المتوفى سنة 316هـ، تحقيق: الدكتور عبدالحسين الفتلاوي، د:ط، د:ت.
- الايضاح في علوم البلاغة للإمام الخطيب القزويني، شرح وتعليق الدكتور محمد عبدالمنعم الخفاجي، ط5، دار الكتب اللبناني، بيروت، 1980م.
- تاريخ الأدب الاندلسي، عصر الطوائف والمرابطين الدكتور احسان عباس، ط3، دار الثقافة، بيروت، 1974م.
- تاريخ الأندلس، لمؤلف مجهول، دراسة وتحقيق: د. عبدالقادر بوياية، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009.
- التجديد في الادب الاندلسي، الدكتور باقر سماكه، ط1، مطبعة الايمان، بغداد، 1971م.
- تحرير النحو العربي قواعد النحو العربي مع التيسير الذي قرره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ألّفه الأساتذة إبراهيم مصطفى ، محمد أحمد برانق، محمد احمد المرشدي، يوسف خليفة نصر، دكتور عبدالفتاح شلبي، محمد محمود رضوان، دكتور محمود رشدي، خاطر، محمد شفيق عطا، د:ط، دار المعارف، مصر، د:ت.
- تحفة القادم، لأبي عبدالله محمد بن الابار القصناعي البلشي، 1406ه/1986م، ص240. المقرب في حلي المغرب، ابن سعيد وآخرون، حققه وعلق عليه، الدكتور شوقي حذق، ط4، دار المعارف، القاهرة، د:ت.
- التكرير بين المثير والتأثير، الدكتور عزالدين علي السيّد، ط2، عالم الكتب، بيروت، 1986م.
- التوجية الأدبي، تأليف طه حسين بك، أحمد امين بك، الدكتور عبدالوهاب عزام، الدكتور محمد عوض، د-ط، ط-ت.
- جماليات المكان، تأليف جاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا، د:ط، دار الحرية للطباعة والنشر، بغداد، 1980.
- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، السيد أحمد الهاشمي، ط12، دار احياء التراث العربي، بيروت، د:ت.
- الحب في التصوف الإسلامي، يحيى محمد راضي الشقاق، ط1، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1430-2009م.
- الحياة العلمية في مدينة بلنسية، كريم عجيل حسين، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1976م.
- دراسات أندلسية، الدكتور عبدالواحد ذنون، ط1، منشورات مكتبة بسام، العراق، 1986م.
- سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، ألفه أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي، هذّبه: محمد بن جلال الدين المكرّم (ابن منظور)، حققه الدكتور احسان عباس، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1400ه/1980م.
- شرح ابن عقيل قاضي القضاة بهاء الدين عبدالله بن عقيل العقيلي، المصري، الهمداني، المولود في سنة 719 من الهجرة على ألفية الامام الحجة الثبت ابي عبدالله محمد جمال الدين بن مالك المولود سنة 600 والمتوفى في سنة 672 من الهجرة ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل، تأليف محمد محي الدين عبدالحميد، ط16، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1974م/ 1394ه.
- شرح التلخيص، اكمل الدين محمد بن محمد بن محمود بن أحمد البابرتي، دراسة وتحقيق الدكتور محمد مصطفى رمضان صوفية، ط1، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والاعلان، طرابلس، 1983م.
- شرح قطر الندى وبل الصدى، تصنيف ابي محمد عبدالله جمال الدين بن هشام الانصاري المتوفى في سنة 761 من الهجرة، ومعه كتاب سبيل الهدى بتحقيق: شرح قطر الندى، تأليف محمد محي الدين عبدالحميد، ط11، مطبعة السعادة، مصر، 1963م.
- الشعر في عهد المرابطين والموحدين بالأندلس، الدكتور محمد مجيد السعيد، د:ط، الجمهورية العراقية، منشورات وزارة الثقافة والاعلام، دار الرشيد للنشسر، سلسلة دراسات (161)، 1980م.
- الصورة في المثل القرآني، محمد حسين علي الصغير، بغداد، 1981م.
- طبقات الشعر والشعراء، لابن قتيبة، قسطنطينة، عالم الكتب، بيروت، 1282ه.
- طوق الحمامة في الألفه والالّاف، تأليف: ابن حزم الاندلسي، ضبطه بالشكل وفسّر معانية، سعيد محمود عقيل، د:ط، دار الجيل، بيروت، د:ت.
- العقد الفريد، الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الاندلسي، المتوفى في سنة 328ه، تحقيق: الدكتور عبدالمجيد الترجيني ، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006م،الجزء الثالث والجزء الاول ، تحقيق الدكتور محمد مفيد قميحة ، الطبعة الثالثة ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 2006م.
- العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، تأليف أميل بوترو، ترجمة: الدكتور أحمد فؤاد الاهواني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، بيروت، 1973م.
- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تأليف ابي علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي، 390-456 من الهجرة، حققه وفصله وعلق حواشيه: محمد محي الدين عبدالحميد، ط4، دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت، 1972م، الجزء الثاني.
- فصول في الأدب الاندلسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة، تأليف الدكتور حكمة علي الأوسي، (مزيدة ومنقحة)، ط5، مطبعة بابل، بغداد، 1987م.
- فن التقطيع الشعري والقافية، الدكتور صفاء خلوصي، ط3، مطابع دار الكتب، بيروت، 1966م.
- فن الشعر، الدكتور احسان عباس، ط4، دار الشروق، للنشر والتوزيع، عمان، 1987م.
- فن الوصف وتطوره في الشعر العربي، إيليا الحاوي، ط2، مزيدة ومنقحة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1987م.
- في الأدب الاندلسي، الدكتور جودت الركابي، د:ط، دار المعارف، القاهرة، د:ت.
- في الشعر الاندلسي، عدنان صالح مصطفى، ط1، دار الثقافة، قطر، الدوحة، 1987م.
- في النحو العربي قواعد وتطبيق على المنهج العلمي الحديث، تأليف الدكتور مهدي المخزومي، ط1، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1386ه/1966م.
- كتاب دلائل الاعجاز، أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني، النحوي، تعليق ابي فهر محمود محمد شاكر، د:ط، مطبعة المدني، القاهرة، 1984م.
- كتاب الصلة لابن بشكوال (578ه)، ومعه كتاب صله الصلة لأبي حفص أحمد بن إبراهيم الغرناطي ت (708ه)، تحقيق: شريف أبو العلا العدوي، المجلد الثالث، كتاب صلة الصلة، ط1، الثقافة الدينية، القاهرة، 1429ه/2008م.
- كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني، د:ط، مطبعة المقتطف، مصر، 1914م، الجزء الثالث.
- كشف المشكل في النحو، لعلي بن سليمان الحيدرة اليمني ت 599هـ، تحقيق الدكتور هادي عطية مطر، ط1، مطبعة الارشاد، بغداد، 1404ه/1984م، المجلد الاول.
- لسان العرب، للإمام العلامة ابن منظور، طبعة مراجعة ومصححة، بمعرفة نخبة من السادة المتخصصين، د:ط، مطبعة دار الحديث، القاهرة، 1423هـ -2003م،الجزء الثاني، الجزء السادس والجزء التاسع.
- مختارات من شعر الحب والغزل في الأدب الاندلسي، الدكتور محمد محمود المندلاوي، ط1، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت/لبنان، 1429ه-2008م.
- المخصص، تأليف أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي، الاندلسي المعروف بابن سيدة، المكتبة التجارية للطباعة والنشر، بيروت، المجلّد الاول.
- المستطرف في كل فن مستظرف، تأليف شهاب الدين محمد بن أحمد ابي الفتح الأبيشيهي، شرحه ووضع هوامشه، الدكتور مفيد محمد قميحة، ط1، مؤسسة الكتب الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1429ه/2008م.
- المطرب من اشعار اهل المغرب، لأبي الخطاب عمر بن دحية الكلبي، ضبطه وشرحه، صلاح الدين الهواري، ط1، المطبعة العصرية، بيروت، لبنان، 2008-1429ه.
- معارضات قصائد ابن زيدون، الدكتور عدنان محمد غزال، مؤسسة جائرة عبد العزيز سعود البابطين للابداع الشعري، الكويت، 2004م.
- معاني الأبنية في العربية، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ط1، ساعدت جامعة بغداد على نشره، 1401ه/ 1981م.
- المغرب في حلي المغرب، ابن سعيد وآخرون، حققه وعلق عليه، الدكتور شوقي ضيف، ط4، دار المعارف، القاهرة، د:ت.
- مغني اللبيب عن كتب الاعاريب، تأليف الامام ابي محمد عبدالله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبدالله بن هشام الانصاري المصري، (ت761ه) من الهجرة، حققه وفصله وضبط غرائبه: محمد محيي الدين عبدالحميد، د:ط، مطبعة المدتي، القاهرة، د:ت،الجزء الاول.
- المكان في الشعر الاندلسي من الفتح حتى سقوط الخلافة، الدكتور محمد عبد صالح السبهاني، ط1، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1428ه/2007م.
- من غاب عنه المطرب، تأليف ابي منصور عبدالملك بن إسماعيل الثعالبي، ت429ه، تحقيق: الدكتور يونس أحمد السامرائي، ط1، عالم الكتب، بيروت، 1987م.
- منهاج البلغاء وسراج الادباء، أبو الحسن حازم القرطاجني المتوفى بتونس في 24 رمضان 684، 23 نوفمبر 1285، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، 1966م.
- موسيقى الشعر، الدكتور إبراهيم أنيس، ط4، دار القلم، بيروت، 1971م.
- نفح الطيب من غصن اِلأندلس الرطيب، الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني، حققه الدكتور احسان عباس،د.ط ، دار صادر، بيروت،د.ت، المجلد الاول،المجلد الثاني،المجلد الثالث،المجلد الرابع، 1429ه/2008م.
- نهج البلاغة وهو ما جمعه السيد الشريف الرضي من خطب ووصايا وكتب وكلام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ()، شرح الشيخ محمد عبده، طبعة جديدة منقحة، خرج مصادره فاتن محمد خليل الليّون، دار احياء التراث العربي، بيروت.
- همع الهوامع شرح جمع الجوامع، تأليف الإمام جلال الدين عبدالرحمن بن ابي بكر السيوطي،الجزء الثاني،عني بتصحيحه السيد محمد بدر الدين النعساني ت 911ه، د:ط، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروتن الجزء الثاني.