الفولكلور وسؤال النشأة والأهمية في حقل الدراسات الشعبية
الدكتور أسامة خضراوي
نهدف من خلال هذه الدراسة مساءلة شكل أدبي شعبي واسع الانتشار بين مختلف الشعوب، إلى الحد الذي يمكننا نعته بكل ثقة أنه يمثل ظاهرة عالمية وخاصية إنسانية مشتركة، ويتعلق الأمر بـ"الدراسات الشعبية"، وسنحاول الاقتراب من هذا المصطلح وتسليط الضوء عليه من عدد من الجوانب: المفهوم، السمات، الوظائف ومناهج الدراسة. غير أن الضرورة المنهجية تفرض علينا -قبل أن نلج عوالم الدراسات الشعبية- أن نقوم بدارسة مفهومين مرتبطين ومتداخلين مع الدراسات الشعبية، وهما: الفولكلور والأدب الشعبي.
ويتجلى الغرض من انطلاقنا من هذين المفهومين، في محاولتنا ضبط وجهة الدراسة منذ البداية، وحتى نكون على بينة وبصيرة من أمر الخطوات الموالية؛ بحكم أن الفولكلور والأدب الشعبي هما بمثابة الإطارين المرجعين لموضوع الدراسة.
1. الفــولكــلور محاولة للتعريف:
مصطلح عالمي، وكان أول من صاغه واستعمله (وليام جون تومز) الإنجليزي عام 1845، وكان في أول أمره تطورا للآثار التي ظلت معمورة في البقايا المادية للأمم على اختلاف مراحلها وعصورها.
ويرى تومز أن هذه المخلفات لا يمكن أن تحكي وحدها الإطار الحضاري، فأضاف العناصر الباقية والمستخدمة في الحياة اليومية.
وما لبث هذا المصطلح أن استخدمه العلماء في أنحاء كثيرة من العالم..، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية من أوائل الدول التي استخدمت وأشاعت هذا المصطلح، وظل الألمان يستخدمون مصطلحا آخر هو الفولكسكندي Volkskunde فترة من الزمن، كما أن الفرنسيين آثروا في تلك المرحلة استعمال صيغة دارج Populaire لتعني شعبيا" .
والمعنى الحرفي لهذا المصطلح هو "حكمة الشعب". وأصبح يدل في الأوساط المختلفة على مدلولين: الأول العلم الخاص بالمأثورات الشعبية من حيث أشكالها ومضامينها ووظائفها، والثاني المادة الباقية والحية، التي تتوسل بالكلمة والحركة والإيقاع وتشكيل المادة، وكانت في المراحل الأولى لا تستخدم مصطلح الفلكلور مقصورة على العادات والتقاليد والآداب والفنون الزمنية الشعبية، كالموسيقى والرقص، ثم أصبحت تستوعب أيضا المواد المشكّلة التي يحكم عليها بأنها شعبية، وخصوصا التي لها وظائف حيوية، واجتماعية كالنقوش والصور والتماثيل والعمارة. وبعض الدارسين يرى أن الحرف والصناعات اليدوية المتداولة تدخل في مجال الفلكلور.
أما تيلو Taylor فيعرفه بأنه "يتكون من المواد التي تنتقل تقليديا من جيل إلى آخر دون إسناد- يعتد به- إلى مبدع أو مؤلف معين أما وليام باسلوم Wiliam Bascom الأنتروبولوجي الأمريكي فيرى أن الفلكلور هو علم "الأساطير والحكايات الشعبية بأنواعها والأمثال والألغاز والشعر الشعبي وغير ذلك من أشكال التعبير القولي التي تعتمد الكلمة المنطوقة" .
هكذا يظهر لنا أن المصطلح قد اكتسب معناه من طبيعة الإطار الثقافي للمجتمع الذي نشأ فيه، واستخدام بعض الدارسين مصطلحات دون أخرى مثل التراث الشعبي، التراث الشفهي، الفنون الشعبية، إلى غيرها من المصطلحات المماثلة.
وهذا ما يعبر عنه سوكولوف الذي يرى بدوره أن "اصطلاح الفولكور ساد بالتدريج في معظم الأقطار، إلا أنه لم يقتصر على معنى واحد، إذ يسود ميدان البحث كثير من الخلاف حول كل من مضمون الفولكلور ومجاله، إلى جانب طبيعة علم الفلكلور والحدود التي تفصله عن العلوم المتشابكة معه" .
بيد أن ما يمكن استنتاجه هو اهتمام الفولكلور بالإنتاج الفكري الغير المكتوب، والذي لا يتخذ من المؤسسات المدرسية طريقة لانتشاره وإبداعه، فهو إذن يتسم بالعفوية والتلقائية وذلك في إطار مجتمعي خاص وضمن ظروف زمنية وبيئية معينة، فلا غرابة أن يكون "صدى الماضي ولكنه -في نفس الوقت- صوت الحاضر المدوي" .
وانطلاقا من هذا العرض الاستقرائي نقول بأن الفلكلور، مرآة للحياة الشعبية، أو تصوير للحياة الشعبية كما هي، فالأعمال الأدبية والفنية الشعبية لا تنبت من العدم، فالفنان والكاتب والشاعر يؤلفون ويصورون من تجاربهم ومعرفتهم، ومن انفعالاتهم الوجدانية.
إن الفلكلور صلة بين الفنان وعشيرته وأسلافه، ويمكن أن يظهر في أي موضوع أو جماعة أو فرد، وفي أي زمان ومكان، لأنه من لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل لديه.
وفي التقرير الأول لمجلس جمعية الفلكلور الإنجليزي تم وصف الفولكلور بأنه يمكن أن يطلق على ما يشتمله جميع ثقافة الشعب التي لا تدخل في نطاق الدين الرسمي، ولا التاريخ. ولكن تنمو دائما بصورة ذاتية. وعلى هذا فإن ما في الحضارة من الموروثات الفلكلورية الباقية وكذلك مظاهر الفلكلور لدى القبائل الهمجية، كلاهما ينتمي إلى التاريخ البدائي للنوع الإنساني.
وعند جمع وطبع هذه المخلفات أو الذخائر الخاصة بعصر من العصور من مثل هذين المصدرين المختلفين اختلافا كبيرا، فإن الجمعية ستأخذ على عاتقها تقديم ما تدعو الحاجة إليه من المقارنات والتفسيرات التي تخدم عالم الأنتروبولوجيا بشكل واضح.
ونتيجة للمناقشات المتصلة بين علماء الفولكلور وغيرهم من المشتغلين بالدراسات الإنسانية، أصبحت لدينا طائفة كبيرة من التعريفات المختلفة، وفيما يلي بعض هذه التعريفات:
الفلكلور هو بقايا القديم، وثقافة ما قبل التمدين أو هو الموروثات الثقافية في بيئة المدينة الحديثة. فقد اعتبر هادون 1920 أن الفلكلور هو دراسة الموروثات الثقافية كأفعال وممارسات ومأثورات شفهية، ومعتقدات لدى العنصر المتخلف في مجتمع أكثر تحضرا. وقال هادون أن الفلكلور ببساطة هو معارف العامة من الناس، والعامة Thefolk بهذا المعنى هم العنصر المتخلف في مجتمع أكثر تحضرا.
وعرف بوتر ch.F.Potter الفولكلور بأنه "حفريات حية تأبى أن تموت ويشرح وجهة نظره بقوله الفولكلور هو الرواسب العلمية والثقافية المتأخرة الإنسانية، والتي تكونت على مر العصور".
وفي تعاريف الإتنولوجيا يقترب تعريف الفولكلور من التراث الشعبي"Folk tradition" قربا كبيرا. يقول ليموان: إن الفولكلور هو كل ما يعرفه الشعب من خلال التراث؛ ويقصد المخلفات الروحية. وفي تعريف آخر للفولكلور بأنه "التراث الروحي للشعب وخاصة التراث الشفاهي".
لا مبالغة في القول بمقدرة الفولكلور بمختلف تلاوينه، على تحويل الفوضى إلى نظام، فكل نوع من أنواع الإنتاج الأدبي الشعبي إنما يهدف إلى تفسير جانب من جوانب حياتنا مستغلا في ذلك وظيفة اللغة في الخلق التفسير.
وهكذا يمكن أن نقول، أن علم الفولكلور هو ذلك الفرع من فروع المعرفة الإنسانية، التي تهتم بجمع وتصنيف ودراسة المواد الفولكلورية بمنهج علمي لتفسير حياة الشعوب وثقافاتها عبر العصور، ويمكن أن نميز هنا بين دلالتين اثنتين لمصطلح الفولكلور: الأول باعتباره مجموعة من المواد أو مجال الفولكلور، والثاني باعتباره علما، وهي الإشكالية التي شغلت علماء باحثين بصورة واضحة كما سيتبين ذلك في ثنايا هذا البحث.
2. الفولكــــلور: الأهمية والسمات:
ننطلق من التعريف الذي صاغه وليام تومز لهذا المصطلح لأول مرة سنة 1946، إذ عرف الفولكلور بأنه: "المعتقدات والأساطير والعادات التقليدية الشائعة. بين عامة الناس"، وبأنه: "آداب السلوك والعادات وما يراعيه الناس والخرافات والأغاني الروائية والأمثال...، إلخ التي ترجع إلى العصور السالفة". وقد لاحظ (ايكه هولكوانس) تأثر تومز بالروح الرومانسية التي سادت في اهتمامه الكبير بالخرافات والعادات الغريبة أو المأثورات. كما اعتبر في الوقت نفسه أن هذا التعسف هو المسؤول عن كل ما تلا ذلك من جدل حول مفهوم المصطلح والتباين الكبير في التعريفات الذي لا يزال مستمرا حتى اليوم وهو المسؤول كذلك عن العلاقات الغامضة بين الأنتربولوجيا والفولكلور .
أما تيلور Taylor فيعرفه بأنه: يتكون من المواد التي تنتقل تقليديا من جيل إلى آخر دون إسناد -يعتد به- إلى مبدع أو مؤلف معين، أما وليام باسلوم Wiliam Bascom الأنثروبولوجي الأمريكي فيرى أن الفلكلور هو علم "الأساطير والحكايات الشعبية بأنواعها والأمثال والألغاز والشعر الشعبي وغير ذلك من أشكال التعبير القولي التي تعتمد الكلمة المنطوقة .
هكذا يظهر أن المصطلح قد اكتسب معناه من طبيعة الأطر المرجعية الثقافية والعلمية للباحث، وهذا ما يعبر عنه سوكولوف الذي يرى بدوره أن: اصطلاح الفولكور ساد بالتدريج في معظم الأقطار، إلا أنه لم يقتصر على معنى واحد، إذ يسود ميدان البحث كثير من الخلاف حول كل من مضمون الفولكلور ومجاله، إلى جانب طبيعة علم الفلكلور والحدود التي تفصله عن العلوم المتشابكة معه .
بيد أن ما يمكن استنتاجه -من خلال ما سبق- هو اهتمام الفولكلور بالإنتاج الفكري الغير المكتوب، والذي لا يتخذ من المؤسسات المدرسية طريقة لانتشاره وإبداعه، فهو إذن يتسم بالعفوية والتلقائية وذلك في إطار مجتمعي خاص وضمن ظروف زمنية وبيئية معينة، فلا غرابة أن يكون: صدى الماضي ولكنه -في نفس الوقت- صوت الحاضر المدوي .
ولن نكون هنا مضطرين إلى تكرار وإعادة التذكير بالنقاش والسجال الكبير بين علماء الفولكلور والعلوم المجاورة في طبيعة مكوناته ومواده وعلاقاته ، وسنكتفي بإيراد الخلاصات العامة التي خرج بها ايكه بعد أن عرض بشكل مفصل جل التعريفات والآراء، من خلال اقتباسنا للفقرة التالية من قاموسه:
ويدلنا هذا العرض لمعنى كلمة فولكلور على أن هناك ثلاث مجموعات كبيرة من التعريفات، أولا تعريف الفولكلور بوصفه التراث الثقافي، وخاصة في بعض الميادين وهو يتماها مع تعريف تومز، ثانيا تعريف الفولكلور بالاقتصار على الأدب الشعبي وهو ما نادى به علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيون الذين يخضعون الفولكلور للثقافة، وأخيرا تعريف الفولكلور بوصفه مجموع ما يندرج ضمن مصطلح الثقافة الشعبية من معارف ومعتقدات وآداب وفنون شعبية.
يلاحظ من خلال النص أعلاه التباين الشديد في تحديد مفهوم الفولكلور الذي مصدره في الأساس هو الارتباك الحاصل في ضبط موضوع وميدان الدراسة، وقد أشار رشدي صالح إلى أن ذلك يعود أساسا إلى تعدد المدارس وصراعها أحيانا بين من يدعو إلى استخدام المنهج اللغوي الصرف، ومن يدعو إلى استخدام مناهج علوم الإنسان (الأنثروبولوجيا أو علوم النفس أو مناهج التاريخ أو الجغرافيا البشرية...) في دراسة هذه المأثورات.
وقد خلص رشدي صالح في الأخير، إلى أن موضوع الفولكلور أعم بكثير من الأدب الشعبي، لأنه يشمل كل ممارسات الإنسان لحياته الروحية والفنية والمادية المعاشة بالفعل وليست المنتهية أو الميتة . وهو الأمر الذي يتبناه أرنولد فان جيناب Arnold Van Gennep، حيث يشير بشكل واضح إلى راهنية اهتمام الفولكلور بدل ماضويته، واتساع دائرته بدل ضيقها كما يعتقد الكثيرون بقوله: إن الفولكلور يتجاوز الاهتمام بالمعتقدات والمعارف والآداب، والفنون والعادات الشعبية والمأثورة، إلى ملامسة الاقتصاد السياسي والتاريخي للمؤسسات والفن والتكنولوجيا...الخ .
ويشير فان جيناب إلى أن ذلك لا يعني تداخل الفولكلور مع الحقول العلمية التي تتخذ من تلك المؤسسات ميدانا للدراسة، وبحثها الميداني كالسوسيولوجيا، بقدر ما يعنى كون الفولكلور يهتم بنتائج تفاعل الإنسان مع هذه الأوساط الاجتماعية الخاصة، على الخصوص تتبع ما ينجم عن ذلك من ظواهر متعلقة بإنتاج القول والسلوك، الذي يرقى تدريجيا لكي يكون ظاهرة فولكلورية تتسم في تحققها بصفات العفوية والتلقائية . فلا غرابة أن يكون في الفولكلور صدى الماضي ولكنه في الوقت نفسه يمثل صورة الحاضر المدوي.
ومهما اختلفت مناهج الدارسين؛ فإنهم يتفقون على كشف عناصر المأثورات الشعبية. فالفولكلور يشمل كل إبداعات الشعوب سواء أكانت بدائية أم متحضرة، وهذا الإبداع يتحقق باستخدام الأصوات والكلمات، شعرا ونثرا، كما يضم المعتقدات الشعبية والعادات والممارسات والرقصات والألعاب الشعبية.
ولتيسير عملية تصنيف المواضيع الكبرى لعلم الفولكلور يمكن أن نسترشد هنا بأقسامه الأربعة التي أوردها صاحب "كتاب نظرية الفولكلور" وهي :
- الأدب الشعبي الشفاهي.
- الثقافي المادي، وخاصة جانب السلوك الشعبي فيها.
- العادات الاجتماعية.
- فنون الأداء الشعبية.
من خلال ما سبق، يتضح أن ميدان الفولكلور واسع وعريض، وتقتضي دراسته التوسل بحقول معرفية متنوعة، في إطار السعي لتفكيك بنية الإبداع الشعبي ذي الخصوصية الرمزية، ومن خلال مجمل الأبحاث والدراسات الموجودة اليوم في الساحة، يمكن أن نوزع أهم مواد الفولكلور المتعارف عليها على أهم الحقول المعرفية المهتمة كما يلي:
- اهتم علم الأركيولوجيا بالفولكلور في شقه المادي أو ما يسمى بالثقافة المادية، من أسوار وقصور وأواني وقلاع...، وكل ما هو مادي.
- درست الأنثروبولوجيا الفولكلور داخل الجماعة من خلال العمل الإمبريقي المرتكز على المعايشة، ويدخل في ذلك الطقوس والعادات والمعتقدات والمعارف الشعبية...
- تعرضت مناهج تحليل الخطاب واللسانيات ومدارس النقد للنصوص الشعبية من أمثال وحكايات وألغاز ونكت وسير وشعر شعبي..
من خلال التحليل السابق، واضح جدا أننا أمام مدلولين لمصطلح الفولكلور، يرادف الأول مصطلح الثقافة الشعبية بشقيها المادي واللامادي، وذلك من خلال إحالته عل جملة من المواد والمواضيع ذات العلاقة بالإبداع الشعبي، بينما يحيل المدلول الثاني على حقل معرفي يمتلك موضوعا ومنهجا أو بالأحرى مناهجا، وغيرها من السمات التي من شأنها أن تمنحه صفة العلمية. ولا غرو أن تتوزع الدراسات الفولكلورية إلى اتجاهات ومدارس، فهذا هز المسار التاريخي لأغلب العلوم الإنسانية، وهو ما سأحاول بسطه فيما يلي.
3. مدارس علـــــم الفولكـــــلور:
عرف علم الفولكلور - شأنه شأن أي علم آخر- في فترات ماضية من تاريخه عديدا من الاتجاهات النظرية التي استطاع بعضها الصمود - مع مروره بالطبع بتعديلات معينة - والاحتفاظ بطرائقه برغم مضي الزمن، بينما حكم التطور العلمي على بعضها بالفساد، أو أن المشكلات التي كانت تتخذها محورا لها لم تعد قائمة، وفي كلتا الحالتين تحولت تلك الاتجاهات أو المدارس إلى تاريخ، تراث عزيز يحفظه أبناء هذا العلم في مكان أثير ولكنه لم يعد يوجه البحث العلمي المعاصر .
وبقدر الاختلاف المسجل في تحديد موضوع الفولكلور، تعددت الدراسات والأبحاث التي اعتبرته علما له مواده وأبحاثه الخاصة، وبينت المناهج المتوسل بها لإنجاز أبحاثها، والغايات منها، وعموما يمكننا أن نعتمد في هذا الباب على خلاصة ما جمعه أيكه هولتكرانس في قاموسه حول مدارس واتجاهات مجال الفولكلور.
من بين الاتجاهات التي ذكر الباحث، نجد الفولكلور التفاضلي، الذي "عنى بالمقارنة والمفاضلة بين أقاليم مختلفة داخل منطقة ثقافية على مستوى الإبداع الشعبي" ، ثم هناك الفولكلور السوسيولوجي، الذي يعتمد نظرية مارينوس التي تعد الظواهر الفولكلورية ظواهر اجتماعية ولذالك يجب دراستها من وجهه نظر سوسيولوجية ووظيفيه وقد سمي أتباع هذا الاتجاه بالفولكلوريين الجدد وهي تدمج إذن الفولكلور ضمن عمل السوسيولوجي الخالص . وهناك أيضا الفولكلور الوظيفي، الذي يسعى الى دراسة وظيفة الأشكال القولية في علاقتها بمسألة المعتقدات والعادات، "فكلما ازددنا إدراكا لأهمية الدراسات الوظيفية للأدب الشعبي، ازداد احتمال اتساع مجال اهتمام عالم الفولكلور بمجموع الحياة الثقافية للشعب موضوع الدراسة .
كما تضمن كتاب نظرية الفولكلور نقلا عن يوري سوكولوف الروسي، مجموعة من المدارس والتوجهات الكلاسيكية والمعاصرة للفولكلور، نكتفي بذكر أسمائها دون تفاصيلها التي تقتضي دراسة خاصة وليست عرضية:
- من النظريات الكلاسيكية: المدرسة الميثولوجية، النظرية الأنثروبولوجية ..
- النظريات المعاصرة: نظرية إعادة البناء التاريخي، الاتجاه الإيديولوجي، النظرية البنائية ودراسة الأدب الشعبي، النظرية الوظيفية، النظرية الوظيفية .
- النظريات المستحدثة: نظرية التحليل النفسي، نظرية المقارنة الثقافية، نظرية الثقافة الشعبية، مدرسة الثقافة الجماهيرية، نظرية العوالم الفولكلورية . وهي اتجاهات في عمومها تجاوزت الاتجاه التقليدي الأول الذي حصر العمل الفولكلوري في التاريخ من خلال "دراسة الرواسب الثقافية في الثقافة الشعبية" ، كما كان الحال مع وليام تومز وغيره.
ولم يستقر الفولكلور كعلم مستقل رغم حداثته بسبب طبيعته الغير متجانسة، وأيضا متحه من حقول معرفية متعددة، ليكون المشكل الأساسي هو اصطدامه مع علوم أخرى راسية القواعد ومحكمة التنظيم كالإثنولوجيا . ولذلك نجد سانتيف أحد علماء الفولكلور يرى أنه: "يجب أن ندرج دراسات الفولكلور تحت تخصصات متنوعة "فيترك الأدب الشعبي لعالم اللغة، والموضوعات الأيديولوجية والدينية للفيلسوف، والفنون والحرف الشعبية لرجل التكنولوجيا" ، فيما يفضل آخرون مثل شارلوت سرثر قصر مصطلح فولكلور على المواد التي يدرسها العلم، ويرفضون استخدامه للدلالة على العلم نفسه، بدعوى غياب مقومات العلم القائم الذات كالوحدة النسقية والمنهجية والتجانس والوضوح .
ومن هنا فنحن نعتبر الدراسة التي نحن بصددها تنتمي إلى الفولكلور في النهاية ما دمنا، سنشتغل على شكل من أشكال فنون القول المنتمية إلى الأدب الشعبي الذي كما سنرى هو ركن أساسي من أركان الفولكلور. وسنعتمد في التحليل على أواليات أدبية لمقاربة الجانب الفني والمضموني في استقراء الأمثال الشعبية.
4. أهمية الدراسات الشعبية:
تتناول الدراسات الشعبية الإنسان من حيث إبداعه ووسائل هذا الإبداع، وتتقصّى خبرته وحكمته كما يمارسها في حياته اليومية تلقائيا، هذه الخبرة والحكمة التي تناقلتها الأجيال، كل جيل يضيف شيئا أو يحذف أشياء لتتوافق في النهاية مع واقع حياته التي يعيشها.
وهذا الإبداع ليس من صنع فرد بعينه، لكنه من نتاج الجماعة الإنسانية في مجتمع ما، وتتعدد أشكال الإبداع والتعبير بتعدد وسائل هذا الإبداع من المأثورات الشعبية باعتبارها تعبيرا مباشرا عن أصالة الثقافة في أي مجتمع. وهي تعبير صادق يتوسل بمختلف وسائل التعبير الفنية ويجمع في مادته بين الخبرة الثقافية الموروثة والتجربة المعاشة. يقول المستشرق الإيطالي جوفاني كانوفا: "لابد أن نشعر كدارسين للعلوم الإنسانية بأهمية الدراسة العلمية عن التراث الشعبي في كل جوانبه الأدبية والاعتقادية والمادية والاجتماعية، وبالحقيقة لا تقتصر أهمية التراث الشعبي على قيمه الجمالية أو الأدبية فقط، ولكن لأنه يمثل محاولة فهم ووصف الحياة والعالم" .
5. الجوانب الحضاريّة والثّقافيّة في الدراسات الشعبية:
إن انتشار الدراسات الشعبية والاهتمام بها كعلم من العلوم الإنسانية في الوقت الحاضر لم يسبق له مثيل، سواء تلك التي تعنى بالأدب الشفهي منه أم التي تهتم بالمادة الشعبية، وما بذله الدارسون من جهود كان نتيجة قناعتهم بأهمية التراث الشعبي وبأثره الحضاري.
إن تأكيد أسسنا الحضارية والثقافية لا يتأتى إلا من خلال دراستنا الجدية للمأثورات الشعبية، فلقد حفل الأدب الشعبي بالحكايات والسير التي ازدهرت على مر العصور وكان لها رواة يحكونها كل مساء في السهرات. لقد غالبت هذه الحكايات الزمن وعاشت في ذاكرة الإنسان العربي، وهذا يدحض ادعاء الناقدين وزعمهم بأن أدبنا العربي لم يعرف فن كتابة القصة إلا في عصور النهضة الحديثة، وبعد الاتصال بالآداب الأوروبية. وبدراستنا للأدب الشعبي نستطيع أن نقيم صلات بين فن القمة المعاصر مثلا وبين الأدب العربي القديم.
6. الجوانب السّياسيّة والاجتماعيّة في الدراسات الشعبية:
إن الاهتمام بالشعب وبتقدمه اجتماعيا وماديا يتطلب الاهتمام بدراسة التراث الشعبي، وتبويئه الصدارة ضمن اهتمامات الدولة وأدبائها ومثقفيها. ونحن متفقون مع الدكتور "عبد الحميد يونس" في تأكيده على أهمية الدراسات التراثية الشعبية. وفي دعوته إلى تنظير مناهجها ودفع دراستها إلى الأمام إذ يقول: "لقد أصبح من المحتم أن نعرّف بأهمية موضوع التراث الشعبي، إنه يرتبط أوثق ارتباط بحياة التجمعات الإنسانية بل لعله يشكل بأقصى حد نمط السلوك الإنساني في إطاره الاجتماعي، وهكذا يؤكد الحاجة الماسة إلى محاولة الكشف عن هيكل عام متكامل للتراث الشعبي".
إن أهمية الدراسات الشعبية تنبع من سمو أهدافها ونبلها وفي هذا المجال تقول الدكتورة نبيلة إبراهيم: الهدف من الدراسات الشعبية هو البحث التاريخي عن ملامح شخصية الشعوب وعن سلوكها الروحي واحتياجاتها النفسية، ثم ربط تراث الشعب حاضره بماضيه .