جان بول سارتر التخيل في الأثر الفني
جان بول سارتر
التخيل في الأثر الفني
جان بول سارتر
ترجمة: كامل عويد العامري
لا نريد أن نتعامل هنا مع مشكلة العمل الفني برمتها. على الرغم من أنها تعتمد بشكل وثيق على مسألة التخيل، إلا أنه سيكون من الضروري التعامل معها بكتابة عمل خاص بها . لكن يبدو أن الوقت قد حان لاستخلاص بعض الاستنتاجات من الدراسات الطويلة التي منها اقتبسنا مثالاً تمثال أو صورة شارل الثامن أو رواية. ستهتم الملاحظات التالية بشكل أساس بنوع العمل الفني الوجودي. ويمكننا الآن صياغة العنصر الرئيس: العمل الفني اللاواقعي.
بدا هذا واضحًا لنا منذ اللحظة التي فيها تناولنا مثالاً، في نية مختلفة تمامًا، صورة شارل الثامن الجانبية. ولقد فهمنا منذ البداية أن شارل الثامن هذا كان كائنا. لكنه من الواضح ليس الكائن نفسه مثل اللوحة، والقماش، وهي المواد الحقيقية التي تتكون منها اللوحة. طالما أننا نفكر في اللوحة القماشية والإطار لذاتها، فلن يظهر الشكل الجمالي «شارل الثامن». لا يعني ذلك أن اللوحة تخفيه، ولكنها تستطيع أن تتكرس للوعي المتحقق. سيظهر في اللحظة التي سيشكل فيها الوعي ذاته، من خلال إجتراح تحول جذري يفترض مسبقًا فناء العالم، بوصفه متخيلا. إن الموقف هنا يشبه هذه المكعبات، التي يمكن أن نراها خمسة أو ستة بحسب رغبتنا. ولن يجدي القول أنه عندما ننظر إليها على أنه خمسة، بإننا أخفينا جانب الرسم الذي فيه ستظهر ستة. لكن، بالأحرى لا يمكننا أن نراها في الوقت ذاته خمسة وستة. إن الفعل المتعمد الذي يحيط بها على أنها خمسة كافٍ في حد ذاته، وهو كامل ومستبعد من الفعل الذي استوعبها ستة. وكذلك الحال مع الإحاطة بشارل الثامن كصورة متجسدة في اللوحة. فشارل الثامن المتجسد مرتبط بالضرورة بالفعل المتعمد للوعي المتخيل. وبما أن شارل الثامن هذا، اللاواقعي، طالما فُهم في اللوحة، فهو بالتحديد موضوع تقديرنا الجمالي (سنقول عنه إنه «مؤثرا»، رُسم بذكاء، واقتدار، وإناقة، «وما إلى ذلك)، ومن هنا فإننا نتوصل إلى الإعتراف بأن الكائن الجمالي في اللوحة هو كائن لا واقعي. هذا له أهمية كبيرة إذا فكرنا في الخلط الذي يحدث عادة بين الواقع والتخيل في العمل الفني.
غالبًا ما نسمع أنه يقال، في الواقع، أن الفنان لديه فكرة أولاً في شكل صورة ينجزها بعد ذلك في لوحة. ينشأ هذا المفهوم الخاطئ من حقيقة أن الرسام يمكن أن ينطلق من صورة ذهنية، على هذا النحو، لا يمكن التعبير عنها، ومن حقيقة أنه في نهاية عمله يقدم للجمهور موضوعا يمكن للجميع أن يشاهده ويتأمله. يقودنا هذا إلى الاعتقاد بحدوث انتقال من الخيال إلى الواقع. لكن هذا ليس صحيحًا بأي حال من الأحوال. ما هو حقيقي، يجب ألا نشعر بالملل في ملاحظته، فهذه نتائج ضربات الفرشاة، وتوسخ القماش، وحبيباته، والطلاء الذي مُرر على الألوان. لكن كل هذا بالتحديد لا يشكل موضوع التقدير الجمالي. ما هو «جميل»، على العكس من ذلك، هو كائن ليس بوسعه أن يكون معطى للإدراك، وهو، بطبيعته، معزول عن الكون. لقد أشرنا للتو أنه ليس بالممكن إضاءتها،بإسقاط حزمة مضيئة على اللوحة القماشية على سبيل المثال: اللوحة القماشية هي التي سلطنا الضوء عليها وليست هي بالذات من ينبعث منها الضوء. حقيقة الأمر، أن الرسام لم يدرك صورته الذهنية على الإطلاق: لقد أنشأ ببساطة نظيرًا ماديًا من هذا النوع بحيث يمكن للجميع فهم الصورة بشرط أن ينظر إلى التماثل. لكن الصورة التي تنجز بنظير خارجي تظل صورة. لا يوجد إنجاز للتخيل، ولا يمكننا التحدث عن تجسيده. لم تُكرس كل ضربة فرشاة لذاتها ولا حتى لبناء وحدة حقيقية متماسكة (بمعنى أنه يمكن القول إن ذلك يشبه رافعة في آلة صُممت لتناسب الجميع وليس لذاتها). لقد كانت معطى بالاقتران مع مجموعة تركيبية لاواقعية وكان هدف الفنان هو بناء مجموعة كاملة من الألوان الحقيقية التي من شأنها أن تتيح لهذا غير الواقعي بالتعبير عن نفسه. وبالتالي يجب أن تُدرك اللوحة على أنها شيء مادي يُزار بين الحين والآخر (في كل مرة يتخذ فيها المتفرج وضع التخيل) من خلال شيء غير واقعي الذي هو بالضبط الكائن المرسوم. إن ما يخدعنا هنا، هو المتعة الحقيقية والحسية التي تمنحنا إياها بعض الألوان الحقيقية على القماش.
تثير بعض ألوان ماتيس الحمراء، على سبيل المثال، متعة حسية لدى من يراها. لكن علينا أن نفهم: إن هذه المتعة الحسية، إذا نظرنا إليها، بمعزل عن غيرها ليس لديها أي شيء من الجمالية، إذا أثارها لون أحمر معطى في الواقع في الطبيعة. إنه في غاية البساطة محض متعة للحواس. على العكس من ذلك، عندما ندرك اللون الأحمر في اللوحة، فإننا ندركه، على الرغم من كلِّ شيء، بوصفه جزءًا من كل لاواقعي وهو في هذا الكل. على سبيل المثال، لون السجادة الأحمر بالقرب من طاولة. فضلا عن ذلك،لا يوجد شيء اسمه لون نقي. حتى لو كان الفنان مهتمًا فقط بالعلاقات الحسية بين الأشكال والألوان، فقد اختار سجادة على وجه التحديد لمضاعفة القيمة الحسية لهذا اللون الأحمر: على سبيل المثال، يجب أن تكون العناصر اللمسية مقصودة عن اللون الأحمر، فهو لون أحمر صوفي، لأن السجادة من مادة صوفية. من دون هذا الطابع اللوني «الصوفي»، سيضيع شيء ما. وبالتأكيد فإن السجادة مطلية هناك باللون الأحمر الذي تبرره وليس اللون الأحمر يبرر للسجادة. ولكن إذا اختار ماتيس بدقة سجادة بدلاً من ورقة جافة وصقيلة، فذلك بسبب المزيج الحسي الذي سيشكل لون الصوف وكثافته وصفاته اللمسية. وبالتالي، لا يمكننا أن نستمتع حقًا باللون الأحمر إلاّ من خلال الإمساك به على أن لون السجادة أحمر، وبالتالي فهو غير واقعي. وما سيكون أكثر قوة في تناقضه مع اللون الأخضر للجدار سيضيع إذا لم يكن هذا اللون الأخضر جافا وصقيلا لأنه لون البساط الأخضر المعلق على الجدار. لذلك فمن غير الواقعي أن تأخذ علاقات الألوان والأشكال معناها الحقيقي. وحتى عندما تُرى الأشياء المجسدة أن معناها المعتاد يتقلص إلى الحد الأدنى، كما هو الحال في اللوحات التكعيبية، فإن اللوحة على الأقل ليست مستوية.
من المؤكد أن الأشكال التي ندركها لم تعد قابلة للاستيعاب على أنها سجادة أو طاولة أو أي شيء نفهمه عادةً في العالم. ومع ذلك، فإنها تمتلك كثافة ومادة وعمق، إنها تدعم علاقات المنظور مع بعضها البعض. هذه أشياء. وهذا هو بالضبط المقياس الذي فيه تكون الأشياء لاواقعية. لقد أعتدنا، منذ التكعيبية، التصريح بأن اللوحة لا ينبغي أن تمثل الواقع أو تقلده، بل يجب أن تشكل شيئًا في حد ذاته. هذه العقيدة، كبرنامج جمالي، يمكن الدفاع عنها تمامًا ونحن مدينون لها بالعديد من الروائع. لكن لا يزال ما ينبغي أن نفهمه . إذا أردنا القول إن اللوحة، مهما كانت خالية تمامًا من أي دلالة، وتمثُل في ذاتها ككائن حقيقي، فإننا نرتكب خطأ فادحًا. بالتأكيد لم يعد الكائن يحيل إلى الطبيعة. لم يعد الكائن الحقيقي يعمل كنظير لباقة من الزهور أو لفسحة. ولكن عندما «أفكر» في ذلك، لا يعني، أنني لست في وضع الإدراك. فهذه اللوحة لاتزال تعمل كنظير. ببساطة ما يتجلى من خلالها هو مجموعة غير حقيقية من الأشياء الجديدة، الأشياء التي لم أرها من قبل أو لن أراها أبدًا ولكنها مع ذلك أشياء غير حقيقية، أشياء غير موجودة. لا في اللوحة، ولا في أي مكان في العالم، ولكنها تتجلى من خلال اللوحة القماشية والتي كان يستحوذ عليها نوع من الامتلاك. وكل هذه الأشياء غير الواقعية هي التي سأصفها بأنها جميلة. أما بالنسبة للمتعة الجمالية، فهي حقيقية ولكنها لا تُدرك لذاتها، كما لو كانت ناتجة عن لون حقيقي: إنها فقط طريقة للأحاطة بالشيء غير الواقعي، وبعيدًا عن كونها موجهة إلى اللوحة الحقيقية، فإنها تعمل على تكوين الكائن المتخيل من خلال اللوحة الحقيقية. هذا هو مصدر عدم الاهتمام الشهير بالرؤية الجمالية. هذا هو السبب في أن كانط كان قادرا على القول أنه لا يهم ما إذا كان موضوع الجمال، المدرك بوصفه جميلا، سواء أكان يشترط الوجود أم لا ، هذا هو السبب الذي جعل شوبنهاور يتحدث عن نوع من تعليق إرادة القوة. وهذا لا يأتي من طريقة غامضة، للإحاطة بالواقع، ولإدراك الحقيقة. التي يمكننا استخدامها من حين إلى آخر. لكن ببساطة أن الموضوع الجمالي متشكل ويدركه وعي متخيل يجعله غير واقعي.
ما أوضحناه للتو فيما يتعلق بالرسم، سيكون من السهل جدًا إظهاره أيضًا فيما يتعلق بفن الرواية والشعر والفن الدرامي. وغني عن البيان أن الروائي، والشاعر، والكاتب المسرحي، يشكلون من خلال نظائرهم اللفظية كائنا غير واقعي. وغني عن البيان أيضًا أن الممثل الذي يؤدي دور هاملت يستخدم نفسه، وجسده بالكامل كنظير لهذه الشخصية المتخيلة. وهذا نفسه ما سيجعل من الممكن أخيرًا تسوية هذا النقاش الشهير بشأن مفارقة الممثل. ونحن نعلم في الواقع أن بعض المؤلفين يصرون على ما لا يؤمن به الممثل في شخصيته. البعض الآخر، على العكس من ذلك، بالاعتماد على العديد من الشهادات، يظهرون لنا أن الممثل يتعرف بطريقة ما على الشخصية التي يقوم بتمثيلها. يبدو لنا أن هاتين النظرتين لا تقتصران على بعضهما بعض : إذا كان من المفترض أن يكون «الاعتقاد» حقيقيًا بالفعل، فمن الواضح أن الممثل لا يعتبر نفسه في الواقع هاملت. لكن هذا لا يعني أنه لا «يعبئ» نفسه بالكامل لإنتاج هاملت. إنه يستخدم كل مشاعره، وكل قوته، وكل إيماءاته كنظير لمشاعر وسلوكيات هاملت. لكن من خلال هذه الحقيقة بالذات فإنه لا يعتبرها واقعية. إنه يعيش بالكامل في عالم غير واقعي. ولا يهم أنه يبكي حقًا في فورة الدور. هذه الدموع، التي شرحت مصدرها ، يفهمها هو بالذات - و معه الجمهور أيضا- على أنها دموع هاملت، أي كنظير للدموع غير الواقعية. إن التحول الذي يحدث هنا يشبه ذلك الذي ناقشناه في الحلم: فالممثل محاصر تمامًا، وقد ألهمه اللا واقعي. إن الشخصية ليست هي التي تتحقق في الممثل، بل الممثل هو الذي يصبح غير متحقق في شخصيته. *
لكن ألا توجد بعض الفنون تبدو موضوعاتها تتجنب بطبيعتها ما هو لاواقعي ؟ على سبيل المثال، لا يشير اللحن الموسيقي إلا إلى ذاته. أليست الكاتدرائية مجرد كتلة حقيقية من الحجر تهيمن على أسطح المنازل المحيطة بها؟ لكن دعونا ننظر إلى هذه المسألة عن كثب. على سبيل المثال، إنني أستمع إلى أوركسترا سيمفونية تعزف سمفونية بيتهوفن السابعة. دعونا نتجاهل الحالات الشاذة - التي تقع في هامش التأمل الجمالي - كما هو الحال عندما أذهب بشكل أساس «لسماع أرتورو توسكانيني» وهو يفسر بيتهوفن بطريقته الخاصة. كقاعدة عامة، ما يجذبني إلى الحفلة هو الرغبة في «سماع السيمفونية السابعة». بالطبع قد يكون لدي بعض الإِحْجام عن سماع أوركسترا الهواة، وقد أفضل قائد الأوركسترا هذا أو غيره. ولكن هذا بسبب رغبتي الساذجة في سماع السيمفونية السابعة «تؤدى على نحو مثالي»، لأن السيمفونية ستكون عندئذٍ نفسها تمامًا. يبدو لي أن أوجه القصور في أوركسترا رديئة «تعزف بسرعة كبيرة» أو «ببطء شديد»، أو «بوتيرة خاطئة»، إلخ. تحجب، أو «تخون»ما تؤديه. وفي أحسن الأحوال، تنتمي الأوركسترا حيال الأثر الفني الذي تؤديه، وإذا كان لدي بعض الأسباب للوثوق في فناني الأداء وقائدهم،
فسوف أحتسب كما لو كنت أمام السيمفونية السابعة بذاتها. سيتفق معي الجميع على ذلك. ولكن، الآن، ما هي السيمفونية السابعة «بذاتها»؟ من الواضح أنها شيء، أي أنها شيء ما أمامي يقاوم ويدوم. وبطبيعة الحال، ليست هناك حاجة أخرى لإثبات أن هذا الشيء هو كلٌّ تركيبي والذي لايتكون من نوطات مدونة، بل من مجموعات موضوعاتية كبيرة. لكن هل هذا «الشيء» حقيقي أم غير حقيقي؟ دعونا أولا نضع في اعتبارنا أنني أستمع إلى السيمفونية السابعة.. بالنسبة لي، هذه «السيمفونية السابعة» غير موجودة في الوقت المناسب، ولا أعتبرها حدثًا قديمًا، ولا كمظهر فني يؤدى في صالة شاتليه في السابع عشر من نوفمبر- تشرين الثاني عام 1938. إذا سمعت غدًا، أو في غضون أسبوع، ماريا فورتفنجلر [ممثلة ومغنية ألمانية.م] تقود أوركسترا أخرى تعزف هذه السمفونية، فسأحضر مرة أخرى السمفونية نفسها. وسيكون عزفها ببساطة على نحو أفضل أو أدنى.
الآن دعونا ندرس كيف أستمع إلى هذه السمفونية: بعض الناس يغمضون أعينهم. وفي هذه الحالة يفقدون الاهتمام بالحدث المرئي والمؤرخ الذي هو الأداء ، ولا يستسلمون إلاّ للأصوات النقية. وآخرون يحدقون في الأوركسترا أو في ظهر قائد الأوركسترا. لكنهم لا يرون ما يبحثون عنه. هذا ما يسميه غابرييل تشارلز ريفو دالون
[طبيب فرنسي وأستاذ مشارك في الفلسفة 1872- 1949م]. التفكير بالسحر المضاف. في الحقيقة لقد أختفى كل من الصالة، وقائد الفرقة الموسيقية وحتى الفرقة . لذلك فأنا أواجه السيمفونية السابعة ولكن بشرط صريح بعدم سماعها في أي مكان، والتوقف عن التفكير في أن الحدث على أنه راهنا وقديما، وبشرط تأويل تتابع الموضوعات على أنه تتابع مطلق وليس تتابعا حقيقيا من شأنه أن يحدث، على سبيل المثال، في هذا الوقت الذي فيه يزور بيير كذا وكذا من أصدقائه في الوقت نفسه. فبقدر ما أسمعها، فإن السمفونية هي ليست هنا، بين هذه الجدران، عند طرف أقواس الكمان. كما أنها لم «تعزف» أيضا كما لو كنت أعتقد: ذلك هو العمل الذي تبلور في ذهن بيتهوفن في مثل هذا التاريخ. إنه أبعد من الواقع تمامًا. له زمنه الخاص، وهذا يعني أنه يمتلك زمنا خاصا، يمتد من نوطة الإيقاع الأولى السريعة ( أليغرو) إلى النوطة الأخيرة في النهاية، لكن هذا الزمن ليس على أثر زمن آخر سيستمر ويحدث «قبل» استهلال نوطة الإيقاع، ولا يليه أيضا زمن «بعد» النهاية. إن السيمفونية السابعة ليست فيما مضى من الزمن على الإطلاق. لذلك فهي ليست حقيقية بأي حال من الأحوال. إنها تحدث من تلقاء نفسها، ولكنها غائبة، كما لو أنها غير متاحة. سيكون من المستحيل بالنسبة لي أن أتخذ إجراءً بشأنها، أو إن أغير نغمة واحدة منها، أو أن أبطئ من حركتها، ومع ذلك تعتمد على الحقيقة في مظهرها، وسواء أصيب قائد الأوركسترا بنوبات إغماء، أو أن حريقًا أندلع في الصالة لن تتوقف الفرقة عن العزف. من هذا لا يمكننا أن نستنتج أن السيمفونية السابعة قد وصلت إلى نهايتها. كلا، نحن سنعتقد أن أداء السيمفونية قد توقف. أليس من الواضح أن أداء السيمفونية السابعة هو نظيرها؟ وهذا لا يمكن أن يتجلى إلا من خلال نظائرها التي لها أهمية كبيرة والتي حدثت في عصرنا. ولكن من أجل فهمها من خلال هذه النظائر، من الضروري إجراء عملية التركيز على الإجزاء أو المؤثرات المتخيلة، أي الإحاطة بالأصوات الحقيقية بدقة على أنها نظائر. لذلك تتكرس كغياب دائم في مكان آخر، كغياب دائم . يجب ألا نظنها (كما فعل سباندرل في رواية الدوس هوسكلي ( نقطة مقابل نقطة) - كما يفعل الكثير من الأفلاطونيين) على أنها موجودة في عالم آخر، في فضاء واضح. إنها ليست ببساطة خارج الزمان والمكان - كما الماهيات، على سبيل المثال - إنها خارج ماهو حقيقي، إنها خارج الوجود. أنا لا أسمعها حقًا، فأنا أستمع إليها في حالة تخيل . وهذا ما يفسر الصعوبة الكبيرة التي نواجهها دائمًا في الانتقال من «عالم» المسرح أو الموسيقى إلى عالم اهتماماتنا اليومية. وحقيقة القول، لا يوجد انتقال من عالم إلى آخر، ولكن هناك انتقال من حالة متخيلة إلى حالة مدركة. إن التأمل الجمالي هو حلم مستحَث والانتقال إلى الحقيقة هو استيقاظ حقيقي. غالبًا ما نتحدث عن «خيبة الأمل» التي ترافق العودة إلى الواقع. لكن هذا لا يفسر سبب وجود هذا الشعور بالانزعاج، على سبيل المثال، بعد مشاهدة مسرحية واقعية وقاسية، في هذه الحالة، في الواقع، ينبغي فهم الواقع على أنه واقع يبعث على الإطمئنان. في الواقع، هذا الشعور بالانزعاج هو ببساطة شعور النائم عند الاستيقاظ: إنه وعي آسر، عالق في التخيل، يتحرر فجأة عند توقف المسرحية المفاجئ، وتوقف السمفونية، ومن ثم يستأنف الاتصال فجأة بالوجود. ولا حاجة إلى أي شيء آخر لإثارة الاشمئزاز الذي يثير الغثيان الذي يميز الوعي المتحقق.
من خلال هذه الملاحظات القليلة يمكننا بالفعل أن نستنتج أن الحقيقة ليست جميلة أبدًا. الجمال قيمة لا يمكن أن تنطبق إلا على التخيل والتي تعني نفي العالم في بنيته الأساسية، هذا هو السبب في أنه من الغباء الخلط بين الأخلاق وعلم الجمال. إن قيم الخير تفترض مسبقًا الوجود - في - العالم، وهي تستهدف السلوكيات في الحقيقة وتخضع في البدء لعبثية الوجود الأساسية. إن القول بأننا «نتخذ» موقفًا جماليًا تجاه الحياة هو تشويش بين الحقيقة والتخيل. ومع ذلك، يحدث أننا نتخذ وضع التأمل الجمالي في مواجهة الأحداث أو الأشياء الحقيقية. في هذه الحالة، يمكن لأي شخص أن يرى في نفسه نوعًا من التراجع عن الكائن الذي فكرنا فيه والذي ينزلق هو بذاته إلى العدم. حتى أنه، إعتبارا من هذه اللحظة، لم يعد قد أُدرك، يعمل كنظير لنفسه، أي صورة غير حقيقية مما يتجلى لنا عبر وجودها الفعلي. يمكن أن تكون هذه الصورة على نحو محض وبسيط للكائن «نفسه» محيّدًا ولاوجود له، كما هو الحال عندما أفكر في امرأة جميلة أوفي الموت في حلبة مصارعة الثيران، يمكن أن يكون أيضًا المظهر غير المتكامل والمربك لما يمكن أن يكون عليه من خلال ما هو عليه، كما هو الحال عندما يستوعب الرسام الانسجام بين لونين أكثر كثافة وحيوية، من خلال البقع الحقيقية التي يجدها على الحائط. يبدو الكائن في الحال وكأنه يتكرس خلف نفسه، ويصبح غير قابل للمس وغير متاح لنا، وبالتالي ينشأ نوع من غياب الاهتمام به على نحو مؤلم. وبهذا المعنى قد نقول إن الجمال العظيم في المرأة يقتل ما نشعر به من رغبة فيها. في الواقع، لا يمكننا أن نضع أنفسنا على المستوى الجمالي وعلى مستوى إدراك الحيازة الجسدية، الذي فيه تظهر هذه المرأة «بالذات» غير الحقيقية التي نعجب بها. من أجل الرغبة فيها، من الضروري أن ننسى أنها جميلة، لأن الرغبة هي الغوص في جوهر الوجود فيما هو أكثر عرضية عبثية. إن التأمل الجمالي للكائنات الحقيقية له بنية الظاهرة الـ البارامنسية paramnésie نفسها، حيث يعمل الكائن الحقيقي كنظير لذاته في الماضي. في إحدى الحالتين هناك عدم، وفي الأخرى وضع الشيء في الماضي passéification. يختلف الـ بارامنسيا عن الموقف الجمالي لأن الذاكرة تختلف عن الخيال.
* بهذا المعنى، يمكن لمبتدئة في المسرح أن تقول إن رهاب المسرح خدمها لتمثيل خجل أوفيليا. إذا فعلت ذلك، فذلك لأنها حولته فجأة إلى غير واقعي، أي أنها توقفت عن الإحاطه به بنفسها، وأنها اعتبرته نظيرًا لخجل أوفيليا.(المترجم)
**paramnésie البارمنسيا: إضطراب عصبي يتميز باعترافات كاذبة أو ذكريات كاذبة يُنظر إليها على أنها حقيقية .(المترجم)
المصدر:
هذه الدراسة فصل من كتاب (التخيل) لجان بول سارتر.