كوتوبيا
كثيرة هي المدن التي سكنت في قلوب الشعراء والكتاب في العالم، وفي العراق ثمة كتاب وشعراء تعلقوا بمدنهم التي ولدوا فيها حد الجنون اذ نرى صورة البصرة تتجلى في ذاكرة القاص العراقي محمد خضير في كتابه (بصرياثا) التي اخذت حجم الأسطورة الماثلة في جغرافية المكان، وليس ببعيد عندما تنهض اسطورة ثانية عبثت بذاكرة الشاعر العراقي حميد حسن جعفر هذا الابن البار الى مدينته (الكوت) الذي لم يغادرها طوال حياته فتحولت في دمه الى (كوتوبيا) وهي الأرض الواقعة في صميم ارض السواد، وفي مركز القلب منها، وفيها ملتقى انهارها ومنبع خيراتها وهي اكثر خصبا وألطف مناخا من المناطق الأخرى.
وكوتوبيا الذي نعرض له هو كتاب صادر عن دار الشؤون الثقافية العامة، للشاعر حميد حسن جعفر الذي يؤرخ فيه للإنسان الذي سكنها وللطبيعة التي تمكنت منها وأرخت لنفسها يقول المؤلف: (لان الانسان كان ضعيفا في مواجهتها خائفا من تحولاتها لم يستطع ان يترك من ورائه الا القليل من الرسوم او الحفريات التي استطاعت الكهوف ان تحتفظ بها).
وان تتحول هذه الطبيعة الى ذاكرة فطنة قادرة على الوقوف الى جانب الكائن الذي انتجته، فهناك العشرات من الأمكنة بحاجة لمن يدفع بها الى التنفس، لكي تتمكن من ان تقول الكثير مما في حواصلها، فهناك شوارع وأسواق، ومحلات تجارية وسكنية واحياء شعبية ومراقد وساحات وحدائق ومقاهٍ، وهناك مطاعم ودور سينما وأسواق صناعية وهناك مهن وعادات وتقاليد وسلوكيات بحاجة لمن يدس أصابعه في جمراتها ليشعر بقربها منه. ومن اجل الحفاظ على ماتبقى من هذا وذاك استطاعت هذه الالتفاتة ان تعاين ضمن حالة من الجمال والرضا، ومن اجل ان يتوقف الخراب من نشر مفاتنه على الماضي محاولا الإساءة له ولكائناته كانت هذه المتابعة لحياة الكائن المكاني.