Welcome in the demo
Another demo

صدر حديثا

جديد دار الشؤون الثقافية طالب كريم أن ظهور مصطلح الصورة المتحركة ارتبط بشكل أساسي بتقانات التصوير والعرض الصوري…
" لمحات " مجلة العلوم الإجتماعية العدد الثالث صدر حديثاً عن دار الشؤون الثقافية طالب كريم صدر…
المورد مجلة تُراثيةٌ فصلية مُحَكمةٌ عدد جديد عن دار الشؤون الثقافية طالب كريم صدر حديثاً عن دار…
صدر حديثاً عن دار الشؤون الثقافية العامة/ وزارة الثقافة والسياحة والآثار العدد المزدوج 323 -- 324 الجديد من مجلة التراث…
صدر حديثاً عن دار الشؤون الثقافية العامة/ وزارة الثقافة والسياحة والآثار العدد الثاني -- 2024 -- من مجلة الثقافة الأجنية…

أعلان

اختتمت صباح اليوم المصادف ٢٠٢٤/٧/٤ وعلى قاعة غائب طعمه فرمان في دار الشوون الثقافية العامة الدوره التدريبية الأساسية الاولى في تحقيق النصوص التراثية الخطية ، التي أقامتها دار الشؤون الثقافية بالتعاون مع دائرة المخطوطات العراقية للفترة من ٢٠٢٤/٦/٢٣ ولغاية ٢٠٢٤/٧/٤

على هامش إقامة الدوره التدريبية الأساسية الاولى في تحقيق النصوص التراثية الخطية...مستشار السيد رئيس الوزراء الدكتور عارف الساعدي..مستعدون لتبني جميع الأفكار التي من شأنها الحفاظ على المخطوطات التراثية...

رؤساء التحرير

1 2 34 5 Screenshot 2024 06 03 211917 copy

المقالات

دراسات وبحوث

حوارات ومذكرات

مقالات

  • أغاني الالعاب الشعبية في كربلاء

    علي فتال

    نشر هذا البحث في مجلة التراث الشعبي في العدد الخامس السنة الخامسة عام 1974 (عدد خاص عن الموسيقى والاغنية الشعبيين).

    أغاني الالعاب الشعبية في كربلاء
    علي الفتال

    حسنا تفعل أسرة مجلة التراث الشعبي في اصدارها اعداداً خاصة بمجالات تراث شعبنا العظيم، الذي اضحى جمعه من مستلزماتنا الحضارية باعتباره سمة مميزة للشعب في مختلف عصوره.
    ان تاريخنا المدون - وللاسف أقول قد سجل لنا جانبا واحداً من حياتنا الاجتماعية وهو الجانب الفوقي للمجتمع أما الجانب التحتي، جانب الجماهير الشعبية، التي تقع على عاتقها أعباء الحياة فلم يلتفت اليها التاريخ المدون إلا عرضياً. ولعلي لا أأتي بجديد إذا ما أردت الوصول إلى حقيقة منطقية وهي:
    ان ترصدنا، وبالتالي تسجيلنا، لتراثنا الشعبي انما هو انصاف الجماهير شعبنا على مر العصور، لان تسجيل مأثورات الشعب لا يعني تخليد ذلك القطاع الهام فحسب انما - وهذا هو المهم - الوصول إلى حقائق اجتماعية يجهلها اكثر الباحثين الاجتماعيين والمؤرخين.
    وما تقوم به مجلة التراث الشعبي انما يشكل انعطافاً نوعاً وكماً - في تسجيل التاريخ ودراسة المجتمع، فهي مأثرة ولا شك سوف تذكرها الاجيال القادمة لهذه المجلة الرائدة .
    والغناء جزء مهم من ذلك التاريخ لانه استنطاق لاعماق النفس البشرية وتجسيد حي لاختلاجات تلك النفس ومؤشر على طموحاتها و تطلعاتها نحو غد سعيد ، وهو تسرية وترويح عن النفوس المتبعة المثقلة باعباء الحياة . كما أنه تعبير صادق عن واقع معين معاش .
    وفي بحثي هذا سأختار لونا واحدا من اغانينا الشعبية وهي الاغاني التي كان يرددها الاطفال والصبيان في العابهم . وطبيعي أن بيئة هذه الاغاني ستكون مدينتي الحبيبة كربلاء وسيكون منهجي في تسجيل نصوص الاغاني ذا وجهين: الأول - التعريف بالالعاب الشعبية وذلك بشرحها، والثاني - تثبيت نصوص الاغاني ازاء كل لعبة.

    1 - في ايام الشتاء الممطرة وبعد ظهور الشمس من خلال الغيوم المتقطعة التي اسقطت كثيراً من امطارها يتجمع الاطفال والصبيان (ذكوراً واناثاً) في الشوارع والطرقات اما متماسكين على شكل حلقات أو متفرقين وهم يصفقون فرحين مستبشرين بطلوع الشمس ويرددون الأهزوجة التالية :

    طلعت الشميسة (1)
    علی گبر عيشه (۲)
    علی گبر (۲) عیشه
    عیشه بت (3) الباشه (٤)
    تلعب بالخرخاشه (٥)
    یا ملتنه (6) صرفينه (۷)
    راح الوكت (۸) علينه
    واشموسنه غابت
    ورواحنه (۹) ذابت
    طلعنه لیبره (۱۰)
    شفنه (۱۱) حبيب الله
    بیده قلم فضه
    يكتب كتاب الله
    یا فاطمه بنت النبي
    آخذي كتابج وانزلي
    على صدر محمد وعلي.

    وقبل أن تطلع الشمس وفي اثناء تساقط المطر( المطر الربيعي بصورة خاصة) نرى الصبيات منهم ينشرن شعورهن ويتقافزن في العراء و هن يرددن:

    مطر مطر عاصي
    طوَّل شعر راسي

    ۲ - وفي الاعياد والمناسبات المفرحة تكثر المراجيح "الاراجيح" التي تتكون من الحبال. أو أنها تكون في البيوت، حيث يشد الحبل من طرفيه في مسمارين مثبتين بجدارين متقابلين فيتدلى الحبل لتجلس عليه الصبية أو الصبي فيسمى مرجوحه (أرجوحه). من أجل ضبط الوقت في التأرجح ولكي يتأرجح الجميع بالتساوي يرددون هذه الاغنية:

    سيدي سيدي(۱۲)
    راح المكّه راح المكّه (۱۳)
    جابلي (١٤) ثوب و تکه (١٥)
    ثوب و تکه
    والتكه وين آضمها
    وين أضمها
    آضمها بصنیدیگي(۱6)
    صنيديگي ماله مفتاح
    ماله مفتاح
    والمفتاح عّد (۱۷) الحداد
    عّد الحداد
    والحداد يريد فلوس
    يريد فلوس
    والفلوس عّد العروس
    عّد العروس
    والعروس بالحمّام
    بالحمّام
    والحمام يريد ماي
    يريد ماي
    والماي عّد الله
    عّد الله
    والعروس تريد بيضه
    تريد بيضه
    والبيضة بجعب (۱۸) الجاجه (۱۹)
    بجعب الجاجه

    وبعد الانتهاء من الاغنية تطلب الراكبة في المرجوحة من صاحبتها التي تتولى هز الحبل "ارجحتها" أن تهزها هزاً اضافيا فتنصاع قائلة:

    هاي زيادة
    العبد السادة
    طلكك مرته
    وعاف اولاده
    بالطرّاده (۲۰)

    3- وفيما يلي محاورة بين طرفين... فالطرف الأول ممثل أو ممثلة عن جماعة يريدون خطبة فتاة من الطرف الثاني الذين هم أهل الفتاة التي يراد خطبتها . فهي أشبه ما تكون بـ "اوبريت" في وقتنا الحاضر.حيث تقف مجموعة من الصبيان والصبيات وهم يمثلون أهل الفتاة المنوي خطبتها ويقف ازاءهم الخاطب أو ممثل عن الخاطبين وتبدأ المحاورة على الشكل التالي:

    الخاطب - الله يصبحكم بالخير
    يا عمّار العمّارة
    أهل الفتاة - الله يمسيكم بالخير
    يا عمار العمارة
    الخاطب - انطونه بنتكم
    يا عمار العمارة
    أهل الفتاة - ما ننطيها هيّه
    الا بالف وميّه
    الا بشدة الالماز(۲۱)
    و ديوان الصينية (۲۲)
    الخاطب - نجي على بابكم
    وانكسر عتابكم
    والشمع ديوانكم
    عروستنه نعیمه
    أهل الفتاة - اخذوها بالسلامة
    يا عمّارة العمّارة

    4- ومن الاوبريتات الشعبية هذا اللون، إذ تجتمع الصبيات ويتماسكن بالايدي بحيث يكونَّ سلسلة متماسكة دائرية الشكل فتبدا المحاورة بين احداهن وبقية الصبيات على الشكل التالي:

    احداهن - جنجرص جنجرص (۲۳)
    الصبيات - أمّك تبيع الفرص (٢٤)
    احداهن - سجنتكم حادة ؟ (٢٥)
    الصبيات - وتكص اللبّاده (26)
    احداهن - تنورکم حار وبارد ؟
    الصبيات - بارد....
    احداهن - اليوم عرسمن ؟
    الصبيات - سليمه أو أي أسم (آخر)
    احدا من – (للعروس المختارة): شنو تريدين ؟
    العروس - تمن وقيمة (۲۷)

    فتدور الصبيات الواحدة تلو الأخرى بحيث تدخل احداهن نفسها من تحت يد الاخرى باحناء رأسها كما لو كانت تدخل من باب دار حتى يتشابكن بالايدي وهن يرددن:

    تمن وقيمه لكمه سمينه (أو لحمه سمينه)

    5 - ومن العاب الصبيات المغنّاة انهن يتماسكن بالايدي بحيث يشكلن دائرة ويتقافزن ويرددن الكلمات التالية :

    ويلا يا رمانه ويلا يمه (۲۸)
    من هيّه الزعلانه ويلا يمه (۲۹)
    حسنيه الزعلانه ويلا يمه
    منهو اليرضيها ويلا يمه (۳۰)
    الصابغ تراجيها ويلا يمه (۳۱)
    لعبت أبلعّابي ويلا يمه
    كسرتَّ دولابي ويلا يمه

    ٦ - وفي الاغنية التالية تظهر الصبيات متماسكات بالأيدي على شكل دائري وهن يرددن:

    شدَّه ياورد
    شدَّه
    منهيّه الورد (۳۲)
    شدَّه
    خيرية الورد (أو أي أسم يلائم الوزن)
    شدَّه
    نومتها ورد
    شدَّه
    گعدتها ورد (۳۳)
    شدَّه
    شدَّه ياورد
    شدَّه

    7- وهناك لعبة الكرسي. أما أن تكون بين الصبيان فقط أو بين الصبيات أو تكون بين الجنسين.
    وطريقتها: أن يمد احدهما يده اليمنى مثلا أفقياً إلى جهة صاحبه ويمسك بالأخرى ذراعه اليمنى بحيث تشكل يده اليسرى مع صدره ويده اليمنى مربعا ضلعاه يده اليسرى وضلعه الثالث يده اليمنى اما الضلع الرابع فصدره... وهكذا يفعل صاحبه إذ يمسك بيده اليمنى صاحبه اليسرى المطويه، على أن يفعل صاحبه مثله أيضاً. فيتكون عندهما كرسي من غير مسند. فيجلس عليه طفل أو طفلة فيحملانه ویسیران به وهما يرفعانه ويخفظانه ويرددان:

    صندوگنة العالي
    فدوه لبن خالي (34)
    يوكع ويتكسّر (35)
    من فوك ليجوه (36)
    دشو دشو دشو دشو(۳۷)

    8- ومن الألعاب المختلطة بين الجنسين من الصبيان والصبيات أن يتماسكوا بالايدي بحيث يشكلون قوسا أو نصف دائرة ويرددون الأهزوجة التالية:

    تنك تنك تنكچي(۳۸)
    اجه المدير ضربني(39)
    ضربني بالعصاية
    عصاية وين اضمها(٤٠)
    اضمها عد هدية
    هدية جابت ولد (٤١)
    سمته عبد الصمد
    بواك الصابونه (٤٢)
    من جوه الرازونه (٤٣)
    عفيه تمر مبيه نوه (٤٤)
    الزم لحيتك لا يطيرها الهوه (٤٥)
    9- والاغنية الاخيرة من اغاني الالعاب الشعبية في كربلاء يقوم بادائها كلا الجنسين من الذكور والاناث ، حيث يجلسون على الارض متراصفين مادين أرجلهم، ويقوم احدهم أو احداهن بترديد الاغنية مع الضرب على الارجل الممدودة بالتتالي في نهاية كل تفعيلة من تفعيلات الاغنية .
    فاذا كانت تفعيلاتها (فعلن فعلن) تكون الضربة على رجل الجالس الأول بعد التفعيلة الأولى والضرب على الرجل الثانية لنفس الشخص بعد التفعيلة الثانية وهكذا حتى تنتهي الاغنية . ومن كان نصيبه الضربة الاخيرة عليه أن «يلم» أي يطوي رجله. وهكذا حتى تطوي الارجل جميعها. اما الاغنية فهي:

    حمد ديم (٤٦)
    ناصر دیم
    شّد الكور
    عالزنبور
    گام ايدور
    طلعت بنية من البحر
    چنها شكر (٤٧)
    چنها مكرر
    چنها عيون التفتكر(٤٨)
    يا ايدي دليني
    على الخوخ والعنبِ والتينِ

    أو يرددون هذه الاغنية وعلى نفس الطريقة السالفة:

    حجنجلي حجنجلي (49)
    صعیدیت فوگ الجبل (٥٠)
    ولگيت گبه گبتين (51)
    صحت يعمي يحسين
    اشباقي من شهر رمضان
    غير السناسل وعظام (52)
    شيل رجلك يا غلام

    تلك كانت عينات من أغاني وأهازيج الالعاب الشعبية في كربلاء وهي كما اتضح من سياق البحث تخص لونا واحدا من الاغاني الشعبية، وهناك الوان اخرى كأغاني الاعراس والختان ومواليد الائمة وغيرها من المناسبات المفرحة .
    ومما تجدر الإشارة اليه ان الاغاني المثبتة هنا كلها موزونة وفق بحور الشعر العربي, من خلال اسطر قليلة جداً، مما يدل على أصالتها ونضوج العقل الشعبي الذي أوجدها.

    الهوامش
    (1) الشميسة: مصغر الشمس.
    (۲) گبر: قبر.
    (۳) بت: بنت
    ‏(4) الباشه: اصلها (باشا) تركية تعني السيد صاحب السطوة والجاه.
    ( ٥) الخرخاشة : لعبة يتلهى بها الاطفال الذين هم في سن الرضاع.
    (6) الملة : هي المرأة التي كانت تتولى تعليم الصبيات قراءة القرآن، وهي بمثابة معلمة اليوم.
    (۷) صرفينة : بضم الصاد وسكون الراء تعني طلب الانصراف من الدرس.
    ‏(8)‏ راح الوكت : ادركنا الوقت
    (9) ورواحنه : ارواحنا .
    (۱۰) ليبره: إلى الخارج، أي خارج منزل (المله).
    (۱۱) شفنه : رأينا .
    (۱۲) سيدي : بكسر السين وتسكين الياء وكسر الدال تعني ( سيدي ، بصيغة النداء .
    ( 13) المكه : الألف واللام ليستا للتعريف انما هما تعملان عمل حرف الجر (إلى).
    (14) جابلي : جلب لي .
    ( (15تکه : تكة اللباس .
    (١٦) صنيديگي : تصغير صندوق الفارسية الاصل.
    (۱۷) عد : عند.
    (۱۸) جعب : تعني العجز .
    (۲۰) الطراده : الزورق .
    (21) الالماز : الماس.
    (۲۲) لعلهم أرادوا بالعبارة (ديوان الصينية ) الطلب الى الخاطبين أن يأتوا لهم بصينية وفيها
    الشموع والحناء وهي عادة متبعة في الأعراس .
    (23) ربما أريد بكلمة (جنجرص) ، اشعار اللاعبين ببدء اللعب كدقة الجرس.
    (٢٤) الفرص : تعنى الفرس بالسين. وهم كثيراً ما يبدلون السين صادا.
    (٢٥) حادة : تعني غير نابية .
    (26) اللبادة : وهي من نوع المعاطف ذات الغرو ، واللفظة مشتقة من اللبد .
    (۲۷) قيمة : من انواع المرق المتكون من اللحم المفروم والحمص.
    (۲۸) ويلا : من كلمات الاستغاثة .
    (۲۹) هيه : هي
    (۳۰) منهو : تعني (من هو) ، والألف واللام في (اليرضيها) موصولية وليستا للتعريف .
    (۳۱) تراجيها : اقراطها .
    (۳۲) منهيه : من هي.
    (33) كعدتها: جلوسها.
    (٣٤) فدوه لبن : فداء لابن
    (5۳) يوكع : يقع .
    (٣٦) فوگ : تعني فوق . و (ليجوه) يراد بها - إلى الاسفل -
    (۳۷) اعتقد أن الكلمات لا معنى لها انما جاءت لفرض النغم.
    (38) مخاطبة صانع الطلب من الصفيح المعدني.
    (۳۹) اجه : جاء .
    (٤٠) وین : این.
    (41) جابت : ولدت.
    (۲4) بواگ : سارق .
    (٤٣) جوه : اسفل (الرازونه) فارسية تعني الكده .
    (44) عفيه : عجبا و « مبيه » ما به ، و (نوه) نوی جمع نواة .
    (45) الزم : امسك . و )الهوه( تعني الهواء .
    (٤٦) اعتقد انها اسماء اعلام.
    (٤٧) جنها : كأنها .
    (٤٨) التفتكر : التي تفكر وهي ساهمة العينين .
    (٤٩) الحنجله أو الهنجله في لفظ هو المشي على رجل واحدة .
    (٥۰) صعدیت : تصغير (صعدت) .
    (51) لكيت : لقبت ، وجدت والـ (گبة) تعني غرفة ومنهم من يلفظها (قمة قمتين).
    (٥٢) السناسل : هو العمود الفقري في السمك بصورة خاصة.

  • الشعر واقتضاء السرد قراءة في نص ((خطوةٌ في الضباب)) لحسب الشيخ جعفر

     

    photo ٢٠٢٤ ٠٥ ٢٩ ١٢ ٣٥ ٥٥

    الشعر واقتضاء السرد

    قراءة في نص ((خطوةٌ في الضباب)) لحسب الشيخ جعفر

    د. عبد العظيم السلطاني              

    النص: 

                                    خطوةٌ في الضباب([1])

    قبل أن أتوخّى الحذر

    قبل أن يتقوّسَ في الحبس ظهري،

    ويبيـضَّ مني القَذال

    كنتُ فيما يقال

    أتلقّى الصدى وأُطيلُ النظر

    عَبْرَ نافذتي والطِوار

    عَبْرَ نافذتي واتشاحِ الطريقِ الخريفيّ كنتُ أُرامقُ

    نافذةً في الجوار

    فأرى في ارتخاءِ الستار

    في ارتخاءِ الستارِ الخفيفِ المواربِ في الضوءِ ظلًّا وحيدا!

    علَّها امرأةٌ في انتظار

    علَّها تتأملُ نافذةً في الجوار!

    غيرَ أن الستار

    لم يزل يتمايل في هبّةِ الريحِ منذُ انطواءِ النهار

    وهي فيما وراءَ الستار

    تتراءى كما يتراءى الرداءُ المعلُّق في الحبلِ مائلةً، متمايلةً

    في اتجاهِ المطار

    في اتجاهِ المطارِ البعيد

    وقد انطفأتْ في النوافذ أضواؤها غيرَ ضوءٍ وحيد!                

                   ***

    ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعد النهار

    وهي مائلةٌ، متمايلةٌ في اتجاه المطار!

    قلتُ: ( أمضي، أُنبّهُ جارتَها

                 وندقُّ الجرس !)

    ولقد دُقَّ فيما بدا لي الجرس

    ساعةً، وهي نائمةً أو منومةً لا تُفيق

    فإذا التفَّ من حولِنا الناسُ وانفتحَ البابُ،

    أبصرتُها

    كالرداءِ المعلقِ في الحبلِ مائلةً ، متمايلةً

          تحت مصباحِ سقفٍ وحيد !

                 ***

    مرةً كنتُ منفرداً في ممرِّ القِطار

    ساعةَ انتصف َ الليلُ،

                وانصرفَ النُدلُ والطاعمون

    فإذا بي أرى وجهَها في الضباب الخريفيّ

                                     عَبْرَ الزُجاج

    وهي قائمةٌ في الممرِّ إلى جانبي!

    قلتُ: (لابدَّ من أنني مرهقٌ

         فإلى الدفءِ والأغطية!)

    غيرَ أني التقيتُ بها عندَ طاولتي في انتظار!

    قلتُ: (أمضي إلى امرأةِ الشاي علِّي أُزحزِحُ عني الدُوار)

    وهنا انفتحَ البابُ عنها معلّقةً

    كالرداءِ المعلَّقِ في الحبلِ مائلةً، متمايلةً

                             في اتجاهِ الستار

    وأنا والمحطةُ والناسُ فيما وراءَ الستار!

                    ***

    ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعدَ النهار

    وهي مائلةٌ في اتجاه المطار!

    قلتُ: (أمضي أُنبّهُ جارتَها)

    ولقد دقَّ ملءَ الممرِّ الجرس

    بينما كنتُ أَلمحُ جارتَها

    تتسللُ في الثقبِ كالضوءِ أو كالدُخانِ

            إلى الغرفةِ الموصدة

    فإذا انفتحَ البابُ أبصرتُها

                     كالرداءِ المعلقِ مائلةً في انتظار!

    قلتُ: (أغلقُ أجفانَي المجْهَدة

    وأنام

    ساعةً، فلقد يتبدّدُ عني الغَمام !)

    فالتقيتُ بها متمدّدةً تحت أغطيتي لا تَريم !

    قلتُ: (أحملُ جثتهَا، وأغِذُّ الخطى في العراء!)

    غيرَ أن الحرس

    سمِعوا في يديَّ الجرس

    مالئاً بالرنينِ الفضاء!

    وهنا أوقفونيَ متهمَاً، وأقاموا الحُجج بين أيدي القضاء!.

    العنوان باب موارب :

         العنوان في هذا النص يفتح بابا مواربا للقارئ لشيء من فهم، ((خطوةٌ في الضباب))، يبدأ بعلامة/كلمة ((خطوة))، والخطوة حركة صغيرة، فهي خطوة واحدة ليس إلّا. وهذا يعني إنّها غير محفوفة بكثير من الخطر، وليست بحاجة كبيرة إلى الحذر. غير أنّ وضعها في سياقها من الجملة يتكشّف عنه احتمال خطر كبير؛ لأنّها في الضباب. وهي بالنتيجة حركة صغيرة ((خطوة)) صارت محفوفة باحتمالات كثيرة؛ لأنّها اقترنت بعلامة أخرى/ كلمة ((الضباب))، وهنا انفتح باب الاحتمال على أكثر من شيء: المجهول/ اللّاوضوح/ توقّع المفاجأة/ القلق والتوتر... كل هذه الاحتمالات والمشاعر واردة في حالة الضباب. فأيّ الاحتمالات تدنِيها إلى المتلقي قراءة متن النص؟! نهرع إلى متن النص، إذن، فهو قد يعود ثانية لينير العنوان. في حين المواجهة الأولى للقراءة- أيّة قراءة- يكون العنوان لحظة الإنارة الأولى للنص. لكنها هنا في هذا النص ضبابية لا تقدّم من الضوء ما يكفي للرؤية.

    تتبّع حركة النص:

        ((خطوةُ في الضباب)) نص شعري، ينتمي لشعر التفعيلة، وهو متوسط الطول، يقع في واحد وستين سطرا شعريا. أطول سطر فيه يتألّف من ثماني كلمات وأقصر سطر فيه يتألّف من كلمة واحدة. وهو نص سداه الشعر ولحمته السرد. ويقدّم للقارئ نصّا تخييلا كأنّه حكاية، لها موضوع واحد تدور فيه، ولا تكتمل الصورة لدى القارئ إلّا بالانتهاء من قراءة النص كاملا. والنص مؤلّف من أربعة مقاطع، كلّ مقطع فيه يقدّم مشهدا، ومجمل المشاهد تفضي إلى رسم كلي لحدث وقع.

    والراوي هو بطل السرد يروي للمتلقي، في زمن لاحق لزمن وقوع الأحداث. والراوي في أيّ سرد يصفه رولان بارت بـأنّه كائن من ورق([2])، أي شخصية مصنوعة يصنعها مؤلّف النص. وفي نص ((خطوةٌ في الضباب)) صنعه الشاعر/ المؤلف. وفيه نجد الراوي يروي أحداثا وقعت للمؤلف/ الشاعر. غير أنّه وإن اقترب حدّ التطابق مع الشاعر، بوصفه ذاتا شاعرة، أنتجت النص الشعري استجابة لمعطيات وسنن قوليّة تخص عالم الشعر وتحيل عليه؛ يبقى ليس متطابقا مع شخص حسب الشيخ جعفر الإنسان. لذا صار لدينا شاعر ينسج شعرا يتضمن سردا يرويه راوٍ وكأنّه هو. فلا يروي عن الغير، بل هو البطل في الحدث.

           قراءة متن النص ترجّح خيار كتابة توصيف أو تخطيط من خلال إعادة الصياغة لتتبّع حركة النص وطريقة تناوله لموضوعه. وبالمجمل هو سرد شعري يبدأ من لحظة تاريخية سابقة لزمن الحكي الذي يحصل في لحظة كتابة النص. يبدأ بـ ((قبل)) وتتكرر في بداية جملتين تضيئان تاريخا سابقا لزمن الحكي، حين كان الشاعر السارد في حال من الاندفاع، وقليل الخشية لا يحاذر ((قبل أن أتوخّى الحذر)). ثم ترد الجملة اللاحقة المُحِيلة على حاله القديم ((قبل أن يتقوّسَ في الحبس ظهري)). ولعل هذه الجملة مفتاح يفسّر لنا لاحقا بعض الأحداث أو الأسباب، فهو في لحظة الحدث المسرود كان في عنفوان الشباب والمخيلة في أقصى طاقاتها. وتتبعها جملة فرعية معطوفة عليها ((ويبيـضَّ مني القَذال))، أي قبل أن يتمّ الشيب دورته على قفا رأسه ويدكّ آخر المعاقل التي تقاوم الشيب (قذال الإنسان في المعجم ما هو واقع بَيْن الأُذُنَيْنِ مِنْ مُؤَخِّرةِ الرَّأْس).

       بعد هذه الإطلالة ينفتح السرد، بعد أن وضع الراوي إشاراته التي حدّدت زمن حصول ما سيسرد من أحداث، وهو الزمن الماضي وليس الزمن الحاضر حيث يُكتب النص.

    ويبدؤها بـ((كنتُ فيما يقال))، مستعينا بجملة اعتراضية أقرب إلى اللازمة السردية ((فيما يقال)). وهذه يمكن أن نجدها في نص سردي آخر وإن لم يكن شعراً، ولكنها هنا مهمّة لأنّها تؤكد أن سردا لحدث أو أحداث ماضية سيبدأ، وعلى القارئ أن يتهيّأ لتلقّي المسرود.

        يبدأ سرد الحدث، بـ((كنت [...] أتلقّى الصدى))، أي هو متلقٍ فقط، وليس فاعلا، ثمّ إنّه يتلقى ((الصدى)) أي لا يتلقى الصوت المباشر الحقيقي. وهذا قد يكشف بعضا من هدوء المكان ساعة وقوع الحدث.

    ((وأطيلُ النظر))، ولم تكن نظرة عابرة، بل إطالة في النظر يفضي إلى تأمّل في المكان والموقف وفتح لآفاق التخيّل، بما يهيّئ لقدحات نفسية واستحضارات باطنية. وكل هذا يجري من خلال نافذة ((عَبْرَ نافذتي والطِوار))، (في المعجم: "الطَوار" بالفتح. وطَوَارُ الدَّارِ: مَا كانَ مُمْتَدّاً مَعَها مِنَ الفِناءِ ). وثمّة شعور شفيف بالحزن تبثّه فكرة حضور الخريف ((واتشاح الطريق الخريفيّ)).

    هذا هو المشهد الكلّي، في أنّه يتلقى الصدى ويطيل النظر عبر النافذة نحو الطريق في فصل خريفيّ، وفي ظلّ هذا المشهد ثمّة نظرات جانبية يرامق من خلالها نافذة مجاورة، (في المعجم رمَق الشَّيءَ: نَظر إليه وأتبعه بصره يرقبُه ويتعهَّدُه، ورامق : أتبعه بصره ونظر إليه يرقبه)، بين الفينة والأخرى شيئا آخر لفت انتباهه ((كنتُ أُرامقُ نافذةً في الجوار)). والذي أتاح فرصة أن يرامق أنّ لديه زمنا واسعا، فهو كان يطيل النظر فيرى شيئا. فماذا كان يرى من خلال نافذة الجوار؟! كان يرى ((في ارتخاءِ الستارِ الخفيفِ المواربِ في الضوءِ ظلًّا وحيدا!)). وهنا هو يرى ((ظلّا)) لا حقيقة. فيذهب التصوّر به إلى أنّه ظلّ امرأة. ويخمّن سبب وقوفها من خلال أكثر من احتمال: ((علَّها امرأةٌ في انتظار)). وقد لا تكون في حالة انتظار، وهذا احتمال آخر، فـ ((علَّها تتأملُ نافذةً في الجوار!))، أي لعلّها مثل حاله تتأمّل، وهنا قد تكون هذه المرأة تتأمّل وجوده وهو في نافذته.

    وقد لا تكون في حالة تأمّل ونظر إلى نافذته؛ لأنّ ((الستار لم يزل يتمايل في هبّةِ الريحِ منذُ انطواءِ النهار))، وهذا الظلّ يتمايل ولمدّة طويلة: منذ انطواء النهار. لذا يتسرب شكّ لديه في أن تكون امرأة تنظر إليه من نافذته، فليس معقولا أن تستمر كل هذه المدّة في النظر إليه. فالذي يراه أن امرأة ((تتراءى كما يتراءى الرداءُ المعلُّق في الحبلِ))، فهي غير مستقرة كرداء على حبل تحركه الريح. وبالرغم من تمايلها تبقى على اتجاه واحد، فهي ((مائلةً، متمايلةً في اتجاهِ المطار))، وهو بعيد عنها. ويستمر تمايلها وانتظارها ((وقد انطفأتْ في النوافذ أضواؤها غيرَ ضوءٍ وحيد!)). هذا الضوء الوحيد هو ضوء النافذة التي تنظر منها بعد أن انطفأت أضواء النوافذ الأخرى، إشارة إلى خلود الناس إلى النوم.

    هو يتعاطف معها، فهو وحيد يطيل النظر ليس لغاية بل في طريق طويل في حال من خريف حيث ظلال الحزن... وهي وحيدة وتطيل النظر باتجاه المطار وكأنّها تنتظر من يجيئ من هنالك... وهنا ينتهي المقطع الأول الخاص بسرد أحداث تلك الليلة مفتوحا على احتمالات عدّة.

             يبدأ المقطع الثاني بأن يؤطر الزمن الكلّي للحدث بأنّه ((الخريف))، أيضا. ويحذف بعضا من زمن الحدث حين لا يتضمن جديدا، ويختصر السرد بجملة تشير إلى أنّ النهارات المتتابعة تمرّ ((ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعد النهار)). وتلك المرأة/ الظل ((مائلةٌ، متمايلةٌ في اتجاه المطار!)). ومن المنطقي هنا أن يتحرك في داخل الشاعر/ الراوي إحساس بضرورة أن يفعل شيئا حيال استمرار ما يرى، ليعرف حقيقة هذه المرأة/ الظل المتمايلة من خلال النافذة، وخلفها الستارة المُرخاة... فيخاطب نفسه بأن لابدّ ان يفعل شيئا: ((قلت: (أمضي، أُنبّهُ جارتَها وندقُّ الجرس !) )). وقد نفّذ ما فكر فيه، فدقّ الجرس طويلا بصحبة جارتها وهي تبدو نائمة لا تفتح الباب. ثم يثير الناس هذا الوقوف الطويل أمام الباب والجرس يدق ولا من مجيب، فالتفّ الناس حولهما ((فإذا التفَّ من حولِنا الناسُ وانفتحَ البابُ، أبصرتُها)).

             الراوي لم يسرف في الحديث عن طريقة فتح الباب. فهو يسرد شعرا، وليس مجرد سرد حكاية لتُعنى بكل التفاصيل. فما الذي أبصره بعد فتح الباب؟ الشاعر/الراوي لم يكن معنيا بما أبصره الناس الذين التفوا حولهم، وليس معنيا بما أبصرته جارتها!، هو معني بما يُبصره هو (واقعا أو تخيّلا)، لذا قال: ((أبصرتها)). وهنا تنفتح الاحتمالات والتوقّع المتعدّد للقارئ مثلما انفتح لديه هو. أبصرها، فماذا سيبصر؟!. وجدها: ((كالرداءِ المعلقِ في الحبلِ مائلةً، متمايلةً)). فهي هنا – وللوهلة الأولى- ليست سوى رداء معلق في الحبل بوضعية مائلة متمايلة (متحركة غير ثابتة على قاعدة). لكن حرف التشبيه (الكاف) في ((كالرداء)) يمنع من هذا التصوّر، فهو يتحدث عن شيء كالرداء، فهي هنا امرأة معلّقة وهنا ينفتح التعدد في التصوّرات لدى القارئ: فكأنّها مشنوقة بالوحدة ((تحت مصباحِ سقفٍ وحيد!)). وهي في حال من الانتظار: انتظار شيء/ أحد يأتي من جهة المطار. هذا ما قد يتصوره المتلقي للوهلة الأولى ويحذف احتمالات أخرى. لكن هذا ليس ما أبصره الراوي فعلا، فقد يكون المشهد شيئا آخر وليس امرأة مشنوقة. وهنا ينتهي المقطع الثاني من النص، بشيء من الإبهام والتشويق في انتظار القادم ليتحقق الفهم.

             يبدأ المقطع الثالث كاشفا بصورة أكبر عن طبيعة تلك المرأة المائلة والمتمايلة، وهذه المرّة في القطار، بما يدفع الواقعة في المقطع السابق لتحلّ واقعة أخرى يصادف فيها تلك المرأة. هذه المرّة في القطار وفي منتصف الليل، ((مرةً كنتُ منفرداً في ممرِّ القِطار ساعةَ انتصف َ الليلُ))، وحيث لا أحد فقد انصرف الخدم ومقدمي الطعام : ((انصرفَ النُدلُ والطاعمون فإذا بي أرى وجهَها في الضباب في الضباب الخريفيّ عَبْرَ الزُجاج وهي قائمةٌ في الممرِّ إلى جانبي!)). فهي، إذن، حضرت أمامه في منتصف الليل وفي فصل الخريف، أيضا. وهو لوحده وفي القطار (حيث هو وسيلة نقل، وحركة، وضد السكون. وهنا حدّث نفسه مثلما حدّثها في موقف سابق، بأنه قد يكون مرهقا وما يراه ليس سوى تَهـيُّؤات، وعليه أن يخلد إلى الفراش ويتدفأ : ((قلتُ: (لابدَّ من أنني مرهقٌ فإلى الدفءِ والأغطية!) )). فهل نجح في التخلّص ممّا ظنّ أنّه وهمٌ سببه الإرهاق؟ الجواب: كلا. فبعد أن ذهب إلى مكانه في القطار وجدها ثانية بانتظاره ((غيرَ أني التقيتُ بها عندَ طاولتي في انتظار!)), إنّها في كلّ مكان. فقرر أن يحتسي شاياً من امرأة تقدّم الشاي في القطار، لعله يساعد في طرد تشويش الإرهاق والدوار الذي يتصوّر أنّه ينتابه الآن. ((قلتُ: (أمضي إلى امرأةِ الشاي علِّي أُزحزِحُ عني الدُوار) )). غير أنّه حين وصلت امرأة الشاي انفتح له الباب وإذا بها المرأة/ الشبح نفسها، وهي معلقة كما رآها في الحالات السابقة، ((وهنا انفتحَ البابُ عنها معلّقةً كالرداءِ المعلَّقِ في الحبلِ مائلة، متمايلةً في اتجاهِ الستار وأنا والمحطةُ والناسُ فيما وراءَ الستار!)). هي شبح يطارده، إذن، حاضرة أينما ذهب وحلّ، يجدها على الحال نفسه. فهي الحالة الثابتة على الرغم من تمايلها وهو المتحرك، حيث هو هنا مع الناس والمحطة كلها بجهة وهي في الجهة المواجهة. وفي الحالة السابقة كانت هي بجهة وهو وجارتها والناس بجهة أخرى يواجهونها. وهنا ينتهي المقطع الثالث، وما زال الأمر لديه لغزا، وما زال القارئ يترجح لديه تصوّر شيئا فشيئا ومشهدا بعد مشهد بأنّها ((شبح)) يطارده. ولنا أن نسأل: مَنْ هذه التي تواجه الجموع في الحالتين (في البيت وفي القطار) ولا يراها سواه؟! قد تكشف القراءة شيئا بهذا الخصوص.

             يعود النص في المقطع الرابع إلى لحظة سردية سابقة سجّلت ما حصل له معها في المقطع الأول، حيث هو في نافذته يتأمل الطريق الممتد في ذلك اليوم الخريفيّ، في حين تتراءى له المرأة/ الشبح المائلة باتجاه المطار. والمطار مكان احتواء الطائرات (وسيلة نقل، وعلامة حركة وضد السكون)، بما يرجّح لدى القارئ أنّ لهفة الشاعر الراوي معلّقة بأمكنة نقل المسافرين، وهذه الأمكنة حاضرة فيه وتنعكس على الاتجاه الذي تكون عليه المرأة، لتكون باتجاه المطار. وهنا تتطابق الاحتمالات لديه مثلما هي لدى المرأة/ الشبح، أو قُلْ: هو المرأة معبّرا عن رغباته المحتملة الدفينة من خلالها. فقد تكون بحثا عن قادم يأتي أو خبر يصل، وقد تكون لهفة إلى لحظة سفر إلى مكان آخر.

             مرّة أخرى يحذف الراوي بعضا من زمن الحدث، لأنّه لا يتضمن جديدا ((ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعدَ النهار وهي مائلةٌ في اتجاه المطار!)). وفي هذا الموضع من النص يستشعر القارئ بعض إرباك في السرد، ليس مصدره قطع في عنصر الزمن، بل مصدره إرباك في تكرار الحدث في المكان عينه. فبعد أن كان السرد يجري وكأنّه في قصّة قصيرة من حيث تحديد الزمان والمكان وتتابع الأحداث، وانتظامها في أكثر من مكان صار هنا مقطوعا، وكأنّه عاد إلى نسخ حدث وقع في مكان بعينه، سبق للسرد أن تجاوزها وقدّمها للقارئ. فبعد أن نبّه جارتها في المقطع الأول وذهبا إليها، يعود في هذا المقطع إلى الفعل نفسه، في حين هو اكتشف إنّها شبح لا حقيقة، ولاشكّ أن جارتها توصلت إلى الاكتشاف نفسه!.

    لكن لا بأس، إنّه سرد في الشعر، غايته الرئيسة تحريك التلقي وهز وعي القارئ. وله أن لا يلتزم بمنطق ترتيب السرد التقليدي في النثر، فليس غايته سرد أحداث كما تُسرد في القصص المقدَّمة للقارئ على أنّها قصص وليس شعرا. وأظنّ أنّ ما دفع الشاعر/ الراوي إلى هذا أنّه أراد العودة إلى المكان نفسه، كي يكون تمهيدا لنهاية الأحداث التي أراد لها أن تكون، وكما سيتضح لاحقا.  

    ((ويمرُّ النهارُ الخريفيُّ بعدَ النهار وهي مائلةٌ في اتجاه المطار!)). ويعاود السلوك نفسه: ((قلتُ: (أمضي أُنبّهُ جارتَها) )). وبعد أن دقّ الجرس جاءت المفاجأة الأخرى، إذ صارت جارتها هي الأخرى كالضوء أو كالدخان، (( كنتُ أَلمحُ جارتَها تتسللُ في الثقبِ كالضوءِ أو كالدُخانِ)). فإذا تسللت و((انفتحَ البابُ أبصرتُها كالرداءِ المعلقِ مائلةً في انتظار!)). وهنا صار الراوي مشككا في قدرته على التركيز، ومشككا فيما يرى فهو يشعر بالإعياء، فقرّر أن يذهب إلى النوم، لعله يتخلّص من شبحها الذي يطارده، فـ (( قلتُ: (أغلقُ أجفانَي المجْهَدة وأنام ساعةً، فلقد يتبدّدُ عني الغَمام !) )). فهل تخلّص منها حين قرّر النوم ليستريح؟!. الجواب: كلا؛ فقد وجدها هذه المرّة في فراشه متمددة متغطية بغطائه ولا تبارح المكان، ((فالتقيتُ بها متمدّدةً تحت أغطيتي لا تَريم!) )). ماذا يصنع، إذن، في هذه الحالة وهي ممدّدة في فراشه؟! خطر في باله أن يتخلّص من جثتها بخطىً مسرعة: ((قلتُ: (أحملُ جثتهَا، وأغِذُّ الخطى في العراء!) ))، فلم يفلح في التخلّص منها، بل وقع في النهاية المؤلمة: ((غيرَ أن الحرس سمِعوا في يديَّ الجرس مالئاً بالرنينِ الفضاء! )). فأيّ جرس هذا؟ هل هو الجرس الذي كان يدقّه على تلك المرأة/ الشبح، أم الجرس الذي كان يدقه على جارتها؟!. يبدو لا فرق، فهو الجرس الذي يدقّه على مطلق فكرة المرأة. هو الجرس القاتل في نهاية المطاف. إن استجابتْ له المرأة فهو مقتول، وإن لم تستجب فهو مقتول بشبحها الذي يطارده، أو بجثتها المحمولة التي صارت دليلا عليه كما يتصور حينها، ويروي لنا ذاك التصوّر. في نهاية الأمر صار لدى الحرس قاتل يحمل جثّة، وهذا دليل على وقوع جريمة، ((وهنا أوقفونيَ متهمَاً، وأقاموا الحُجج بين أيدي القضاء!.)). فهل أوقفوه لأنّه يحمل الجثّة (الوهم) حين كان كابوسا، أم أوقفوه لأنّه يدق الجرس طويلا بسببها فيزعج الناس؟!. أم الأمر كلّه كابوس: المرأة والحرس والقضاء؟!.

             هي المرأة حين تكون كاللعنة التي لا يستطيع الفكاك منها، أو قل إنّ شبحها يطارده لأنّ صورة الشبح ساكنة في أعماق الراوي، والخلاص غير ممكن حتى النهاية، وهكذا كانت نهاية الكابوس: حرس وأدلة وقضاء.

             هذه تصوّراته، أو قل تهيّؤاته، فهي صورة ضاغطة في داخله، تلاحقه ويتصوّر وجودها خالطا بين الواقع والوهم. صورة المرأة التي فيه، وتتجلى له في كل مكان وتطاره بأن تشخص أمامه، ولا يستطيع الخلاص منها حتى النهاية. بل هي النهاية، فحين يحاول التخلّص منها تصبح نهايته وهلاكه على يديها.  

    ونص ((خطوةٌ في الضباب)) نص ثري وفيه طاقة قادرة على تحريض المتلقي على التأويل، فهل يتسّع خيال القارئ وتزداد شكوكه في نصّ ملغّم بالاحتمالات فيتصوّر أنّ المرأة/ الشبح هذه هي الحياة نفسها؟! قد يحق للقارئ ذلك، لا سيما حين يرفع بصره ليعود إلى قراءة عنوان النص ويربط إنارته بإنارة متن النص، فهو ((خطوةٌ في الضباب))!. وقد يزداد القارئ ميلا إلى هذا التصوّر حين يتذكر أن تلك المرأة كانت ترد في مشاهد النص مفردة وتواجه الجميع، ولا يراها سوى الشاعر الراوي. وكأنّه يروي عن عين الشاعر وهي ترى ما لا يراه غيره.  

    وهو في الوقت عينه يحرّض المتلقّي على طريقة جديدة في النظر إلى الحياة. فنص ((خطوة في الضباب)) تضمن خطابا، ولم يكن مجرد نص مسرود. والخطاب في السرد يتحقق لدى تودوروف بخصوصية، فهو ((أي منطوق أو فعل كلام يفترض وجود راوٍ ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما))([3]). فالنص لا يُنظر إليه لوحده منفصلا عن غيره، إنّما هو نص وسياق. والمتلقي يقع ضمن سياق النص، فهو ضمن مجمل الظروف المحيطة بالنص والعناصر المؤدية إلى الفهم. وهذا النص تضمّن خطابا. ولم يكن مجرد سرد؛ لأنّه تضمن راويا ومتلقيا، وفي نية الراوي التأثير فيه. بدليل أن النص اُفتتح بما يبيّن أنّه سيسرد للقارئ شيئا: ((كنتُ فيما يقال))، ثمّ يبدأ بالسرد. وهنالك شيء آخر وهو أنّ السرد يقدّم رؤية الراوي وموقفه، ولا يكتفي بسرد الأحداث بحيادية. (فالراوي مثلا، يقوم بالأفعال والأقوال: فهو يتلقى الصدى، ويطيل النظر، ويرى ظلّا، وينبّه جارة المرأة، ويدق الجرس، وهو في ممر القطار، ويرى وجهها، ويلتقي بها، وينبّه جارتها، ويغلق أجفانه، ويلتقي بها في فراشه، ويحمل جثّتها). وفي الأقوال هو حاضر في النص بقوّة من خلال تكرار كلمت (قلتُ) مخاطبا نفسه. وهذه الكلمة تكررت ست مرات في النص.

             هذا النص ((خطوة في الضباب)) ثقافيا هو نصّ المدينة؛ من حيث النزعة والتشكيل. فمفرداته تداولية ابنة الحاضر المعيش، وإيقاعه هادئ ولا قافية تقرع نهايات سطوره الشعرية بقوة. والأهم من كلّ هذا أنّه نصّ يتضمّن تعبيرا عن حال إنسان المدينة، حيث الأحاسيس المركّبة، واختلاط الواقع بالكوابيس، واستلاب الصفاء وحضور الإرهاق والتشويش والتوتّر، ليكون شعورا رفيقا للإنسان في حياته، وفي نظرته للحياة.

    ألاعيب السرد وإقناع المتلقي:                      

             قدّم الراوي ذاته للمتلقي على أنّه- حين كان في زمن وقوع الحدث وتلبّس المرأة الشبح فيه- شخصية مشوّشة ومرهقة وتسيطر عليها تهيُّؤات، وهو من خلال اكتمال سرد الحكاية بيّن بأنّه كان يرى المرأة وهي لم تكن واقعا. والمتلقي يستشعر أنّ بعض ما يرويه ليس منطقيا، وليس متطابقا مع حركة الحياة ومنطقها الواقعي. وبناءً على هذا كان يحق للمتلقي أن يرفض السردية هذه. فهو يتلقى سردية من راوٍ يُعبَّر عنه في علم السرد بـ ((الراوي غير الثقة))، وهو الذي لا تتطابق في روايته رؤية المؤلف ورؤية الراوي ورؤية القارئ([4])، على الرغم من كون الراوي في القص ليس ذاتا واقعية، إنّما هو صيغة فنيّة وأداة يستخدمها القاص([5]). غير أنّ إحساس المتلقي بشعور الثقة بالراوي يبقى مهمّا لقبول الرواية، والسماح لها بالتسلل إلى ذائقته وذاته. ترى ما الذي صنعه الراوي لدى الشاعر في نص ((خطوةٌ في الضباب)) ليُقنع المتلقي بوقوع ما يروي؟.

             استعمل الراوي أكثر من مدخل لإقناع المتلقي. أهمها؛ أنْ روى بضمير المتكلم. وهذا له دوره في مدّ جسور الثقة والدفع إلى التصديق. وهذه النقطة بحاجة إلى شيء من التفصيل. إذ يقسّم المعنيون بالسرد من حيث تعددية الضمائر المستعملة إلى ثلاثة أصناف ممكنة؛ فثمّة سرد بضمير الغائب (هو)، وسرد بضمير المخاطب (أنت) ، وسرد بضمير المتكلم (أنا)([6]).

             والراوي في هذا النص يروي من خلال ضمير المتكلّم (أنا) الملتصق بـالكلمات: (أتوخّى، ظهري، كنتُ، أتلقّى، أُطيلُ، أُرامقُ، أرى، قلتُ، أمضي، أبصرتها، كنتُ منفردا، فإذا بي، التقيتُ، أمضي، أبصرتُها، أغلقُ، أنام، التقيتُ، أحملُ، أغِذُّ، أوقفوني). والسرد من خلال ضمير المتكلم يؤدي بالنهاية إلى أن يكون السارد شخصية مركزية، ويجعل المسرود مضمّخا بروح المؤلِّف الذي يسرد عنه، ويصير الراوي ملتصقا بالمؤلِّف. فضلا عن كونه يجعل المتلقي متعلّقا بالعمل السردي، متوهّما أنّ المؤلف شخصية حقيقية في تلك الحكاية، وهو يحيل السرد على ذات المؤلِّف أكثر من إحالته على الموضوع([7]). وكل هذا تحقّق في نص ((خطوةٌ في الضباب)) وكان من بين عوامل فاعلية النص، وكان من بين الآليات التي وظّفها الشاعر في نسج نصه، من خلال سلطة الراوي وحِيَلِه.

             ومن بين آلياته في إقناع القارئ أنّ الراوي كان مشاركا في صناعة الأحداث. ولنا أن نستنير بتقسيمات علم السرد في هذا. فهم يقسّمون الراوي إلى أقسام عدّة، منها الراوي المشارك والراوي غير المشارك. وفي نص ((خطوةٌ في الضباب)) الراوي من نوع الراوي المشارك في صناعة الأحداث، وحاضر مع الشخصيات، ومشارك في صراع الشخصيات([8]). وهذا الواقع للراوي كان أحد عوامل الإقناع للقارئ بأن الراوي ثقة، فهو جزء من الحدث ومشارك مع الشخصيات في الصراع، وليس طارئا يتسقّط الأخبار عن الحدث والشخصيّات.

             ومن آليات الراوي لإقناع القارئ أن كثّف الزمن، من خلال تكثيف القول. وهنا يكون من الضروري الإفادة من تقسيمات جيرار جنيت للزمن في السرد التي تفتح فضاءات لقراءة النص الذي فيه حضور كبير للسرد. ولاسيّما تلك الخاصة بعلاقة  زمن السرد بزمن الحدث نفسه. فهذه العلاقة تنطوي على تقسيمات عدّة، منها ما قد يتساوى فيه زمن السرد مع الزمن الذي تطلّبه الحدث نفسه، وفي حالات أخرى يقل زمن السرد عن زمن الحدث، أي أنّ زمن القول تقلّص بسبب التكثيف في السرد([9])، وهذه الحالة الثانية كانت حاضرة كثيرا في نص ((خطوةٌ في الضباب))، وكانت إحدى آليات إقناع القارئ التي استخدمها الراوي. وكأنّه من خلالها يقول للمتلقي أنا لست معنيا بالتفاصيل، فلاحظ أيّها المسرود له بأنّي اختصر الزمن، وما يعنيني أن أُشركك في ردم الفجوات في السرد، فهذا شعر يهمّني فيه أن تكون أنت مؤوِّلا وفاكّا للشفرات وليس قارئا لنص ينتمي إلى جنس القصة.  

    وبناءً على هذا جاءت خصائص النص الشعرية لتؤكّد للمتلقي درجة شعرية هذا النص، فقد تعكّز الراوي في إقناع القارئ في سرده على ((الشعرية))، فهو يسرد للقارئ نصّا شعريا وليس قصة. ومن وسائل الإقناع بشعرية النص أن بُثت فيه الشعرية من خلال اللغة، فيجد القارئ صورا شعرية، مثل: ((يتقوّسَ في الحبس ظهري)) كناية عن طول الحبس وقسوة الظروف. و((انطواءِ النهار)) فالنهار صار كالثوب يُطوى، كناية عن انتهائه، وكأنّه كان منشورا فطُوي. و((أبصرتُها كالرداءِ المعلقِ في الحبلِ)) شبهها بقميص منشور على حبل تهزّه الريح فيتمايل. و((جارتَها تتسللُ في الثقبِ كالضوءِ أو كالدُخانِ)) فشبهها بما هو هلامي لا تحدّه صورة مادية. و((وأنام ساعةً، فلقد يتبدّدُ عني الغَمام))، والغمام السحاب الأبيض، وهنا شبّه ما يدور في رأسه بأنّه كالغمام، وهذا ضد الصفاء ويشوّش عليه الفهم والإدراك.  

    مثلما يجد المتلقي مفردات موظفة بطريقة شعرية تدغدغ ذائقته، وتدفع النص نحو صيغة الشعر لا النثر، مثل: ((ويبيـضَّ مني القَذال))، و((عَبْرَ نافذتي واتشاحِ الطريقِ الخريفيّ كنتُ أُرامقُ))، و((في ارتخاءِ الستارِ الخفيفِ المواربِ))، و((انصرفَ النُدلُ والطاعمون))، و((أرى وجهَها في الضباب الخريفيّ))، و((متمدّدةً تحت أغطيتي لا تَريم))، و((وأغِذُّ الخطى في العراء)).  

    ومن وسائل الشاعر/ الراوي في ضخ روح الشعرية في النص أن قدّمه القارئ محكوما بإيقاع شعري يمنحه بعض صفة الشعر التي اعتادت عليها ذائقة القارئ. فهو نص شعري يعتمد على توظيف صيغ بحر المتدارك (فاعلُن، فعِلن، فاعِلان، فَعِلَاتنْ)، في حين السرد في القصة مثلا لا يُوظِّف صيغ بحر شعريّ ليضبط الإيقاع الصوتي.

            إنّ هذه الآليات المتنوّعة التي استعملها الراوي دفعت بالقارئ إلى أن يمدّ جسور الثقة مع الراوي؛ لأنّه يروي حدثا حصل له شخصيا، وبسرد متسلسل في إطاره العام، ولغته تدلّ على حضوره في الحدث، فهو يروي بصيغة المتكلم المشارك للشخصيات في الأفعال والأقوال. وهو يروي من خلال الشعر ويدرك خصوصية الشعر القائمة على بث روح المؤلف / الشاعر في النص للتأثير في المتلقي، وليس رواية أحداث وقعت وتُحيل على موضوع أكثر مما تحيل على ذات الشاعر.

             بالنتيجة جاء النص شعرا مشبعا بروح الدراما وليس شعرا غنائيا، فهو على هيأة تشبه القصّة المتكاملة الأركان، فيه شخصيات ومكان وزمان وتسلسل في الأحداث، ثم نهاية أفضت الأحداث بالشاعر/ الراوي ليكون بيد الحرس ثم القضاء. وكان حضور السرد عنصرا رئيسا في بناء النص، وليس مقحما فيه. وكان هذا لسببين: الأول يعود إلى طبيعة الموضوع، فهي تستدعي وجود السرد؛ لأنّ النص يحكي حدثا سابقا لزمن كتابة النص ولابدّ أن يُروى. والسبب الثاني أنّ السرد بطبعه نظام انسيابي قادر على التغلغل في كلّ صيغ القول. وهو عابر لحدود الصيغ الأدبية كالشعر والمقالة والقصة (التي هي موطنه الأصلي). ويمكنه الولوج إلى كلّ الأجناس الأدبية بسلاسة، وكأنّه القاسم المشترك الممكن دائما.  

    لذا دخل السرد بفاعلية في نص ((خطوةٌ في الضباب))، غير أنّ المهيمن الشعري ظلّ حاضرا فيه، متمثّلا بخصائص الشعر. فهو جاء محكوما بإيقاع بحر شعري، وموجزا ومكتوبا بلغة مكثّفة، وفيه مفردات يحفل بها الشعر، وبُثّت فيه الصور الشعرية. وإن كان نوع الخيال الذي نسجه خيال كلّي تركيبي، من ذاك النوع الذي لا يقوم السرد إلّا من خلاله. ولم يكن في النص حوار تنطقه الشخصيات لتُحاور بعضها، على الرغم من كثرة الشخصيات فيه: (الشاعر/ الراوي، المرأة/ الشبح، المرأة الجارة، امرأة الشاي، الندل، الطاعمون، الحرس). لكن القارئ لا يجد سوى صوت الراوي، ولا يجد حوارا بصوت شخصية أخرى. لذا جاءت لغة النص على نسق واحد. فلا شخصيات متعدّدة تتحدث بأصوات متعدّدة، معبّرة عن مستواها الثقافي ومنحدرها الاجتماعي، لتكون لها لغتها الخاصة التي قد تختلف عن غيرها.

                   

     

     ([1])  الفراشة والعكّاز (مجموعة شعرية)، حسب الشيخ جعفر، صدرت عن سلسلة ((كتاب الصباح الثقافي))، أصدرتها جريدة الصباح العراقية، بغداد، عام 2007.

     ([2])  بناء الشخصية (مقاربة في السرديات)، جويدة حماش، منشورات الأوراس، الجزائر، 2007: ص29.

     ([3])  اللغة والأدب، تودوروف، ضمن كتاب: اللغة والخطاب الأدبي، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء: ص48.

     ([4])  ينظر: الراوي والنص القصصي، دكتور عبد الرحيم الكردي، دار النشر للجامعات، القاهرة، ط2، 1996: ص94.

     ([5])  ينظر: المصدر نفسه: ص 94 .

     ([6])  ينظر: في نظرية الرواية، د. عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998 : ص175-197.

     ([7])  ينظر: المصدر نفسه: ص184-185.

     ([8])  ينظر الراوي والنص القصصي: ص120.

     ([9])  ينظر: خطاب الحكاية (بحث في المنهج)، جيرار جنيت، ترجمة: محمد معتصم وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة،  ط2، 1997م: ص45-128.

  • الوجوديّة - بعدَ طولِ تأمّل – د. عبد الله إبراهيم

    photo ٢٠٢٤ ٠٥ ٢٩ ١١ ٠٠ ١٦

         بدأتُ بقراءة أعمال سارتر منذ منتصف سبعينيّات القرن العشرين، حين كانت الوجوديّة مزاج تلك الحقبة الزّاهية؛ عصر ثقافي صاخب شهدتُ أفولَه بالتّدريج، بعد أن شُغل به أهل الثّقافة. وبحسب ما علمتُ، بعد ذلك، فإن العقد الّذي سبق ذلك هو عقد ازدهار الوجوديّة في المجتمع الثقافي العربي، بعد أن شرع في الانحسار في أوربا، وما لبثتْ أن انطفأتْ أنوار الوجوديّة، بظهور مدارس ما بعد الحداثة، كأنّ الملايين لم تُشدَه بها في طول العالم وعرضه. وعلى الرّغم من ذلك، ما برحت أطياف الوجوديّة تبرق في ذاكرتي كالشّهب في سماء معتمة.

         كنتُ شابًّا عنيدًا في جماعة كركوك الثّانية، شبه البوهيميّة، وتطنّ في أذني أخبار الوجوديّة مثل قرع الطّبول، وتحفر في خيالي وعقلي، وما برأت منها إلّا بمشقّة. أتكون وشما راسخا يتعذّر محوه، وعلامة على حقبة ذهبيّة؟ أم تكون جذاما اهترأ بسببه عالمي القديم، وتآكلت أجزاؤه، فراحت تتساقط سنة بعد أخرى؟ ما عدتُ أميّز بين هذا وذاك. مضى وقت طويل، ابتعدتُ فيه عن كلّ ذلك، حتّى ما عاد التّفريق متَاحًا بين ما إذا كانت الوجوديّة علامة لهويّة ثقافيّة مكتسبة، أم داء وبيلا اقتلع كلّ ما سبقه، أم مزاجا مُسكرا غاص الجميع فيه.. كأنّني الآن أكتب عن أصداء تلك الحقبة في ذاكرتي.

          افتتحت "سارّة بكول" كتابها (على مقهى الوجوديّة) بما شاع من "أنّ الوجوديّة مزاج أكثر منها فلسفة"، قول يستوعب حال الوجوديّة في الثّقافة العربيّة أكثر ممّا يستوعب حالها في الثّقافة الغربيّة؛ فعلًا، لا ثمار فلسفيّة للوجوديّة، فهي مزاج شاع بقوّة جامحة خلال ربع قرن، مزاج أوهم النّاس بهويّات فرديّة مميّزة، غير أنّها كانت مائعة ومبهمة، وفيها يكون المرء مدّعيًا أكثر منه فاعلًا، مزاج قاتم من السّأم الغامض، أحال كثيرًا من المثقّفين إلى شبه رميم. في الوقت الّذي طوى فيه الفرنسيّون ملفّ الوجوديّة بأحداث طلبة الجامعات في عام 1968، فتحت مصاريع أبوابها في الثّقافة العربيّة، وكأنّها وُلِدت لتوّها، وأهلكَ القومُ أنفسَهم في طلبها، كدأبهم في المحاكاة في كلّ زمان ومكان.

         وقد لحقتُ أنا بذيل الرّكب متنطّعًا، وحسبتُ نفسي وجوديًّا حتّى النّخاع. ومن نافل القول أنّ الوجوديّة العربيّة لا يكاد يربطها رابط بأصولها الفرنسيّة، فقد أمست عقيدةً، لها منابر ليليّة، فيها خليط من وعظ وإرشاد وتلقين، يصمّ الآذان في حانات تنبعث منها روائح الدّخان والخمور، ويكاد يكون نسخة طبق الأصل لأجواء المقاهي الّتي استوطنها الوجوديّون في الحيّ اللّاتيني خلال الأربعينيّات والخمسينيّات من القرن العشرين، وكانت لها صحف تبشّر بها، ودُور نشرٍ تتلقّف ما يُكتَب عنها، وكتّاب يتباهون بكونهم في قافلتها، وذلك المناخ هو الّذي خلع الشّرعيّة على الكاتب الوجودي العربي آنذاك.. لقد كان سارتر بمثابة قدّيس ضالّ في عالم فقد إيمانه.

          كان مدخلي إلى الوجوديّة، وإلى عالم سارتر، هو رواية (الغثيان)، فهي أوّل ما قرأتُ له، بعد أن طفح كيلي بأخباره، رواية مستغلَقة، تكاد تسدّ النّفس، لغياب الأحداث الواضحة، وتضخيم التّأمّلات الّتي تزدري العالم، وتتضجّر منه. ربّما وجدت الغثيان طريقها إليّ لشعوري بالسّأم في شبابي، أو أنّني سعيْت إليها لموافقتها ما كنت أشعر به من استياء، فقرأتُها كأنّها تنوب عن حالي، في سياق مرحلة مضطربة من عمري، لقد كانت تستجيب لذلك الهوى الّذي زعزع كلّ يقين. انكبّ "أنطوان روكنتان" على كتابة يوميّاته، بدل الانصراف إلى موضوع بحث يعدّه عن شخصيّة تاريخيّة عاشت قبل أكثر من قرن، شخصيّة "الماركيز دي رولبون". و"روكنتان" رجل وحيد، ويائس، ولا يتمكّن من قهر سخطه إلّا بالمداومة على كتابة يوميّات تعبّر عن مشاعره وخواطره: "أعيش وحيدًا، وحيدًا كلّ الوحدة، إنّني لا أتحدّث مع أحد أبدًا، لا أتلقّى شيئًا، ولا أعطي شيئا". انجذب الشّباب من أمثالي إلى تقمّص ذلك الضّرب من الشّخصيّات الّتي تدّعي أكثر ممّا تفعل.

          بطل الرّواية، رجل أعزل انبتّت صلته بالعالم من حوله، فانتهى بأن رأى العالم شيئا من العدم، وهو الكائن الوحيد الموجود؛ كونه يعي وجوده، ويلازمه ضرب ثقيل من الغثيان إلى أن يصبح هو بذاته الغثيان. صوّرت الرّواية عزلة بطلها الّذي هجرته حبيبته، واختلّ توازنه، فراح يعزّي نفسه بكتابة اليوميّات، ويواصل البحث، في مكتبة المدينة، عن حياة ذلك "الماركيز" الّذي طواه النّسيان، دون أن ينجذب إلى موضوع بحثه، وهو موضوع عقيم لمن خاض معترك البحوث الأكاديميّة المشابهة لما كان يقوم به، فما النّفع في إعادة بعث سيرة رجل طوي ذكره في سجلّ التاريخ، إذ ينبغي للكاتب أن يكتب عن تجربته في الدّنيا؟! في نهاية الرّواية يتخلّى "روكنتان" عن بحثه، وينتهي إلى أنّ مجمل يوميّاته تشكّل قوام رواية الغثيان، وبها يريد أن يقع تعريفه روائيًّا لا مؤرّخًا، ويرغب في أن يزهو بعمله، ويفتخر، ويشار إليه بالبنان. ذلك الاستبدال في تعريف هويّته، ينقله من رتبة الكتابة عن غيره، إلى رتبة الكتابة عن نفسه، وهو يعبّر عن الإبدال الثّقافي الّذي جاءت به الوجوديّة لإحلال الفرد محلّ الجماعة، ووصم الأغيار بالجهل، فالآخرون هم الجحيم، أو أنّ الجحيم هو الآخرون، في قول ورد على لسان شخصيّة في إحدى مسرحيّات سارتر، لذَا لا بدّ من الاحتفاء بالذّات الفرديّة، وقطع صلتها الواهنة بالعالم.

          أراد سارتر، في الغثيان، أن ينتقد الحال الّتي يغوص بها الإنسان في طيّات الماضي، وينسى الحاضر؛ فيفقد هويّته، ولا تكون لديه مسؤوليّة تجاه نفسه وتجاه غيره، بل تكفيه شراهة البحث في أعمال غيره، ولأنّ "روكنتان" ضلّ طريقه في شعاب الحياة، فقد لاذ بتدوين يوميّاته، ليعثر على ذاته الضّائعة، والرّواية ذاتها بدأت بالفقرة الملفتة الآتية: "سيكون من الأفضل كتابةُ الأحداث يوما فيوما، وتسجيلُ يوميّات تتيح مواجهة الأمور بوضوح، وينبغي تجنّب إهمال الفروق ودقائق الأمور الصّغيرة، حتّى ولو كانت تبدو لا قيمة لها، وينبغي خصوصًا تصنيفها؛ يجب أن أقول كيف أرى هذه الطّاولة، والشّارع، والنّاس، ورزمةَ تبْغي، ما دام "هذا" هو الّذي تغيّر. يجب تحديد مدى هذا التغيّر وطبيعته تحديدًا دقيقًا".

           ليس المهمّ ابتكار حدث سرديّ واضح المعالم، بل إفساح الطّريق أمام تدفّق التّأمّلات عن العالم الّذي يعيش فيه "روكنتان" وحيدًا، وهو ينازع البحث عن هويّته فردا في عالم لا معنى له. إذ لا فائدة في أن يخوض الإنسان مشاقّ الحياة، إنّما ينبغي له أن يسعى إلى فهمها، واستخلاص العبرة منها، وبيان تأثيرها في نفسه، واستكشاف بواطن أفكاره.

          في قراءتي، تلك، للرّواية، غابت عنّي دلالة الافتتاحيّة، ويصعب الآن تغليب ما سأقوله عن أثرها في نفسي، بعد انقضاء نحو خمسين سنة على ذلك؛ فقد بدأتُ تدوينَ يوميّاتي في شتاء عام 1976، واستمرّ التّدوين، دون انقطاع، إلى الوقت الّذي أكتب فيه هذه السّطور، فاستقام لديّ منها الآن خمسة عشر مجلّدا بآلاف الصّفحات، وكأنّها، في وجه من وجوهها، تعبيرٌ عمّا ذكره سارتر في أوّل فقرة من الغثيان. ولست على بيّنة إن كنت قد قرأت الرّواية لأنّها توافق النّهج الّذي بدأته لِتَوِّي في كتابة يوميّاتي، أم أنّني شرعتُ في تدوين يوميّاتي بتحفيز منها.

          لم تخطر لي الفكرة قبل الشّروع بكتابة هذه المقالة في أوّل خريف 2022، ولستُ قادرا على فهم الحالة الّتي دعتني إلى ذلك، وحينما سعيتُ للتّأكّد منها انسدّ الباب في وجهي، أيكون فضولي هو الّذي أغراني بقراءة ما يحفّز شروعي في كتابة اليوميّات؟ أم أنّ متن الرّواية هو الّذي زرع تلك البذرة في خاطري؟ أم أنّني جاريتُ أقراني في لزوم الاطّلاع عليها؟ الأخذ بالحقيقة الأولى يفضي إلى غير ما يؤدّي إليه الأخذ بالثّانية؛ ففي الحالة الأولى، تكون "الغثيان" قد اندرجت في الخطّة الاسترشاديّة لقراءاتي، وفيها تحتلّ اليوميّات، والمذكّرات، والسِّيَر الذّاتيّة مكانا مهمًّا، عندئذ يكون ذهابي إليها لأنّها تستجيب لتوقّعاتي، وتوافق خطّتي. وفي الحالة الثّانية، تكون الغثيان قد بذرت ما أحسب أنّه أهمّ ما أتوفّر عليه من نتاج كتابي خامّ، وأقصد به: يوميّاتي، الّتي غطّت نحو خمسة عقود من حياتي، فيكون فضل سارتر عليّ عظيمًا، فضلًا لا يقَدَّر بأيّ ثمن، وإن كان السّبب الثّالث هو الّذي دفعني إليها، أكون بذلك قد جاريتُ القطيع في ما أرغمني عليه، وغطستُ في المزاج الوجودي قبل الاطّلاع عليه.

         وأيّا كانت الحال، فقد فات أوان القطع في أيّ الأسباب هو الصّحيح، وإن غاب عنّي البحث في ذلك من قبل، فهو مهمّ على المستوى الشّخصي، ولكنّ الاطّلاع على رواية الغثيان في تلك المرحلة المبكّرة من حياتي أحدث هزّة عنيفة في عالمي تساقط إثرها كثير من مكوّناته؛ فبها ولجتُ عالم الوجوديّة الّذي كنت أشعر به ولا أعرفه، كأنّ الغثيان خدشت الغطاء الهشّ لذاتي، ثمّ كسرت القشرة الّتي حسبتُ أنّها صلبة، وإذا بالعالم الشّعوري أوسع بكثير من العالم المرئيّ.

         بكتابة الغثيان، ظنّ سارتر أنّه أتى برواية لم يُسبق إليها، فقد كان يحسب نفسه عبقريًّا، ولا خيار له إلّا أن يكون كاتبا يُشار له بالبنان، ومن أجل تحقيق ذلك، عليه استكشاف الدّنيا، وشاركته "دو بوفوار" ذلك الاعتقاد. ولمدّة طويلة حسِب أنّ الغثيان هي الدّليل على عبقريّته، ولم يأتِ ذلك عن فراغ، فحينما ذهب إلى برلين، لدراسة الفلسفة، انكبّ على الكتابة؛ حيث كان يقرأ تأويلات "هوسرل" للمؤلّفات الفلسفيّة، نهارًا، وينكبّ ليلًا على الكتابة السّرديّة؛ فأنجز المسوّدة الأولى للغثيان على دفتر ملاحظات عثر عليه في عربة قطار، وجعل بطلَها صورة سرديّة منه، وداوم على تعديلها بعد ذلك، وكان عنوانها الأوّل "كآبة" أو "سوداويّة"، وشُغِل بها أربع سنوات، ثمّ قدّمها للنّشر تأكيدًا لشعوره بأهمّيّتها الفائقة، لكنّ النّاشر ردّها إليه، وامتنع عن قبولها، فأُصيب سارتر بالإحباط؛ إذ لا يجوز رفض أعمال العباقرة من أمثاله، واكتأب حتّى ذرف الدّمع حزنًا على حاله المتردّية. وكان النّاشر قد طلب إجراء تعديلات جوهريّة في الرّواية، وإلّا تعذّر نشرها، فتولّاها صاحبها بالتّعديل ثلاث مرّات كمن يتجرّع السّمّ.

         نُشِرت الغثيان، بعد لَأْيٍ، في ربيع 1938، والنّاشر هو من أراد أن يكون عنوانها "الغثيان"، وبظهورها انبعث إيمان "سارتر" بعبقريّته من جديد بعد يأس، وراح يتباهى بها في محافله الشّخصيّة، وكتب لــ"سيمون": "اليوم تمشّيتُ في الشّوارع مثل كاتب". كانت به عجرفةُ روائيٍّ مبتدئ رأى في نفسه فاتحًا لتيَّار جديد في السّرد، وقد لانتْ تلك العجرفة بمضيّ السّنين، وفي مرحلة لاحقة ما عاد متشبّثا بالعبقريّة الّتي افترض، من قبل، أنّها لا تقبل بأيّ تغيير. ومع تقدّم العمر توارى شعوره بالعبقريّة الأدبيّة، وعزف عن قراءة الرّواية، حتّى انتهى إلى القول بأنّ: "الأدب نوع من الهراء".

          وفي العقد الأخير من حياته أقرّ أنّه "روائيّ فاشل" لأنّه لم يَحْظَ بالتّقدير الّذي توقّعه في مقتبل عمره، وتداخلت عليه الأمور، واضطرب حاله، حتّى أنّه أنكر أهمّيّة الرّواية الّتي دشّن بها سمعته الأدبيّة والفلسفيّة، فصرّح يقول: "لم أعد أعرف السّبب الّذي يدفع النّاس إلى كتابة الرّواية". وذلك ما خلص إليه "نابوكوف" الّذي لم يرَ في الغثيان شيئا يستحقّ التّقدير؛ فهي تبدو متماسكة في الظّاهر غير أنّها ضحلة في العمق، خيالها عقيم، وبطلها عاجز، وهو يتأمّل ولا يفعل. ولو علمتُ برأي "نابوكوف" إبّان خطواتي الأولى صوب الوجوديّة، لأعرضتُ عنه، وطويتُ صفحته، فقد كنت أسيرَ الدّهشة، والذّهول، والانقياد لمجتمع القرّاء في ذلك الزّمن الّذي كانت القراءة فيه مفخرة، ووجاهة، لكنّني اطّلعت عليه في وقت متأخّر جدًّا، حينما تغيّرت وجهة نظري بالوجوديّة وميراثها.

          ولكن مهلًا، فغايتي ليست التّحليل الشّامل لرواية الغثيان، إنّما، بإغراء منها، أقحمتُ نفسي في عالم الوجوديّة، فثنّيتُ بقراءة رواية (دروب الحرّيّة) بأجزائها الثّلاثة: سنّ الرّشد، وقف التّنفيذ، والحزن العميق. وهي أثر سرديٌّ طويل عن معنى الحرّيّة، وعن المشاقّ في طَرْق أبوابها، وملامسة أطيافها، بدأ "سارتر" بكتابة جزئها الأوّل في بداية الحرب العالميّة الثّانية، حينما كان يؤدّي خدمته العسكريّة، في وحدة "الأرصاد الجوّيّة "في إقليم "الألزاس" على التّخوم الألمانيّة الفرنسيّة، وهو إقليم جبلي متنازَع عليه منذ القدم بين الأمّتيْن، ومبعث خلاف بينهما مرّةً بعد مرّة.

           جعل "سارتر" بطلَ الرّواية، ويُدعَى "ماتيو"، يتعثّر بدروب متقاطعة للحرّيّة، ولا يعثر على طريقه إلّا في نهاية جزئها الأخير، حينما باشر إطلاقَ النّار على أعدائه، ووقع تأويل ذلك على أنّه صفّى حسابَه مع ماضيه؛ فقد كان ينشد حرّيّته الفرديّة، أي: حرّيّته الوجوديّة، الّتي لا ينبغي لها أن تتقيّد بقيد، إنّما تكون مسؤولة عن أفعالها، وتلك هي فرضيّة الفلسفة الوجوديّة، وقد تسرّبت إلى معظم أعماله.

           حاول سارتر اختبار مفهوم تلك الحرّيّة على شاشة كبيرة من الأحداث، الّتي تُقحم الأفراد في اختيارات صعبة، فتتكشّف أحوالها على خلفيّةٍ من تلك الأحداث، حيث صوّرت الأحوال الاجتماعيّة عشيّة الحرب العالميّة الثّانية، وفي أثنائها، وكانت حقبة حبلى بالأحداث الجِسام، وفيها وُضع "ماتيو" تحت مجهر التّشريح من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي، بمراحل جسّدتها الثّلاثيّة مرحلة بعد أخرى. فهل يتحمّل مسؤوليّة علاقته الجنسيّة بــ"مارسيل" الّتي أثمرت جنينا؟ أم أنّه يلوذ بالفرار متنصّلا من المسؤوليّة؟ في الحالة الأولى، تكون الحرّيّة مهمّة عامّة يؤدّيها الفرد جرّاء عمل قام به، وفي الثّانية، تكون فعلًا أنانيًّا ينزع فيه المرءُ المسؤوليّةَ عن نفسه؛ بادّعاء كونه حرًّا في أفعاله. وقد لجأ "ماتيو" إلى الضّرب الثّاني من الحرّية، حيث لم يتحمّل عبء فعله، معتقدا أنّه، بذلك، حقّق حرّيّته، غير أنّه، في الواقع، فقد الحرّية الّتي بها تتحقّق هويّة المرء؛ فلا عجب أن يتخلّى عنه الآخرون، لأنّه انكفأ على ذاته، متوهّمًا تحقيق حرّيّته، وذلك هو موضوع "سنّ الرّشد".

         وعلى خلفيّة تضخّم النّوازع الفرديّة للشّخصيّات، لاحت نُذُر الحرب، فشملت "ماتيو"، في البدء، حالة الفزع الجماعيّ، الّتي وضعت الشّخصيّات أمام سؤال عن مصيرهم حال اندلاعها، وقد مسّه الخوف كما مسّهم، غير أنّه ما لبث أن اختار موقفا آخر، واضعًا حرّيّته موضع الفعل في الدّفاع عن بلاده؛ فقدره أن يكون حرّا في الدّفاع عن بلاده، وبموقفه ذاك اختلف عمّا كانت عليه حرّيّته إبّان علاقته بـ"مارسيل". ومع أنّ الحرب لم تندلع بعدُ في الرّواية فإنَّ أسئلة الحرّيّة بدأت تتفاعل جرّاء المخاوف من اندلاعها، وذلك هو مضمون "وقف التّنفيذ"، ثمّ أنّ الحرب وقعت في السّرد، وكانت قد حدثت في الواقع، واستُبيحت الأراضي الفرنسيّة من قبل الألمان، ووقع "ماتيو" أسيرًا، وتلك واقعة "الحزن العميق" الّتي ضربت بلاده في الصّميم.

          ومع ما آلت إليه حاله من أسى، فما برح يرى في الحرّيّة مسؤوليّة فرديّة، حتّى وهو في أقفاص الأسر؛ آنذاك، فحَسْب، وحينما أمست بلاده محتلّة، شعر بهويّته الفرنسيّة. ثم تمكّن من انتزاع حريّته، وقاد جماعة من رفاقه للقتال، وباشر في إطلاق النّار على الأعداء، وعلى الأخطاء الّتي اقترفها من قبل وكأنّه بفعله ذاك قد نزع الحزن عن بلاده، وفي الوقت عينه تطهّر من آثامه، وصاغ مفهومه للحرّيّة. وقد ظهر الجزءآن: الأوّل والثّاني من "دروب الحرّيّة" في خريف 1945، بعد أشهر من نهاية الحرب في أوربا، وتحرير فرنسا، وتأخَّرَ الثّالث سنوات قليلة بعدها.

         لم يخامرني التّوجّس من الإقدام على قراءة الثّلاثيّة، كما حدث مع الغثيان، فالمشاهد السّرديّة الواسعة، والحوارات المسترسلة، وتشعّب الأحداث، وتكاثر الشّخصيّات، لم تكن غريبة عليّ، إذ كنت منغمسا في عالم الرّواية الرّوسيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة في القرن التّاسع عشر، وإن كانت الأسئلة المندسّة في تضاعيفها لم ترُق لي، وما راقت لي أيّ أسئلة في سياق السّرد بعد ذلك. وفي ضوء الجدل العارم، آنذاك، حول الوجوديّة، وعدِّها خيار العصر الحديث، مضيْتُ في قراءة ما عثرتُ عليه من مؤلّفات سارتر، فهو قطب دائرتها، وعلمها الّذي لا يعلو علم عليه؛ فقرأتُ مجموعة قصصه (الجدار)، ثمّ سيرة طفولته (الكلمات)، وفيها استبطان للعالم الّذي عاش فيه وهو دون العاشرة من عمره، وقد تكون الأكمل بين مؤلّفاته الأدبيّة، وقد صدرت في بواكير 1964. بدت الطّفولة أصلا ثمينا من أصول مفكّر توغّل في شؤون العالم، ونسي نفسه، وعلى غرار ما شُغل بطفولته المبكّرة، انصبّ اهتمامه على طفولة بعض الكتّاب الّذين خصّهم ببعض مؤلّفاته بعد ذلك.

          كان سارتر ملء السّمع والبصر، لا يكاد يغيب إلّا ليحضر، ولا مفرّ من العثور عليه بقليل من الجهد في أيّ مكتبة، وفي أيّ حوار بين المثقّفين. وإن كنتَ لا تراه، فهو يراك، وإن كنت لا تشعر به، فهو يشعر بك، وإن كنت لا تجده، فهو يجدك؛ واحتلّ مكانا في أذهان القرّاء، ويتظاهر كثيرون من أمثالي بحمل مؤلّفاته في أثناء التّجوال في الأسواق، أو الجلوس في المقاهي، تفاخرًا، وزهوًّا، وادّعاءً. ومع سيل أعماله الوافدة إلى العراق من دار الآداب في بيروت، وانغماسي بعالمه، كما هو حال جيلي، والجيل الّذي سبقني بعقد من الزّمان، فقد تحاشيت قراءة مسرحيّاته، وهي كثيرة، إلّا واحدة أو اثنتين؛ يعود ذلك إلى ضعف صلتي بالآداب الدّراميّة، وشغفي بالسّرديّة منها.

        ولمّا كان دأبي الانكباب على أعماله السّرديّة والنّقديّة فقد أعرضتُ عن مؤلّفاته الفلسفيّة مرغمًا، لعجزي عن استيعابها، على الرّغم من أنّ الأُولى أقرب ما تكون إلى مرايا محدّبة للثّانية، ومع ذلك اقتنيتُ كتابه (الوجود والعدم: بحث في الأنطولوجيا الظّاهراتيّة) بثمن باهظ، وهو مجلّد سميك أزرق اللّون، بزهاء ألف صفحة، بدأ سارتر في تجميع مادّته الأوّليّة في بداية الحرب، حينما كان مجنّدا في "الألزاس"، وواظب بعد ذلك على تحريره في الأَسْر. لم أتجاسر إلّا على قراءة بضعة فصول منه، حيث كان يصدّني كالقنفذ؛ وفشلت محاولاتي التّوغّلَ فيه، وأشكلت عندي حدود المفاهيم الواردة به، وقد وضعها المترجم، عبد الرّحمن بدوي، في أوّل الكتاب، وشرحها بغموض زادها إبهاما، وبقيَتْ مستغلَقَة عليَّ حتّى الآن.

         ظلّ كتاب "الوجود والعدم" رابضًا في صدر مكتبتي، إلى أن احترق بإحراقها، في ربيع 2015، كان كلّما اقتربتُ إليه صدّني، ودفعني إلى الوراء، حتّى أمسيتُ أتجاهله، وربّما أخشاه، وهو أشبه بقطعة من الحجر الصّلب، لا تعرف البلى. وقد فهمتُ من صفحاته الأولى أنّ العدم هو: ما لا تفكّر فيه، أمّا الوجود فهو: ما يحوزه تفكيرك؛ قضيّة معقّدة حول الموجود لذاته، والموجود لغيره. ويحار القارئ في إدراج كتاب "الوجود والعدم" في صنف التّأليف الفلسفي الشّائع، ويعود ذلك إلى أنّ مؤلّفه اختار الأدب طريقا له في أوّل أمره، فطغت هويّته الأدبيّة على هويّته الفلسفيّة، حتّى بدا الكتاب إنشاءً مغلقا على وصف الذّات، وغير متّصل ببحر الفكر الفلسفي الواسع.

         وقد وجدتُ "ريكور" يشاطرني الرّأي في قوله: أنّ الكتاب لم يثر في نفسه غير قليل من الإعجاب الباهت، ولم يقتنع، على الإطلاق، بما ورد فيه من أفكار. وفضلًا عن المؤلّفات السّرديّة الّتي ذكرتها، راقت لي مجموعة الكتب الّتي أصدرها بعنوان (مواقف)، وهي ليست قليلة، ثمّ كتبه المتفرّقة الأخرى: عن الخيال، والانفعال، والأدب. فقد واظبتُ عليها بخيرِ ما تكون عليه المواظبة، وفي طليعتها (جمهوريّة الصّمت)، وفيها تجلّى سارتر بما كان يستجيب لتوقّعاتي، قارئًا شابًّا له.

          وليس في مقدوري تخطّي الحديث عن كتاب عجزت عنه، فبعد مدّة طويلة من ذلك عرفت بأنّ سارتر كاد يطابق، في (الوجود والعدم)، الخطوطَ العامّة لكتاب "هيدغر"(الكينونة والزّمان)، والكلمتان في عنوانيْ الكتابيْن واحدة، ودلالتهما عند الاثنين متقاربة. وعلى عكس اللّغات الأوربية، فقد جرى التّفريق النّسبي في ما بينهما باستخدام لفظيْن مختلفيْن للمعنى ذاته. اطّلع "سارتر" على كتاب هيدغر قبل الحرب، ولكنّه انكبّ عليه إبّان أسره، وتلقّاه أسيرًا بغير ما اطّلع عليه طليقًا، فأمسى دعامة من دعامات مشروعه الوجودي. وفي الأسْر شرع في تنفيذ مخطّط الكتاب، وصار معروفًا أنّ التّابع الفرنسي استقى ظلال المفهوم من المتبوع الألماني، حتّى أنّ "هيدغر" في رسالة كتبها لـسارتر بعد الحرب، أقرّ بتأثير كتابه في كتاب سارتر، في قوله: "يسيطر على كتابك فهمٌ مباشر لفلسفتي، فهم لم أصادف مثله من قبل". من الصّعب أن يُفهم قول هيدغر على أنّه تقريظ لكتاب سارتر، إنّما على أنّه أحد مسوخ كتابه، ويُروَى أنّ هيدغر نَعتَ كتاب سارتر بأنّه نفاية، وسخر من ضخامته.

          وبحسب دوبوفوار، كانت عدّة سارتر الفلسفيّة شحيحة حينما دبّج أصول الكتاب، فلم يكن قد توسّع في المعارف الفلسفيّة والنّفسيّة، حتّى أنّه لم يكن قد اطّلع إلّا على كتاب أو كتابيْن من كتب "فرويد"، الّذي غادر لتوّه الدّنيا منفيًّا في لندن، وما وقع له مع فرويد حدث مع "نتشه" الّذي كان آنذاك خارج مدار اهتمامه. لم يمكث سارتر طويلًا في الاعتقال؛ فبذريعة الحاجة إلى علاج عينيْه الكليلتيْن التمس زيارة طبيب عيون خارجَ المعتقل، وغادره يتعثّر ببصر واهن، ولم يعد إلى المعتقل. وعلى أيّ حال، هو لم يكن سجين حرب ذا بال، ولم يؤسر في سُوحِ الوغى، إنّما وقع، إبّان الاجتياح الألماني للإلزاس، جمعُ جنود الأرصاد الجوّيّة غير المحاربين، وسارتر من بينهم، وأُودِعوا في المعتقلات بحسبهم غير محاربين.

          لكن كيف كانت أحوال سارتر قبل ذلك، وما مواقفه؟ في النّصف الأوّل من الثّلاثينيّات، وإبّان صعود هتلر الّذي أحكم السّيطرة على ألمانيا، لم يبد سارتر أيّ مخاوف من قدوم النّازيّة، الّتي كانت قد أقضّت مضاجع معظم المفكّرين، والأدباء، والفنّانين في العالم. كان مشغولًا بالحواشي الّتي بدأت تفرزها "الفينومينولوجيا" الألمانيّة، وراح يعتاش عليها بدأب، ويعيد إنتاج نسخة فرنسيّة عنها بخلاصات وجدت طريقها للصّوغ وإعادة الصّوغ في (الوجود والعدم)؛ لم يساوره القلق من صعود الموجة النّازيّة، وبدا أنّه غافل عمّا كان يدور تحت بصره، حتّى وهو في برلين؛ فما كان قد استحكم في نفسه هو أن يشقّ طريقه أديبًا وفيلسوفًا ينهج نهجا خاصًّا في وصف ما يتراءى من ظواهر العالم، وليس الغوص في تحليل ما يدور من حوله.

         كان سارتر يبحث عن بطانة "ظاهراتيّة" لأعمال سرديّة تبيّن علاقة الشّخصيّة بالأشياء أكثر من غايتها في فهم طبيعة تلك الأشياء، فذلك لم يكن في مناله، وبدأ يقتات من الجدل الّذي كان يدور حول التّأويلات "الظّاهراتيّة" للفكر الفلسفيّ في ألمانيا، ووجد ضالّته فيه، سواء في ابتكار شخصيّة "روكنتان"، الّتي هي صورة من صوره التّأمّليّة في العالم المحيط به، أو في الخلاصات المسترسلة الّتي كان يدوّنها بإيحاء من أعمال "هوسرل"، و"هيدغر". في برلين، كان يقرأ ويلخّص، ويجمع، ويفرّق، وقد أعوزه الابتكار، ولم يُشغل باليقظة القوميّة في ألمانيا، إذ كان يرضع بعض حليبها في برلين، وكأنّ ما يدور فيها خارج اهتمامه، ولم يخامره الارتياب بما كان يقع من أهوال إلّا بعد أن أحكم هتلر قبضته على ألمانيا في منتصف الثّلاثينيّات.

          انبثقت النّازيّة من براثن عالم متفكّك، ولم يلتفت لخطرها القادم إلّا عدد قليل من المفكّرين، ولم يكن سارتر من بينهم؛ كان مشغولًا بالمزاج العدمي لعالم ما بين الحربيْن، ويريد لنفسه أن يكون راصدًا لظواهره، رصْد من ربض في مكانه مؤوّلًا، فنرجسيّة "روكنتان" كناية سرديّة عن عجز سارتر عن تفسير ما كان يقع تحت نظره، كأنّ العاصفة الّتي تتشكّل تحت الأنظار غير مرئية أو غير لافتة لنظره. عبّرتْ "حنّا أرنت" عن شيء من هذا الأمر في تحليلها لأحوال النّاس آنذاك بقولها: "إذا لم تستجبْ بما يكفي في الأوقات المطلوبة، فأنت تكشف عن فقر في الخيال والاهتمام، وهو خَطِر خطورة اقتراف إساءة عمديّة".

          كانت تلك حقبة مبهمة، تلاشت فيها مقاومة النّاس بالتّدريج، وتلاشى معها الإدراك بالخطر. والبطل الوجودي الصّاعد آنذاك، كان بمنأى عمّا كانت سوف ترتعد له الأبدان، كان مشغولًا بسأمه وقرفه من عالم رتيب، لا يستجيب لتوقّعات رجل أعزل استبدل المشاركةَ بالتّأمل في أحواله الجوّانيّة، وتلك نزعة قوبلت بالاحتفاء عشيّة الحرب العالميّة الثّانية، وازدهرت بعدها، حيث كان وهْمُ الهويّة الذّاتيّة في تضخّم منقطع النّظير، وهْمٌ ادّعى كشف معدن الأصالة القابع في كيان كلّ إنسان؛ ذلك هو "العدم" الباحث عن "الوجود".

          وتتعذّر الإحاطة بالوجوديّة دون رسم السّياق الحامل لها، وموقع سارتر في ذلك السّياق، فقد ارتسمت الملامح الأولى لأفكاره قُبيْل الحرب العالميّة الثّانية، واتّخذت لها لبوسا أدبيّا في بداية الأمر، لكنّ احتجازه في معسكر داخل الأراضي الألمانيّة، وفّر له فرصة للتوسّع فيها. فخلال عزلته القسريّة، أحاط بشيء من الفلسفة الألمانيّة الحديثة، وهي فرصة قليلة الحدوث لأسرى الحروب -حدث ذلك بحذافيره تقريبا لـ "ريكور" الّذي انكبّ على الفلسفة الألمانيّة خلال أسره، فسارتر" لم يكن مجنّدا في الكتائب المقاتلة، بل كان قارئًا لسرعة الرّياح، في وحدة الأرصاد، لذلك وقع التّساهل معه، ولم يتعرّض لما تعرّض له الأسرى المقاتلون، وحينما أفرغ النازيّون سجونهم من المدنيّين غير المؤهّلين للعمل العسكري، فزوّر هويّة مدنيّة، وبالغ في ضعف بصره أثناء الفحص، ثمّ تسلّل متخفّيًا، وعاد إلى باريس، بعد سنة من الاعتقال تقريبا.

          في المعتقل، جاء أحد الضّبّاط النّازيّين، بكتاب (الوجود والزّمان)، للأسير، فراح الأخير يدبّج الخطوط الأولى لكتابه (الوجود والعدم)، مستعينًا بمنهج "هوسرل"، وفيه ادّعى إنزال الفلسفة من السّماء إلى الأرض، أي: أن تكون حياة النّاس موضوعًا للفلسفة، وصبّ أفكاره الفلسفيّة في الكتاب، وتلك الأفكار بمعنًى من المعاني إعادة تأويل لأفكار فلاسفة آخرين على رأسهم "هيدغر". ولم يمض غير وقت قصير على مغادرته المعتقل حتّى انتدب نفسه لمقاومة المحتلّين بالكلمة؛ حدث ذلك لأنّه ورفاقَه كانوا أدنى من أن يقوموا بحمل السّلاح، فاتّخذوا سبيل المقاومة الفكريّة، وبدأوا في توزيع المنشورات في أزقّة باريس، حينئذ شاعت تهمة كونه عميلًا للنّازيّين، لأنّه أخبر أصدقاءه بأنّ الألمان مكّنوه في المعتقل من الاطّلاع على كتاب "هيدغر"- الّذي كان على علاقة بالنّازيّين. ثمّ أصبح بعد ذلك رئيسًا لإحدى الجامعات في أوّل عهدهم بالحكم- والشّيوعيّون الفرنسيّون هم الّذين كانوا وراء التّرويج لتلك التّهمة، لذا لم يكن سارتر، في نظرهم، مصدر ثقة، وكان ذلك الأمر جرحا بليغا طُعِن به سارتر من أهل بيته؛ وجرّاء تلك التُّهم سرعان ما تفكّك فريق المقاومة الّذي كان بقيادته.

          وعلى غير ما كانت عليه أحواله قبيل الحرب، فإنّ نشاطه الفلسفي قد غلب على نشاطه السّردي في السّنين اللّاحقة، ونشأت أفكاره النّقديّة الّتي تسرّبت إلى كتب عديدة، شكلت لبّ سلسلة "مواقف". وفي وقت متأخّر من عمره حكم على مجمل أعماله بالضّعف، ورأى أنّ الأبقى من بينها هي "مواقف"، أمّا بقيّتها فسوف تذهب أدراج الرّياح. ولكنّ حوافزه للكتابة تعرّضت للتّغيّر، وراح يتعاطى المنشّطات، الّتي أدمنها بعد الحرب، وقد كتب "نقد العقل الجدلي" تحت تأثيرها. وأفرط في الإدمان، فكان يبتلع، أحيانا، عشر حبّات، وأحيانا أخرى تصل إلى عشرين في اليوم، ولم يعد يكتفي بواحدة مثلما ما كان عليه حاله في أوّل الأمر، ومن بينها عقار "الأورتيدرين"، و"الكوريدران"، وبمرور السّنين زاد من جُرع المنشّطات، ثمّ كتب بعض مؤلّفاته تحت تأثير "الميسكالين"، وراح يسهب في الكتابة، وأمسى التّجويد عنده ذكرى منسيّة. بدأت الأحبار تلطّخ الأوراق، وتلوّث يديه وأكمامه، وتجاوز كلّ حدّ، وصار يدفع بكلّ ما يكتبه إلى المطابع فورا، فلا مسوّدة يتولّى النّظر فيها، أو تنقيحها، ومراجعتها. حتّى اعترف أنّه كان يتعمّد التّشويش على نفسه وأفكاره، ليقول ما يخطر له دون تدبّر؛ وعلّة ذلك الإفراط شبه العشوائي في التّأليف، كما اعترف بأنّه ما عاد قادرا على إكمال كتابة موضوع خطر له، أو حتّى شرع فيه، وما عاد يرى جدوى في مراجعة ما يكتب، أو تنقيحه، فذلك مضيعة للوقت، واعترف أيضا بأنّه دأب على تعاطي العقاقير المخدّرة.

         وما عرفتُ حال سارتر في سنواته الأخيرة إلّا في أوّل خريف 2022، وأنا أقرأ كتاب "دوبوفوار"(مراسم الوداع) فإبّان شغفي به في السّبعينيّات، كان التّخريف قد تمكّن منه، حتّى ما عاد يعرف رفيقة دربه، ولا يميّز بين أصدقائه؛ فيخلط بين الأشخاص والأحداث، ويتعثّر في التّعبير عن نفسه، وعن أفكاره، وفقد التوازن الّذي ميّزه عن سواه من قبل، وقد زعزعته الأمراض كلّها، وأثقلته خطوب الجسد، وأوّلها ضعف بصره، وكانت سلواه أنّه ما زال قادرًا على الإصغاء والحديث. فراحت شريكته تقدّم له العون في قراءة أعمال فلوبير، بصعوبة بالغة، وكانت ترعاه، ولا تفارقه إلّا ما ندر، وهو يدبّ في الطّريق المنحدر للحياة دون توقّف. وكتابها عنه، هو الأرشيف الأكمل للسّنين الأخيرة من حياته، وفيه أوردت بالتّفصيل الأيّام واللّيالي الّتي راح فيها نجم الوجوديّة يدلف إلى العدم، ومِن عجبٍ أنّه، وفي ذلك الوقت الحرج من حياته، بدأ بالتّحرير النّهائي لكتابه عن فلوبير، وهو بعنوان: (أحمق العائلة)؛ كتاب ضخم جعله في أربعة أجزاء، وشُغل به نحو عشرين عامًا قبل أن يعجز عن إتمامه، حيث بدأ العمل به في أوّل الخمسينيّات، وأفرط في وصف طفولة فلوبير، وظروف عمله على كتابة (مدام بوفاري)، وكأنّه لا يرغب في التّوقّف؛ فالكتابة سلوى عن طفولة بعيدة.

         وقد جاءت لغة الكتاب متعثّرة، وكانت غاية سارتر تحليل "عُصاب" "فلوبير" حسب زعمه، ثمّ أنّه لم يُتمّ الجزء الأخير منه، وقد ظهر الكتاب في ثلاثة آلاف صفحة. وطوال سنوات انصرافه له كانت "سيمون" تقدّم له المساعدة اليوميّة في العمل، بعد أن راح يتعثّر، شبه عاجز، في دروب الحياة، كما في دروب التّأليف، وقد أشارت "بوفوار" إلى أنّها قرأت الكتاب بتمامه، وحكمت بأنّه "أمتع كتب سارتر". ومع ذلك، فثمّة إجماع، بأنّ سارتر توسّع فيه أكثر ممّا ينبغي، بعد أن أمسى في خريف حياته يتحاشى الاختصار، ويرفض المراجعة، وكأنّه ينشئ كتابا لنفسه، أو أنّه يناجي رفيقته "سيمون" وجعل فلوبير ذريعة لذلك.

          أرجعت "سارّة بكويل" إقبال سارتر الشّره على الكتابة دون تركيز، ولا إكمال، إمّا لشعوره بخيلاء مؤلّف، وإمّا لحاجته إلى المال؛ لأنّه كان دائب المساعدة للآخرين، بتشجيعهم على الكتابة، أو معاضدتهم في حملاتهم السّياسيّة، وقد ظلّ يعتقد إلى نهاية حياته أنّه كاتب ملتزم. ومع الأثر الهائل الّذي تركه سارتر على خارطة الفكر الإنساني طوال عدّة عقود، فإنّ المآل الشّخصي الّذي انتهى إليه، رجلًا ومفكّرًا، وحيدًا، يثير الأسى في نفوس الوجوديّين وغيرهم، فالمتتبّع للتّدهور الّذي انتهى إليه في العقد الأخير من حياته، وقد تناوشته مصالح المحيطين به، والمنتفعين من موقعه الثّقافي، وفقد السّيطرة على إرادته، يلحظُ فيه "شخصيّة متوهّجة متّقدة ثرثارة، بدأت تتحوّل تدريجيًّا إلى شبح مسلوب البصر، وإلى حدٍّ ما السّمع، مجرّدٍ من غليونه، وكتابته، واشتباكه من العالم".

         وبتأثير من المنشّطات اضطرب نطقه، وضَعُف سمعه، وتشوّشت حواسّه، ومن عجب أنّه حينما ينصرف لكتابة الأدب لم يكن يتعاطى المنّشطات، إنّما يحتاج إليها حينما يكتب في الفلسفة، وظهر له أنّ المنشّطات تعمل عمل السّحر في إيجاد التّوازن بين نفسه وجسده، وتطلق قريحته في الكتابة الفكريّة، فيقبل عليها فرحا بعد أن أمست تتمنّع عليه. وبدل أن يستعين بالماء لابتلاع الحبوب المنشّطة كان يقضمها بأسنانه، فتبثّ الحيويّة في جسده طوال النّهار، ويقول أنّه يريد بها أن تقدح الشّمس في عقله، ولكنْ يلازمه الأرق ليلًا، فيُرغَم على التهام حفنة أخرى من الحبوب المنوّمة ليتمكّن من الخلود إلى الرّاحة، ويحشو أذنيه بالسّدّادات. وخلال النّهار الطّويل الّذي يصرفه بالعمل، كان يفرط في التّدخين، والقهوة، والخمر، وقد اسودّ لسانه بفعل العقاقير، واصفرّت أسنانه، وغالبه شعور عميق بالإحباط، لكنّه ظلّ مصرًّا على الحفاظ على هيبته في نظر الآخرين، ولم يعد يراجع ما يكتبه، فيمضي متعجّلًا بطريق لا رجعة فيه.

        ومع ذلك، وفي وسط تلك المدّة، حين شلّت قضيةُ الجزائر جسدَ فرنسا وتركته يترنّح على حافة حرب شبه أهليّة بين المؤيّدين للاستيطان والمناصرين للاستقلال، كتب سارتر مقدّمته المميّزة لكتاب "فرانز فانون" (معذّبو الأرض) الّذي وصف فيه العنف الاستعماري، والعنف المضادّ له، فقال سارتر: "إنّ علائم العنف لا يستطيع لينٌ أن يمحوها، فالعنف وحده هو الّذي يستطيع أن يهدمها، ذلك أنّ المستعمَر يُشفى من عُصاب الاستعمار، بطرد المستعمِر من أرضه بالسّلاح؛ فهو حين يتفجّر غضبه يستردّ شفافيّته المفقودة، بذلك يعرف نفسه بمقدار ما يكون قادرًا على صنعها". ومهما اُخْتُلِفَ حوله فقد شغل سارتر العالم منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية.

          وبعد أن استقامت هويّة سارتر كاتبًا روائيًّا ومسرحيًّا وفيلسوفًا، انتهى في آخر ربع قرن من حياته ناشطًا ثقافيًّا وسياسيًّا مؤثّرًا، وراح يقترب من الشّيوعيّين كثيرًا، وإن لم ينخرط في الحزب الشّيوعي الفرنسي، وغاص في معمعة القضايا الملتهبة، كالاستعمار، والاعتقالات السّياسيّة، والحقوق المدنيّة، والانتخابات، وشؤون الحياة العامّة، وانتهى الأمر به مرجعًا تلوذ به الهيئات المدنيّة والحقوقيّة، وذلك جعله يدور في أفق طموحاتها، ويستخدم تأثيره في تحقيق مصالحها، وربّما مآربها، فكان يُزجّ به في مواقف لا يعرف تفاصيلها.

          ويكشف السّجلّ الكامل لأعماله في العقد الأخير من عمره، ممثّلًا بكتاب "مراسم الوداع" الّذي حرّرته دوبوفوار بأنه أمسى ملاذًا لكلّ صاحب مظلمة، وناشطا غاضبًا، له يد في كلّ قضيّة تقريبًا، وقد تلبّسه دور المخَلِّص، ومضى فيه إلى النّهاية. وبين حين وآخر كان يختلس الوقت ليعود إلى الكتابة الّتي حلم بها في النّصف الأوّل من عمره، وبالغ في إصدار البيانات، وإعلان الإدانات، ومعظمها ذهب أدراج الرّياح، وظلّ متمسّكا بأفكاره، ولم يدْعُ إلى الأدب الملتزم بل أخذ به في كلّ ما كتب. والظّاهر أنّه وقع تضارب بين أفعاله وبين مؤلّفاته، وغلب عليه موقعه ناشطًا ثقافيًّا في نهاية المطاف، وكما قال: "كلّما انخرط الإنسان في ممارسة تجربته، شيئًا فشيئا، فقَدَ ما كان لديه من أفكار".

         ولاقتران دوبوفوار بسارتر، وارتباط مصيرهما منذ البداية حتّى النّهاية، فقد عكفتُ، أيضا، على قراءة بعض مؤلّفاتها، ومن بينها مذكّراتها الجسورة، وهي، في تقديري، أكثر حيويّة من "سارتر"، وأكثر صراحة في استلهام وقائع حقيقيّة من حياتهما، وعلاقاتهما الغراميّة المتداخلة مع الآخرين. وإن كانت تابعًا له في المرحلة الأولى من علاقتهما، فقد استقلّت بذاتها كاتبةً بعد ذلك، وتبوّأت مكانتها زعيمةً للفكر النّسوي، ولعلّها النّظير المكافئ لسارتر، وما عادت تابعةً له في العقديْن الأخيريْن من حياتهما. صحيح أنّه كان يقترح عليها بعض الموضوعات، غير أنّها كانت بارعة في معالجة ما كان يورثها القلق، ومع العشرة الطّويلة الّتي ربطت الاثنيْن، والأُلفة بالغة العمق، وتبادل شركاء الجسد باتّفاق معلن، فهي لم تذب بشخصيّة شريكها، ودارت مدّة طويلة في مداره، ولكنّها لم تنحلّ في بحره المالح.

          ودون سائر "حريم" سارتر اللّواتي تلاعب بهنّ، واستمتع بأجسادهنّ الفتيّة، بقيت سيمون امرأة ناتئة تعذّر عليه احتواء جموحها. وفي السّنوات الأخيرة من حياته، حينما وهن عظمه، وسقط في سراب الأوهام، وشدّ العزم على الرّحيل عن الدّنيا، كانت تُسمعه بعض الموسيقا الجنائزيّة، فيومئ لها أنّها مناسبة لأحواله، وكأنّها من طقوس الوداع، وجعلت ذلك عنوانا لآخر مؤلّفاتها بعد رحيله، وأكثر ما شغلها خلال ذلك، سجلّ يوميّاتها الّذي جعلته بمعظمه عن أحوال "سارتر" في ختام عمره. وقد تميزت سيمون بالقوة "وكانت إنسانا لا يقهر فعلا". وكانت تصرّ دائما على أن تكون جزءا من أية محادثة مع سارتر. استظلّت، في البداية، بظل سارتر، ثم انفصلت عنه، وكانت مستاءة من تجاهل الآخرين لها، وعدم اعترافهم بأهمية كلّ منهما للآخر، وقد ادّعت أنها أعدت أطروحة دكتوراه عن الفيلسوف الألماني "لايبنتز"، وكان ذلك محض ادعاء، فلم يعثر أبدا على تلك الأطروحة، ولم تنشر، ولم تقدّم إلى أية جامعة بوصفها بحثا لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، إنما كانت بحثا في الإجازة الجامعية حينما درست في السوربون، ولا يعرف سبب جعلها تدعي ذلك إلا بتصوير نفسها فيلسوفة.

          وانفصالها عن سارتر لا يعني انقطاعها عنه، فقد ظلّت ترعاه في شيخوخته، واعترفت بصعوبة تلبية حاجاته حينما تقدّم به العمر، فقد "تسبّبت سنوات التدخين والشرب في تصلّب شرايينه، وإضعاف دماغه، وكان في كثير من الأحيان، مصابا بالسلس، وكثيرا ما كان يتبرّز على نفسه، ولم يعد يهتم بنظافته الشخصية، وغالبا ما كانت ثيابه متسخة، وأنفاسه عفنة، ورائحته كريهة" فجعلها ذلك عاجزة عن خدمته، وقد تقدّم بها العمر أيضا، وهو ما فتح الطريق أمام الآخرين، رجالا ونساء، للاقتراب إليه، والتفاخر بمعرفتهم ب"الفيلسوف العظيم"، وانتهى الأمر بابتزازه ماليا وفكريا؛ ماليا بالصرف عليهم وعليهن، وفكريا في موافقته على ما كان يطلب إليه من مواقف ودعم. ومع تقدمه في السن، فلم يُعرض عن عشيقات صغيرات كان يتسلّى بهن، والظاهر أن دوبوفوار لم تعترض على ذلك أيضا، وبخاصة أنهما يقيمان في بيتين منفصلين، وواحدة منهن، وهي اليهودية الجزائرية "آرليت إيلكايم" انتقلت من رتبة عشيقة إلى ابنة بالتبنّي، ثم إلى وريثة وحيده لسارتر، فحازت على ميراثه.

          وحدث شيء قريب من ذلك لدوبوفوار بعد وفاة سارتر، وبظهور علائم الشيخوخة عليها، جارته في عدم الاهتمام بنفسها، وظهرت عليها بدانة الشيخوخة، وتغلّب عليها النكد في علاقتها بالآخرين. وكانت تحتسي المشروبات الثقيلة باستمرار شأنها في ذلك شأن سارتر. وبدورها اتخذت، بعد وفاة، إحدى عشيقاتها، وهي "سيلفي لوبون" ابنة لها بالتبنّي، وجعلتها وريثة لها. تحكّمت بميراثها كما تحكمت الأخرى بميراث سارتر. في عام 1983 نشرت دوبوفوار رسائل سارتر لها، وأحجمت عن نشر رسائلها له، بدعوى منع الاستئثار بها من سواها من نساء سارتر، ولأنها أرادت إثبات أنها المرأة الأهم في حياته. وقد ضمّ كتاب "ذكريات باريسية" لـ"ديردر بير" شيئا كثيرا من ذلك.

        طُوي ملفّ الوجوديّة، وحُفظ في الرّفوف العالية من أرشيف الثّقافة الإنسانيّة، ومن التّمحّل الادّعاء بأنّه قدّم حلولا ناجعة للمشكلات الجسيمة الّتي شهدها العالم قُبيل الحرب العالميّة الثّانية وبعدها بعقديْن، فقد كانت الأمم الأوربيّة تجرّ أذيال الخيبة من عنف اكتسح معظم أرجاء القارّة، وامتدّ إلى غير مكان في العالم. وكانت الوجوديّة، بوجه من الوجوه، قد تولّت تمثيل حالات القنوط واليأس الجماعي، ثمّ حالات اليقظة والتّمرّد، الّتي كانت تنبثق كالدّوّامات وسط ارتياب عامّ بما انتهى إليه العالم، وحتّى تنطُّع سارتر للمسؤوليّة الفرديّة، والالتزام بالشّأن الإنساني، لم يكن سوى نفثة غضب في عالم يتحلّل ويتعفّن.

           وربّما من حيث لم يُرد الوجوديّون، أسهموا في دفع العالم إلى صبوات جوّانيّة، بالغت في وصف ظواهر الأشياء، وأخفقت في استخلاص عِبَر منها. وقد كنتُ شاهدًا، من الدّرجة الثّانية، على ذبول تيّار عارم، قدّم وعودا كثيرة، لم يتحقّق منها إلّا أقلّ القليل، وظلّ يتعثّر، ويتشقّق، إلى أن غُلب على أمره، وبقليل من الحذر، يصحّ القول بأنّ سارتر لفّق جملة من الأفكار الفلسفيّة الغامضة، والتّأويلات المبهمة، وأسبغ عليها سمة أدبيّة، وما لبث أن أمسى ذلك الخليط فلسفةً اُصْطُلح عليها بـــ: الوجوديّة.

         ما الّذي وقع لي مع سارتر بعد تلك الموجة العارمة من الانجذاب؟ بانتهاء عقد السّبعينيّات انبشمتُ من أفكاره الملتوية، الّتي يقلّبها على وجوه عدّة، لم أتفاجأ بها، بعد أن نضب معينه، وأنا بدوري لم أعد أصبر عليه، فتوقّفتُ عن كتبه، وربّما أكون قد أُتْخِمتُ بها حتّى سئمتُ؛ ما عادت تجتذبني أفكار مبهَمَة طالها الاجترار والتّكرار، وتلاشت رغبتي في الاستزادة من شيء ما عاد جاذبًا ولا نافعًا، وقبل ذلك وقع مَنْعُ تداولِ كتبه في العراق، وخلت منها أرفف المكتبات الّتي كانت تغصّ بها، وأُشيع أنّها كتب منحلّة، وتغري بالإلحاد.

          جاء المنع بعد أن غزت الوجوديّة خيال المجتمع الثّقافي في العراق، ومع ما شعرتُ به من ضرر، بسبب ذلك القرار الّذي ينافي حرّيّة التّعبير، والحرّيّة الفرديّة الّتي نذر لها "سارتر" نفسه، فقد أمسيتُ أعدّه من مقتنيات ذاكرتي، أقرأ عنه، ولا أقرأ له، أتحدّث عنه، وأصغي إلى من يحدّثني عنه، ولم أكلّف نفسي قراءة أيّ كتاب جديد له. ومع أنّه تُوفّي في ربيع 1980، فإنّ وفاته عندي سبقت ذلك بمدّة قصيرة؛ حينما أدرتُ ظهري عنه، وأيًّا كان الحكم على ما سأقوله، فالوجوديّة مزاج ثقافيّ ونفسيّ عابر. صحيح أنّ أمواجها الصّاخبة بلغت كثيرًا من مرافئ العالم، لكنّها انحسرت بوفاة سارتر، وأضحت ذكرى بعيدة في عالم ما عاد قائما، حينما كانت أضواء الوجوديّة تخلب الألباب في قلب باريس، فيقصدها المثقّفون جاعلين من الحيّ اللّاتيني قِبْلة لهم.

          في العقود التّالية ارتفع حاجز بيني وسارتر، حال دون إعادة قراءة أيّ من مؤلّفاته، لكنّني كلّما عثرتُ على كتاب عنه أو عن رفيقته دفعني الفضول إليه، كأنّني أريد العلم بما فاتني عنه في أيّام شبابي، ولستُ أقلّل من شأنه بأيّ شكل من الأشكال؛ فقد خرّب مقوّمات عالمي القديم، وفتح لي عالم التّأمّلات الفرديّة، وقد تماهيْتُ مع "روكنتان" بعد قراءتي لـ(الغثيان)، حتّى توهّمتُ أنّ مشاعري وخواطري نسخة من مشاعره وأحاسيسه، وما خِلْتُ أن أنفصل يومًا عن ذلك الملهم الرّاديكالي، شبه الضّرير، الّذي سقط في التّخريف خلال العقد الأخير من عمره، وأدمن الكحول والتّبغ، وأنطفأ وهجه، تقوده صاحبته كالطّفل الأرعن في أرجاء فرنسا والعالم، فتُذكّره بما ينبغي قوله، وأحيانا لا يتعرّف عليها، كأنّي به "أوديب" الضّرير تقوده "أنتيغونا" المبصرة، وكان يدعوها (القندس) "كناية عن دأبها الّذي لا يهدأ". وقع ذلك لسارتر دون أن أعلم به، ثمّ أنّه أمسى كثير الإنكار لتدهور أحواله الذّهنيّة والجسديّة في آخر سنوات حياته.

           أمسى سارتر كثير النّعاس، وضعيف الذّاكرة، وشبه أعمى. وشاركته دوبوفوار الإنكار في معظم ما يخصّ حياتهما الجنسيّة، بما فيها المثليّة، الّتي لم يُكشف عنها النّقاب إلّا بعد عقود من ذلك، إثر نشْر رسائلهما الشّخصيّة. وجاء كتاب "هازل رولي" الموسوم بــ: (وجها لوجه: حيوات وحبّ سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر)

    وكتاب "ديردر بير" وعنوانه "ذكريات باريسية: صاموئيل بيكيت، وسيمون دوبوفوار، وأنا" فأزاحا اللّثام عن التّجارب السّريّة الّتي تورّطا فيها بمعرفة، وبسابق علم، واصطلح سارتر على ذلك النّمط من العلاقات الجنسيّة المتبادلة بين الشّريكيْن وعشّاقهما بــ: "الشّفافيّة"، وقد وطّن نفسه على عدِّ الغيرة تملّكًا، وأقنع شريكته سيمون بذلك؛ فتجرّدا طوال حياتهما من نوازعها، أو ادّعيا ذلك كي لا يحرما نفسيْهما من مُتع العلاقات الموازية.

  • خصوصية المكان الروائي (مدينة العمارة انموذجاً)

    نصير الشيخ
    نصير الشيخ

    إن للمكان أهمية بارزة وحضور مشرق على مساحة النص الروائي، فلا يمكن تصور أحداث إلّا بوجود مكان تنمو وتتشعَب فيه، لأنَ المكان يحتوي على الأحداث ويبينها، وإذ تتظافر الأمكنة لخلق الفضاء الجغرافي للنص السردي، يكتسب المكان صفاتٍ خاصة، ويصبح ذا أهمية متعددة المستويات، لذا تعّد الرواية نصاً لكل ما نعيشه وما هو مختزن في الذاكرة من أحداث تاريخية واجتماعية وسياسية ودينية وغيرها، وهي خطاب يسمح لنا بالبوح عما بداخلنا، بأساليب وتقنيات سردية وفنية مختلفة ومبتكرة، والرواية ليست مجرد حكاية أو شكل فني، بل هي ممارسة لإنتاج ثقافة الفئات الاجتماعية المختلفة.
    فالمكان في الرواية من أهم العناصر المكونة لها حيث يكتسب أهمية كبيرة لأنه عنصر من عناصرها الفنية ومساحة مهمة تجري عليها الأحداث، كما أنه فضاء يحتوي على كل العناصر الروائية، وأيضا يلعب دوراً حيوياً وبارزاً حيث ارتفع عن مجرد كونه جغرافياً للأحداث ينطلق منه الروائي وتقديم وجهات نضره، ونظراً للأهمية التي يمنحها المكان في الرواية وقع اختيارنا على روايتين اتخذتا من المكان منطلقاً سردياً وحصراً مدينة (العمارة)، وهاتان الروايتان هما: (اليهودي الأخير) للروائي عبد الجبار ناصر، ورواية (شوارع الوجود) الكاتب الشاب أحمد شمس.
    * اليهودي الأخير...مشهدية الواقع وصراع المكونات :
    ــ كيف لعين الروائي الباصرة أن تتلقف المشاهد العينية حسب انعكاسها في الذات الروائية ببريقها وأنطفائها أو بتوهجها وخرابها، ومن ثم رسمها بإتقان عال لتقديم مشهدية متاخمة لروح العصر تتخاطف شخوصها على مسرح الأحداث مع قدرة متفردة لاستدعاء ما تضج به الذاكرة وبما يتشكل شريطا سينمياً يعيد فتح مغاليق احداثه، مستعرضا لقطاته الضاجة بغية تدوينها نصيا لتأخذ مساحتها الكلية على التدوين النصي والخطاب كمأثرة للقول وما تتركه من أثرٍ إبداعي؟: إنّ الروائي على وفق مقولة الكاتب كولن ولسون " لم يعد يكتفي بتحليل الواقع أو نقده، بل بدأ يخلق الرموز التي تشكل دلالات حركية غير نهائية، أي قابلة لامتصاص معطيات جديدة يتكشف عنها الواقع حتى بعد إنجاز العمل الفني، وتكون في الوقت نفسه قادرة على انتاج دلالات وإضاءات متجددة بتجدد الظرف" ورواية (اليهودي الأخير) تستحضر بنية مكانية من جغرافيا المكان، تتحرك على مسرح أحداثها شخوص شهدت تاريخاً معاصراً وعايشت تحولات مصيرية لتدخل فيما بعد في متحفية التاريخ.
    ولأن الوقائع جرت في زمن معاصر(ستينيات القرن العشرين الماضي) وتمثلت في ذاكرة المؤلف/ الراوي. عبر اختزالها عقود من السنين، جاء تدوينها نصاً حاملا صفة " الوصف" دون تبئير يأخذنا إلى مرموزيات عالية، او خطاطات فكرية مقحمة بغرض ضخ أكبر حشد من الأفكار والطروحات في المتن السردي، فكانت مدينة (العمارة) المدينة الجنوبية هي المدونة السردية للروائي (عبد الجبار ناصر) حيت الأمكنة تم تأثيثها بأحداث صاخبة ذات صلة كشفت عن طبقاتٍ تتكاثف تأخذ من الفعل السياسي تموجاتها كطبقة أولى، ومن التحولات الإجتماعية المرافقة للأحداث وفعلها القيمي طبقة ثانية. ومن المركوزات الثقافية لمجتمع المدينة طبقة ثالثة.. كاشفة لنا البنى الثقافية والحضرية ومديات التباين الطبقي بينهما. وقد استعرض المقطع المنشور على غلاف الرواية الأخير ما نصه " إنها رواية تدور أحداثها في ستينيات القرن العشرين، حيث ترصد رحلة الطبيب "ناجي نعوم" اليهودي الأخير الذي رفض ان يترك العراق بعد تعرض اليهود الى مضايقات وأحداث عنف راح ضحيتها الكثير منهم" .أن الشخصية المركزية لرواية " اليهودي الأخير" جاءت لتوكيد تاريخ أعرق الطوائف الدينية في العالم ألا وهم " يهود العراق" حيث يرجع تاريخ وجودهم الى 25 قرنا خلت، وتسنت لهم رغم مناخات العراق وتقلبات الظروف وترادف الغزوات والفيضانات ــ ان يتشبثوا بترابه الى وقت متأخر.
    إن عبد الجبار ناصر بوصفه كاتباً روائياً صحفياً حضر هنا لتدوين تاريخ المدينة بكل إحتداماته وتراكماته التاريخية التي شهدتها، عبر استنطاق شخوصها وموقعها البؤري المحلة الشعبية " زقاق البغدادي" التي تتوائم فيها الأحلام مع الضغينة، والتشتت بالوعي والسلام مع النميمة والتقارير الحزبية..!! ومن ثم عكس النوايا من مخبري السلطة أنذاك على أن فعل الخير الإنساني الذي يقدمه الطبيب اليهودي" ناجي" هو جزء من إرساء خلايا لعمل مخابراتي يضر بأمن البلد.
    البناء السردي لرواية (اليهودي الأخير) يضعنا في خط تصاعدي أحكم الروائي العليم قبضته على سير أحداثه، جاعلاً من شخوصه حيواتٍ في حركة دائبة صانعة أحداثها، شخوص مستلة من الذاكرة وبكامل هيأتها، كأن بها قد توزعت أدوارها في الحارة الشعبية والمركز البؤري لهذه الأحداث هو عيادة الطبيب ناجي وما تطل شرفاتها على مسار الزقاق " البغدادي" الذي سمي نسبة إلى تاجر حبوب بغدادي بنى فيها أول دار كبيرة وسكن فيها. هذه العيادة التي هي جزء من الحضور المكاني ليعود العمارة،إذ تشير المصادرالى أن (( أول مدرسة نظامية إنشأت في العمارة عام 1909م وأسستها " جمعية الإليانس" في باريس وتعني " الإتحاد"،وكان قد أنشأها يهود العمارة لعامة " العمارتلية"..،وان الطبيب " داود كباي" ويسمى لدى العامة " الدختورداود كبايه" كان أشهر من عالج الناس في العمارة بالمجان ، حتى العام 1964. حتى أن نساء العمارة ضمخن "تليات" باب داره بالحناء، عرفاناً بفضله،ومتحليات بحس الفطرة والقبول بالآخركما كن يفعلن على أبواب الأولياء والائمة)).2
    لقد " ظل ناجي قاطناً في الزقاق، ربما تعلقاً بمجدٍ غابرٍ أو بذكرياتٍ تشده الى المعارفِ والأقارب الذين رحلوا عن الدنيا، أو الذين حملتهم موجات الهجرة قبل أعوام الى فلسطين وأوربا والهند عبر الأردن وأيران" أن شخصية ناجي الطبيب اليهودي هي بارومتر التحولات التي حصلت والتي كانت حبلى بها تراكمات الأيام وما مرّبه المواطن العراقي أنذاك. من هنا ظلت شخصية الطبيب ناجي متوازنة إلى حدٍ ما في علاقتها بالآخر، مؤمنة بواجبها عبر ما تقدمه من خدمات طبية وعلاجية بمنظورها الإنساني لكل من يحتاج لها بدءً من فلاحي القرى البعيدة من أرياف المدينة وحتى عدوه اللدود" " ،صانعة من كل هذا فضائها الأثيري في غرفته وملحقاتها في الغرفة العلوية من سكنهِ، فيما خصص الطابق الأرضي من دارهِ عيادة طبية، غرفة لا تخلو من صور أحبته مزدانة بلوحات جدارية تظهر أناقة المكان.. ولكسر رتابة أحداث الرواية ومشهديتها السياسية لابد من ضوء ينفذ إلى مغاليق الروح فكانت "خالدة" الفتاة المتخرجة حديثا من الجامعة والتي تعرضت إلى صدمة نفسية، والمجاور سكنها لدار الطبيب، حيث كان فعل استرقاق النظر من قبلها الى الطبيب عبر السياج الفاصل بينهما، فعلاً درامياً يبعث في نفسها سعادة من طراز خاص، وهي ترقب ما يقوم به من أعمال داخل غرفته ورواقاتها وسط دهشة المحب الذي مسه خيط جنون " بعد أن أحتسى الكأس الثانية، حانت منه التفاتة إلى الباب، فرآها واقفة هناك تبعد عنه أربعة امتار فقط.. شهق دهشاً وبدأ يسمع نبضات قلبه التي أصبحت مدوية مثل قرع طبولِ قبائل بدائية أفريقية في قداسٍ وثني".
    أعتمد المؤلف في تأثيت نصه السردي على أمكنة لها دالاتها بما يشير لحضورها الاجتماعي والثقافي بل ولنقل "الحضري" لمدينة العمارة،وإنعكاس دور المكان وصلته بالآخر، حيث شكلت " المكتبة العصرية" التي تم إنشاؤها وافتتاحها للعام 1928م، والتي كانت تسمى مكتبة "عبد الرحمن الرحماني" نسبة لمالكها إنذاك.
    تحضر هنا مستودعا لأخبار الصحف التي تنقل الحدث السياسي وتأثيرها على الوضع العام ((توقف عند مكتبة عبد الرحيم الرحماني ليقرأ على عجل عناوين الصحف التي تصل المدينة في فجر اليوم التالي على صدورها،أستقبله عامل المكتبة الشاب" حيدر" بحفاوة بالغة عكست مابلغه من أخبار)) ص96.
    ترسيمة المكان لدى الروائي "عبد الجبار ناصر" رسمت لنا خريطة لعوالم مرئية، أمكنة ضاجة بناسها ومليئة بحركة أحداثها،وتحضرالكنيسة هنا كنيسة "أم الأحزان" والتي يشير زمن بنائها وإنشائها للعام 1880،وهي مكان إقامة القداس المسيحي وتجمع أيام الآحاد والإعياد ودفن الموتى من الطائفة المسيحية، كقطب موازٍ للمعبد اليهودي ومدرسة "الأليانس" تحت عنوان التعايش السلمي وحضورالمكونات الأخرى للمجتمع العماري حيث حضورهم يشكل لوحة فسيفساء زاهية .
    تفاقم الأحداث السياسية جعل من الطبيب "ناجي نعوم" مترقبا شديداً لما ستؤول اليه الأمور، وما مقهى التجار، عند رأس السوق الكبيرلمدينة العمارة الإ مسرحا مصغراً لطرح الأراء السياسية محليا وعربيا، وانعكاس ذلك على انتماءات الشرائح الاجتماعية والثقافية وبروزإنتماءاتها العقائدية. و السلطة بكامل جبروتها عبر شخصية " مجبل قاسم" تقف كحائط صد لحرية الطبيب "ناجي" وظله المراقب والمشكك دوما بنوايا هذا الطبيب الذي أحبه ابناء المدينة عبر ما قدم لهم من خدمات طبية جليلة على مدى سنين،وهنا نكون امام قضية طاعنة في تاريخها، تجدد نفسها بصور مختلفة عبر كل الأزمنة، والتي تفرزها الإحداث الجسام للتحولات السياسية اولا،تلك هي قضية ((الضحية والجلاد))..
    "ناجي نعوم" الطبيب اليهودي الذي يستقي تفانيه في عمله ربما من قسم "أبوقراط" اولا، ومن روحه التي توزع محبتها وسماحها على المجتمع العماري المجلل ببساطته وفقره، ومن ثم إيثاره المعلن عبراستمراره تقديم خدماته الطبية رغم كل الظروف،لكن الاخر المشبع بكراهية مغمسة بآيدلوجية سياسية خاضعة لمنطوقها الحزبي الضيق والتي ستقود البلاد الى حمامات دم.. وحسب مسار الرواية في تصاعد أحداثها،جعلت هذا الآخرقطباً صعبا في صراع غير متكافئ ربما، حيث شخصية "مجبل قاسم" رجل الأمن بكل أهابه التنظيمي/ العقدي/ الحزبي /السلطوي..قد مثل الكراهية والتي هي عبئ زائد يثقل كاهل المرء وهمٌ يعانيه ويستنزف وقته.
    في حين تقف شخصية الطبيب اليهودي موقفا متسامحا إزاء هذا التشنج السلطوي ضد وجوده الشخصي،عبرلغة الصمت في حضرة الإتهام من الآخر (( وما يجعلك متفوقاً على "العدو" هو عفوك عنه،وفتح صفحة جديدة لانك تمنحه القدرة إذا ما بقيت تنظر اليه كعدو،وتنظرلنفسك كضحية)) ص189.
    تصاعد الصراع الذي تذكي جذوة حرائقه التحولات السياسية وإطرها الضيقة في النظر الى الآخروصل ذروته بتصفية الطبيب اليهودي "ناجي" بعد ان اتخذ قراره بالهرب الى خارج العراق عبرممرالأهوارالذي يوصله الى الأراضي الإيرانية فيما بعد، ومن ثم تكتب له حياة جديدة، يزاول فيها حضوره الوجودي آمنا، ومشروعه الإنساني طبيبا بارعاً.حيث مسار الرواية ومؤشر أحداثها يعلن الفصل الختامي لمشهدية عراق الستينات وسيطرة "العسكر" عليه،حيث الخط الفاصل بلحظاته الحاسمة،ممثلا بمقتله "التراجيدي" برصاص دوريات الشرطة بين أدغال الأهوار ومياهها الواسعة ((إزداد وجه "ناجي" شحوبا.قال بصوت واهن "حمود..هل تدري" هل تدري ماذا يقال في الفلكور الديني في التلمود، إن جثة اليهودي الميت خارج فلسطين تزحف تحت الأرض، بعد دفنها، حتى تصل الى الأرض المقدسة وتتوحد معها.لكن أرضي المقدسة هي العراق)) ص247.
    ستينيات القرن العشرين الماضي التي دون أحداثها "عبد الجبار ناصر" عبر سردية جسدت وبما لا يقبل الشك الحضور الآسر للفسيفساء العراقي في بقعة واحدة هي مدينة " العمارة" ومسرح أحداثها زقاق "البغدادي" يكللها ثوب واسع يحمل زهوه تحت لون ساطع هو " التعايش السلمي" لكن ثمة ما هو مضمر يتسرب تحت طيات هذا الثوب تبرزه الصراعات الخفيةِ مصدرها (سلطة الايدلوجيا الحاكمة أنذاك)، وفعل المراقبة الذي تبنته الأجهزة الأمنية، المنقوعان بكراهيةٍ تبدو غير طافحةٍ للمكونات الأخرى وهذا ما كشفت عنه رواية " اليهودي الأخير" في متنها السردي الذي امتد على مدى مئتين وسبع وأربعين صفحة .
    * شوارع الوجود...التلصص على أقبية الجسد.
    ــ هل الكتابة في متنها السردي هي تحفيز القدرات الذاتية للتدوين العيني والمرئي والموضوعي على حد سواء؟ لاختيار مساحتها الشاغلة لما تود تدوينه عابرة معايير القص والحكي وتطور الأحداث، ذاهبة الى بؤرة واحدة هي تسجيل ما تتلاقفه العين محولة أياه على لسان البطل وشخوص الرواية مصفوفة كتابية تحت عنوان " رواية".. من هنا أدرك أحمد شمس نوع المهمة الصعبة للولوج الى عالم الرواية فقدم لنا بدءً شهادة براءة عبر تنصيص إهداءهِ القائل "لا احد يستحق أن أورطه معي بكل هذا الخراب.. لكنني سأورط نظارتي الطبية، هي التي رأت كل شيء.. هي التي شهدت ضدي في الأيام "
    ينطلق مؤلف رواية (شوارع الوجود) الكاتب الشاب أحمد شمس، من مهمة تقاسمها سويا مع بطل الرواية (سامي خلخال موذح) في تدوين يوميات حياة معاشة لمدينة هي (العمارة) مدينة الكاتب المؤلف، الزمن حاضر بتفاصيله مع سياق أحداث الرواية، والمكان مؤثثا للمتن السردي لها، هي إذاً سياحة الخطى لرسم ملامح المكان وتدرجاتهِ واقتناص الأثر النفسي لدى البطل، متساوقاً مع القدرة التخيلية للكاتب في وصف مسرح الحدث (شارع التربية)، الحاضر كشاشة عرض سينمي، تتوالى اللقطات ومشهديتها سراعاً عبر التقاطات البطل ومشواره اليومي في الشارع ومنعطفاته، كأن هناك كاميرا تلتقط المنظور لتحوله الى كامنٍ تعتاش عليه "ذات" البطل جاعلا منه عوالم لا يستطيع الفكاك منها." هذا الشارع ليس سوقا فحسب، أنه مكان تجتمع فيه كل تناقضات المدينة وتحولاتها الثقافية والإجتماعية، يختصر تاريخها قبل ان يتخذ الناس له أسما فهو مركز المدينة التاريخي والتجاري"
    شخصية البطل (سامي موذح) بمعنى ما، هي قناع للكاتب أحمد شمس، حيث تحضر الرغبة المستدامة في حضرة الأنثى وأمكنتها، هي إذاً روح لائبة للرواء من طرائدها، وكيان آدمي باحث عن فرائسه، ومسرح المكان معد دوماً، شخصية البطل ذاتٌ تتصاغر إزاء مدْ الحشود الأنثوية المواجهة له، وهو الأعزل على الدوام أمام طغيان الأنوثة المستحكم وأناقتها وعطورها....تأخذنا الرواية لتدوين يومياتها على لسان بطلها، لتتفرع الأحداث، وتتواجد الشخوص لتحريك مجريات الحدث السردي الذي انطوت عليه الرواية.
    ما يحسب للروائي أحمد شمس في عمله هذا القدرة الفائقة على الوصف في كل التفاصيل، وتشكل اندفاعات البطل وقناعه لوحة تجسيد الجانب الآيروسي بفعل المشاهدة المكثفة لوجوه النساء وأجسادهن رغم وجود الثياب الأنيقة، لكن للبطل حاسة أخرى في اختراق حجب هذه الثياب لاختزان أكبر قدر من الشهوات، كل هذا الوصف السردي تتحكم به لغة جريئة تكسر التابو البلاغي من متن السرد وتختار منطقتها الرخوة في قدرة الحكي على إيصال مفرداته، ومنطقها الكلامي في رسم اقرب صورٍ شهوية تسمي الأشياء بمسمياتها." وكما يبدو من خلال المنظر الجانبي انها تمتلك فخذين مرصوصين وصقيلين وإليتين عظيمتين مرتفعتين وزندين ممتلئين بشكل معقول وصدر بارز كانه باب لقلعة حصينة"
    ولأن الرواية كيس يحتمل ملئه بالكثير من أحداث ووقائع وأفكار وفلسفات، كانت صفحات رواية ( شوارع الوجود) متناً سردياً لكل هذا سواحل الحلم تأخذ البطل/ الكاتب لتدوين المخطوطة مادتها بلا شك هو المرئي والمسموع والملاحظ والمكتشف والفائض من حوار الشخوص الذين هم أصدقاء البطل، وما اجتماعهم في كازينو" النهر" إلّا حوار عن الحياة والفكر وتحولات المجتمع وبما يشكل ذخيرة فكرية حاول ابرازها الروائي لتسليط الضوء على دور الشاب الطموح المثقف وان اختلفت الرؤى والمشارب "بعض الخيال لشد ما نتمناه ونطلبه ولكثرة تكراره، يرتقي الى مرتبة التصديق، فنتعامل معه كحقيقة فعلية وهو بالفعل كذلك، لو أدركنا الحقيقة هي أشياء نراها ليس بالحواس الخمسة فقط".
    ولأن العمل الروائي ليس خطاً سيمترياً، بائنة أحداثه، مفرغ من محتواه، فاقدة شخوصه عمقها الفكري وربما الدلالي، فلقد أبتكر الكاتب موضوعة "المخطوطة الضائعة" للبطل والتي تبقى لنا توهج الأحداث مدار سؤال عن مصائر أبطال الرواية، ومحيط أسرار يمنح الرواية مفاتيح جديدة تكسر حدة التوقع لدى المتلقي. هذه المخطوطة هي متن تدويني آخر لحياة وشخوص وأحداث ومصائر هم نتاج مرحلة عاصفة بتحولاتها لما بعد عراق 2003،حاملة بالتأكيد أحلاما مجهضة وانعكاس تداعيات الوضع السياسي تحت مظلة "الديمقراطية الجديدة".
    وعلى " الطريقة القديمة قصد كازينو النهر غير عابئ بثقل حقيبة سفره الجلدية، لم يجد من اصحابه القدامى سواي انا وصادق واخرين لم يكونوا ضمن شلتنا حينما رحل لكنهم يمثلون امتداداً أكثر عمقاً لنواة زرعها هذا الرجل المأخوذ بالشوارع".
    رواية (شوارع الوجود) هي مخطوطة حياة لصفحاتِ شخوصٍ وأفكارٍ وأحلام التئمت جميعها في مدونة سردية ، قدمت لنا مكاناً نابضا بحيواته، وتحولات أحداثه وما نضح من أقوال وما شهد من أفعال شخوصه، في لغة طيعة اختارت الوصف رسماً لوقائعها، كاشفة عبر متنها السردي توصيفاتٍ لمرحلة راهنة من المشهد العراقي الضاج .
    المصادر:
    1ــ اليهودي الأخير، عبد الجبار ناصر، الدار المصرية اللبنانية ، بيروت ــ القاهرة ، ط1، 2015.
    2ــ دورة القمرالقصيرة ليهود العراق/ مازن لطيف/دارميزوبوتاميا/ ط1 2013.
    2ــ شوارع الوجود، أحمد شمس، المركز الثقافي للطباعة والنشر، بابل، ط1، 2017.

معارض الدار

في ضيافة دار الشؤون الثقافية
  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068

logo white