اذا كنت تريد ان تعرف ظواهر عامة في الأدب وفي الفكر وفي الثقافة وتتابع تطور هذه الالوان في الصحافة خلال حقبة غير قصيرة من الزمن، على سبيل المثال اذا اردت مثلاً ان تدرس الشعر العربي في صحافة العراق لمدة نصف قرن، فأنت في هذه الحالة مطالب لأن تقرأ جميع ما صدر من هذه الصحف طيلة هذه الحقبة من الزمان، بما صدرت عشرات الصحف، وربما مئات، وكانت هذه الصحف يومية، وكانت تصدر لعشر صفحات أقل أو أكثر، فكم تحتاج من وقت لكي تقلب مجلداً واحداً لسنة واحدة، ثم ماذا اذا كانت الصحيفة قد عاشت ربع قرن، هذا ما جاء في كتاب (الاسلوب قضاياه ومعاركه في الصحافة العراقية) الصادر ضمن اصدارات سلسلة (نقد) والتي تصدرها دار الشؤون الثقافية العامة.
للأستاذ الدكتور عناد اسماعيل الكبيسي تناول الكاتب عدة فصول، جاء فصل الكتاب الأول بعنوان (الصحافة ومعركة الاسلوب) وجاء الفصل بعدة مباحث حيث تناول في محبثه الاول (الصحف الرائدة والاسلوب) يقول الباحث آثرنا ان يكون الفصل الاول في زحمة المتغيرات التي طرأت على الاسلوب العربي، فكان هذا كله بمثابة ثورة عارمة اشترك فيها روّاد آثروا التغيير في كل شيء، وقد تطلب منا هذا عرض نماذج ذات تنويع خاص من الآثار النثرية، وتعاملنا معها من خلال تعليقنا على هذه الآثار والظواهر التي استوعبناها من خلال هذه النصوص التي وجدناها من تتابع الاصدارات في الصحافة وخلال فترة قصيرة.
واضاف لا بأس ان يطلع على نماذج أخرى من هذه الاخبار التي تنشرها الزوراء وتنقلها في الاصل من الجرائد التي تنشرها دار السعادة في الاستانة، وأخبار دار السعادة، وهي مؤسسة صحفية في عاصمة الدولة العثمانية كانت بدورها تنقلها من الصحافة الانكليزية. اما في المبحث الثاني (النثر خارج الصحافة) تناول الاساليب النثرية التي كانت الصحافة تتعامل بها وقد رأينا شيوع ظاهرة التكلف والبحث عن كل ما ينمق الاسلوب ويرتفع به عن الاسلوب الاعتيادي الذي نراه في صحافة اليوم وقد رأينا أن هذه النوع من الاساليب هو ما يتلاءم مع الظروف الثقافية التي نشأ عليها هولاء الكتاب، واضاف إن أشهر كتاب صدر في هذه الفترة حيث القرن التاسع عشر هو كتاب (غرائب الاغتراب) الذي يعكس لنا وفي جوانب كثيرة منه نوعية الاساليب الشائعة التي تقع بالزخارف والسجع على رأسها، والذي صار كالتوابل التي توضع في الطعام فأمدته من غير ان تضيف له نكهة خالصة تحس مذاقه، لقد اصبحت ظاهرة السجع تعد طريقها مسرعة حتى الى كتب الفقه والتاريخ والسيرة والرحلات فضلاً عن تمكنها في الادب بانواعه المختلفة. وجاء في الفصل الثاني المعنون (الصحافة والدفاع عن اللغة العربية) إن الصحافة التي كانت تصدر إبان اعلان الدستور العثماني في سنة 1908والى الحرب العالمية الاولى، كانت واقعة تحت سلطة الدولة العثمانية التي تسيطر عليها حكومة الاتحاد والترقّي، وهذه الحكومة تؤمن سياسة التتريك رغم انها واقعة تحت ظل الدستور الذي هيأ الحريه لاصدار الصحف على اختلاف انواعها.
والذي يهمنا من هذا كله الدور الذي قامت به الصحافة في خدمة اللغة العربية وأثرها في اشاعة الفصحى التي كانت في شبه احتضار جرّاء العصور الطويلة لا نعزالها عن الحياة وبقائها في زوايا مهملة.
إن نظرة سريعة في صحيفة الزوراء والاسلوب الذي كانت تكتب فيه ترينا مدى الانحطاط الذي تسرب الى لغة الجريدة، حتى أن القارئ ليجد نفسه امام لغة هي خليط من لغات شتى فيها العربي والفارسي والتركي والهندي وربما لغات اخرى، بل وفي حالات أخرى يحس القارئ أن الكاتب لا يدري ماذا يريد أن يقول، ليس هذا في مجال الرأي أو في المقال الذي يعبرّ عن فكرة بعينها، وانما في الاخبار التي تترجمها عن اللغة التركية او من الصحافة العالمية... إن أهم جريدتين نقف عندهما ونتعرف بها، هما جريدة صدى بابل التي صدرت في بغداد سنة 1909 وجريدة الرقيب التي صدرت نفس السنة.
أما صدى بابل فهي مثال الصحيفة التي انفتحت على الحداثة وعلى الموضوعات المهمة التي لها صلة باحوال العراق وولاية بغداد منذ الاعداد الاولى لصدورها، فقد اهتمت بالاضافة الى الامور العامة، بما كانت تترجمه من الصحافة الفرنسية والانكليزيه، وذلك عن جريدة الفيكارو والتايمس، وكذلك عن جرائد بلجيكا فضلاً عن الصحف العربية وفي مقدمتها جريدة الاهرام والصحف الايرانية، وصحافة الخلافة العثمانية.
وفي الفصل الثالث تناول الكاتب موضوع تحت عنوان (صحافة ما بعد الحرب الاولى واللغة العربية) على ان هذه اللهجة في التعامل تتغير بعد الحرب العالمية الاولى، فتتحول النظرة الى ما يسمى اللغة العربية في ومبناها ومعناها وفي تركيبها وتخليها من الاغلاط وما قد لحق بها من وهن وضعف بعد ذلك الركود الذي توالى عليها طيلة ما يقرب من اربعة قرون وفي جريدة العراق التي صدرت سنة 1920 بعد اغلاق جريدة العرب صارت العناية باللغة العربية اكثر وضوحاً واكثر ملاحقة لقضايا النقص فيها، وهذا شيء طبيعي في بلد بدأ ينفتح على العالم... اما الدعوة الى الاهتمام واللغة العربية لم تكن وقفاً على صحيفة بعينها، وانما رأينا هذه اللهجة طافحة في بقية الصحف والمجلات، ولهذا راينا في جريدة لسان العرب في اعدادها الاولى، ما ينحو هذا المنحى، فقد كتب الاستاذ رافائيل بطي الصحفي المعروف مقالة تحت عنوان (اللغة العربية والمدارس) جاء فيها "لا يغرب عن البال أن للأدب التأثير العظيم على روح الأمة فهو الذي ينبض في قلبها الشعور الراقي ويسقي روحها من كوثره العذب... الخ وفي الفصل الرابع من الكتاب والمرسوم (الصحافة ومعارك العامية الفصحى) جاء فيه يعرف الذين هم على صلة بالصحافة، أنها كانت أهم عامل في القضاء على الاساليب القديمة التي كتلت الانسان في لغته وفي تعبيره، وجعلته حبيس تقاليد يصعب الانفلات منها، ولعلنا تتذكر جيداً اللغة التي كان يكتب بها الناس قبل ان تظهر الصحافة وفي بداية ظهورها، وتعرفنا على ذلك من خلال نماذج حيّة بغية أن يكون على صلة مباشرة بالدور الذي قامت به هذه الصحافة وهي تهيء الاجواء المناسبة للتغيير، على صفحات الجرائد والمجلات ظهرت حركة التغيير، وظهرت المعارك حول اللغة وحول تظورها، وفي الفصل الخامس (الصحافة واستعمال الحرف اللاتيني) جاء قريب من الدعوة الى استعمال العامية، الدعوة الى استعمال الحرف اللاتيني بدل الحرف العربي وقد وعي اليها عبد العزيز فهي عضو مجمع اللغة العربية في مصر وقد اثارت هذه الدعوة بدورها الاراء وبقيت معارضة كبيرة بين المفكرين، لتدخل في اطار أبعد يتعلق بالدعوة الى العروبة ولغتها وديتها، وهذه تشكل ركناً اساسياً في الوجود العربي وقيمه واخلاقه. وفي فصل الكتاب السادس المبحث الاول (حقل الاسئلة وتصحيح الاخطاء) في هذا الحقل ظهر جلياً في مجلة لغة العرب التي أصدرها الأب أنستاس ماري الكرملي، في بداية العقد الثاني من القرن العشرين فكان لها ولاصحابها فصل كبير على اللغة العربية وتطورها في العصر الحديث، وهذا ظاهر من اسمها. ومن هذه المجلة أخذت بقية الجرائد هذا الحقل وراحت تطبقه وتلاحقه. اما المبحث الثاني (تصحيح الاخطاء) وقريب من هذا الحقل ما يتناول تصحيح الاغلاط النحوية والصرفية وربما الاسلوبية كذلك.
وفي الفصل السابع المبحث الاول (المصطلحات والمجاميع العلمية) يقول أن انفتاح الوطن العربي على الحياة بكل جزائها اوجد وضعاً صعباً لم يكن مستعداً له ولم يألفه من قبل، لا نعم وجدوا انفسهم امام طوفان كاسح حجم عليهم من خلال المصطلحات الحديثة في جميع نواحي الحياة الادبية والعلمية وما تتفرع عنها من الفاظ وتعابير في الادب وفروعه وفي الطب الهندسة والتكنلوجيا والفلك وما يتصل بهذه الجوانب التي تمت بصلة اكيدة للحياة. المبحث الثاني (المجاميع اللغوية) نعود الآن الى المجاميع اللغوية التي كانت مورداً رئيسياً في هذا الغطاء خلال ما قامت به هذه المجاميع في توحيد الجهود وفي استيعاب العلماء والمفكرين ليكونوا أساساً في دراسة الظواهر اللغوية للوصول الى رأي متفق عليه في تعريب اللفظة او ترجمتها وفي استعمال اساليب العربية ومكوناتها في الوصول لالى مصطلح متفق عليه بين الجميع. وجاء في الفصل الثامن من الكتاب مبحث اول بعنوان (المبحث اللغوي ومجالات العلماء في اللغة) جاء فيه لا يمكن الاحاطة بجميع ما كتب في الصحافة من بحوث تفاولت اللغة العربية وبخاصة ما كان منها في النصف الاول من القرن العشرين، ففي هذه الفترة أزدهرت الصحافة وأزدهرت معها الحركات الفكرية والثقافية والاجتماعية وباتت الدعوة الى الحداثة سمة عامة نراها واضحة على لسان جميع الرواد وفي كل فن من فنون المعرفة،والبحث شامل وطويل فيه الكثير مما يشير الى الريادة ويمس اللغة قديماً وحديثاً فضلاً من النظرة المستقبلية التي ينبغي ان تكون عليها اللغة... وفي المبحث الثاني من الفصل الثامن للكتاب والذي جاء تحت عنوان (السجالات اللغوية) واكمالاً لدور الصحافة ومدى خدمتها للغة العربية، لابد من الوقوف قليلاً عند تلك المساجلات الرائعة التي كانت تقوم بين علماء اللغة في الاقطار العربية المختلفة، والتي تعتمد في سائرها على الاختلاف في وجهات النظر من حيث عناصر اللغة ومصطلحاتها الحديثة والموقف من النحت والاشتقاق والتعريب والقياس، وهذا الاختلاف في حصيلته النهائية إنما يشكل رافداً مهماً في الاجتهاد الذي يمكن الوصول من خلاله الى رأي أو جملة من الآراء التي تغذي اللغة في عصر بدأ فيه العرب يتململون، من سباتهم الطويل...